فلسفـة و تربية

" كما أن لهذه الدنيا شمساً يستضاء بها ويـُعرف بها الليل من النهار والأوقات والأشخاص والأجرام فكذلك للنفس نور تميز به بين الخير والشر وهو أشد ضياءً من الشمس ” أفلاطون .

مقدمة:

هو أفلاطون (427- 347) عنوان الفلسفة المثالية وملهمها، وهو من أكثر عقول الإنسانية في العصر القديم نبوغاً وإبداعاً وإشراقاً وعبقرية، ولا ريب أن نظريته تشكل منعطفا تاريخيا في الفلسفة الإنسانية، ولا غضاضة إذ يشار إليه إجماعاً بأنه المؤسس الأول للخط المثالي في الفلسفة، وقد قدّر للمثالية أن ترتفع على يديه إلى مستوى المذهب الفلسفي الشامل، فطرحت نفسها اتجاها معارضا للفلسفة المادية الممثلة بخط ديمقريطس وطاليس وهيرقليطس. وقد عرفت مدرسته الفلسفية التي أطلق عليها "الأكاديمية" بأنها أهم جامعة تنويرية في العصور القديمة، وهي التي استمرت تومض وتشعّ بأنوارها فلسفة وعلماً وعطاءً فكرياً في أثينا مدة تسعة قرون، وكانت لتبقى لو لم يصدر الإمبراطور جستنيان الروماني قرارا بإغلاقها وطرد فلاسفتها. وقد قيل في أفلاطون "إن الفلسفة نبتت على يديه واكتملت في حياته"([1]).

يتحدّر أفلاطون من أسرة أثينية عريقة في المجد، ولد في أثينا عام 427 ق. م وعاش حتى بلغ الثمانين من العمر، إذ توفي سنة 347 ([2]). كان أبوه يدعى أرستون وأمه فريقونية. ويقال بأن الاسم الأصلي لأفلاطون هو أرستوقلس، ولقب أفلاطون لسعة في جبهته واتساع في منكبيه، كان رجلاً وسيماً وشجاعاً فاز في حلقات السباق وفي حلبات والمصارعة. تتلمذ مدة ثماني سنوات على يد أستاذه سقراط، وكان يقول حباً فيه: "أحمد الله الذي خلقني يونانياً لا بربرياً، وحراً لا عبداً، ورجلاً لا امرأة، ولكن فوق ذلك كله أنني ولدت في عهد سقراط"([3]). وكان لعبقرية ذلك الرجل أن تتألق في كل العصور التاريخية، حتى قيل فيه "إن أفلاطون هو الفلسفة وإن الفلسفة أفلاطون".

 كان أفلاطون واعظاً وكاهناً وفيلسوفاً ، أسس "الأكاديمية" في 388 ق.م، وسميت هكذا لأنها أقيمت بالقرب من ضريح أكاديموس البطل الأسطوري اليوناني، وكتب على بوابتها "لا يدخل هذه الأكاديمية من لم يكن رياضيا".

كان عصر أفلاطون عصر حروب ومؤامرات ودسائس سياسية، الحرب بين الفرس والإغريق، الحرب بين أثينا وإسبرطة، المؤامرات بين الأحزاب والأرستقراطية والديمقراطية. وتحت تأثير تلك الظروف وعلى أثر مقتل سقراط قرر أفلاطون الترحّل في بلدان واسعة كإيطاليا ومصر وصقلية، وكات للأنظمة السياسية في تلك البلدان تأثير واضح على نمط تفكيره السياسي. وكان لإعدام أستاذه سقراط أثر كبير في توجهه نحو العمل السياسي في عصره، إذ كان حاقداً على الديمقراطية الأثينية التي أدت إلى مقتل العقل.

تمهيد:
أصبحت ظاهرة العنف تكتسي أهمية كبرى في السنوات الأخيرة، بحيث صارت موضوعا محوريا ومركزيا في النقاشات السوسيولوجية والسيكولوجية والأنتروبولوجية وكذلك عند مختلف الفاعلين والمختصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو حتى عند عامة الناس بمختلف مستوياتهم، سواء أكان العنف الممارس عنفا أسريا أو مجتمعيا أو مدرسيا أو مؤسساتيا أو غير ذلك من انواع العنف، وكذلك بشتى أشكاله وتلاوينه سواء أكان العنف عنفا نفسيا أو جسديا أو رمزيا أو لفظيا أو جنسيا أو غير ذلك. ومن هنا نطرح التساؤل التالي، لماذا أصبح العنف موضوعا مهيمنا في جل النقاشات التربوية والتعليمية والبيداغوجية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية فالسنوات الاخيرة؟ أليست هناك مواضيع ومشاكل أخرى تعيشها المدرسة المغربية يتوجب علينا الإلتفات إليها من قبيل الاكتظاظ، وضعف التحصيل الدراسي، وعدم ملاءمة المناهج، وتغيير البرامج والمقررات في كل مرة، وقلة الموارد البشرية المؤهلة، إلى غير ذلك من الموضوعات العديدة والمتعددة، والتي لم تنل حظها من العناية والاهتمام بالدراسة والتحليل.

  إن ظاهرة العنف تكتسي أهمية خاصة، نظرا للعلاقة المباشرة التي تربط بين ممارسة العنف وبين طريقة تشكل شخصية الإنسان بصفة عامة والطفل بصفة خاصة، سواء تم ذلك داخل المدرسة أو المجتمع أو الأسرة. إن البحث في موضوع العنف يجيب عن أسئلة عميقة شغلت بال العديد من المفكرين والباحثين التربويين والمحللين النفسانيين حول مفهوم الشخصية وطبيعة تشكلها لدى الأطفال، وبالخصوص في السنوات المبكرة، وبالضبط في المجتمعات العربية ذات البنية الذكورية المحافظة أو ما يسمى بالمجتمعات البطريكية، والتي في الغالب ترسخ سلوكات خاطئة ومدمرة عند الأطفال ذكورا كانوا أو إناثا، هذه المجتمعات التي تعلي من سلطة الذكر على حساب الأنثى، ومن سلطة الكبير على حساب الصغير، ومن سلطة الشيخ على حساب الشاب، ومن سلطة الرجل على حساب المرأة، إلى غير ذلك من التراتبيات المجتمعية، مما يولد مع هذا النوع من السلط تجاوزات وخروقات تتجلى في ممارسة أشكال من العنف المادي والرمزي.

 وتعد هذه إحدى خصوصيات البيئة العربية، رغم ما تزخر به من قيم ومبادئ إسلامية تحث على تجنب ممارسة العنف بحق الأطفال وتؤكد على إعطاء قيمة كبرى لشخصية الطفل، لكي ينضج في بيئة سليمة، كما ورد ذلك في القران الكريم، يقول تعالى: (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون)[1]، بمعنى أن حق اللعب لدى الأطفال مهم للغاية، ومقرر بنص قرآني صريح، إذ يسهم اللعب في تطوير شخصياتهم، ويمنحهم الاتزان النفسي الضروري، وذلك بعكس من حرموا منه، وهذا ما يقره مضمون الآية القرآنية منذ آلاف السنين، قبل أن تظهر المواثق الدولية التي تحث على احترام حقوق الأطفال وبالخصوص حق اللعب، وفي المقابل لم يلتزم إخوة يوسف بهذا الإقرار الصريح منهم بحق اللعب، وقاموا بإلقاء أخيهم في البئر، وهو نوع خطير من العنف الجسدي والنفسي ارتكب بحق أخيهم الطفل يوسف وهو ما يزال صغير.

1.تأثيرات التربية العنيفة على الأطفال.

إن ممارسة العنف على الأطفال تؤدي لا محالة إلى عواقب وخيمة على نبوغهم وعلى مستقبلهم وعلى تشكل شخصياتهم، من هنا يتبين لنا مدى أهمية دراسة العنف وتحليل عواقبه على الفرد ، ومدى الخطورة التي قد تسببها ممارسته على الأطفال بالخصوص، فالحصول على أطفال معنفين من قبل أسرهم أو مجتمعهم أو في مدارسهم ، يعيق تطور ونمو شخصياتهم بشكل سلس، ويعيق كذلك تحصيلهم الدراسي وتطوير مستواهم التعليمي، فرغم كم الأبحاث والدراسات العديدة التي أنجزت حول موضوع العنف عند الأطفال، مازال البحث في الموضوع يغري الباحثين والدارسين والمختصين، لأن مقاربته تتيح لنا فهم أبعاد أخرى للشخصية الإنسانية بصفة عامة وشخصية الطفل بصفة خاصة، إن جل الأطفال المعنفين أو الذين سبق وتعرضوا للعنف بأنواعه وأشكاله لا يتمتعون في الغالب بشخصية قوية وسوية، ويفتقدون في الغالب لعامل الثقة بالنفس، وجلهم لا يتمتعون بروح معنوية عالية وثقة تامة بالذات، تمكنهم من الاندماج السريع في مجتمعاتهم وفي أوساطهم الأسرية عن طريق الانخراط في مجموعة من الأنشطة الحياتية والمجتمعية سواء العادية أو التي تتطلب استخدام ذكاء معين.

 إن ممارسة العنف بأنواعه المختلفة تقمع كيان الطفل و تحقر ذاتيته الخاصة وتشل تطوره الطبيعي والسلس في المجتمع وتكبح نبوغه، وتعيق تبلور وتشكل شخصية مبدعة ومنتجة ومنفتحة على المجتمع، فالطفل المعنف بهذا المعنى السالف الذكر يرفع من نسبة الحصول على أطفال مسالمين، اتكاليين ، خنوعين يتملكهم الخجل، وعدمي الثقة بأنفسهم، إنهم تجسيد لعلاقة القهر والرضوخ التي يعاني منها الانسان المقهور، الذي لا يجد له من مكانة في علاقة التسلط العنفي هذه، سوى الرضوخ والتبعية، سوى الوقوع في الدونية لقدر مفروض[2]، فلا مناص إذن من إعادة النظر في طرق تفكيرنا وأساليبنا التربوية والبيداغوجية للحد من انتشار هذه الآفة المجتمعية، لأن معظم الأدبيات التربوية تتفق على أن كسب رهان الجودة داخل المنظومة التربوية مرتبط بتوفر شروط بيداغوجية ملائمة وتبني مقاربة نسقية تستحضر مجمل العوامل الكفيلة بدعم نجاعة المنظومة التربوية والرفع من أدائها[3]، والتي من بينها التخلي عن الممارسات الغير تربوية في تدريس الأطفال.

