أنفاستمهيد
      إن ما يبرر اهتمامنا بمسألة المواطن من خلال كتاب ماركوز" الإنسان ذو البعد الواحد" أن ماركوز-باعتبار انتمائه لمدرسة فرانكفورت النقدية –تسعى للكشف عن تحول العلم والتقنية إلى إيديولوجيا أمكن من خلالها أحكام قبضتها على الإنسان ، وتحويل عقله من عقل أنواري إلى مجرد عقل أداتي . وقد نجح ماركوز في الكشف عن عنف الاستغلال النسقي للطبيعة والإنسان. فالفكر تم احتواؤه من قبل السلطة وجرد من حق الرفض وأصبح سلعة واللغة بدورها تشيأت ولم تعد تمثل مأوى الوجود ومسكنه وإنما أداة للإشهار السلعي تمر عبره تربية الجمهور وتطويعهم مما يهيئ لحمق سياسي . وتم تسخير العلم لممارسة التسلط التي ازدادت حدتها في الواقع الاجتماعي ،فإرساء قوانين عامة للظواهر الطبيعية تلاه نقل القالب نفسه الذي مهد لإخضاع الشعوب وفقا لمراسيم وقوانين المستبدين ،وإخضاع المواطنين لأوامره وقوالبه مجندا إياهم تجنيدا شموليا تنظمهم على الشاكلة نفسها وتتحكم بهم قسرا .وحتى العلوم الإنسانية لم تسلم هي الأخرى من التسخير من طرف السلطات السياسية والاقتصادية ."فمثل هذا المجتمع قد يتطلب تقبل مبادئه ومؤسساته.فلا يعود من دور للمعارضة غير مناقشة
 الاختيارات والحلول السياسية البديلة والبحث عنها داخل الوضع القائم وسواء كان النظام مستبدا أم غير مستبد، فليس لذلك من أهمية مادام يعمل على التلبية المتدرجة للحاجيات."ص38
إن هذه الصورة الحقيقية للمواطن في عصر التقنية هي التي دفعتنا لاختيار كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد "من أجل اختبار الوضع الحقيقي للمواطن،خاصة ونحن نشهد عصرا يكثر فيه الحديث عن حقوق المواطن داخل الدولة وضرورة احترام مبدأ المواطنة حتى أصبح تقدم الدول وحداثتها مرهون بمدى استجابتها لاحترام مواطنيها. فهل نجد حقا مثل هذا التقديس للإنسان والمواطن بصفة خاصة داخل الدول الصناعية أم أن مواطن هذه الدول حاله حال المجتمعات النامية يعيش اضطهادا وتهميشا تحجبه غشاوة السعادة التي خرجت من معطف صناعة التسلية والترفيه وثقافة الاستهلاك؟
 لما كانت المواطنة هما فلسفيا بامتياز انشغل بها مؤسسو الفلسفة السياسية الحديثة واعتبروها من مقومات الدولة الحديثة نظرا لارتباطها بقيم الحرية والمساواة والمسؤولية وابتغاء الخير العام ، فإنه لابد من ربطها بأصلها وهو الإنسان حتى نفهم مدى استجابة فكرة المواطن لطموح الإنسان في أن يعيش الحرية والعدالة والمساواة. وهو ما يدفعنا للبحث والتساؤل عن طبيعة علاقة الإنسان بالمواطن .

أنفاس"ان ثقافة أضاعت قيمها لا تستطيع الا أن تنتقم من قيم الثقافات الأخرى".
                                         جان بودريار[1]
 
