مقدمـــــــــــــــــــة
يبدو من نافلة القول بأنّ محمد سبيلا من المتفردين بمسألة الاهتمام بالحداثة وما بعد الحداثة، وهذا باد في جلّ كتاباته الفكرية. حيث تطرق بالأساس إلى أسس الحداثة و مخاضاتها، وولادتها ونشوئها، فهو الجامع لمحكياتها، وكاتب مروياتها، لكي يستأنس لها القارئ المغربي ومن ثمّة سبل استيعابها ثم استلهامها أو نقدها، وجعلها من منظورات خاصة، بمثابة إخراج لنا من الخندق الذي غارت فيه مجتمعاتنا العربية. ومن هنا تأتي أهمية كتاب "الحداثة وما بعد الحداثة" كصدى لهذه السياقات العامة، ونموذجا لمقاربتها في السياقين الكوني والخصوصي.
1. القراءة الأفقية
إذا توجهنا بداية إلى المستوى الأفقي- السطحي لهذا الكتاب من جهة، فهو متوسط الحجم، بلغت عدد صفحاته 112 صفحة، في الطبعة الثانية من نشر دار توبقال، سنة 2007، علما أنّ الطبعة الأولى كانت في بداية الألفية الثالثة (2001)، وعلى مستوى فهرسة الكتاب فيمكن تقسيمها إلى خمس مستويات:
1) التحولات الفكرية العامة للحداثة، من حيث أسسها ومساراتها، وأيضا من خلال سماتها وفواعلها، وبدايات الوعي بها.
2) التنزيلات الفعلية لفلسفة الحداثة وخرائطياتها المتلونة من دولة لأخرى، بحسب الخصوصية والمرجعية.
3) السجال الفكري والسوسيولوجي حول مسألة الحداثة وما بعد الحداثة، من حيث العلاقة والأسس والانتقادات الموجهة للحداثة باسم ما بعد الحداثة.
4) التركيز في هذا المستوى على بعض نتائج الحداثة التي كانت موضع نقد، بتحليل إشكالية التقنية كخير أنموذج لذلك، وبسط القول في العلاقة بينهما. مستحضرا هايدجر، باعتباره "فيلسوف التقنية"، في هذا المقام.
5) الحديث عن مخاضات الحداثة في المجتمعات العربية، وخاصة على المستوى الفكري، من خلال مناقشته للمشروع النهضوي العربي.
2. القراءة البنيوية
إذا انتقلنا إلى المستوى البنيوي، الذي نروم من خلاله تخريج ما في ثنايا النص، فالبداية الحرفية انطلقت عند الكاتب بتحديد مفهوم الحداثة، ذلك أنّ هذا المفهوم هو ذو طابع شمولي، يطال كافة مستويات الوجود الانساني (فلسفية، اقتصادية، سياسية،...) وتحديد هذا المفهوم، هو تحديد للقاسم المشترك بينها. بهذا يختلف عن التحديث الذي يشير إلى الدينامية والطابع التحولي داخل كل مستوى من المستويات[1]. وعليه كان التساؤل عن هذه التحولات العامة وقواسمها المشتركة.
لذلك انتقل الكاتب إلى إبراز هذه التحولات الفكرية، موجها مقرابه إلى مسارها الإبستيمولوجي ودلالاتها الفلسفية في المعرفة والطبيعة، وكذا في مفهومي التاريخ والإنسان، وهي التحولات التي شكّلت منظورا جديدا وُسم بالحداثة، وانتقالا أحدث قطيعة مع التصورات التقليدية. ففي المعرفة انتقلنا من صيغة تأملية وذاتية متصلين بذات الفيلسوف أو العالِم، إلى صيغة حداثية. تقوم المعرفة من خلالها، على البناء العلمي للموضوع، والالتزام بقواعد منهجية محددة، فأصبح التكميم منهجا والسيطرة غاية[2]. ولم تعد بذلك المعرفة قولا "ممنطقا" وإنما لغة مرمّزة ومصاغة في قوانين، وهي التي تسمح بالسيطرة على الطبيعة، وتسخيرها لصالح الإنسان. بحيث غذا العلم بذلك هو المعول عليه، ونموذج كل من سلك سبيل البحث عن المعرفة. كما امتدّ الأمر كذلك إلى بنية الثقافة والمجتمع والسياسة...[3] بهذا تمّ تقليب الأرضية لزرع نزعة وضعية في العلم أتت أكلها بعد حين.