فلسفة التربية هي فرع من الفلسفة التطبيقية أو العملية التي تهتم بطبيعة التربية وأهدافها والمشكلات الفلسفية الناشئة عن النظرية والممارسة التربوية. ونظرا لأن هذه الممارسة منتشرة في كل مكان لدى المجتمعات البشرية وعبرها، ولأن مظاهرها الاجتماعية والفردية متنوعة جدا، وتأثيرها عميق للغاية، فإن الموضوع واسع النطاق، ويتضمن قضايا في الأخلاق والفلسفة الاجتماعية/السياسية، والإبيستيمولوجيا، والميتافيزيقا، وفلسفة العقل واللغة وغيرها من مجالات الفلسفة.

ونظرا لأنها تتطلع في الداخل إلى نظام الوالدية وفي الخارج إلى الممارسة التربوية والسياقات الاجتماعية والقانونية والمؤسسية التي تحدث فيها، فإن فلسفة التربية تهتم بكلا جانبي الفجوة التقليدية بين النظرية والممارسة. ويشمل موضوعها كلا من القضايا الفلسفية الأساسية (مثلا، طبيعة المعرفة التي تستحق التدريس، وطبيعة المساواة والعدالة التعليمية، إلخ..) والمشاكل المتعلقة بالسياسات والممارسات التربوية المحددة (مثلا، جاذبية المناهج والاختبارات الموحدة، الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والأخلاقية لترتيبات التمويل المحددة، وتبرير قرارات المناهج الدراسية، إلخ). في كل هذا، يقدّر فيلسوف التربية الوضوح المفاهيمي، والصرامة الجدلية، والنظر العادل لمصالح جميع المشاركين في الجهود والترتيبات التربوية أو المتأثرين بها، والتقييم المستنير والمدروس للأهداف والتدخلات التعليمية.

لفلسفة التربية تاريخ طويل ومتميز في التقليد الفلسفي الغربي، منذ معارك سقراط مع السفسطائيين حتى يومنا هذا. قام العديد من الشخصيات الأكثر تميزا في هذا التقليد بدمج الاهتمامات التربوية ضمن أجنداتهم الفلسفية الأوسع (Curren 2000, 2018 Rorty 1998). وإذل لم يكن التاريخ محور التركيز هنا، فمن الجدير بالذكر أن مُثُل البحث المنطقي التي دافع عنها سقراط وأحفاده قد أبلغت منذ فترة طويلة وجهة النظر القائلة بأن التربية يجب أن تعزز لدى جميع الطلاب، قدر الإمكان، الاستعداد للبحث عن الأسباب والتفكير المنطقي والقدرة على تقييمها بشكل مقنع، والاسترشاد بتقييماتهم في مسائل الاعتقاد، العمل والحكم. هذا الرأي القائل بأن التربية تتضمن بشكل مركزي تعزيز العقل أو العقلانية، قد تم تبنيه بعبارات ومؤهلات مختلفة من قبل معظم تلك الشخصيات التاريخية؛ ولا يزال فلاسفة التربية المعاصرون يدافعون عنها أيضا (Scheffler 1973 [1989] Siegel 1988, 1997, 2007, 2017).

تقديم عام :
   يولد الإنسان ضعيفا لا يفصله عن عالم البهيمية إلا خيط هزيل، لكن التربية تسمو به و ترفعه الى مراتب الإنسانية، فما كان الإنسان ليكون إنسانا لولا التربية، و لو جاز لنا أن نحده بحدود تسيج كيانه فلن نقول إنه كائن عاقل أو ناطق، بل سنقول أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يربي و يربى، و الدليل على ذلك هو استحالة تصوره خارج إطار التربية، بل قد نغالي و نشاكس الفلسفات التي مجدت الإنسان باسم العقل و اللغة و الأخلاق أن هذه الأشياء كلها لا تحصل إلا بالرعاية، و الرعاية ليست شيئا أكثر من التربية، فالعقل يحتاج الى تهذيب إذا ما كان فطريا، و يحتاج الى تشذيب إذا ما كان مكتسبا، و اللغة لن تتجاوز حدود المحاكاة الطبيعية إذا لم يتم تطويرها عبر التربية انطلاقا من تجسير علاقتها بالثقافة، و ستبقى مهلهلة مفككة مفتقرة للنظام و الانسجام ما إن لم تتخذ التربية طريقا لها لتغتني و تتقوى، و أمارة ذلك أن لغة الشعوب البدائية التي تعيش نمط حياة أقرب الى الحيوانية لا تتعدى أن تكون لغة عيش فقط، لا لغة ثقافة و حضارة، و ليس ذلك قدحا و احتقارا لهذه الشعوب بقدر ما هو تشخيص واقعي حي لما هو حال الشعوب التي لا تتبع سبلا في التربية تستهدف الإبداع الفردي و الارتقاء بالمجتمع الى مستوى من التلاحم و التناغم  . أما الأخلاق فحسبنا أن لا شيء يصنعها إلا التربية، حتى و لو استغرقنا في التفكير في الأخلاق المجردة فإننا نغرق في المثالية، وكما تصنع التربية الأخلاق المثيرة للاستحسان تصنع أخلاقا جالبة للاستهجان، فبقدر ما تستطيع أن ترسخ الأخلاق الإنسانية تستطيع أن توسخها، و بقدر ما تستطيع أن ترصن العقل تستطيع أن تذلل عمله و تقوض رجاحته، و بقدر ما تستطيع أن تثري اللغة و تنمي من قدرات التواصل تستطيع أن تضعفها و تبددها، لذلك، لا يجب أن ننساق مع التصورات التي تلمع من صورة التربية و تعتبرها أساس إبداع الفرد و ازدهار المجتمعات، اللهم إذا ارتبطت بمنظور معين يحدد ما يجب أن تكون عليه، أي الغايات التي نسترعيها منها، و غايات التربية لا تخرج عن نطاق فلسفة التربية، صحيح أن هذه الأخيرة تنتهج نمطا من التفكير ينصب على ما ينبغي أن يكون، إلا أنها لا تكتفي بمهمة التعيير ( وضع معايير ) و إنما تفحص و تشخص ما هو كائن في حقل التربية إن قصد النقد و إن قصد التدخل، و قد يقول قائل أن البحث في التربية انطلاقا من الفحص و التشخيص اعتمادا على الاستقراء هو من اختصاص علوم التربية، و بالأخص السوسيولوجيا و السيكولوجيا و أن الفلسفة هي مجال التنظير فقط و لا يسعها أن تقوم بفعل التدخل لأن ذلك لا يتناسب مع طبيعتها، و الحق أن هذا القول لا يخلو من الصواب، لكن في جزء منه فقط، فعلوم التربية تقتصر على معاينة الفعل التربوي و ما يحيق به من ظواهر بغية حياكة شبكة من البيانات و المعطيات التي تكمم الواقع من أجل تفسير الظواهر التي تتشابك داخله، لكنها لا تتدخل في تغييره، أما الفلسفة فحسبها أن تحمل مشعل التغيير عملا بالأمر الماركسي الذي يقول أن الفلسفة قد اكتفت بتأويل العالم و التفكير فيه و آن أوان تغييره "، إذن، تضطلع فلسفة التربية بثلاثة وظائف : الأولى فحصية تسعى الى تفسير و فهم الفعل التربوي، الثانية تغييرية همها تغيير هذا الفعل مما هو كائن إلى ما يجب أن يكون، و الثالثة نقدية بمعنيين : المعنى الأول هو  نقد الفعل التربوي و فضح العيوب التي تتستر خلف الانطباع المسبق عن التربية، المعنى الثاني هو نقد جينالوجي يستهدف إذابة المحددات الأخلاقية و الضوابط الاجتماعية و السياسية التي تضفي على التربية طابعا ثقافيا، أي نزع ثوب الأخلاقية منها و العودة الى أصولها قبل أن تختلط بالثقافة و المجتمع و تتحول الى مجموعة من المعايير . و الأسئلة التي تخامرنا هنا هي: هل تحتاج التربية الى علومها أم الى فلسفتها ؟ و كيف يمكن للفلسفة أن تبلور تصورا عاما للتربية ينفذ من ضيق المحلية الثقافية الى أفق الكونية الإنسانية؟ و هل ما ينبغي أن يكون في التربية قد ينقلب الى ما هو كائن بفضل الفلسفة أم أن ما ستقدمه الفلسفة للتربية لن يكون إلا نماذج مثالية بعيدة المنال و مخيبة للآمال ؟ و ما الذي جعل التربية موضوعا للفلسفة ؟ و هل يمكن أن نربي بدون فلسفة ؟ هل من الضروري أن نفلسف التربية أي نخرجها من طابعها المألوف الى طابعها غير المألوف ؟

هذا كتاب قرأناه فشدّنا وأجاب عمّا انتظرناه منه (..) ولا نُغالي في شيء إن ذهبنا إلى أنّ كتابا في مثل قيمة «سوسيولوجيا التّربية: إضاءات نقديّة معاصرة» يصحّ فيه قولان للأديب التّونسيّ الكبير محمود المسعدي: «وإنّ هذا الكتابَ كالصّوت أو كالصّيحة في وادٍ به حاجة إلى ما يردّد صداه ويُسري فيه خَلجة الحياة.» و «وإنّ كلّ كيان لَجَهدٌ وكسبٌ منحوت».  د. [1]خير الدين زرّوق .

مقدّمة:

إنّ مسؤوليّة المثقّف الّذي يدعوه موقعُه والتزامُه إلى أن يطرح القضايا ويوقظ وعي النّاس ويسائل معهم الواقع ويبحث عن الحلول هي مسؤوليّة كبيرة جسيمة، إذ ينبغي عليه أن يرصد تحوّلاتِ المجتمع ويتفطّن إلى ما ينشأ من صيرورات وأطوار وما يستجدّ من أوضاع تنطوي على إشكالات وتحدّيات. وهو في نشاطه المعرفيّ ذاك يستند إلى روافد فكريّة نظريّة وإلى دراية واسعة بالميدان. يستحضر باستمرار السّياقَ الحاضرَ، ولا يُغفل الالتفات إلى الماضي، وتكون له القدرة - والجرأة - ليتطلّع إلى المستقبل.

