كثيرا ما أصبحنا نسمع في الآونة الأخيرة أن الفقه الإسلامي لم يعد يعالج قضايا الواقع، بل أصبح فقها يغلب عليه طابع الترديد والتكرار والتقليد، مما أدى إلى الإعراض عن الفقهاء وفتاواهم التي لاتتجاوز سقف الحفظ والاجترار، بل ولم يظهر عليها أثر الاجتهاد. إذ أنهم يعيدون ترديد الفتاوى القديمة ويسقطونها على واقعنا المعاصر دون أدنى تأمل في الواقع ولا أخذه بعين الاعتبار، مما أثر على الفقه الإسلامي بشكل سلبي.
وهنا نطرح السؤال ؛ هل فعلا لم يعد الفقه قادرا على مسايرة العصر وأحداث الواقع التي تتولد يوما بعد يوم، أم أن الفقيه هو الذي لم تعد له القدرة على النظر والتأمل والاجتهاد في الفتاوى وبناء الأحكام؟
لقد سبق وان قلت في مقال سابق إن الفقه ابن زمانه، وإن الواقع له تأثير كبير في إصدار الفتاوى وبناء الأحكام، لكن وعلى ما يبدو أن بعض متفقهة زماننا أضحى يغلب عليهم الجمود، إذ يمكن أن نسميهم فقط "ناقلي فقه" وليسوا فقهاء. ولست أدري هل مثل هؤلاء بالفعل فقهاء، أم يدعون ذلك فقط ، وعلى العموم فإن الفقيه الحقيقي هو الذي ينزل الواقع منزلة النص حين لا وجود لنصوص قطعية في المسائل المعروضة، أما القياس على الفقه الجاهز فإنما يزيد الطين بلة ويجعل فتاوى الفقيه بعيدة كل البعد عن واقعه ومتعارضة معه.
ولعلنا إذا تأملنا في الفتاوى القديمة وجدناها ذات واقعية تامة، إذ كان الفقيه يفتي انطلاقا من واقع المستفتي وحاله. وهذا موجود أيضا حتى في فقهياتنا المعاصرة، وإن بشكل قليل قد لا يراه أكثر الناس، فإذا ما أخذنا بعض الوقائع التي وقعت في زماننا ورجعنا إلى أجوبة الفقهاء عنها، لوجدناها أجوبة تلامس الواقع وتتماشى وكليات الشريعة ومقاصدها في الآن ذاته.
ولا يخفى علينا جميعا أن علاقة الفقه بالواقع علاقة تأثر وتأثير، إذ أن الفقيه الحقيقي هو الذي يكشف عن الأحكام الشرعية المناسبة لواقعه وزمانه.
" إن الأمر المطروح، هنا، أنه يمكن للبيئة التي نشأ وترعرع فيها الفقيه أن تؤثر في بعض آرائه"[1] فلا يمكن للفقيه أن يفتي بآراء مخالفة لواقعه أو متعارضة معه، إذ يكون بذلك لم يكمل النظرالفقهي في المسائل المعروضة عليه، ويكون قد تسرع في إصدار الأحكام.
إذ "أنه لايوجد فقيه بمقدوره أن يستنبط حكما، من دون اعتماده على مجموعة من الفرضيات البديهية المسبقة؛ وذلك لأن الفقيه ليس حالة معزولة يستطيع أن يستنبط الحكم الإلهي من غير التأثر بتاريخ حياته مع أمه وأبيه،وبيئته العلمية واتصاله بالمجتمع"[2]. لأن الفقيه يعتبر جزء لا يتجزء من هذا المجتمع، ومن هذا الواقع، وعليه فإنه لايمكنه بأية حال أن يجتهد ويستنبط ويفتي خارج موقعه الزماني والمكاني، فيكون بذلك لم يفهم نصوص الشرع فهما جيدا.
إن قراءة النص الشرعي لابد أن تكون قراءة واقعية حية، يحاول من خلالها الفقيه الغوص في بواطن النصوص واستكشاف أسرارها التي لا تتناهى، كما أن النصوص وإن كانت متناهية فإن أسرارها ومعانيها ليست متناهية، وإننا نحتاج شيئا من التفكير والنظر الدقيق واستحضار الواقع خلال قراءة النصوص وتحليلها واستنباط أحكامها، وهذاهو المطلوب من الفقيه، وهو دوره أساسا، فإذا كان كذلك، لاشك أنه لن تتعارض فتاواه وأقواله مع الواقع وأحوال الناس، فالفقيه إذا هو الذي يكون له فقه – بكل ما في الكلمة من معنى – بمتغيرات الحياة وأحوال العباد، إذ ذاك لا يمكننا أن نتكلم عن شيء اسمه تعارض بين الفقه والواقع.