لا يكون الانسان الا بهويته ولا تتشكل الهوية الا عبر شغل جماعي يقوم به عدد من الناس،لكن هذه الهوية تظل فقيرة وتنحرف نحو التعصب والانغلاق اذا لم تنفتح وتعترف بحق الآخر في الوجود والاختلاف والتنوع لكن كما يمثل التعصب لهوية ما خطرا ينتهي بنفي الآخر وتهميش الغيرية وتحويل العلاقة بين البشر الى علاقة صراع فان الاتصال بالثقافات الأخرى قد يمثل تهديدا لهوية ثقافية حين تصير ظلا للآخر منبهرة ومشدودة لانجازاته فتقف عاجزة عن الإبداع ويتحول كيانها بلا خصوصية تشدها الى الأصل وبلا مشروع كوني تقبل به على الآخر وتندمج معه في بناء هذه الكونية.
ان هذا التوتر هو الذي يبرر طرح مشكلة العلاقة بين الخصوصية والكونية وهو كذلك الذي يجعل من العلاقة بين العالمية والعولمة ميدان استقطاب وتجاذب، فكيف السبيل الى الانخراط في الكوني؟     وما الحاجة اليه أصلا طالما أن كل فرد يحوز على خصوصية معينة؟ ولماذا مثل ظهور العولمة إحراجا كبيرا لهذا الانخراط؟ وماهو الطريق الذي ينبغي أن تسلكه البشرية للتحرر من التأثيرات السلبية والانعكاسات الخطيرة للعولمة؟
يعتقد البعض أن الكوني والعالمي والعولمي معاني متشابهة ومصطلحات متجاورة مثلما يتجاور العالم والكون ومثلما تكتسح العولمة المعمورة وترتبط بالكلي ولكن الواقع يثبت أن مثل هذا التشابه خادع وأن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير وأن مثل هكذا كلام هو شعارات براقة .
إذ صحيح أننا نعيش تطلع جميع الثقافات الى الكوني ونموت من فقدان كل خصوصية وصحيح أيضا أن الكوكب يشهد انتشار عالمي لكل شيء وعلى امتداد أي شيء ولكن صحيح أيضا أن الكوني في طريقه الى التلاشي وأنه ثمة اختلاف بين الكوني والعالمي والعولمي وأن الكوني قد تعولم وأن العولمي ذي اتجاه واحد لا محيد عنه وأن الكوني يهلك في العولمة.
 لقد أكد جان بودريار أن الذي يحدث اليوم في المعمورة من تحولات هو عبور من الكوني الى العالمي عن طريق العولمي، فما المقصود بذلك؟ ولماذا نبه هذا الفيلسوف على خطورة الموقف؟ هل يعني أن الكوني اختفى ولم يعد له أية أثر؟

أنفاسإن مسألة العلاقة بين الحقيقة العلمية والنظريات المعرفية (الابستمولوجي) قد أثارها الفكر الأوروبي الذي بلغ ذروته في الماركسية وعلم الاجتماع ونظرية المعرفة- والظاهراتية، والشكلانية.. الخ)، طبقاً لوجهة النظر فإن نظرية المعرفة (الابستمولوجية) تعتبر بطبيعتها قطيعة معرفية ما بين التاريخي والمنطقي، وهو أمر يتسم بالحقيقة لأنه لا يستلزم التمويه أو إخفاء المصالح المعرفية (الابستمولوجي) ويضاف إلى إدراكها على أنها فجائية مع (العلم) بمعنى أنها تتساوى مع مفاهيم عقلانية، وتتساوى مع العقل المعرفي أو الواعي والمنطقي، وهو يشكل نسق متواتر متفاعل للوصول إلى الحقيقة الأنطولوجية، وبالتالي حينما يتم تطبيق الأداة العملية بشكل دقيق فتظهر القطيعة المعرفية مع التاريخي والمنطقي. لكن هل يمكن أن ينهض الفكر العربي المعاصر على أسس ابستمولوجية تقييمية دقيقة وبشكل جدي؟‏
لكن هل يمكن أن نستوفي الشروط الأولية لممارسة المعرفة وتقديم المعرفة؟‏
وهل يمكننا أن نقف على أرضية معرفية (أبستمولوجية) أو على أرضية إيديولوجية تقييمية كانت أم محافظة؟‏
ولنا أن نحاول الاستعانة بسؤال كانط حول إمكانية وجود المعرفة أو بالأحرى شروط إمكانية وجود المعرفة في زمن معين وبيئة معينة؟‏
يبدو الشيء الواضح في مسألة الواقعية في الفكر والحياة، أنّ هناك استراتيجية متكاملة للمعرفة.‏
هل تشكل المعرفة قوامها الحسي والعقلاني؟‏
إن الجانب القوي في العقلانية هو الاعتراف بالدور الفعال الخلاق للذات، العقل والتفكير في المعرفة، ويرجع هذا إلى قدرة التفكير على النفاذ في عمق الأشياء وكشف أسرارها، إضافة إلى أنّه لا يمكن فصل التفكير عن التجربة الحسية وعن الإحساسات والإدراكات لأن مصدر المعرفة هو الحدس الذهني؛ ندرك من ذلك (أن التوصل إلى المعرفة (ابستمولوجي) يتم بواسطة العقل المنطقي مصاحباً الإدراكات حينما تدرك حقيقة معرفية تشعر بوجودها رغم أن الاعتراف بوجود معرفة فطرية فهي لم تسبق التجربة و(وجود الإنسان مبعث كل تجربة).‏
إن المعرفة مأخوذة من العلم الخارجي بواسطة التجربة الحسية والتفكير المتنامي الديالكتيكي الانطولوجي-على أساس المدرك- يوضح علماء السيوسيولوجية (أن الناس يحصلون على المعارف من خلال الديالكتيك الانطولوجي في السوسيوثقافي- والشيء الذي يتوارث بيولوجياً ليس التصورات والمفاهيم وليس المعرفة الجاهزة لقوانين العالم الخارجي بل آلية النشاط العصبي الذي يقوم بدور الأساس الفيزيولوجي لعملية المعرفة، وهذا ما يسوقنا إلى نتائج المعرفة، والأفكار التي لا تورث بيولوجياً ويرث الإنسان الخبرة المعرفية من أجيال معرفية عن طريق التعلم والتربية والإحاطة باللغة وأشكال المعرفة وهو يحدث قطيعة معرفية تتنامى بالتجربة والمعايشة.‏