هذه النظرة الجديدة للمعرفة توازيها نظرة حداثية للطبيعة، قوامها الانتقال من تصور للطبيعة كنظام مغلق يعكس الحكمة العلوية ( المحرك الأول، العقل الاول، الله...) إلى كون لانهائي؛ إلى امتداد لا يعكس أيّ تراتب أنطولوجي، كما كان سابقا مع أرسطو وأفلوطين وغيرهما. إنّ الطبيعة أصبحت مؤطرة هندسيا ومحددة حسابيا، ومن هنا أدى نزع الطابع السحري عن الطبيعة إلى النظر للكون من منظار القوانين التي تحكمها وتضبط حركتها (التصور الميكانيكي للطبيعة). كما أن هذه المستويات وتحولاتها لا تستقل عن بعضها البعض، فالتداخل قائم والتأثير وارد بالضرورة، ما دامت الحداثة تقوم في الأساس على قواسم مشتركة. وعليه فإذا انتقلنا إلى التاريخ، فإنه "مثلما نزع العلم عن الطبيعة طابعها السحري والإحيائي، فقد نزعت المعرفة والممارسة الطابع الأسطوري عن التاريخ، بنفي طابعه الغائي والنظر إليه باعتباره مجرد حركة تطورية مستقيمة تتحكم فيها عوامل داخلية[4] "، مؤثثتا هذه النظرة الأرضية لظهور نزعة تاريخانية، جعلت من الحاضر هو الأساس، واعتباره الجسر الوحيد نحو المستقبل، عوضا عن الماضي، وبذلك أحدثت قطيعة مع التراث والتقليد.
من المعرفة إلى التاريخ، مرورا بالطبيعة، وانتهاء إلى التحول الذي طال مفهوم الإنسان، بحيث أصبح ينظر إليه باسم الحداثة، على أنه قيمة في ذاته، وأسمى ما في الوجود كله، وتطوف على مداره جميع الموجودات. إنّه لحظة تأسيس للأنا أفكر الذي يهب المعنى لذاته ولوجوده وموجودات الكون أشمله. كما يشير الكاتب في الآن نفسه إلى المفارقة الكبرى في تصور الحداثة للإنسان؛ بين النظر إليه كذات حرّة وعاقلة ، وبين ما ينسب إلى بنيته من محددات عضوية، غريزية ودوافع أولية، مستحضرا ماركس وفرويد في هذا المقام[5].
إنّ تشخيص هذه التحولات يدفعنا إلى الحفر في فواعل الحداثة، إذ ذهب محمد سبيلا إلى التمييز بين الفواعل السوسيولوجية والفكرية؛ فالتفسير الأول يُرجع نشأة الحداثة إلى الرأسمالية التي عقلنت العملية الاقتصادية، وإلى الادارة البيروقراطية التي نظمت تسيير المجتمع (ماكس فيبر نموذجا)[6]. أما الفواعل الفكرية فعندما نكون في مستوى تحديد فهم لطبيعة الموجود والحقيقة (كل فهم هنا يشكل عصرا وليس الحدث البارز هو من يحدد لحظة الفارق بين عصر وآخر)، من خلاله نؤسس لعصر لنا تصور محدد عنه. ومنه فالنمط المشكل للحداثة ها هنا، من خلال المرجعية الهايدجرية، يرجع إلى الكوجيطو الديكارتي. من خلال هذا الأخير تمّ الإعلاء من شأن الذات وجعلها مرجعا للموجود. هذه الفكرة تعود إرهاصاتها الأولى إلى أفلاطون[7]، في حين أنّ تتويج مسارها التاريخي وبنائها النظري، كان مع اللحظة الديكارتية، وامتداداتها في الفلسفة الكانطية. ولذلك يعود بنا الكاتب إلى سمة الذاتية البارزة في الحداثة،.
شكلت الذاتية كسمة فلسفية ما يسمى بالنزعة الانسانية؛ أي التأكيد على مرجعية الذات، كذات فاعلة وعاقلة، حرّة ومريدة، حتى أمتدّ مبدأ الذاتية لجميع المجالات (المعرفة، الدين، المجتمع...) وأصبح هو المحدد الفعلي لها ومشيد حقائقها[8]. لذلك يمكن القول في هذا السياق بأن قوام الحداثة إنما على أساس من مرجعية الذات، وهذا ما يمنح الحداثة قوة في إعادة تشكيل جميع الموضوعات، بناء على نظرة الذات إليها، فكان من الضروري أن تصطدم مع التقليد والتشكيلات القديمة، لأنها تستند إلى مرجعيات أخرى غير الذات. كما لم يفت الكاتب أن يبسط القول في هذه العلاقة المتوترة بين الحداثة والتقليد.