ليس لزومُ الأبراج العاجيّة للتّأمّل المجرّد والجلوسُ على الرّبوة للتّفرّج ولترقّب الانهيار القادم موقفين يناسبين المفكّر الحقّ، وليس التّسليمُ بهذه الحتميّة العدميّة وبانتفاء القدرة على منعها حلاّ يَركن إليه ويرضى به، فالمنتظرُ منه أن يشارك في الخوض في مسائل عصره وأزماته، بل أن يكون في الطّليعة والمقدّمة، فيمثّل للنّاس مرجعيّة وسلطة اعتباريّة مأتاهما حملُه لرسالة ومهمّة تاريخيّتين في التّوعية والتّحفيز والإصلاح.

ويثقُل العبء وتعظُم المسؤوليّة في العصور الّتي يَعصف بها الشّكّ وتكثر فيها الاهتزازات. فعالمنا المليء بوعود التّقدّم والازدهار والمزهوّ بما أنتجته الحداثة من وسائل مادّيّة سهّلت العيش هو كذلك محفوف بالمخاطر وتنتشر فيه الآفات. وقيمة الإنسان وإنسانيّته في تراجع وانحدار يبعثان فينا الحيرة والفزع ويدفعاننا إلى إعمال العقل والتّدبّر.

ويواجه المجتمع العربيّ، ككلّ المجتمعات السّائرة في طريق النّموّ، عولمة لا يجد فيها مكانه ولا دوره وتقضي عليه بأن يرتدّ إلى الهامش وأن يكون تابعا. إنّه يتخبّط في الأزمات وينشدّ إلى القيود والجمود، وتدلّ كلّ مؤشّرات التّنمية - في شتّى مناحي الحياة - على أنّه في أدنى التّرتيب وأنّ مساهمته في المعرفة ضئيلة لا تكاد تُذكر. وهو في الغالب محكوم عليه بمجاراة الآخرين الّذين سبَقوه إلى التّقدّم، يتلقّى بانبهار ما ينتجونه ويعجز عن التّطوير والإضافة.

وإنّ ما عليه العالم من سمات التّعقّد والتّحوّل والتّموّج والاضطراب، وما يغلب على المجتمع العربيّ من سمات الرّكود والتّخلّف والتّبعيّة، يؤكّدان مكانة التّربية ويُبرزان الحاجة إلى تعميق التّفكير وتجديد المقاربات لإدراك هويّتها الاجتماعيّة والإمكانات المتاحة لتكون دعامة أساسيّة وعاملا إيجابيّا في تحقيق التّنمية والعدالة. ويكون ذلك بتطوير الدّراسات والبحوث واتّخاذ وجهة عقلانيّة موضوعيّة في تناول المواضيع التّربويّة وشرحها للنّاس وتوعيتهم بها.

 

" إننا نواجه اختيارا يتعين علينا أن نتخذه بشكل جماعي ، فإما أن ننفق المزيد الآن على التعليم في حالات الطوارئ والأزمات ، أو ندفع ثمن جيل مفقود من الأطفال غير المتعلمين بل المحطمين " .
( أنطونيو ليك – المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة لإغاثة الأطفال " اليونيسيف " 2020 )

استهلال : ( لذة النص Le plaisir du texte  )[1]

" ما أتذوّقه في قصّة من القصص، ليس هو مضمونها مباشرة، ولا بنيتها، ولكنّي أتذوّق بالأحرى الخدوش التي أفرضها على الغلاف الجميل : إنّني أركض، وأقفز، وأرفع رأسي، وأعود للغوص ثانية ، وليس لهذا أيّة علاقة بالتمزّق العميق الذي يرسّخه نصّ المتعة في اللّغة نفسها و لا في قراءته الزمانيّة البسيطة "
( رولان بارت ، لذّة النصّ Roland Barthes, Le plaisir du texte )

قبل حوالي خمس وثلاثين سنة تقريبا وتحديدا سنة 1985 من القرن الماضي نشر الكاتب والأديب الكولومبي " غابريال غارسيا ماركيز" ( Gabriel García Márquez ) روايته الشهيرة ( الحب في زمن الكوليرا – El amor en los tiempos del colera )[2] والتي تناول فيها وقتئذ مفردات تعودنا تكرارها خلال أيامنا هذه من قبيل : الوباء والجائحة والحجر الصحي واليأس والأمل والهزيمة والانتصار والتحدي والصمود والمستحيل والممكن...

وبعيدا عن أجواء الرواية وأحداثها[3] وما اكتنفها من نبوغ في السرد القصصي وسعة الخيال وسلاسة التعبير التي عهدناها ممن حاز على جائزة نوبل للآداب ( 1982) ارتأينا استعارة عنوان الأثر الأدبي المشار إليه قصد اسقاطه على واقعنا التربوي الحالي.. لنجد أنفسنا في صميم الحقل الدلالي لتلك المفردات والمفاهيم التي غصت بها الرواية وإن كان ذلك في  سياقات أخرى وعبر مداخل وأدوات ومنهجيات مغايرة ،هاجسها تقصي الإجابة عن سؤال الكيفيات ، الحدود والإمكانات في واقع يكتنفه الغموض ويدفع دفعا في اتجاه المجهول كما سبق ودفع من قبل أبطال رائعة  " غارسيا ماركيز " : عامل التلغراف العاشق المهزوم " فلورنتينو أريثا " وحبيبته السبعينية الجميلة " فيرمينا دازا  " ، في سفينة نهرية تعبر اليم ذهابا وجيئة رافعة علم الوباء الأصفر وتأبى الرسو ، كي لا تنتهي الرحلة ويكون الفراق ..

مقدمة : ( حيرة عالمية une perplexité mondiale )

شهد العالم منذ بداية السنة وحتى يومنا هذا تحولا دراماتيكيا بسبب جائحة الكوفيد-19 التي تسببت بشكل أو بآخر في انقطاع أكثر من 1.6 مليار طفل / شاب عن التعليم في 161 بلدا، أي ما يقرب من 80 % من المقبلين على الدراسة في أنحاء العالم...

وحسب معطيات البنك الدولي فإن تلميذا من كل 10 تلاميذ قد شملته ظاهرة التسرب المدرسي (الانقطاع المبكر)..

وفي تونس تشير الأرقام ( أكتوبر 2020 ) إلى أن عدد المصابين بالكوفيد داخل المؤسسات التربوية بلغ 1390 حالة مؤكدة بينما قدر عدد الحالات المشتبه بها 3628 ..

ويبدو أن النسق التصاعدي لهذه الأرقام هو الذي حتم إيقاف الدروس أحيانا كما دفع بسلطة الاشراف إلى غلق جزئي لبعض المؤسسات وإقرار تقديم آجال عطلة نصف الثلاثي الأول مع التمديد فيها لأيام.

وما من شك في أن هذه السياقات -إن شئنا- تؤشر إلى أزمة[4] حقيقية يمر بها قطاع التربية والتعليم وهي أزمة تتجاوز في عمقها وارتداداتها ومآلاتها بقية الأزمات التي عرفتها المدرسة وأطنب في تفكيكها كل من " برنارد شارلوت " ( Bernard Charlot )[5] و" فيليب ماريو " (Philippe Meirieu)   و" فرونسوا دوربار" (François Durpaire)[6] و" كريستيان لافال " (Christian Laval )[7]...

لماذا ؟ ..  لأن هذه الأزمة محكومة إضافة إلى العوامل الداخلية المتعارف عليها في المستويين الهيكلي والوظيفي ( غياب مشروع سياسي وطني للمدرسة ، مشكل التكوين الأساسي والمستمر للمدرسين ، نظام التقييم والامتحانات ، العنف المدرسي ...) بعوامل خارجية نجد في مقدمتها العامل الصحي الذي بات يمثل متغيرا رئيسيا وإكراها حقيقيا عطل مسار العملية التربوية وأربك نظام الدراسة وكشف حدود البيداغوجيا ومقارباتها التقليدية وهو ما يدفعنا إلى تطارح جملة من الإشكاليات يمكن اختزالها في أسئلة ثلاث :

1- ما الأثر الذي خلفة الكوفيد- 19 على أداء المدرسة عموما وعلى الفعل البيداغوجي خصوصا في علاقة بالتحصيل العلمي للتلميذ أولا وعلاقته بالمعرفة ثانيا في ظل واقع محفوف بالخوف والتوجس ومحكوم بالارتباك والارتجال ؟

2- ما مدى قدرة المقاربات البيداغوجية الحالية على مسايرة الأزمات بما في ذلك الأزمة الصحية التي عنوانها فيروس كورونا المستجد ؟

3- هل من ممكنات حقيقية لتحويل الأزمة إلى فرصة حقيقية لمراجعة المنظومة التربوية والتفكير في استراتيجيات ومقاربات ملائمة لواقع الأزمات وتحدياتها ؟

ملخص:
إن الواقع اليوم يؤكد حقيقة مفادها أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد مؤشر على درجة الرفاه الذي وصلت إليه البشرية في هذه الألفية بقدر ما أضحى جزءا لا يتجزأ من حياة الناس وهذه الحقيقة ستنعكس بكل تأكيد على كل القطاعات تقريبا بما فيها قطاع التربية والتعليم الذي لن يكون بمعزل عما يجري حوله من طفرة تقنية وتكنولوجية هائلة وسريعة، وهو ما يستدعي منا ضرورة إعادة النظر في المنظومة التعليمية وفي المناهج الدراسية بل وفي الفلسفة التربوية نفسها بغاية الاستفادة قدر الإمكان من الفتوحات التي يبشر بها الذكاء الاصطناعي في سياق ما بات يعرف اليوم بالاستثمار في التعليم والمراهنة على العقل البشري.

غير أن التعويل على أدوات الذكاء الاصطناعي وما تتيحه من سهولة ودقة في الوصول إلى المعلومة ومعالجتها وما توفره من بيئة تفاعلية تساعد على تنمية البعد العرفاني والانتقال من باراديغم التعليم إلى باراديغم التعلم لا يجب أن يحجب عنا حجم التحديات التي ستنتج عنها وما ستنطوي عليه من سلبيات ومخاطر على وجودنا وعلى مستقبلنا كبشر.

وهو ما يدفعنا إلى طرح الإشكاليات التالية:

-  ما الذكاء الاصطناعي وما هي خصائصه ومزاياه مقارنة بما توصل إليه الانسان من اكتشافات أخرى؟

-  ما مجالات الاستفادة من أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته لتطوير منظومة التعليم وجعلها أكثر جودة وذكاء؟

- ما أهم سلبيات الذكاء الاصطناعي في مجال التربية والتعليم وما خطورتها على المتعلمين وعلى الأنظمة التربوية ككل؟

الكلمات المفتاحية: الذكاء الاصطناعي، مجتمع المعرفة، التعلم الآلي، الثورة الرقمية، التربية المستقبلية، التعلم الإفرادي الذكاء المعزز.