أنفاس" لقد كان الإغريق من أعلن موت الحكيم، ليستعيضوا عنه بالفلاسفة،
باعتبارهم أصدقاء للحكمة، يبحثون عنها، دون حيازتها
"
                                                                    جيل دولوز(1)

فلتسمحوا لي أيها الأصدقاء أن أهِم هذا المساء ، وبنية وقصد مبيتين ، بتقديم مديح في حق الفلسفة . وهو مديح تفرضه صداقة ومحبة الحكمة . و يطيب لي أن أبدأ الكلام بما  انتهى عنده اسببينوزا في كتاب " الإتيقا " حيث نقرأ :  " كل ما هو جميل صعب ، بقدرما هو ناذر "(2) . يؤسس الجميل وجوده، إذاً، على الندرة، ذلك أن الوجود يكتسي حلة القبح نتيجة الحركة الجدلية للموجود، وهو يصارع من أجل اقتطاع حيز من الوجود ، يرضي طمعه اللامحدود في التملك . ولأن العمل جدلي ، ولأن الموجود يصارع الموجود، بعناد ، فإن النتيجة الطبيعية لهذا الصراع هي انبثاق القبح،  باعتباره ذلك الخراب الذي يصيب سكينة الوجود ، أو ذلك النشاز الذي يعكر تناغمه ( هارمونياه ) .
إن الجميل ، إذاً ، ناذر ، لأن الخراب والنشاز يكتسحان أنحاء الوجود . فلا تتبقى له سوى الهوامش، والفراغات الصغيرة، والصموتات العابرة ، لكي يِِؤسس فيها منازله . كيف يمكن أن تَكتشف منازل الجميل تلك ، وكيف يمكن أن تقيم فيها ؟ يقول اسبينوزا : " صعب " . ذلك أن العبور إلى تلك المنازل لا يتم إلا عبر المسالك الجانبية ، والطرق الضيقة ، التي يغفل عنها الموجود في تجاذباته . ولاتكمن الصعوبة في العبور عبر تلك المسالك فحسب  ، لأنها تكون موحشة،  بل إن الصعوبة تتعاظم لأن الإفتضاح يظل ممكنا في أي لحظة ؛ كأي عشق سري :
 " ياحسرتا للعاشقين تحملوا ** سر المحبة والهوى فضاح " ( السهروردي) .
إن احتمال الإفتضاح ، يشكل، دون شك، خطرا محدقا بذلك العشق ، لكنه يعمل في نفس الوقت على إذكاءه .غير أن خطر الإفتضاح لا يهدد، فقط،  ذلك العاشق  العابر بسرية إلى  تلك المنازل ، بقدرما يهدد تلك المنازل ذاتها، إذ تصبح موضع صراع ، عندما تتحول  المسالك الضيقة إلى طرق سيارة  فلا شيء يبقى سريا في الطرق السيارة  .
إن النتيجة المرتقبة لهذا الإفتضاح هي:   ألا يصبح الجميل فقط موضوعا للصراع،  بل يصبح طرفا فيه .  ذلك أن النشاز يسعى للإمتداد أكثر حتى يستحوذ على مساحة أكبر من الوجود يؤسس فيها، للموجود، مقامات .ثابثة و متشابهة .