إنّ الحداثة تأسست كبنية فكرية، وكان من الضروري أن تصطدم مع بنية تقليدية فتكتسحها، عبر توظيف أساليب متعددة (الاغراء، الإعلام، الاقتصاد، الاستعمار...) كما أنّ هذا الاكتساح ولّد ويولد تمزقات سيكولوجية وسلوكية، كأنها حالة فصام جماعية، تحضر في ذهنها منظومتين معا: تقليدية وحداثية. لكل منظومة سلاحها في المواجهة والصمود، و قد ينتقل هذا الصدام إلى "تعايش"، بحيث يتلبّس التقليد لبوس الحداثة ليتمكن من التكيف والاستمرار ( الأصالة والمعاصرة)، بينما تتلبّس الحداثة بالتقليد أحيانا لتتمكن من أن تنفذ وتفرض نفسها (حضور التقنية في مجتمع تقليدي مثلا)[9].
يفتح الكاتب باباً جديدا، يتصل بالأبواب السابقة التي تلتقي في حلقة واحدة، ويتعلق الأمر بمسألة الحداثة، من خلال التطرق إلى بدايات الوعي بها، وتحسس من تلمس بوادرها الأولى، الشيء الذي كان محطّ اختلاف عند الكاتب والدارسين عموما. بين من يقول إن الأمر يرجع إلى ديكارت باعتباره المؤسس للذاتية، التي ستشرعن لمركزية الانسان (هوسرل)، أو إلى كانط الذي اعتبره ميشيل فوكو (إلى جانب هابرماس ) عتبة الحداثة، لأنه جعل الفلسفة تهتم بالإنسان، من خلال بعديه المتعالي والتجريبي. وثانيا من خلال مقاله " ماهو عصر التنوير؟" الذي يعكس وعي الفيلسوف بالعصر الذي ينتمي إليه والأحداث التي ستغير وجه ووجهة التاريخ[10].
الشيء الذي شكّل بالفعل قراءة معينة ومن زوايا مختلفة للحداثة وتشكلاتها الفلسفية والعلمية. وإذا كان هذا الخطاب يتلمّس المسار النظري فقد أخذ الكاتب على عاتقه استحضار نماذج "تطبيقية" للحداثة، التي اتخذت تلوينات عدّة، بحيث اصطلح عليها سبيلا باسم خرائطيات الحداثة، تشترك في الأصل الواحد (روما) وتمتدّ نحو العالم من خلال طابعها الكوني. ومن بين النماذج التي استضافها الكاتب في الكتاب موضوع القراءة، هي الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان وروسيا. فالأولى مثلا، حلّت الحداثة عندها بدون القطع مع التقاليد أو الماضي، إذ لا ماض لها يذكر، لذلك كانت لها فرادتها، في الجانبين الاقتصادي والسياسي، لدرجة أثرت بثورتها (1776) على أروبا والثورة الفرنسية على وجه الخصوص[11]. وفي سياق هذا التنزيل لا بدّ للمرء أن يتساءل عن مشروع الحداثة: هل يتعلق الأمر بالواقع كمرآة تعكس مشروع الحداثة أم تعكس فقط جوانب معينة؟ وما طبيعة هذ الانعكاس وأبعاده؟
إنّه السؤال الذي يفتحنا على تشريح للحداثة من موقع الأهداف التي سطرتها لنفسها والمشروع الذي حملته للإنسانية، وقد ناقشها الكاتب من خلال مفهومين هما: فضاء التجربة وأفق الانتظار. لقد "جاءت" الحداثة منذ القرن الثامن عشر محمّلة بالآمال والوعود العريضة، كسعادة الانسان واقرار العدالة والمساواة، إلا أنّ هذا المشروع على الرغم من انجازاته الكبيرة في العلم والسياسة والاقتصاد... فقد ظلّ يحمل حدوده بين طياته، أو آفاق منتظرة، كالمساواة (اقتصاديا واجتماعيا) والحرية الذاتية وغيرهما، وحضور بعض المفارقات ضمن مشروع الحداثة، كالتحرر والاستعمار، ومفارقة الذاتي والموضوعي في الانسان، أي بين النظر إليه كذات حرّة وفي الآن نفسه، كذات مستلبة ومغتربة ، وخاضع لأشكال الهيمنة السياسية، والسلطة العلمية[12]. من هنا كان مدخل الحديث عن الحداثة، من وجهة نظر نقدية، بحيث بلورت توجهين أساسين: الأول الذي لا زال يؤمن بقيم الحداثة وترميم تصدعاتها، من خلال النقد وتوجيهها نحو المسار الصحيح لتحقيق طموحاتها. أما الثاني فقد رفع شعار القطيعة مع الحداثة، باعتبارها من المرويات الكبرى، كأنها ملحمة اتسعت للغة (الحداثة في مستوى التنظير) ولم تتسع للواقع ( تنزيل المشروع).