استهلال:

في 17 أكتوبر 2014 وقع الإعلان عن صدور أحد أفلام الخيال العلمي المثيرة بشراكة إسبانية بلغارية وبميزانية فاقت الخمسة عشرة مليون دولار أمريكي.

عنوان الفيلم لم يخل بدوره من الإثارة إذ حمل اسم " الآلي" أو " الأوتوماتيكي" (Automata) وهو من اخراج " جابي إيبانيز" (Gabe Ibanez) الذي شارك " خافيير سانشيز دوناتي" ( Javier Sanchez Donate) في كتابة السيناريو.

بطولة الفيلم كانت من نصيب المنتج والممثل الاسباني الشهير" أنطونيو بانديراس " (Antonio Banderas) والأمريكية" ميلاني جريفيث "( Melanie Griffith) والدنماركية " بريجيت هيورت " ( Birgitte Hjort Sorensen) والممثل والموسيقي الأمريكي المعروف" روبرت فورستر"( Robert Forster) ،إضافة إلى " ديلان ماكديرموت" ( Dylan McDermott) وغيرهم من نجوم الفن في هوليود.

زمنيا، تدور أحداث الفيلم في المستقبل البعيد وتحديدا في عام 2044حيث أدى التوهج الشمسي الضخم لسنة 2030 إلى حدوث انفجارات في محطات الطاقة النووية وانتشار الاشعاعات في جميع أنحاء العالم وتحويل كوكب الأرض إلى صحراء قاحلة تنعدم فيها سبل الاتصال بين بني البشر.

 

" إن المسافة الكبيرة بين ما تظهره الرموز وما تحجبه وما تومئ إليه وما تستره ، إلا أن ذلك التباعد ذاته هو ما يجعل عملية التأويل ممكنة وتلك المسافة وما تتطلبه من عنت وجهد ومن شك وتساؤل هي التي ترفع القراءة إلى مرتبة تجعلها فناً من الفنون" ([1]).

1- مقدمة

تشكّل "التفاعليّة الرمزيّة" (symbolic-interactionist)  أحد التيّارات السوسيولوجيّة الّتي فرضت نفسها نقيضاً مناظراً للاتّجاهات الكبرى في علم الاجتماع، مثل: البنيويّة والماركسيّة. وينظر معظم النقّاد اليوم إلى التفاعليّة الرمزيّة بوصفها نظريّة سوسيولوجيّة متكاملة الأركان رغم حداثتها نسبيّاً. وقد عكف روّاد هذه النظريّة على تحليل الظواهر الاجتماعيّة الصغرى (الميكروسوسيولوجيّ) سعياً إلى فهم العلاقات التفاعليّة الرمزيّة القائمة بين الأفراد في المجتمعات الإنسانيّة، ومحاولة لإدراك معانيها ودلالاتها ومغازيها. وقد ركّزوا على دراسة معطيات الحياة اليوميّة للأفراد وفعاليّاتهم السوسيولوجيّة القائمة في مدارات اتّصالهم، ومسارات تفاعلهم، واعتمدوا منهجيّاً على تحليل الرموز والمعاني والدلالات الّتي تعطي معنى للتجارب الاجتماعيّة في الحياة اليوميّة.

ويرى علماء الاجتماع أنّ نظريّة التفاعل الرمزيّ تشكّل إطاراً عامّاً للنظريّات الّتي تبحث في المجتمع بوصفه نتاجاً للتفاعلات الاجتماعيّة اليوميّة، وتدرس الكيفيّات الّتي تتمّ فيها التفاعلات الاجتماعيّة بين الأفراد الّذين يضفون المعاني والدلالات على الأشياء المحيطة بهم في مسار تفسير تفاعلاتهم مع الآخرين. ويعتمد هذا المنظور على فكرة أساسيّة مفادها أنّ الناس يفهمون عوالمهم الاجتماعيّة من خلال التواصل والتفاعل الاجتماعيّين، أي عبر تبادل المعنى من خلال الرموز واللغة. ويرى أصحاب هذه النظريّة أنّ المعنى الّذي ننسبه إلى العالم من حولنا يعتمد على تفاعلاتنا مع الناس والأفكار والأحداث، وأنّ فهمنا للعالم وكيفيّة تفاعلنا مع مجتمعاتنا يعتمد على ما نتعلّمه من تفاعلاتنا مع الآخرين بدلاً من الحقيقة الموضوعيّة. وعلى هذا الأساس يعتقد التفاعليّون الرمزيّون أنّ مجتمعاتنا مبنيّة على المعاني الّتي نضفيها على التفاعلات والأحداث الاجتماعيّة.

 وتشكّل التفاعليّة الرمزيّة أحد أهمّ الاتّجاهات الرئيسيّة الكبرى في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعيّ على حدّ سواء، ويشغل هذا الاتّجاه مكانة مهمّة في الفضاء الواسع للعلوم الإنسانيّة بحثاً في إشكاليّات الحياة الإنسانيّة وقضاياها الوجوديّة. ويشكل البحث في المستتر والغامض والكامن والخفيّ الرمزيّ المجال الرئيس للتفاعليّة الرمزيّة، كما أن التفاعليين الرمزيين يركزون في أبحاثهم على دراسة العلاقة الجدليّة القائمة بين المجتمع والفرد وفق معطيات الرمز والتفاعل الرمزيّ. ويتبنى أصحاب هذا الاتجاه توليفة متبلورة فكرية من العلوم الإنسانيّة في المجتمع والأدب واللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع، ومن ثم يعتمدونها كأدوات للتحليل من أجل التوغّل في أعماق الحقيقة الاجتماعيّة وفق منهجيّات الاستقصاء الرمزيّ للوجود الاجتماعيّ، وهم في كل ذلك يركزون أهمية استكشاف الغامض والمبهم والخفيّ الرمزيّ الضارب في عمق الحياة الإنسانيّة. ويأخذ مفهوم "التفاعل الرمزيّ" صورة تواصل اجتماعيّ يقوم على التبادل التفاعليّ للرموز والدلالات والمعاني بالطريقة الّتي يتأثّر فيها الفرد، ويؤثّر في عقول الآخرين وتصوّراتهم ورغباتهم ووسائلهم في تحقيق أهدافهم، وفي ممارسة تكيّفاتهم الحيويّة داخل المجتمع([2]).

" إنّ ثقتي وانتظاراتي هي مثل الشمس التي تُنضجُ ثمار هذا الإنسان" آلان "خواطر"
" الطفل إنسان أكثر من الإنسان ...كلّ إنسان غنيّ جدّا...الجميع أذكياء متى أرادوا...و كلّ فكر هو على وشك أن يفهم" ( آلان- أقوال في اتلربية)
" إن أعظم شأن هو أن نمنح الطفل فكرة راقية عن مستطاعه، وأن نسنده بانتصاراته" ( آلان)
"لا يهمّك إلا شيء واحد أيّها الطفل الصغير، هو ما تفعل. فإذا أحسنت العمل أو أسأته، فهذا ما ستعرفه لاحقا؛ لكن أفعل ما أنت فاعله".( آلان)

     لم يزعم آلان يوما أنه "صاحب فلسفة للتربية " ولا أنه يملك حتى " نظرية في التربية" وهو "الفيلسوف- المعلّم" و" المربّي" الذي تتطابق لديه التربية والفلسفة تطابقا شديدا حتى لكأنّ " الفلسفة لديه قول في التربية بالأساس، بل ربّما " فنّ للتربية"، يمارس، وهو الذي قد مارسه طويلا بوصفه معلّما- لا على صعيد القول فحسب بل على صعيد " الحياة" أيضا، " فنّا"  يقصد "الإنسان" " طفلا كان أو كهلا..". ذلك أن الفلسفة لديه، ( على معنى كانطي) تردّ في نهاية المطاف إلى الإنسان لتكون " انتروبولوجيا" ، بناء للإنسان لا على صعيد التصوّر فحسب ، بل بناء تربويا أيضا. وحيث كان الإنسان " إنشاء تربويا " كما يقول كانط بالذات، وكان مدار اهتمام الفلسفة، كانت " التربية" في صميم القول الفلسفي. وبالفعل، فإنّ فلسفة آلان غالبا ما توصف بكونها " فلسفة نقدية للتربية" طالما كان الإنسان مدار اهتمامها وغايتها القصوى " الحكم على القيم". إنّ فلسفة آلان، والحال هذه، تولي " الطفل" اهتماما كبيرا، لا بوصفه موضوعا للتربية، بل بوصفه أولا وبالذات " إنسانا" كامل الإنسانية، بل إنّه " إنسان أكثر من الإنسان" كما يقول آلان( أقوال في التربية). لتتميز هذه الفلسفة بالذات في مسار تاريخ  الفلسفة- الكلاسيكية خاصّة- التي لم تول " الطفولة" ما تستحقه من عناية واهتمام بالرغم من زعمها الاهتمام بالإنسان . كأنما الطفل لديها" ليس إنسانا" أو هو كائن " ناقص الإنسانية" في حين كان الإنسان بداهة، أيّ إنسان، والفيلسوف ذاته، في البداية "طفلا". وبالفعل فقد كان الطفل ولوقت طويل في منظور الفلسفة " عبئا" ( بمنزلة " العبد والمرأة والمجانين والمسنّين في أزمان غابرة...)"  قبل أن يصبح " مواطنا" في الفلسفة المعاصرة . إنّ فلسفة آلان ، وإن لم تتضمّن " فلسفة للطفولة" ( وهي فلسفة "غائبة" على أيّ حال في تاريخ الفلسفة إلا من تصوّرات ليس لها قيمة في ذاتها ولا تأخذ معناها إلاّ في صلتها بالنظر إلى الفلسفة: الفلسفة خروج من حالة "القصور" ( ونموذجها الطفولة)إلى حالة " الرشد ( كانط ، أو أن الفلسفة تدرّب على" التوليد " ، توليد الأفكار الكامنة في النفس مثل توليد " الأطفال " ( سقراط)، أو اعتبار الطفولة أصلا " للأحكام المسبقة والآراء الخاطئة والتسرّع الخ ( ديكارت... )، بيد أنها ( أي فلسفة آلان) بربطها الفعل الفلسفي بالفعل التربوي تنحاز بوضوح إلى " الطفولة" وتخرجها من الإهمال إلى الاهتمام. ولهذا نجد أن أغلب مؤلفات آلان الفلسفية ، لا تخلو من ذكر " الطفولة" موضوع اهتمام في سياقات مختلفة ( تربوية وأخلاقية وانتروبولوجية ...) أو يكون ذكره حتى على سبيل المثال . وبالفعل فكتاب " أقوال في التربية " على سبيل المثال ، يحتل فيه الطفل مركز الاهتمام على نحو يشهد "بفلسفة للطفولة " ثاوية، عليها يقوم تصوّره للتربية والتعلّم والتعليم ، بل وللحياة حتى. من أجل هذا سنتقصّى معالم هذه الفلسفة " للطفولة" من خلال هذا الكتاب بالأساس، فنطرح على القارئ نصوصا منه نراهن على قراءته لها مباشرة ، نصوصا ( في ترجمة شخصية) تشهد على هذه " الفلسفة للطفولة".  