ولعل أهم مايدفعنا لمزيد البحث حول علاقة الفقيه بواقعه، وربما القول بكون هذا الفقيه له ارتباط بواقعه، هونظرته المتعددة الزوايا للمصالح والمفاسد وضبطها بقواعد شرعية يجمع فيها بين "التأصيل" و"التنزيل"، فنجد أن أهم القواعد الفقهية الكبرى التي يرتكز عليها الاجتهاد الفقهي هي قواعد منبعها واقع الناس، وإنما جعل الفقيه يبحث لها عن تأصيل ومستند شرعي يعطيها تلك القوة الشرعية التي تجعلها منطلقات ووسائل يتوسل بها للوصول إلى الأحكام.
"وهكذا، فإن سائر القواعد الشرعية التي هي جملة ((وسائل ناجعة)) لتحقيق المقاصد الضرورية والمصالح الحقيقية ودرء المفاسد الغالبة، تعكس لنا وعي الفقيه بكون الواقع المراد ضبطه وتقنينه واقعا ((مزيجا)) بطبيعته، تتداخل فيه المصالح والمفاسد، ويستحيل الوقوع فيه على المصالح الخالصة أو المفاسد العارية عن المصالح"[3]
وهذا في حد ذاته رد على من يرى أننا أصبحنا من الممكن أن نصل إلى مصالح مطلقة، أو مفاسد مطلقة، إذ أن الكل يحتمل. ولذلك نجد أكثر فقهائنا يجتهدون في بعض المستجدات من قضايا العصر انطلاقا من قاعدتي "المصالح" و"العرف"، إذ أن هاتين القاعدين تجعلان الفقيه أكثر ارتباطا بواقعه، وتساعده على فهم الواقع من النظر الشرعي، وبالتالي تكون الأحكام المتوصل إليها أحكاما ذات واقعية تامة، وذات شرعية في الآن ذاته، مما يدفع عنها الغموض والتناقض.
"فقد وجد العديد من الفقهاء، خاصة من بين المالكية والحنابلة، في مفهوم المصلحة مايزكي مشروعية ذلك التكيف الذي يطمح إليه الفقيه باستمرار" [4]، إنه التكيف بين الشرع والواقع الذي يحقق لنا واقعية الشريعة، والتي تنطلق في إطلاق الأحكام من الفطرة الإنسانية، وهذه نقطة مهمةلابد من الإشارة لها، إذ أننا نعلم جميعا أن هذه الشريعة الإسلامية جاءت لتنظيم المجتمع الإنساني، وإذا قرأناها من هذه الجهة – وهو الصحيح – سنجد أن أحكامها جاءت موافقة لفطرة البشرية لا معارضة لها.
والفقيه هنا ليس دوره تشريع الأحكام، إذ أن المشرع هوالله سبحانه، وإنما الفقيه دوره هو اكتشاف تلك الأحكام التي شرعها الله لعباده وتنزيلها حسب الظروف المناسبة لها وضبطها بضوابط وقواعد معلومة لدى أهل الصناعة الفقهية. وقد يظن البعض أن الفقيه له السلطة في أن يشرع ويضع الأحكام كيف شاء، وهذا خطأ ومغالطة كبيرة من ألائك الذين لم يفهموا حقيقة الفقه،"إن عمل الفقيه ليس وضع الأحكام، بل هو اكتشاف الحكم الإلهي، اعتمادا على الكتاب والسنة"[5]
وربما نجد فقهاءنا ينحون منحى آخر يكون أكثر واقعية، وهوالمنحى المقاصدي، إذ أن انطلاق الفقيه من المقاصد يعطيه تصورا أكثر واقعية، مما يساعده على تهييئ أرضية مناسبة للبحث عن حلول مناسبة للنوازل المطروحة، " وإلا من دون تعيين أرضية للعلاقة بين المسألة ومقصدها سيقع الفقيه في لون من الاستنباط غير الصحيح"[6] مايدفع به للبناء على فقه جاهز، وهذا يكون في أحيان كثيرة ذو نتيجة سلبية يتولد عنها عقم في التفكير وتعارض بين الأحكام أو الفتاوى والواقع.
مايجعلنا نتسأل أحيانا، هل لم يعد الفقه قادرا على تلبية حاجات الواقع المعاصر؟
هذا التساؤل يرجع بنا للبحث في آليات الفقه وقواعده، بل وأصوله، وقراءتها من جديد قراءة لا تكون تجريدية، بل تكون قراءة بعين الواقع، قراءة حية، نقدية، وإذا مارجعنا لقراءة تلك القواعد وجدناها تمثل الواقع وتصوره بشكل أكثر دقة، مايجعلنا نتسأل مرة أخرى، وبشكل آخر؛ هل الفقهاء لم يحسنوا استثمار هذه الأصول والقواعد في فهم المجتمع ومشكلاته؟
لاشك أن هناك مجموعة من العوامل التي قد تدفعنا للتساؤل عن تطوير الفقه وتطوره، هذه العوامل التي يتداخل فيها ماهو سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وثقافي، وحتى الأخلاقي، مايجعلنا نعيد النظر في تقويمات الفقه للسلوك الإنساني في ظل الظروف المحيطة به ((الزمانية والمكانية))، فإنه وكما لايخفى علينا جميعا أن للزمان والمكان تأثير قوي على السلوك الإنساني وتطور المجتمع مما يؤدي أيضا إلى التأثير في تغير الفتوى.
