anfasse.orgيعتبر مفهوم "الحرية" من بين أبرز مفاهيم الحداثة في فكر عبد الله العروي، حتى أنه أفرد له كتابا باسمه [1] ، بل إنه أول مفهوم يستهل به سلسلة المفاهيم ليختمها بمفهوم العقل، إلا أن لمفهوم الحرية مكانة بارزة في سلسلة المفاهيم، بحيث أنه لا دولة إلا دولة الحرية ولا عقل إلا العقل الحر غير المقيد أو الخاضع للرقابة الذاتية ولا يتجلى المفهوم فقط في الدولة وفي العقل بل قد تتجلى حتى في الاقتصاد فنقول الاقتصاد الحر وفي الدين فنتحدث عن حرية الاعتقاد قبل الاعتقاد… هذا بالإضافة إلى الحريات السياسية والمدنية… إلا أن كل هذه التجليات ترجع إلى الحرية من حيث هي مبدأ. ولكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو: لماذا يخط العروي كتابا عن الحرية؟ ألا يوجد هذا المفهوم في الثقافة العربية الكلاسيكية؟ ألم يعش المجتمع العربي الإسلامي التقليدي تجربة للحرية؟ وإذا كان قد عرفها، فما هو نوعها؟ وهل تطابق المفهوم الغربي للحرية أم أنها تختلف عنه ؟
1 - مفهوم الحرية التقليدي
بدءاً الحرية – حسب الأستاذ عبد الله العروي – شعار ومفهوم وتجربة [2] فإن تكلمنا عنها كمفهوم، فإنها غير متواجدة في الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية، وحتى إن وجدت بذور المفهوم فهو غير مكتمل [3] أما كتجربة فموجودة في المجتمع الإسلامي الكلاسيكي، أما كشعار فقد رفعت شرقا وغربا، ولكن ما هي الأدلة التي تبين أن المجتمع الإسلامي عرف الحرية كتجربة معاشة في حين لم يعرفها كمفهوم؟

anfasse.org

" التجربة التي أكونها عن أناي يمكن أن تؤثر في التجربة التي يكونها أنا آخر عن أناه".
أدموند هوسرل
يتداول الحديث اليوم عن الإنسان كضحية للدعاية والاستهلاك والآلة ولبعض تشويهات السلطة والإفراط في الحلم والرغبة وللانخراط في عدة أنشطة وممارسات تحط من قدره وتنقص من قيمته وكل هذا له هدف واحد وهو فقدان الإنسان لهيئته ووجه الذي يبرز به أمام الآخر. فكيف يتراءى لنا الشخص الانساني في ظل تجلي عالم الأشياء؟ ثم أين يقيم هذا الكائن البشري؟ هل في عالم الكلام أم في عالم مشترك مع الآخر؟

1- ثمة إنسان:il ya un homme

إن الناس المنتشرين في الزحام  وحيث الاكتظاظ الذين ينشغلون في اليومي ويفكرون في قوتهم لا يستحقون بالفعل هذا الاسم لأنهم لا يواكبون التغيرات الحاصلة خارج ذواتهم رغم تغييرهم للآلات والوسائل التي يستعملونها والفيلسوف وحده هو الذي يستيقظ ليفكر في الإنسان في حد ذاته بمعزل عن عالم الأشياء وفي قلب عالم الأشخاص.

لقد فهم الإنسان منذ القدم على أنه كائن وسائطي فهو ليس ملاكا ولا أحمقا وإنما الاثنين معا، إذ هو حيوان عاقل يوجد في مرتبط وسطى بين الأحمق والملاك، وهو أيضا كون صغيرMicrocosme يعكس في ذاته صورة ونظام وترتيب الكون الكبيرmacrocosme ، بيد أن تلاشت الحدود وبان الوضع المبهم لواقعة الحمق وتحطيم الكوسموس قد أدت جميعها إلى النظر إلى الإنسان على أنه لا يظهر سوى مرة واحدة في خطوط التطور. أما اليوم فقد أصبح الإنسان ذلك المخلوق الغامض الذي لا يمكن أن نعثر له على مكان وهو ما عناه هيجل بقوله أن الإنسان تقمص للنفي عندما يفكر ويتكلم ويفصل الماهيات عن الموجودات والأشياء عن الأشخاص فهو الثقب الذي يدخل منه العدم إلى العالم عند سارتر والكائن الموجود هناك عند هيدجر، لكن هل يعقل أن نقبل هذا النفي الدائم للإنسان لذاته؟