تمهيد
أظهرت الفلسفة منذ بداية ظهورها احتواءها على عنصر هدام. يبيِّن عمل أفلاطون " دفاع سقراط " كيفية اتهام مواطني أثينا لسقراط بإفساده أخلاق الشباب والتشكيك في وجود الآلهة. وكان هذا الاتهام ينطوي على شيء من الحقيقة؛ فقد شكك سقراط في المعتقدات السائدة، وأخضع اعتقادات راسخة لفترات طويلة للتدقيق العقلاني، وأعمل فكره في مسائل تتجاوز النظام القائم. وما عرف بـ: " النظرية النقدية " قام على هذا الإرث، فقد ظهر هذا الاتجاه الفلسفي الجديد في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وشن أبرز ممثليه حرباً ضروساً على الاستغلال والقمع والاغتراب التي تنطوي عليها الحضارة الغربية.

ترفض النظرية النقدية ربط الحرية بأي تنظيم مؤسسي أو منظومة فكرية محددة، إنها تبحث في الافتراضات والأغراض الخفية للنظريات المتضاربة وأشكال التطبيق القائمة. وليست هذه النظرية بحاجة إلى توظيف ما يعرف ﺑ " الفلسفة الدائمة "، إذ تصر على أن التفكير يجب أن يستجيب للمشكلات الجديدة والاحتمالات الجديدة للتحرر التي تنبثق عن تغير الظروف التاريخية. كانت النظرية النقدية - التي تتسم بأنها متعددة التخصصات، وتجريبية في جوهرها على نحو فريد، ومتشككة على نحو عميق في التقاليد والمزاعم المطلقة كافة - مهتمة دائماً، ليس فقط بالكيفية التي عليها الأمور بالفعل، وإنما أيضاً بالكيفية التي يمكن أن تكون الأمور عليها أو يجب أن تكون عليها. وقد دفع هذا الالتزام الأخلاقي مفكريها الكبار لتطوير مجموعة من الموضوعات والمحاور ومنهج نقدي جديد غير وجه فهمنا للمجتمع.

وللنظرية النقدية مصادر كثيرة، يعرف إيمانويل كانط (1727- 1804) الاستقلال الأخلاقي بأنه أسمى قيمة بالنسبة للفرد، وقد أمد كانط النظرية النقدية بتعريفها للعقلانية العلمية وهدفها المتمثل في مواجهة الواقع باحتمالات الحرية. في الوقت نفسه، رأى هيجل أن الوعي هو محرك التاريخ، وأن التفكير مرتبط بالاهتمامات العملية، وأن الفلسفة هي " المنظور الفكري الذي يُنظَر من خلاله لحقبة تاريخية معينة ". تعلم منظرو النظرية النقدية تأويل الجزء بالنظر إلى الكل. وبدت لحظة الحرية في مطالبة المستعبدين والمستغلين بالتقدير([1]).

لقد جسّد كل من كانط وهيجل الافتراضات العامة المستمدة من عصر التنوير الأوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فقد اعتمدا على العقل لمحاربة الخرافة والانحياز والقسوة والممارسات التعسفية من جانب السلطة المؤسسية. كما وضعا افتراضات بشأن الآمال الإنسانية التي تعبر عنها الجماليات، والرغبة في الخلاص التي تنطوي عليها الأديان، وطرق التفكير الحديثة حول العلاقة بين النظرية والتطبيق. أما كارل ماركس الشاب، فقد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بتأملاته اليوتوبية حول التحرر الإنساني([2]).

لقد تشكلت النظرية النقدية في البوتقة الفكرية الماركسية، إلا أن ممثليها الرواد رفضوا منذ البداية الحتمية الاقتصادية، والنظرية المرحلية للتاريخ، وأي اعتقاد جبري في الانتصار (المحتوم) للاشتراكية. وكانوا أقل اهتماماً بما أطلق عليه ماركس (القاعدة) الاقتصادية منهم ﺑ (البنية الفوقية) السياسية والثقافية للمجتمع. لقد كانت ماركسيتهم بمذاق مختلف، وقد ركزوا على منهجها النقدي أكثر مما ركزوا على ادعاءاتها التنظيمية، وعلى اهتمامها بالاغتراب والتشيؤ، وعلى علاقتها المعقدة بمثل عصر التنوير، وعلى لحظتها اليوتوبية، وعلى تشديدها على دور الإيديولوجيا، وعلى التزامها بمقاومة مسخ الفرد. وتشكل هذه المجموعة من المحاور جوهر النظرية النقدية حسبما استوعبها رائدا " الماركسية الغربية " كارل كورش وجورج لوكاتش. قدم هذان المفكران إطار عمل المشروع النقدي الذي بات يعرف لاحقاً بمعهد البحوث الاجتماعية أو " مدرسة فرانكفورت ".

تقديم:
يحيل العنوان أعلاه على الفصل الأول من كتاب "تجربة المفهوم: ميشال فوكو بين الإبستيمولوجيا والتاريخ" لصاحبه لوقا بالترينيري. "تجربة المفهوم" هو الاسم الذي اطلقه الكاتب على "شكل" فكر ميشيل فوكو، بين نظرية الإبستيمولوجيا والتاريخ: شكل صندوق أدوات ذي صلة خاصة بالتحليل التاريخي لنشوء المفاهيم في المجال العملي، يرغب المؤلف في "جعل استخدامه ممكنا لنا اليوم". في ما يلي محاولة لترجمة هذا الفصل إلى العربية عبر جزأين.
إن نقطة البداية للبحث الذي يجب أن ينتقل من التاريخ الإبستيمولوجي لجورج كانغيلام إلى "أنطولوجيا ذواتنا" الفوكوية لا يمكن إلا أن تكون العلاقة بين الفلسفة وأوجه "خارجها" العديدة. سواء كان الأمر يتعلق بالطب أو العلوم البيولوجية، بالنسبة إلى كانغيلام، أو بالطب النفسي، يالأدب بالاقتصاد ولكن أيضا بالسجون والتمارين الروحية، بالنسبة إلى فوكو، كل شيء يحدث كما لو أن النشاط الفلسفي لم يعد من الممكن فهمه ببساطة من خلال تقليد يخترع نفسه ويعلن نفسه على أنه فلسفي "على نحو أصيل". لم يعد يجب على الفيلسوف، أو لم يعد يستطيع، أن يقرأ الفلاسفة الآخرين فقط: عليه أن ينغمس في الأرشيف وفي راهنية عمل لم تعد حداثته تعترف به على أنه "فلسفي".
هكذا، يرى كانغيلام أن «الفلسفة هي تفكير بالنسبة إليه كل مادة غريبة جيدة، ونقول عن طواعية، بالنسبة إليه كل مادة جيدة غريبة». هذه العبلرة ليست زائدة عن الحاجة، فهي تشير في الوقت نفسه إلى أن الفلسفة ليست تأملا، "خلف أبواب مغلقة"، إذا جاز التعبير، لا تتغذى إلا على نفسها ومفاهيمها، بل إنها منفتحة بنيويا على الخارج، الذي يضع أمامها باستمرار سلسلة من المشاكل، الأسئلة، العوائق. إذا كان هناك تحول في الفلسفة، وإذا كانت هناك إعادة صياغة متواصلة لتساؤلاتها، فلا يحدث ذلك من خلال نوع من الرحلة المستقلة والتدريجية نحو الحقيقة التي تُطرح وتُكشف، بل بسبب انفتاحها البدائي على عالم الممارسات الإنسانية العلمية، السياسية، الجمالية التي تنتج المفاهيم في كل لحظة. إن الفلسفة المنفتحة حقا على الطابع التاريخي للممارسات النظرية لا تتجه نحو ما يشبه الحقيقة المطلقة، بل تبني نفسها من إنتاج الحقيقة الذي يحدث في جميع مجالات النشاط الإنساني. يمكننا أن نجد هنا مبدأ كل الإبستيمولوجيا التاريخية.
1- الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية
بيد أن انفتاح الفلسفة على ما هو خارج عنها يعني بشكل جدي مراعاة نوع معين من المفاهيم: تلك التي، وهي تظهر على شكل ملفوظات علمية، تحمل ادعاء الحقيقة. هذه هي المفاهيم التي تحدد أفق حداثتنا، أفق توجد فيه علاقة متجددة إلى حد ما بين "المعرفة" و"العلم" و"الحقيقة". خلال مقابلة مع آلان باديو، كان كانغيلام قد افترض في الواقع، بطريقة استفزازية إلى حد ما، التكافؤ بين جهات تكوين العبارات الحقيقية والخطاب العلمي، حيث أن العلم هو "المجال الوحيد الذي يمكننا فيه التحدث عن الحقيقة".
لا ينبغي فهم العبارة على أنها حكم قيمة ولا على أنها تأكيد وجودي على وجود الموضوعات العلمية باعتبارها "وقائع خارجية"، بل على أنها تحليل للشروط الصورية لاستخدام كلمة "صادق". في كتابه عن "اليقين"، أشار فيتجنشتاين إلى أننا نستخدم كلمة "صادق" في علاقة بنوع معين من العبارات: ليس تلك المتجذرة بعمق في نظام المعتقدات التي تعصب شكل حياتنا، ولكن تلك التي ما يزال الشك بشأنها ممكنا. إن حقيقة عبارة مثل "أعلم أن هذه يد" لا تقول الوجود الفعلي لليد، ولكنها تعني أن الشك الجدي في مثل هذه العبارة يعني بالفعل الشك في صرح يقينياتنا بأكمله ويجعل بأحد الأشكال من الممكن وضع شكل الحياة ككل موضع نقاش. في الواقع، وفقا لفيتجنشتاين، فإن يقين قضية تجريبية لا يعتمد على تجربتنا في العالم، ولكن على الشروط النحوية لاستخدامها؛ أي أن القضية "تنتمي إلى منظومتنا المرجعية" التي لا تكون فيها حقيقة عبارتنا ضمانة من العالم الخارجي، بل مجرد وسيلة للتحكم في فهمنا للعبارة.