"فوظيفة المجتهد لا تقتصر على البحث في المنابع الفقهية سندا ودلالة فقط، بل يجب عليه أن يتحلى برؤية بحيث يميز في الحكم الصادر بين أن يكون قد صدر طبقا لمقتضيات الزمان في عصر النص، أم حكم كلي عام"[7]. فإن الاجتهاد الفقهي الحقيقي هو الذي يكون منطلقه النص والواقع معا، وإن الفقيه الحقيقي هو الذي ينطلق في فهم النص واستنباط الأحكام من واقعه وليس من واقع غيره،وقد قلتها وأكررها، إن الفقه ابن زمانه، وإن الفقيه ابن بيئته، لايمكننا أبدا أن نفصل بين الفقه والواقع، إذ أننا إن حاولنا، سوف نجعل أحكام الشريعة متناقضة مع الواقع المعيش بسبب سوء الفهم والتنزيل، مايدفع بالبعض الآخر – وذاك حقهم- أن يقولوا بأن الشريعة لم تعد تستجيب لواقعنا المعاصر.
وفي الحقيقة ليست الشريعة هي العائق الذي يقف دون تقدم الأمة، بل بعض القراءات السطحية لأحكام الشريعة من طرف بعض متفقهة الزمان هي التي تتسبب لنا حدوث شرخ معرفي بين الفقه والواقع.
إن النظر الفقهي هو أكبر مما نعتقد، وأوسع مما نتصور، إن العقل الفقهي، عقل متعدد، وموسوعي، إذ أن الفقهاء الفحول وكبار المجتهدين لم يكونوا أبدا أحاديي الفكر، بل كانوا يؤمنون بتعدد الآراء ويراعون متغيرات الزمان والواقع، ويدرسون المسائل والقضايا المطروحة دراسة متعددة من كل الزوايا، ولا يتسرعون في إصدار الفتوى. هذا النوع من الفقهاء لايزال موجودا في زماننا وبين ظهرانينا، لكنهم للأسف الشديد تخلفوا كثيرا عن منابر الإعلام ليفتحوا المجال لمتفقهة الزمان الذين أوقعونا في أزمة معرفية بين ((ثنائية الفقه والواقع))
إن الجمود على بعض الفتاوى الفقهية القديمة خصوصا في باب المعاملات، وتنزيلها على واقعنا المعاصر دون مراعاة لطبيعة هذا الواقع أو ذاك، لهو منذر بقطيعة ابستيمولوجية بين الفقه والواقع. إن ثنائية الفقه/الواقع تشكل ثنائية تلازم و تداخل دقيق بين هذين المفهومين الكبيرين، وإذا أردنا أن نفهم هذه الثنائية بشكل أكثر تفصيل لزمنا ذلك إعداد بحث معمق لتحديد موقع الجرح ومعالجته، لكن يمكننا القول بأن واقعنا المعاصر يفرض علينا أن نعيد النظر في كيفية استثمارنا للتراث الفقهي بمناهجه وقواعده التي باستطاعتها أن تعالج قضايا الواقع مهما تطور هذا الأخير.
"فالفقيه في نهاية المطاف هو أحد أفراد المجتمع واحد أبناء العرف، بالإضافة إلى ما يتحلى به من فقاهة"[8]
فلايمكنه بأي حال أن يخرج عن عادات مجتمعه وتقاليده أعرافه، لأنها جزء من نشأته وتربيته، وهذه قاعدة نجدها عند فقهائنا المالكية تحت مسمى "ماجرت به العادة والعرف"، إذ أن مثل هذه القواعد والأصول تجعل الفقيه أكثر واقعية وأكثر احتكاكا بواقعه، وبالتالي، فإنه حين يسأل عن مسألة ما ويريد الجواب عنها، فإنه يستحضر واقعه حتى لا تكون إجابته متناقضة وحاجات هذا الواقع، وما سمي الفقيه فقيها إلا لكونه يستوعب جميع تفاصيل مجتمعه وله خبرة بحياة الناس وأحوالهم وثقافتهم، وإلا فإنه يكون من الظلم للفقه ومن العبث بالشريعة أن نسميه فقيها، لأن الفقه هو وضع المجتمع في موقعه الديني وتفسير مختلف الظواهر الاجتماعية من الناحية الشرعية بمنهج علمي مقبول.
[1] الفقه وسؤال التطوير مجموعة من المؤلفين/ ص - 156
[2] نفس المصدر والصفحة
[3] الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام/عبد المجيد الصغير/ ص-254
[4] نفس المصدر ص-256
[5] الفقه وسؤال التطوير ص-160
[6] نفسه ص-199
[7] نفس المصدر السابق ص-213
[8] الفقه وسؤال التطوير ص-227