الإنسان يملك قدرة على أن يكون ماهو وعلى أن يكون ما ليس هو إذ هناك دائما مشروع يرسمه لنفسه ويسعى إلى تحقيقه أو لنقل الإنسان هو مشروع جوهري وبالتالي يكون ما يريد أن يكون أي أن وجوده هو كل ما أراده. إن ما ينبغي رفضه هو بالضبط الأمر التالي:أن يكون الإنسان مجرد لاشيء.

عندئذ لكي نكون فكرة فلسفية عن الإنسان ينبغي أن ننطلق من الأحداث والأزمات والحروب التي مرت بها الإنسانية، إذ عانى الإنسان ثقل وعيه بالأشياء التي تسبب الشقاء تحمل أكثر مما كان يتصور أي الموت. كل شخص يحمل موته كسلاح وحيد تحت يده يهدد به غيره وفي ذلك تكمن مأساته.

anfasse.orgيسود الرأي لدى مؤرّخي الفلسفة  أنّ التفكير الفلسفي و الكلامي  لدى الفرق و المدارس اليهودية في السياق العربي الإسلامي  في العصور الوسطى  منطبع و متأثّر بالفلسفة  العربية الإسلامية شديد التأثر، بل و يعدّ جزءا منها و أحد تمظهراتها منذ أواسط القرن الثامن الميلادي \ القرن الثالث هجري  وخاصة في القرون التالية مع ازدهار و انتشار حركة الترجمة و التأليف ، فقد كانت اللغة العربية في مجالات الإلاهيات و الفقه و علم الكلام و الفلسفة و الطب و الفلك و غيرها من العلوم و الفنون ، اللغة المعتمدة في التأليف و الكتابة لدى معظم العلماء و المؤلفين من مختلف الفرق  و الديانات من مسلمين و مسيحيين و يهود. أتاح الإسلام هنا، كفضاء حضاري ذو أفق معرفي منفتح، انتشار و سيادة بنية إثنية و ثقافية تعددية متنوعة أفرزت بدورها نموذج تعايش ثقافي اجتماعي تعدّدي  متميز  بالثراء و الحيوية، و لعلّ النموذج الأندلسي في العصور الوسيطة يعتبر أحد أهم تجليات هذا التعايش.
تتمظهر أهم تعبيرات هذا التماسّ و التقاطع في سياق التفكير الكلامي و الفلسفي فيما بين اليهودية و الإسلام في القرون الوسطى من خلال شخصيّتي ابن رشد و ابن ميمون اللذين يعتبران شخصيتين مرجعيتين في الفلسفة الوسيطة و امتدّ  أثرهما و تأثيرهما إلى ما أبعد من ذلك.
عند النظر في التراث الفكري الفلسفي و الكلامي و الفقهي الذي خلّفه هذان المفكّران الأندلسيان تتبيّن لنا جوانب تلاق و قواسم اشتراك و علامات افتراق و تباين. لعلّ أهمّ جوانب الالتقاء بين هاتين الشخصيتين هي انتماؤهما المشترك لفضاء ثقافي واحد وروح عصر متميز بتأثير توجّهات عدّة لا تخلو غالبا من التباين إلى حدّ التضادّ و التصادم أحيانا، إلاّ أنها تخترقها جميعا عناصر و علاقات التعايش الثقافي، التي تتجلّى من ناحية أولى من خلال أشكال التلاقي الحيوية و الخصبة فيما بين العناصر و المركّبات الثقافية المختلفة التي تعكس بدورها تصوّرات ورؤى عن الوجود و الكون و الإنسان و منظومات قيم هي أيضا متنوعة و متعددة. و من ناحية أخرى من خلال علاقة تقابل متضادّ و صراع وجودي ما بين منظومتي خطاب رئيسيتين، تتميز إحداهما بالانفتاح و القدرة على التجدد و التجاوز الذاتي و ترى في الآخر المغاير إمكانية و فرصة تساعد على إثراء و توسيع الآفاق الذاتية. أما المنظومة الأخرى فهي ترى في ذاتها المرجعية الوحيدة و الحصريّة التي تمتلك حقّ و صلاحية التعريف المفاهيمي و القيمي و ترى في الخطاب  الآخر المغاير تهديدا وجوديا ينبغي  مقاومته.