في كل ثورة، يأتي وقت يبدو فيه، بعد القيام بها، أنه من الضروري، إذا جاز التعبير، "الانتهاء منها". لقد بدأ ثوار عام 1789، حتى قبل ظهور الإرهاب، يطرحون على أنفسهم هذه المشكلة: إنهاء الثورة، الخروج من الثورة، الإنهاء معها. ويواجه منظرو البنيوية العظماء مشكلة مماثلة: كيف يمكن الهروب من البنيوية؟ كيف يمكننا الانتقال إلى المرحلة التالية، دون أن نفقد مكتسبات ما قد يظل أعظم ثورة في القرن العشرين في مجال النظرية الأدبية؟

يدرس ستيفانو لازارين في هذه المحاولة حالة نموذجية، وهي حالة تزفيتان تودوروف. المنظر البنيوي للموجة الأولى، ولا سيما مع مختاراته الشهيرة من كتابات الشكلانيين الروس (1965)، مؤلف كتاب ناجح للغاية مثل "مدخل إلى الأدب العجائبي" (1970)، وهو نموذج مثالي للدراسة البنيوية لجنس ما. بدأ تودوروف، في السبعينيات في استكشاف وجهات نظر جديدة: اكتشف عدم خصوصية الخطاب الأدبي وحدود المفهوم الغائي الذاتي للأدب. الأمر الذي سيقوده، في الثمانينات، إلى منعطف حاسم، يبدو أنه تم إنجازه تحت إشارة منظر أدبي عظيم آخر، ميخائيل باختين: اكتشاف تعدد الخطابات، ومسألة الآخر"، و وفي نهاية المقال يتناول الكاتب مفهوما جديدا للأدب كمنبع للقيم الأخلاقية و"كشف عن الإنسان والعالم".

- القيام بالثورة، الخروج من الثورة

في كل ثورة، يأتي وقت يبدو فيه، بعد القيام بها، أنه من الضروري، إذا جاز التعبير، الانتهاء منها. وهذا صحيح سواء في مجال الظواهر التاريخية بالمعنى الدقيق للكلمة أو في في مجال الظواهر الكبرى في تاريخ الأدب والفنون والثقافة بشكل عام. بدأ ثوار عام 1789، حتى قبل ظهور الإرهاب، بالتفكير في هذه المشكلة: إنهاء الثورة، الخروج من الثورة، الانتهاء منها ؛ سيكون التيرميدور (Thermidor) وسيلة لوضع حد لها، وإنقاذ المكتسبات الثورية على حساب بعض التنازلات الحتمية لقصور التاريخ... "الآن هو الوقت المناسب للتوقف": بكتابة هذه الكلمات عام 1799، كان لويس سيباستيان مرسييه بدون شك بعيدا كل البعد عن تصور المعنى الذي ستأخذه يوما ما في أعين الأجيال القادمة. إنها تظهر لنا اليوم كرمز للديناميات الثورية.

ومع ذلك، فإن الثوريين في الفن والأدب، وفي نظرية الثقافة وتأويل النص الأدبي، رغم الطبيعة الأقل دموية لخياراتهم، يجدون أنفسهم بالفعل أمام بديل مماثل: الساعة تأتي، عاجلا أو لاحقا، عندما يتعين علينا أن نعرف كيفية وضع حد للدافع الثوري، لأنه أخطأ، أو قبل أن يحدث ذلك.

مثلا، واجه منظرو البنيوية العظماء سؤالا مماثلا: كيف يمكن الهروب من البنيوية؟ كيف يمكننا الانتقال إلى المرحلة التالية، دون أن نفقد مكتسبات ما قد يظل أعظم ثورة في القرن العشرين في مجال النظرية الأدبية؟ نود أن ندرس هنا حالة تزفيتان تودوروف.

وبعد الترحيب بالأفكار من دون التسليم بها إحدى أهم العلامات التي تميز العقل المثقف“ (أرسطو).
وحتماً، يمكن أن يكون العقل أي شيء... فطريقة تفكيرك هي التي تحدد شخصيتك “ (بوذا).
- تمهيد:
ما تزال الرغبة في السيطرة على أفكار الآخرين وسلوكياتهم وأفعالهم أكثر المطالب إلحاحاً منذ بزوغ فجر الإنسانية. بيد أن قلة نادرة من الناس فقط تدرك أن تقنيات السيطرة على العقل وجدت مع فجر الحضارة نفسها. وبقدر إدراكنا لما وهبنا إياه الله تعالى من عقول متنوعة وطرائق تفكير مختلفة. ندرك في الوقت نفسه تلك الشهوة العارمة للسيطرة على عقول الآخرين وطرائق تفكيرهم، بغض النظر عن الدافع أو الفائدة المبتغاة، ربما يكون السبب نابعاً من رغبتنا في فهم الطريقة التي يفكّر فيها الآخرون، وما إذا كانت تتفق مع طريقتنا أو تختلف عنها([1]).

لكن بالمقابل، يعتبر العقل ميزة الإنسان وقيمته العليا، لا بل هو والإنسان صنوان لا يفترقان وبدونه يفقد الإنسان إنسانيته. وبفضل العقل وقواه استطاع الإنسان أن يصول ويجول ويكشف الحقائق ويُخضع الأشياء لسلطانه وأن يذلل الصعاب ويبدد الظلمات وينشر النور ويتصور الأشياء ويتأمل في الوجود ويسبح في الخيال والفرضيات واللامعقول.

وعن أهمية العقل في التطور البشري يمكننا القول إن العقل هو قوة أساسية تمكن الإنسان من التطور والنمو الشخصي. بفضل العقل، يستطيع الإنسان أن يفكر ويتعلم ويتطور، ويستخدم التفكير العقلي لتحقيق أهدافه واتخاذ القرارات الصحيحة. يساعد العقل الباطن في تطوير الذات وتحقيق النجاح في الحياة([2]).

عندما يستخدم الإنسان عقله بشكل فعّال، يتمكن من استكشاف إمكاناته وتطوير مهاراته العقلية والإبداعية. يسمح له العقل بالتفكير بشكل منطقي وتحليلي، وبالتالي يزيد من فهمه للمشكلات ويتمكن من العثور على حلول إبداعية. يعمل العقل الباطن في خلفية الوعي اليومي للإنسان، وهو المسؤول عن تطوير العادات والمعتقدات وتشكيل الشخصية. لذا، يُعتبر استخدام العقل الباطن في تطوير الذات وتحقيق الأهداف أمراً ضرورياً. من خلال تنمية العقل وتعزيز التفكير المنطقي، يمكن للإنسان أن يحسن من أدائه في جميع جوانب الحياة. فالتفكير العقلي يساعد على اتخاذ القرارات الصائبة ومواجهة التحديات بثقة. كما يساعد في تحليل المعلومات والبيانات بشكل فعّال، وبالتالي يمكن للإنسان اتخاذ قرارات مدروسة والوصول إلى نتائج إيجابية([3]). ولكن قبل الخوض في تحليل ونقد ممارسات العقل الإنساني سنحاول توضيح وتعريف مفهوم العقل في محاولة لفهم جوهر هذا المفهوم لغوياً، وفلسفياً، واصطلاحياً.

- مفهوم العقل: لغوياً العَقْلُ (اسم)، الجمع عُقُولٌ. مصدر عَقَلَ. عَقَلَ: (فعل). عَقَلَ عن يَعقِل، عَقْلاً عُقُول، فهو عاقل، والمفعول معقول - للمتعدِّي. عَقَلَ الوَلَدُ: أَدْرَكَ حَقَائِقَ الأَشْيَاءِ. وأصل معنى العقل المنع والإمساك والحبس، وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه، أي يحبسه عن التورط في المهالك، أو لأنه يعقل حقائق الأشياء([4]). ومن المعاني الواردة، قولهم: عقل عقلاً: أي أدرك الأشياء على حقيقتها، والغلام أدرك وميّز، ويقال: ما فعلت هـذا منذ عقلت. والعاقل هـو الشخص المدرك. ومن المعاني، أن العقل هـو ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها. ومنه قولهم: الإنسان حيوان عاقل. ومنها ما يكون به التفكير والاستدلال، وتركيب التصورات والتصديقات. كما أن من المعاني الواردة حول موضوع العقل: إنه ما يتميز به الحسن من القبيح، والخير من الشر، والحق من الباطل.

هناك فارق كبير بين أن يخترع الإنسان الأسطورة ويصدقها ويحكيها، وبين أن يعي دلالاتها. (فريدريش ڤيلهلم يوزف شلنگ)

1- مقدمة:

ما زالت الأساطير الإغريقية القديمة تشكل منجماً فكرياً فذاً فريداً يستلهمه الأدباء والفلاسفة وعلماء النفس في تفسير نشأة الحضارات وسقوطها. وقد شكلت الأساطير تاريخياً منهج الشعوب في النظر إلى الحياة والتأمل في الكون واستجواب معاني الوجود. وعلى هذا النحو شكلت الآداب الأسطورية منطلقاً للتفكير الفلسفي وبداية لا بد منها للمعرفة العلمية. وعلى هذه الصورة جاءت أشعار هوميروس وهوزيود الأسطورية في بلاد الإغريق لتمهد الطريق أمام التأمّل الفلسفي وتشكيل التصورات الفلسفية القائمة على العقلانية الحديثة. وقد برع فرويد في التوظيف السيكولوجي للأساطير الإغريقية في التحليل النفسي للشخصية والكشف عن الأعماق السحرية اللاشعورية للكائن الإنساني، وعلى هذا النحو وظف أسطورة "أوديب" أجمل توظيف في تحليله للشخصية والكشف عن الميول الجنسية الدفينة في الأعماق للفرد ومنهل اقتبس عقدة أوديب المشهورة في الكشف عن الميول العاطفية بين الآباء والأطفال من الجنسين المتقابلين. وعلى المنوال نفسه وظف تلميذه كارل يونغ أسطورة إليكترا لتفسير علاقة الإناث بالأب وأطلق عليها عقدة إليكترا([1]).