أنفاسربّما، لو حاولنا أن نبحث فيما وَصلَنا من الثقافة العقلية القديمة عن أعمق الفلسفات وأفضلها، لن نجد بين الفلاسفة أفضل من أفلاطون (427 -347 ق. م) بالقياس إلى ثقافة زمنه، والوسائل المتوفر منها، وبصيرته النافذة في عصره وعصور قادمة والتي تكشف عنها آراؤه في دول العقل، وأنواع الحكومات، وطبيعة كلِّ نظام سياسي ومزاياه. وهذا العمق في فهم المشكلات الإنسانية الذي لم يبلغه أي فيلسوف في عصره، هو الذي يدفعنا لعرض وجهات نظر أفلاطون في النظام السياسي الأمثل، لكونه يمثل إلى حدٍّ بعيد قمَة حدود الإدراك العقلاني للضرورات والحاجات الإنسانيّة. وإنَّ دراسة حدود هذا الإدراك ومقارنته بالفهم الروحي لنفس المسائل سيكشف لنا عن الفرق بين مقتنيات العقل، ومقتنيات الروح، وفهم كل منهما للمشاكل الإنسانية، والحلول التي سيبني بهما كلاهما جمهوريته الفاضلة. ولا خلاف بين الفريقين على بناء هذه الجمهورية، ولكنَّ الخلاف هو في الأسس التي سيقوم عليها كل بناء، وهو خلاف ما زال قائماً في عصرنا، ويفرض علينا أن نتعامل معه كأمرٍ واقعٍ لا بدَّ منه، وإن كانت نتائجه الظاهرة للعيان تدفعنا بالضرورة للطموح إلى الجمهورية المثلى التي لا تأكل فيها الحروب خبز الإنسان ومأواه ومستقبله. وإذا كان لا بدَّ من دوام هذا الخلاف، فليكن، ولكن بصلح كصلح الحديبية بين الفرقاء، لفتح باب الحوار بدلاً من إطلاق النيران فمن يدري؟ ربما سيكون عدو الأمس صديقاً. وحتى إذا لم يتحول إلى صديق فلا حاجة للتفكير في قتله أو إكراهه على الإيمان، بما يؤمن به كل فريق. وإن من مصلحة الإنسانية تفويض الأمم المتحدة بحلِّ الخلافات بين الشعوب وفقاً لمعايير واحدة، بهدف نشر رايات السلام العادل فوق كل ربوع الأرض، لإتاحة الفرصة أمام كلّ شعب للتسابق مع الآخرين على بناء جمهوريته الفاضلة في جو السلام والأمن.‏
ولا بدّ لتحقيق هذه الأهداف من وقف سباق التسلح، وتحويل كل الأسلحة إلى مناجل وهو أمل قديم وحلم من أحلام البشرية يجب تحقيقه بعد أن توفّرت كلّ الإمكانات المادية، ونضجت كل الظروف لإنجازه. ولكن ما يلزمنا هو توفر الإرادة العملية لتحقيقه، لأنَّ أبسط الأشياء يحتاج إنجازها إلى جهودنا، وإنّ كلّ طريق لا بدّ لنا من تسخير أنفسنا وجهودنا من أجله قبل أن يصبح صالحاً للسير عليه. وربما إنه من الغريب، بل والعجيب أن يفشل قادة، من المفترض أنهم حكماء العالم، في صنع السلام، وأن يستمروا في صنع الحروب والتخطيط للحروب القادمة، بإنتاج مزيد من الأسلحة، رغم أنهم يعرفون أكثر من غيرهم بأن تكلفة السلام أقل بكثير من تكاليف الحروب، وإنّ موارد الأرض تكفي لإطعام أضعاف عدد السكان الراهن. ولكن هل هو مرض قابيل وذريته الذي قتل أخاه رغم سعة الأرض في ذلك الزمان الذي كان يستطيع فيه قابيل أن يتصرف بقارة كاملة دون أي معارضة. لهذا السبب ستظل الجمهورية الفاضلة ممكنة التحقيق. فماذا أعدَّ لها أفلاطون؟ وكيف رسم معالمها بريشته؟ وهل ستلقي قمة الحكمة العقلية أي الفلسفة مع الشريعة كما رأى ابن رشد.‏