من هنا كانت الدعوى إلى الحديث عن ما بعد الحداثة، الذي يحيل إلى لبس دلالي. فإذا كانت "المابعد" تحيل هنا إلى البعدية ، فإننا سنعتبر مابعد الحداثة في هذا المقام تأخذ درجة أو مرحلة ثانية دون أن تقطع مع سابقتها، لأنها تتجه نحو توسيع مفاهيم الحداثة ومكتسباتها، وبالتالي الإحالة إليها كمشروع لا زال يسعى إلى تنزيل طموحاته. أما إذا كان مابعد الحداثة يوحي بأن الغرب قد أحدث مرحلة جديدة، أي كقطيعة فكرية كاملة مع الحداثة، من خلال النظر إليها كجملة أقانيم وهمية (الإنسان، التاريخانية، العلم...)[13] شكلت سلطة جديدة، ثم استوت على العرش لتعجب الزراع، بعد أن أسقطت آلهة السلط القديمة (الدين، الدولة، التقاليد...). من هذا المنطلق كيف تبدو مسألة العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة؟
يرجع تداول مفهوم ما بعد الحداثة إلى سياق الحديث السوسيولوجي عن بروز مجتمع استهلاكي ( أو مابعد صناعي أو اعلامي...)، بحيث تجد هذه السمات حاضرة في بنية المجتمع، مع اختلاف بين المفكرين حول التسمية. وهذا التحديد يستمد مدلوله من المرجعية السوسيولوجية، في حين أن الجانب الفكري يقرّ بظهور توجهات حسب الكاتب، تقطع مع الحداثة، ومع النظريات الكبرى التي تدعي لنفسها القدرة على تقديم تفسير شمولي للظواهر... مقابل الدعوة إلى الإقرار بالاختلاف والتعددية والقطائعية... كسمات جديدة[14]. ثم يخلص الكاتب، من خلال المقارنة بينهما إلى القول بأن فكر مابعد الحداثة ليس إلا توسيعا لفلسفة الحداثة، لتشمل ما استبعدته من منظومتها كالتعددية واللامركزية.
من هذا المنطلق قد نقول مع الكاتب بأن مسألة الكونية والتعددية طرحت ضمن هذا السياق، من خلال التوجه نحو التركيز على التعددية والاختلاف، فكانت الأرضية الفكرية والحقوقية مناسبة للاعتراف بثقافات تدافع عن خصوصيتها. وعليه فإن مسألة الخصوصية هي تجاوز لما استبعدته الحداثة باسم المركزية والكونية، وإعادة تدبير مجموعة من القضايا العالقة في السياسة والفكر من خلال النقاش وتدليل العقبات لتجاوز الأزمات (نموذج النقاش الحقوقي في ظل التعددية).