لقد وطف فرويد الرموز الأسطورية في تفسيره لنشأة الأخلاق والدين والحضارة، ومن أجل هذه الغاية يلجأ إلى حيّزين أسطوريين، يتمثل الأول في الأسطورة الولائمية (الوليمة الطوطمية) بطابعها الأنثروبولوجي الاجتماعي (مقتل الأب الأول)، في حين يتمثل الثاني في الأسطورة “الأوديبية” بتجلياتها السيكولوجية التربوية، وفي كلتا الأسطورتين تتجلى جريمة قتل الأب وغشيان المحارم. وتشكل هاتان الأسطورتان مادة فرويد المميزة في الاستكشاف الرمزي لعمليات التشكل التاريخي للقيم والأخلاق والأنا الأعلى والحضارة. وهو في الوقت الذي يوظف فيها الأسطورة الأولى (مقتل الأب والتهامه) لتفسير منشأ الحضارة الإنسانية بمضامينها الأخلاقية العامة، يوظف الثانية (الأسطورة الأوديبية) في تفسير نشأة الأنا الأعلى والتكوين الخلقي للأفراد في المستويين السيكولوجي والتربوي؛ ولا يخفى على المتأمل وجود تقاطعات كبيرة بين الطاقة الرمزية لكل من الأسطورتين، وتجانس أكبر في الكيفية التي توظف فيها هذه الرمزية لتفسير نشأة الأخلاق والحضارة، إذ تنطلق كلتاهما من موجبات الخطيئة الأصلية (قتل الأب) واللعنة الأبدية (غشيان المحارم) في تفسير ولادة الأخلاق والقيم والضمير الأخلاقي.

ومما لا شك فيه أم جانباً كبيراً من عبقرية فرويد تكمن في قدرته الهائلة على توظيف الرموز والأساطير في إضفاء المعاني والدلالات على مكونات الحياة الأخلاقية والنفسية في المجتمع، حيث تتجلى هذه العبقرية في التوليف الخلاق بين الواقع الأسطورة والتاريخ والرمز والعلم والدين في تفسير الجوانب الخفيّة للحياة الاجتماعية والأخلاقية والسيكولوجية في حياة المجتمع والأفراد والجماعات.

وقد دأب كثير من المفكرين على توظيف الأساطير في تفسير نشأة الحضارة وسقوطها ومن أبرز الأساطير التي وظفت في تفسير نشأة الحضارة الغربية يمكن الإشارة إلى أسطورتي برومثيوس وأوديسيوس إذ ترمز أسطورة برومثيوس إلى نشأة التنوير والحضارة الغربية، بينما تشير أسطورة أوديسيوس إلى سقوط التنوير وتشيؤ الحضارة الغربية وبين هاتين الأسطورتين يمكن أن نقع على أساطير جزئية ومهمة مثل أسطورة سيزيف والأسطورة الفاوستية التي تتشاكل بوضوح مع دلالات الأسطورة الأوديسية في مسألة سقوط التنوير وتشيؤ الحضارة.

كتاب من تأليف المفكر المصري الراحل فؤاد زكريا (1927 - 2010)، صدر الكتاب في العام 1980 لتعيد مؤسسة هنداوي نشره في طبعة جديدة سنة 2020. يعرض هذا العمل البحثي أهم الإسهامات الفكرية للفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز (1898 _ 1979)، الذي تحولت كتبه وأعماله - والتي يعد "الإنسان ذو البعد الواحد" أكثرها شهرة - إلى ملهم للحركات الشبابية المتشوفة إلى التغيير كما حدث في الثورة الطلابية بالستينيات. انتقد ماركيوز مجتمعات الغرب الصناعي الحديث بأيديولوجياتها كافة (الرأسمالية – الماركسية السوفييتية) مما أضفى على نتاجه الفكري قدرا من المصداقية والموضوعية، إذ تتلخص أطروحته الأساسية في أن الإنسان الحديث "ذو بعد واحد" بسبب افتقاره للحس النقدي وتحوله إلى مستهلك نهِم مما يتلاءم مع مصالح النظام الإنتاجي السائد.

اغتراب الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث

يرى الفيلسوف الألماني أن القهر الممارَس بالمجتمع الرأسمالي الحديث هو قهر منظَّم وينضبط لحسابات منطقية دقيقة، على عكس أشكال الطغيان الكلاسيكية التي كانت تخضع لنزوات الحكام وتقلبات أمزجتهم. كما أن القهر الحديث أصبح أكثر نجاعة واتساعا من حيث نطاقه، إذ وضع نصب أعينه تشكيل رغبات الإنسان وتزييفها دون الحاجة إلى استخدام العنف المادي، بحيث لا يعي من يمارَسُ عليه ذلك القمع بأنه ضحية له، وذلك بفضل تطور أنظمة الدعاية والتسويق وأبحاث علم النفس المرتبطة بالآلة الإنتاجية، والتي تستهدف أساسا لاوعي المتلقي بغرض تحويله إلى كائن مستهلك.

كما يمتاز النظام الرأسمالي الحديث بالقدرة على استيعاب المعارضين التقليديين (الطبقة العاملة) وتدجينهم، إذ أصبحت لهم مصلحة في استمرار النظام ما دام أنه يسد حاجاتهم الاستهلاكية ويصطنع حاجات أخرى، وبفعل السيطرة على تفكير الإنسان ومصادرة إرادته الحرة: "قهر يمارَس على الإنسان كله، على حياته الباطنية وعلى تفكيره وعقله وعواطفه بقدر ما يمارَس على مظاهر حياته الخارجية وظروف عمله وإنتاجه وعلاقاته الاجتماعية، وتلك هي قصة القضاء على إنسانية الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث".

وعطفا على ما سبق، يؤكد ماركيوز على التشابه بين النظامين الرأسمالي والسوفييتي (وضع ماركيوز أطروحته في سياق الحرب الباردة بينما كان الاتحاد السوفييتي ما زال قائما) على الرغم من التناقض الأيديولوجي السطحي بينهما، بحيث تسود فيهما مظاهر الاستغلال والاغتراب نفسها. وفي هذا الصدد، يذهب ماركيوز إلى أن النظام السوفييتي هو أبعد ما يكون عن النظرية الماركسية الأصلية ونزعتها المساواتية، حيث تحول الإنسان في ظل هذا النظام إلى مجرد وسيلة لتحقيق الأهداف الإنتاجية للدولة، وليس إلى غاية في ذاتها كما كان يأمل ماركس. إن من يسيطر على دواليب النظام السوفييتي ليس الرأسمالي المالك لوسائل الإنتاج بل الدولة التي تحولت إلى مصنع كبير يدير دفته البيروقراطيون من كبار الموظفين الذين يسهرون على التخطيط المركزي الفوقي، الشيء الذي يقصي العامل من المشاركة في وضع الخطط الإنتاجية وتحديد الكيفية التي ستوَزَّع بها عوائد الإنتاج، وهنا نتبين الشبه الواضح بين الرأسمالية والاشتراكية السوفييتية من حيث الجوهر رغم الفروق الشكلية بينهما.

بعد فراغ بيرتراند راسل بالاشتراك مع عالم الرياضيات نورث وايتهيد عضو الوضعية المنطقية التحليلية الفلسفية الانجليزية حلقة اكسفورد من تاليفهما كتابهما المشترك (المباديء الرياضية) اللذين امضيا بكتابته ثلاث سنوات 1913 – 1916 اتجه بعدها راسل منفردا نحو معالجة قضايا علمية بعيدة عن الفلسفة التجريدية المنطقية الخالصة في محاولته جعل الفلسفة منهجا تفكيريا في فهم الحياة وليس تغييرها 1. منهج راسل كان يعمل على خلق نوع من التكامل المعرفي غير المتكافيء بين الفلسفة والعلم بين الفلسفة ومنطق الرياضيات حصرا.

ومن كتابات راسل الفلسفية نجد سعيه المثابر والعنيد ربط الفلسفة بالعلم بعيدا عن جزعه من كل خرافة ميتافيزيقية وثقته بقدرة العقل التحليلية وايمانه الشديد بضرورة احلال النزعة العقلانية المنطقية محل سائر النزعات الروحية والصوفية والوجدانية. 2

بعدها نشر كتابه عام 1921 (تحليل العقل) الكتاب الذي حاول فيه راسل هدم النظرية التقليدية القائلة بوجود جوهر عقلي قائم بذاته. أو وعي منفصل مستقل يكمن فيما وراء الادراك الحسي، والتذكر، والادراك العقلي. 3

كان اسبينوزا في القرن السابع عشر صاحب مصطلح الجوهر الالهي المطلق اللانهائي الازلي الخالق التام غير المحدود في عدم ادراكنا العقلي المحدود له.. وميّز اسبينوزا بين الجوهر العقلي المحدود في توزعاته المدركة في موجودات الطبيعة حسب نظريته في مذهب وحدة الوجود. معتبرا اسبينوزا أن الجوهر في مذهب وحدة الوجود في الطبيعة هو المتناهي غير المحدود بجوهر مطلق الهي لا يدرك وانما محدودية جوهر العقل هي في استيعابه معجزات الجوهر الالهي المطلق الموّزع في الطبيعة وموجوداتها وقوانينها.

وهي نظرية صوفية يختلط فيها اللاهوت مع طبيعية مذهب وحدة الوجود في تأمل الطبيعة وتنوعاتها التكوينية من الموجودات التي تجعل وجوب الاهتمام في البحث عن إله الارض الطبيعي الذي  هو دلالة ادراك المطلق الالهي ميتافيزيقيا...

توطئة
تناولت في مقالة سابقة متعالقة مع عنونة هذه الورقة مفهوم الوعي الفلسفي عند ديكارت مرورا بهوسرل وهيدجر وسارتر وكذلك ميرلوبونتي، وناقشت بتفصيل غيرمسهب مفهوم الوعي بذاته في الموجودات غير العاقلة وأختلافه الجوهري عن الوعي الخالص الهدف المنشود والفردوس المفقود عند الانسان كما طرحه سارتر، وعلاقة الوعي التبادلي التواصلي الحواري بين الناس كنوع، كما تناولت تعالق الوعي بكل من اللغة والصمت، ونستكمل في هذه المقالة جوانب أخرى تهم محتوى هذه الورقة البحثية التي يعتبر وعي الذات من المباحث الفلسفية التي شغلت الفكر الفلسفي عصورا طويلة ولا زال مبحث الوعي بحاجة الى معالجات من زوايا رصد جديدة لعلنا نكون موفقين في مقاربة تفسيرية توضيحية لبعض تلك الرؤى..