أنفاس"اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة ستة أشياء في قواعدها وان تفرعت وهي: دين متبع وسلطان قاهر وعدل شامل وأمن عام وخصب دائم وأمل فسيح"[1]
توطئة:
موضع الاهتمام في هذا البحث هو الفقيه الشافعي أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي  ( 974- 1058 ميلادي ) الذي انتظر الفكر العربي الإسلامي مجيئه لكي يكتب أول رسالة في القانون العام تحمل عنوان "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" ولم يقتصر جهده الفكري على هذه الرسالة بل كتب مؤلفات أخرى منها "نصيحة الملوك" و"قوانين الوزارة وسياسة الملك" و"أدب الدنيا والدين" وكتاب "تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك" و"أعلام النبوة" و"النكت والعيون" وهو كتاب في تفسير القرآن. ونحن هنا سنعالج نظرية الدولة كمشكلة فلسفية مركزية وسنبحث في علاقة الدين بالملك وعلاقة الدولة بالشريعة من ناحية وعلاقة جهاز الدولة بالمجتمع أي علاقة الراعي بالرعية من جهة أخرى منقبين عن بذور العلمانية السياسية في النصوص الفقهية الشرعية ومفتشين عن طبيعة العلاقة التي كانت موجودة بين الفقهاء باعتبارهم حراس شريعة والسياسيين باعتبارهم حراس سلطة في الفضاء الحضاري العربي.
 إن أهم الإشكاليات التي سنعالجها في هذا المقام هي كما يلي: ماهي نظرية الدولة عند الماوردي؟ ما علاقة الدولة بالدين من ناحية وعلاقة السلطة بالمجتمع من ناحية أخرى؟ وإذا كان كل فكر له تاريخ وبنية فماهو تاريخ الفكر الفلسفي السياسي الفقهي أو ما يسمى بفقه السياسة؟ ثم ماهي البنية العلائقية التي تربط الفقهاء بالحكام؟ والى أي مدى احترم الماوردي هذه البنية؟
إذا كان لكل فكر وظيفة إيديولوجية فما هي الوظيفة الإيديولوجية لفكر الماوردي؟ بلغة أخرى هل الأحكام السلطانية هي إيديولوجيا لتبرير الواقع أم إنتاج عقلي الغاية منه إيجاد حلول جذرية لهذا الواقع المتأزم؟ هل فقه السياسة عند الماوردي هو مجرد تأمل نظري طوباوي؟ ماهي الإضافات النظرية والفتوحات العملية التي قدمها الفقيه الماوردي إلى الفكر السياسي العربي مما جعله يبتعد أن يكون مجرد ترجمة عربية للفلسفة السياسية اليونانية؟ ماذا يقصد بمارة التنفيذ وإمارة الاستيلاء؟ ولماذا جعل الخليفة هو الذي يعين الإمام على صلاة الجمعة؟ وهل يجوز أن نميز بين مساجد للسلطان ومساجد للجمهور؟ ترى ما الغاية من حديث الماوردي عن فضيلتي الحذر والعدل في تدبير أمور المدن والثغور؟ ثم ما مدى شرعية التحديث الذي قام به في المؤسسات الدستورية عندما أدمجها في مفهوم الشريعة وقدم مؤسسة الخلافة على جميع المؤسسات الحكومية الأخرى؟

أنفاسألقى كوندراتينكو الضوء على الفرق الحاسم الذي يميز الإدراك المعرفي/العلمي، عن العلاقة الدينية، والجمالية بالمكان، والطبيعة عموماً، ليدلنا على المصدر الإدراكي للشعور الديني، والشعور بقداسة المكان، أو جماليته، إذ أشار إلى أنه لا توجد في المجتمع الإنساني علاقات بين الناس فقط، بل هناك علاقات الإنسان بالطبيعة، وبالمكان الذي يحيط به، وتقف هذه الأخيرة وراء العلاقة الميثية ـ الدينية بالمكان. فمن محاولة الوعي الإنساني الدائبة في البحث عن تفسير لقوى العالم المحيطة به، وهو مندهش أمام غرابتها، وروعتها وعظمتها، تنشأ العلاقة الميثية الدينية والجمالية. وعلى هذا فقد قارب كوندراتنكو ما بين العلاقة الدينية والعلاقة الجمالية، بالقدر الذي ميّز فيه مشاعر الإجلال والتقديس الدينية وما يصاحب الطقس الديني من عاطفة، وبين الدين كتعاليم ونظام ونظريات، وأيضاً بين العلاقة الجمالية وما يصاحبها من أحاسيس ومشاعر، وبين الفن والنظريات الفنية، وأيضاً بين العلاقة الأخلاقية والأخلاق كتعاليم ونظريات(1).‏
وعلى هذا فإن كوندراتينكو يطلق على علاقة الإنسان بالمكان والطبيعة تسمية (العلاقة الفردية الاجتماعية)، التي بواسطتها يجري الإنسان تقييماً للأشياء المحيطة به، كأن يسبغ على بعض الأشياء ـ والأمكنة صفة القداسة، وما يصاحبها من شعور جمالي، وتختلف تلك العلاقات الفردية (التقييمية)، مع الطبيعة والمكان، عن الإدراك العلمي الذي موضوعه "موضوع الإدراك" وحسب ما تقيّمه، انطلاقاً من ذلك، يؤكد أنه يوجد طريقتان للمعرفة: الطريقة العلمية، والطريقة الفنية، ويقوم التقييم على المقارنة التي لا تعقد هنا على أساس الصفات الموضوعية للأشياء بل على أساس تأثيرها، لذلك تتميز الصورة ـ التقييم (أي الجمالي، القدسي، النفع) تمييزاً مبدئياً عن الصورة ـ الإدراك"(2).‏
إذ ليس النفع والجمال، والقداسة، صفات في الشيء أو في المكان، بل هي نتيجة تقييم نوعي للأشياء والظواهر، تقييماً لقدرتها على تلبية الحاجات النفعية، والجمالية والقدسية الدينية، "لقد كانت الرهبة والتعبد، على الأرجح، مصاحبة للعلاقة الدينية أو للتقييم الديني، في حين كان الإعجاب تعبيراً عن العلاقة الجمالية"(3).‏
يذهب أرنست كاسيرر، كفيلسوف للحضارة، على نحو أبعد، في تفحص الإدراك الرمزي للمكان، للعالم، فهو لا يتردد في تعريف الإنسان على أنه "حيوان ذو رموز)(4). فإذا كانت الأنواع الحيوانية، ومنها الإنسان تحمل "جهازاً للاستقبال"، وجهازاً مؤثراً، فإن لدى الإنسان حلقة ثالثة، هي التي يسميها "الجهاز الرمزي"، الذي به يقيّم الإنسان علاقته الإدراكية بالعالم، ومن هنا، فإن كاسيرر يرى في اللغة والأسطورة والفن والدين ليس سوى وجوه مختلفة من هذا "الجهاز الرمزي" الإدراكي، فهو يشكل الخيوط المتنوعة التي تحاك منها الشبكة الرمزية، والنسيج المعقد للتجارب الإنسانية مع العالم(5).‏