إذا كنا اعتبرنا الكتاب والكاتب وحدة لمرويات الحداثة والجامع لمضامينها واشكالاتها، فذلك باد من خلال مجموع كتب سبيلا واهتماماته الفكرية، فلم يفته في هذا السياق أن يولي نظره صوب " الحداثة عند العرب" والنقاش حول مسألة النهضة، يقول الكاتب: " لم تشرنا الحداثة ولم تطلب رأينا قبل أن تدهس بابنا لأنها لم تسلك يوما وفق منطق الاستشارة والاختيار. فهي أشبه بنهر هائج وكاسح لا يبقي ولا يذر، يجرف كل شيء في طريقه.[15] " فالكاتب يقر بأن العنف والقوة سمتان للحداثة تكتسح بها بلدان أو عوالم تقليدية، فالاستعمار الذي أتى على ذكره سابقا من آلياتها. فهي إذن في ذاتها فعل اكتساح وتعرية للمغلق والمنطوي على ذاته، ليستنتج الكاتب بأن الحداثة العربية " برانية وليست جوانية لأنها لم تنشأ و تترعرع في هذه التربة العربية [16] ". لذلك كانت غريبة وعنيفة بفعل اكتساحها، فكان لا بدّ من ردّة فعل للكيانات التقليدية التي داهمتها؛ تتراوح هذه الردود بين الاندماج للخروج من أزمة الإحساس بالعزلة عن العالم، أو على العكس من ذلك عندما نبني أحصنة ثقافية ونتمركز ذاتيا حول قيم خاصة[17]. من هنا جانب الاحتدام والصراع بين جانب الحداثة كمشروع كوني والهويات التي تحتمي وراء خصوصياتها الثقافية، فكيف يتجلى ذلك إذا أخذنا نموذج "الفلسفة المغربية" ومعالجتها لمسألة الحداثة؟
نستحضر في هذا الاطار ما ناقشه فقط محمد سبيلا في كتابه هذا، ولهذا كان الحديث عن المغرب، كحالة أو نموذج (كمثال) ضمن الحداثة عن العرب. وحال المغرب هو واقع بين مفارقة الحداثة والتقليد الذي يأبى أن يقتحم مجاله منظومة أخرى، وإذا كان الأمر كذلك، وما للحداثة من قوّة على الاكتساح، فهو يفرض استمراريته من جهة، ويحدد للحداثة مجالها وحدودها، إلا أن منطق الحداثة يأبى ما يمليه التقليد وتقيده الخصوصية، فقد اكتسحت الحداثة مجاله عبر التقنية منذ منتصف القرن التاسع عشر، ففرضت ذاتها كواقعة وكمشكلة فكرية، كانت موضع سجال ونقاش بين الفقهاء[18]. هذا الصراع بين الحداثة والتقليد يختمه الكاتب بالقول على أنها سيرورات تاريخية طويلة الأمد وليست مجرد معارك سياسية قابلة للحسم عن طريق الارادة والتنظيم المؤسسي[19]، الشيء الذي يفيد أنّ مسألة الحداثة، مسألة تاريخية وليست انعكاسا مرآويا مباشرا من جهة، وأنّ فعل التقليد ومكانته، يدفع بالحداثة لأن تؤقلم ذاتها مع هذه الخصوصية، حتى يتداخل في الأخير كل ما هو خصوصي وما هو كوني، كأثواب البرازيل المزركشة.
خاتـــمــــة
أخيرا يمكن القول بأن هذا الكتاب هو بمثابة تعريف بالحداثة بالمعنى الايجابي، من خلل بسط النقاش حول قضاياها وإشكالاتها، سواء في علاقتها مع التراث والتقليد أو مع ما بعد الحداثة التي شكلت خطابا جديدا، سعى نحو بناء منظوراته في استقلال عن الحداثة أو بمثابة ترميم لانزلاقاتها من خلال النقد البناء. وفي الآن نفسه مقام أساسي لمناقشة مسألة الخصوصي والكوني في الحداثة وفعلها في التقليد وطبيعة العلاقة القائمة بينهما.
[1] محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، منشورات دار توبقال، الدار البيضاء، ط2، 2007، ص 7.
[2] نفسه، ص، 8.
[3] نفسه، ص، 9.
[4] نفسه، ص، 11.
[5] نفسه، ص، 13.
[6] نفسه، ص، 15.
[7] نفسه، صص، 16ـ17.
[8] نفسه، ص، 19.
[9] نفسه، ص، 21.
[10] نفسه، ص، 23.
[11] نفسه، ص، 45.
[12] نفسه، ص، 52.
[13] نفسه، صص، 61-62.
[14] نفسه، ص، 70.
[15] نفسه، ص، 89.
[16] نفسه، ص، 91.
[17] نفسه، ص، 92.
[18] نفسه، ص، 41، نشير في هذا الصدد أنّ توظيف الكاتب للفظ "الفقهاء" في هذا السياق، يعني أنّ الكلمة كانت لهم، وهم في موقع الاستشارة والفتوى.
[19] نفسه ، ص، 43.