anfasse.orgإننا، في كثير من الأحيان، نحاكم الانتاجات الفكرية الماضية، انطلاقا من سياقنا التاريخي والفكري الراهن، وكأن المفاهيم التي عبرها يتم التفكير، كيانات ميتافيزيقية ثابتة ومتعالية على الصيرورة التاريخية. وبذلك نجحف في حق التراث الفكري، عندما لا نقرؤه في ضوء سياقه التاريخي. وإن مفهوم"حالة الطبيعة" أو "الطور الطبيعي" في الفلسفة السياسية لفلاسفة العقد الاجتماعي خير مثال على هكذا سوء فهم، إذ يعتبره الكثير شطحا من الخيال، أو تحريفا للتاريخ البشري، أو فرضية لا تستند إلى أي أساس. فما هي دلالة مفهوم "الطور الطبيعي" في نظرية التعاقد الاجتماعي، في ضوء السياق التاريخي للقرنين السابع عشر والثامن عشر؟
في محاولتنا للإجابة عن هذا السؤال، سنركز بالأساس على جون لوك(1632-1704) من خلال كتابه الأساسي في فلسفة السياسة:"مقالتان في الحكم المدني".   
" لقد كانت المسألة السياسية، في بداية القرن السابع عشر، ذات أهمية بالغة في انكلترا غارقة في الأزمة"، لذا كان على المفكرين السياسيين بلورة أجوبة على واقع الأزمة هذا. وبما أن الأحداث اتخذت وجهة جديدة نوعيا، كان على هؤلاء المفكرين صياغة أدوات مفاهيمية جديدة وقوية تستطيع أن تستوعب تلك الأحداث، وتساهم في توجيه منحى حركتها.
مفهوم "حالة الطبيعة" في مقابل مفهوم "المجتمع المدني": ثنائية مفهومية مثلت أبرز هذه الأدوات النظرية الجديدة، بل شكلت أرضية مؤسسة لمذهب فلسفي شغل مساحة جغرافية امتدت من الجزيرة الأنجلوسكسونية إلى القارة العجوز، ومساحة تاريخية امتدت من بداية القرن السابع عشر، مع هوبز، إلى نهاية القرن الثامن عشر مع روسو.
يصف هوبز"الوجود الطبيعي" على أنه "حالة حرب الكل ضد الكل" حيث " كل فرد هو ذئب بالنسبة للآخر" . إنها ليست ملحمة من صنع الخيال المحض، بالطبع، يل إن حالة الطبيعة هنا هي تجريد لحالة الحرب الأهلية والفوضى العارمة في انجلترا آنذاك، وهي مبرر دعوة هوبز إلى السيادة المطلقة للتنين Leviathan، إذ لا خروج من حالة الحرب هذه" التي تمثل الجانب الأكثر بشاعة في الطبيعة البشرية"، إلا بالاتفاق- الذي يؤسسه الحساب العقلي للمصلحة- بين جميع الأفراد المتنافسين، تعاقد على تفويض حقهم الفردي المطلق في الحفاظ على أنفسهم، إلى سلطة مدنية مركزية مطلقة الجبروت.