أنفاسهناك مشكلة متداولة بين دارسي المتن الأرسطي تتعلق بطبيعة الكتابة الفلسفية ذاتها، إذ من المعروف أن أرسطو كان يكتب بلغة مزدوجة: بعضها مخصص للعامة، يسيرة الفهم، يسهل تداولها على نطاق واسع؛ وبعضها موجه للخاصة، مكتوبة بلغة تقنية صارمة، سبل إدراكها غير ميسرة للجميع. النوع الأول يسمى بالكتابة الظاهرية Exotérique، بينما يسمى النوع الثاني بالكتابة الباطنية Esotérique أو  Acromatique.
يدخل كتاب الميتافيزيقا أو ما بعد الطبيعة ضمن كتابات أرسطو الباطنية، لذا سيظل مجرد "دروس" محفوظة في كراسات التلامذة على شكل أفكار ورؤوس أقلام وتوجيهات وإحالات.. الخ. إنها دروس يطغى عليها الطابع الشفوي، مما سيفقدها تماسكها الداخلي ووحدتها العضوية المفترضة في كل مؤلف لا يخرج إلى النشر إلا بعد مراجعات وتدقيقات وتنقيحات سواء على مستوى المعنى أو على مستوى التعبير.
نقلت لنا روايات قديمة بعضها يجنح إلى الخيال وبعضها إلى الواقع المشاكل التي اعترضت مقالات ما بعد الطبيعة، وكيف انتقلت من يد إلى يد قبل أن ترى النور أخيرا. يعود مؤرخو الفكر الأرسطي إلى استرابون Strabon وبلوتارك Plutarque لبيان مسار الميتافيزيقا، حيث بدأت رحلة مقالاتها مع تاوفراسطس Théophraste -أحد تلامذه أرسطو- الذي تولى مهمة تسيير شؤون الليسي  Lycée، بعد وفاة أستاذه. وتاوفراسطس هذا هو الذي سلم مخطوطاته ومخطوطات أستاذه إلى شخص يدعى نيلوس  Nélus، فحملها هذا الأخير إلى طروادة وتركها لورثته. ولما خاف هؤلاء الورثة من جشع ملوك برغام Pergame الذين أرادوا تكوين خزانة تنافس خزانة الإسكندرية، عمدوا إلى إخفاء تلك المخطوطات بطريقة عشوائية في قبو، مما ألحق بها أضرارا بفعل الرطوبة وبعض الحشرات. وفي عهد سيلا Sylla تم اكتشاف تلك المخطوطات، ومن بينها مقالات ما بعد الطبيعة التي وجدت بها إضافات في غير محلها وقراءات خاطئة للمتن الميتافيزيقي. بعد الاستيلاء على أثينا عام 86 ق.م من طرف سيلا Sylla، نقلت هذه المخطوطات إلى روما ووقعت بين يدي النحوي تيرانيون Tyrannion -صديق شيشرون- الذي عمل على ترتيبها وتبويبها ونسخها، ثم سلمها إلى المشائي أندوونيكوس الروديسي Andronicus de Rhodes ( الخليفة الحادي عشر لأرسطو على رأس الليسي). وهذا الأخير هو الذي أخرج النشرة النهائية لمقالات ما بعد الطبيعة بأخطائها وإضافاتها حوالي سنة 60 ق.م. ومن هذه النشرة الأولى، انحدرت كل النشرات اللاحقة حسب قول استرابون  Strabon.