 وعي الذات بين هوسرل و سارتر

 نرى عقد مقارنة بين عبارة ميرلوبونتي التي ناقشناها من وجهة نظرنا في جزء سابق من هذه الورقة (أنه لا فكر خارج العالم أو الكلمات) وعبارة سارتر ذات العلاقة (أن الوعي الخالص هو فينامينولوجيا جامعة تذهب الى ما يقصد اليه الوعي من أشياء ).(1) ولنا هنا وقفة حوارية أوسع في هذا المجال.

ميرلوبونتي في عبارته لم يكن موفقا في أشتراطه سببيا الجمع بين الفكر في العالم الخارجي ومثله في الكلمات كتعبير صامت في الذهن أو أفصاح معبّر عنه باللغة في أدراك ومعرفة الاشياء في وجودها المادي الخارجي...

الفكر في الذهن هو (انطباعات) زائلة مستمدة من الحس كما يذهب له ديفيد هيوم وجورج بيركلي. وهذه الانطباعات الذهنية هي غيرها الفكر المعبّر عنه في أدراك العالم الخارجي. خارج بيولوجيا العقل بلغة تواصل قد تكون اللغة التداولية المعهودة أو تكون غيرها من وسائل التواصل التي تعتمد حركات الجسد الأيمائية التي توحي بلغة غير صوتية.. الفكر داخل الذهن هو تفكير تجريدي لا يعوّل كثيرا على تعبير اللغة عنه، والفكر خارج العقل هو تفكير لغوي ناجز في تعبيره الواعي عن المدركات في وجودها الخارجي المستقل، وهنا بضوء تأويلنا معنى عبارة ميرلوبونتي يكون تداخل الفكر بالعالم الخارجي هو أفصاح تعبيري لغوي مرة أو أفصاح تواصلي غير لغوي مرة أخرى بغية أثبات أدراك وجود الاشياء ومعرفتها، فليس باللغة المنطوقة أو المكتوبة فقط يتم التعبير عن الموجودات المدركة عقليا المادية منها والخيالية،، فالصمت والحركة لغتان تواصليتان سيميائيا موحيتان بالمعنى التواصلي المطلوب أيضا لكنهما غير منطوقتين صوتيا ولا مكتوبتين أبجديا...

أما أن الفكر لا يكون خارج الكلمات حسب تعبير ميرلوبونتي، فهو خطأ في الفكر قبل خطأ تعبير اللغة المخاتل إذ الفكرالصامت هو تفكير عقلي فسلجي لغوي مكوّن من كلمات وابجدية لغوية لا صوتية خارجيا.ولا تكون الكلمات التفكيرية غير الصوتية استبطانيا هي ليست لغة تعبير وتفكير. وهي لغة لا تعمل بمعزل عن الفكر الذي هو خصيصة عقلية وليس خاصية تفرضها الموجودات على العقل.،

، أذ يمكن أن يكون الفكر خارج الكلمات المنطوقة والمكتوبة، في فعالية العقل التفكيرية بالاشياء والمواضيع تجريدا خياليا مثل الفكرة الصامتة في الذهن المستمدة من الواقع الخارجي أو من مواضيع خيال الذاكرة، أو التفكير الصامت المعبّر عنه في أيحاءات وأيماءات وحركات الجسد الذي لا تلازمه اللغة أو الكلمات المنطوقة ولا يحتاج ملازمة اللغة التعبيرية عنه وأنما يحتاج صور الاشياء المفكربها وترجمتها بلغة الجسد أيحاءا تواصليا حركيا في حمولته المعنى اللامحدود ... في هذه التجليات تكون الحركة الجسمانية فكر ولغة إيحائية لا صوت يميزها.

يمكننا أن نتساءل عن مكانة الفلسفة الاجتماعية من خلال طرح السؤال التالي على الفور: ما هي التيارات الفكرية التي تعبر عنها؟ وماهي التصورات التي تختلف عنها؟ وكيف يتم التعبير نظريا عن الاجتماعي؟

من تفكير يميل، على ما يبدو، إلى إعادة تأهيل سيادة القانون، والإنسانية الفلسفية السياسية، والمثل السياسية التي كان ماركس قد وصفها بأنها "أيديولوجية" (تهدف إلى إخفاء التناقضات الطبقية) كما يتضح من تأثير نظرية جون راولز حول العدالة. لكن، كما يؤكد فرانك فيشباخ، لا شيء يسمح بحجز التحليلات المعيارية في الفضاء القانوني السياسي والتهرب من هذه المعيارية نفسها عندما يتعلق الأمر بالمجال الاجتماعي. وبالتالي فإن العودة إلى الفلسفة السياسية الكلاسيكية ليست بريئة. يؤكد فرانك فيشباخ، بشكل جدلي متعمد، أن المدافعين عن حقوق الإنسان انتهى بهم الأمر إلى جعل الدولة غير ذات أهمية وجعل هدف "إنقاذ البنوك" أولوية حتمية. الميزة الوحيدة لهذا اللجوء إلى أيديولوجية الليبرالية الجديدة الضمنية هي أن الوهم الذي يبرر إقامة معسكر غوانتانامو والحروب القاتلة في العراق - باسم الحق وباسم الخير على التوالي - قد نفذ وقته وفي نهاية المطاف. ولدت "إعادة التسلح المعاصرة للنقد الاجتماعي". لم يعد من الممكن التظاهر بتشويه الماركسية أو الاعتراض على تأثير العلوم الاجتماعية على الخطاب الفلسفي. وهكذا، فإن التشكيك في الحياة المقبولة إنسانيًا يصبح حادًا، في مواجهة النزعة غير المسيّسة وغير المسيّسة للتعامل تقنيًا مع المشاكل الاجتماعية والسياسية. لقد أشار إيمانويل رينو في تجربة الظلم بالفعل إلى الانفصال القائم بين اللغة السياسية وتجارب معينة من الظلم الاجتماعي، والصعوبة التي تواجهها الفلسفة نفسها، في التفكير في تجربة الظلم أكثر من تعريف العدالة بشكل معياري. ما هو تأثير العلوم الاجتماعية على الفلسفة وكيف تقوم الأخيرة بدورها بتخصيبها؟ سؤال يؤدي تعميقه إلى تعريف محتمل لـ "الفلسفة الاجتماعية"، والذي قدمت مدرسة فرانكفورت مع ماكس هوركهايمر مقدماته. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنه، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا توجد فلسفة اجتماعية فرنسية، في حين أن "الفلسفة الاجتماعية" ليست مجهولة لدى الألمان. ومع ذلك، يشهد أكسل هونيث، في مجتمع الازدراء، على عدم وضوح الفلسفة الاجتماعية في المنطقة الناطقة بالألمانية، والتي من المفترض إما أن تحمي جميع التخصصات الموجهة نحو الممارسة، أو أن تكون بمثابة مكمل معياري لعلم الاجتماع الذي يتقدم بشكل تجريبي. ... المصطلح، وفقًا لفرانك فيشباخ، لا يحظى بتغطية إعلامية جيدة، بما في ذلك بين علماء الاجتماع، ويتميز بعدم دقته (سيكون بمثابة "رؤية اجتماعية" للأشياء). ومع ذلك، يمكننا تحديد الموضوع والسؤال الحاسم الذي تطرحه علينا الفلسفة الاجتماعية وتطرحه علينا: "ما هي الحياة المشوهة، المنحطة، المغتربة؟"، ولم يعد "ما هي الحياة الناجحة؟" تضاعف الغرض من خلال عمل أكسل هونيث عندما أعلن أن هذه "النظرية النقدية" الجديدة لها الأولوية في "تحديد وتحليل عمليات تطور المجتمع التي تظهر كتطورات أو اضطرابات مفقودة، أي "الأمراض الاجتماعية". وعلى هذا النحو المحدد، تميل الفلسفة الاجتماعية إلى تمييز نفسها عن الفلسفة السياسية القديمة، التي فهمها أرسطو على أنها شرط "للحياة الطيبة"، والأخلاق التي تؤدي إلى السياسة. وأن تنأى بنفسها أيضًا عن محاولات "التعافي" الكانطية الجديدة، وعن النضال الذي يقوده بعض علماء الاجتماع ضد ماركسية الأممية الثالثة. فهو يجسد أكثر من أي مجال آخر المعضلة السياسية الكبرى التي تقوض الفكر الاجتماعي وتقسمه: الإصلاحية أم الثورة، أي جانب يجب أن نعتمد؟ ألا تترجم بطريقة مميزة ما أسماه لويس ألتوسير "الصراع الطبقي من الناحية النظرية"؟

آخر الأنشطة الثقافية والعلمية

  • تنظيم ندوة في موضوع: جماليات السرد النسائي في الرواية المصرية
    تنظيم ندوة في موضوع: جماليات السرد النسائي في الرواية المصرية نظم مختبر السرديات والخطابات الثقافية بكلية الآداب بنمسيك بالدار البيضاء، بتنسيق مع فرقة البحث في الإبداع النسائي، كلية الآداب بتطوان، صبيحة يوم الخميس 30 نونبر2023، في رحاب كلية الآداب بنمسيك، ندوة في موضوع "جماليات السرد النسائي في الرواية المصرية"، بحضور ثلة من الباحثين والباحثات من مختبرات ومجموعات بحث تنتسب لكليات وجامعات مغربية مختلفة. كما جرى نقلها مباشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بمساهمة الدكتورة جيهان الدمرداش من مصر. انطلقت الجلسة الافتتاحية، التي تولت رئاستها الأستاذة مريم ودي، بكلمة للسيدة سميرة الركيبي، نائبة العميد المكلفة بالشؤون الأكاديمية، رحبت فيها بالحضور ونوهت بموضوع الندوة والآفالق التي يفتحها أمام الباحثين والباحثات، ثم تلتها كلمة الأستاذ شعيب حليفي، رئيس مختبر السرديات، الذي أكد أن المختبر، وخلال مسيرته التي بلغت الثلاثين سنة بحلول عام 2023، قد…