anfasse.orgنظرية العدالة عند جون راولز
لقد ظل المشتغلون بالفلسفة السياسية في فترة الخمسينات يتابعون انجازات جون راولز وتطويره لنظرية العدالة التي بدأت بمقال له ثم نشره في إحدى المجلات الفلسفية، حيث لقي هذا المقال حجما كبيرا من المناقشات والتعليقات والمتابعات في الوقت الذي كان فيه راولز يعمل على تطوير أفكاره الأساسية من خلال عدد من المقالات والدراسات، إلى أن أصدر في عام 1971  كتابه الشهير "نظرية العدالة"، وحينذاك كان اسم جون راولز لا يحظى بشهرة كبيرة في الأوساط الأكاديمية لكنه بعد إصدار الكتاب أصبح أحد ألمع أعلام الفلسفة المعاصرة لدى جماهير المثقفين في معظم أنحاء العالم.
لقد تم الاحتفاء بهذا الكتاب من طرف الأساتذة البارزين في ميدان الفلسفة السياسية واعتبروه حدثا فريدا من نوعه، بل وصفوه أنه تحفة فريدة، وإسهام منقطع النظير في ميدان الفلسفة السياسية، بل إن هناك من المهتمين من ربط بين هذا الكتاب وبين الأعمال الخالدة لأفلاطون، وجون ستيوارت مل، و ايمانويل كانط. وفضلا عن هذا فقد أُختير هذا الكتاب في باب عرض الكتب الجديدة بمجلة نيويورك تايمز كواحد من أهم خمسة كتب صدرت عام 1971، ومن تم اعتبر الفيلسوف الأمريكي جون راولز 1921 – 2001 من أهم المنظرين للعدالة كنظرية ومفهوم، ذلك انه عندما ترجم مؤلفه لأول مرة أحدث ذلك نقاشا محتدما في العالم القاري، ونفس الشيء حصل في العالم الانكلوسكسوني، بحيث أثارت "نظرية العدالة" نقاشات كبيرة يصعب الإحاطة بها، إذ في الولايات المتحدة الأمريكية كانت الفلسفة الأكثر شيعا و رواجا، بالإضافة إلى هذا لا يمكن إحصاء الكتب والمقالات التي كتبت عن هذه النظرية.
 وإلى حدود عام1971 كانت الفلسفة الإنجلوسكسونية خاضعة للفكر التحليلي مكرسة بذلك للمنطق الفلسفي الابستيمولوجي، أما الفلسفة السياسية فكانت غير مؤثرة بشكل عميق في التقليد الانجلوسكسوني حيث بقي المذهب النفعي هو المؤثر من الناحية الأخلاقية والسياسية، إلا انه مع نظرية راولز للعدالة عرفت الفلسفة السياسية تجديدا وتحديثا، وهذا ما سيحاول هذا البحث رصده من خلال نظرية العدالة عند جون راولز، وذلك من خلال تحديد مبادئ العدالة ودورها في المجال السياسي العام؟ ومدى إمكانية نجاحها في تحقيق مجتمع ديمقراطي وعادل؟ ولكن هل يمكن الحديث عن العدالة في مجتمع يغلب عليه المذهب البراغماتي في السياسة ؟  والاتجاه اللبرالي في السياسة والاقتصاد ... ؟

أنفاس" أقترح لفظ الحياة العملية لكي أشير إلى ثلاث أنشطة إنسانية جوهرية هي: العمل والحرفة والفعل. إنها جوهرية لأن  كل واحدة منها يتطابق مع الأوضاع الأساسية التي تعطى الحياة إلى الإنسان على الأرض."[1]
 العمل هو النشاط الإنساني الأساسي وهو متضايف مع الدورة البيولوجية للحياة المدركة بوصفها Zoé وليس  بوصفها  Bios، خاصة وأن الكائن البشري من حيث هو يشتغل هو عضو ضمن النوع وليس فردا حائزا على سيرة ذاتية فحسب. إن الذي وقع في حضارة المصنع هو تهجير العمل إلى الطبيعة وجعل الاستهلاك ينتمي إلى الدورة التي يقوم بها هذا العمل.وباختصار إن العمل هو دوري ويمكن فهمه عندما نتحدث عن حيوان عاملAnimal laborans  وإنسان صانعHomo Faber   في نفس الوقت. ولكن ماذا نعني بالعمل؟ وعلى ماذا ندل عندما نتحدث عن الحرفة؟ هل هي الصناعة أم المهنة؟ هل هي رديفة التأليف أم الأثر؟  ومن جهة ثالثة هل الفعل هو الإنتاج المشبع بالخلق والحرية والوعي؟ وماذا سيضيف الفعل إلى كل من العمل والحرفة؟
ان مدار نظرنا وغاية مرادنا في تقصي دلالات هذه المفاهيم هو الكف عن طلب الأمنيات بخصوص النوايا الصالحة والأحلام الوردية وتحديد ما يقدر عليه الكائن البشري المتناه وما يستطيع انجازه.
1-  مفهوم العمل:
" العمل هو النشاط الذي يطابق المسار البيولوجي للجسد الإنساني حيث يتعلق النمو التلقائي والأيض[2] والفساد احتماليا بالمنتوجات الأصلية وحيث يغذي العمل هذا المسار الحيوي. إن الشرط الإنساني للعمل هو الحياة في حد ذاتها."[3]