أنفاس سنتناول مفهوم العقلانية في المجال الفلسفي و العلمي و السياسي, باعتباره انتصار للعقل و مولدا لإنسان جديد هو الإنسان العاقل و الحر الذي بشرت به الثورة العلمية الكبرى في القرن 17 وجسدته الثورات السياسية في أوروبا في القرن 18 و 19 .
سنحاول تتبع انتصارات العقل هذه من خلال [ ظهور ] مفهوم " القانون ".
I - ديكارت أو الإعلان الفلسفي عن مولد " العقلانية ":
يعتبر ديكارت – عند الجميع – مؤسس العصر الحديث, و فيلسوف العقلانية و التنوير, لأنه أول  من دعا بوضوح الى  ضرورة  تحطيم الأسس القديمة للمعرفة ( الحس )  و تأسيسها على أسس جديدة  ذهنية ( رياضية هذه المرة ).
هذه المحاولة الجزئية يصفها هو نفسه في " مقالة الطريقة " بقوله " بنشري مبادىء الفلسفة التي استخدمتها إنما افتح النوافذ و أدع ضوء النهار يدخل الى الكهف الذي انغلق فيه أصحابه " فليس أصدق تعبيرا من وصف العصر الوسيط برمته بالكهف المظلم المنغلق على أصحابه. و ليست وضعية ديكارت من عصره سوى أشبه بوضعية سجين أفلاطون المتحرر من كهفه ( و هو مثال و نموذج الفيلسوف ) , و ليست عملية التحرر هذه سوى عملية تبدأ في الإنسان ذاته نحو الإنسان كذاب , و لعلها تلك هي مزية ديكارت الكبرى التي مثلها في ميتافيزيقا ه بدءا بالكوجيتو كجوهر لذات نحو أفق هذه الذات و هو امتلاك الوجود كله باعتباره وجود هذه الذات المتحررة حيث " نصبح أسيادا للطبيعة و مالكين لها " كما يقول ديكارت نفسه , تدعمنا في ذلك القدرة الإلهية  الخلاقة و هذا ما نلمسه لدى ديكارت في كتابه " تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى " الذي نشره للمرة الأولى باللغة اللاتينية لغة خاصة, قاصدا بذلك إبقاءه ضمن حيز العلماء و رجال الدين .
و لعل هذا الكتاب هو ثاني كتاب يكتب اللاتينية و يوجه الى الخاصة من الناس بعد كتاب " مقالة الطريقة " الذي قدم فيه ديكارت بعض تطبيقات منهجه العلمي على علوم مثل البصريات – الهندسة – الآثار العلوية – و هذين الكتابين في الحقيقة جاءا ردة فعل و تفسير لحركة سحب كتابه الشهير " العالم أو رسالة في الضوء " من المطبعة سنة 1633 إبان محاكمة غاليلي في ايطاليا, ولعله بذلك حاول إخفاء خوفه و تقديم تفسيراته و اعتذارا ته لرجال الدين حتى لا يساء الظن به. و لعل ديكارت وحده يعلم أنه يفكر ضد الكنيسة بطريقة عقلانية مغايرة للتفكير السائد, و إلا لما خشي من الكنيسة أو لما اعتذر لرجال الدين.
فكيف فكر ديكارت بطريقة عقلانية مغايرة ؟ و ما هي أسس العقلانية الجديدة التي أسس لها ؟ لنعتمد فقط كتاب " التأملات " و نرى كيف يعكس بنائه و حركة أفكاره توجه عقلاني جديد يختلف عن كل ماهو سائد في ذلك العصر ؟ .

أنفاسالمدخل :
هذا السؤال يطرح أمرا واقعا اليوم ،يدعونا إلى التفكير فيه بضرب من العقلانية ،لذا فهو يفترض السؤال مسبقا لماذا نختلف ؟وفيما نختلف؟ لنعرف بعد ذلك كيف نختلف ؟ ثم إن هذه الأسئلة جميعا تقودنا إلى السؤال الفلسفي الأول :ما الاختلاف؟
عن هذا السؤال يجيبنا أرسطو في الكتاب الرابع من الميتافيزيقا معرفا الاختلاف بكونه
  "علاقة تغاير بين أشياء تبدو متماهية من وجهة نظر أخرى "(1)

       "Relation d’altérité ,entre des choses qui sont identiques  à un autre égard " Aristote-Métaph,IV,9,1018a.

  ويفسر السيد لالاند ذلك على أنه يعني عند الوسيطيين مجرد اختلاف عددي بين أشياء كثيرة تتميز بالنوع لا بالجنس,وهو ما سيعود إليه أرسطو في المرجع السابق حين يبين أن الاختلاف هو امتلاك خاصية تميز نوعا من نوع آخر لنفس الجنس .
      أما السيد لالاند(2) ,فمثله مثل باقي الفلاسفة الجدد ,يماهي بين الاختلاف والتضاد أو التناقض .فهو يفسر كلمة.« altérité على أنها خاصية ما هو آخر،ويجعلها نقيضا للتماهي و كل ما هو غير ذاتي. وسواء أكان الاختلاف تميزا بالجنس أو بالنوع فلا بد من الاعتقاد مع هيقل(3) بأن الاختلاف جزء   مكون    للوحدة ولا يمكن تصور الوحدة دون الاختلاف ,فلا يمكن أن أكون أنا ذاتي إلا متى وعيت بان  هناك آخر مقابل لي هو الذي من خلاله أعي ذاتي,"فلا يحصل الوعي بالذات إلا عبر الشعور   بالتضاد فلا أستعمل ضمير أنا ألا عندما أخاطب أحدا يكون أنت في كلامي"على حد عبارة اميل بنفنيست (4).فالاختلاف بهذا المعنى ,هو القدرة على أن أكون الأخر في الوقت الذي أكون فيه أنا نفسي ،أو القدرة على أن أكون أنا نفسي في الوقت الذي أكون فيه الآخر.
     فالاختلاف إذن تميز وتماهي ,تضاد وتشابه .    لماذا نختلف ؟
وما الذي يدفع بالإنسان إلى أن يكون الآخر إن كان هو ذاته , أو إن كان هوالاخر ما الذي يدفع به لأن يكون ذاتا ؟ هل الاختلاف طبيعة بشرية متأصلة فينا وقدر لا مهرب منه أم هو شيء نكتسبه ونتربى عليه في حياتنا ؟هل هو طبيعي أم هو تاريخي ؟ غريزي أم مؤسسي ؟
لقد أكدت اغلب الدراسات الانتربولوجية على أن" للإنسان تاريخ أو هو بالأحرى تاريخ "كما يقول سارتر , ولكن لا يعني ذلك أن ليس له طبيعة كما يدعي البعض .

أنفاس- في تعريف الدولة
- علاقة الدولة بالمجتمع المدني 
- فلاسفة العقد الاجتماعي
- هيجل
- ماركس

1 - مفهوم الدولة :
لو اعتمدنا الأصل الاشتقاقي في كلمة دولة فإننا سنقف عند اختلاف واضح بين التحديد العربي لهدا المفهوم و التحديد الغربي اللاتيني كما بين ذلك الدكتور فتحي التريكي ففي القاموس المحيط للشيخ مجد الدين الشيرازي نجد ما يلي " دال يدول "دولا و دالة صار شهرة و الدولة الحوصلة لانديالها.... وأدالنا الله تعالى من عدونا من الدولة والادالة " الغلبة " ودالت الأيام دارت و الله تعالى يداولها بين الناس و الدول لغة من الدلو وانقلاب الدهر من حال إلى حال " فهذا التحديد كما هو واضح إذن يذهب الى اعتبار الدولة أمرا متغيرا  بين الناس و متداولا بمقتضى الغلبة و الشهرة , ولعل مثل هذا التحديد هو الذي يوافق عليه ابن خلدون حين يقول في الفصل 4 من المقدمة بأن " الملك يحصل بالتغلب , و التغلب يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة , وجمع القلوب وتأليفها إنما  يكون بمعونة الله في إقامة دينه " وذلك أن الدولة حسبه ( الملك) لا تقوم بدون عصبية وغلبتها على العصبيات الأخرى " و العصبية متألفة من  عصبات   كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلها فتغلبها و تستولي" ( الفصل 10 ) و العصبية عند ابن خلدون أنواع 3 أولها العصبية الطبيعية المنتجة للملك الطبيعي وثانيها العصبية متألفة من عصبيات السياسية و ثالثها  العصبية الدينية   وجميعها تحصل بالتغلب والإنفراد بالمجد لذلك ( يقول ابن خلدون فصل 23 ) " فليس الملك لكل عصبية وإنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجيء الأموال و لا تكون فوق يده يد قاهرة .. و هذا معنى الملك و حقيقته في المشهور و ما كان دون ذلك يعتبر ملكا ناقصا.. " غير أن الغلبة ليست دائمة ومستمرة للعصبية بل هي مرحلة أو طور من أطوارها لأن الدولة متغيرة بتغير حال العصية. لذلك نجد ابن خلدون يحدد للدولة أعمارا طبيعية كما للأشخاص( فصل 14 ) أو 3 أجيال الجيل الأول هو جيل سيطرة العصبية الثاني جيل تحول البداوة إلى حضارة ثم الجيل الثالث مرحلة الهرم فالدولة إذن في اللسان العربي تحدد بمحددين اثنين :
·       الغلبة
·       التغيير