أنفاس(مفهوم الدولة بين التقليد والحداثة)
لا يخفى على الباحث في فكر عبد الله العروي وجود نظيمة تشدُّ فكر الرجل، بحث من السهل عليه أن يرى وشائج و تعالقات بين عدة مفاهيم، مثل مفهوم الحرية ومفهوم الدولة ومفهوم العقلانية، ذلك أن لا حرية إلا داخل الدولة، ولا حرية إلا الحرية العقلانية المسئولة... وهو ما سينعكس على مفهوم "الدولة" نظرا لوجود علاقات بين المفاهيم تصل حد التلازم، ذلك انه لا دولة حديثة إلا الدولة الديمقراطية ولا دولة حديثة إلا دولة الحرية والعقلانية...، ولقد ادمجنا مفهوم الدولة في العقلانية، نظرا لأننا نرى أن هناك ثلاثة مفاهيم مركزية تشد فكر الرجل، وهي الحرية و الفردانية والعقلانية بتجلياتها في السياسة والاجتماع والطبيعة، ولقد إخترنا لهذا البحث موضوعة العقلانية السياسية، مُمَثلة في مفهوم الدولة، ولقد تناولنا مفهوم الدولة لوحده في العقلانية السياسية، لسببين اثنين احدهما يتعلق بطبيعة الموضوع، ذلك أننا فضلنا دراسته لوحده حتى يَتَسنى لنا أن نُبَين أين يمكن أن "يقطع" مفهوم الدولة الحديثة مع مفهوم الدولة التقليدية، أما السبب الثاني، فهو أن العروي خصص للمفهوم كتابا خاصا به، ولم يلحقه بكتابه عن مفهوم العقل، هذا مع العلم السابق أن المفاهيم مرتبة عند الأستاذ العروي.
إلا انه ينبغي التنبيه هنا إلى أن العروي دافع على شكل من أشكال الدولة، أو تنظيم سياسي معين، يراه هو المتمثل في الدولة الحداثية، وهذا بإعترافه هو نفسه، بحيث يقول: "لقد كتبت كتابا عن موضوع الدولة، ودافعت فيه عن الدولة الإقليمية"(*) وأحيانا يسميها بالدولة "الوطنية الحديثة"(**) وغالبا ما يسميها "الدولة القومية" كما هو الشأن في كتابه مفهوم الدولة، وبالتالي فموقف العروي في كتابه "مفهوم الدولة" هو موقف دفاعي عن الدولة القومية ضد منتقديها، ولكن هل كان - دائما - يدافع في كتبه ؟ يقول عن نفسه واصفا مواقفه في بعض كتبه:"... كنت فاحصا، محلا في الكتاب الأول [ يقصد الإيديولوجيا العربية المعاصرة ]، وداعية في الكتاب الثاني [ يقصد العرب والفكر التاريخي ]"(***) ويضيف"وإن إعتقاد الصدق في داعية الإيديولوجيا سقوط في أشراك الإيديولوجيا" ويضيف لأن "الإيديولوجيا دائما وأبدا عبارة عن مصالح(****) وبالتالي حتى لا نسقط في حبائل العروي فالمطلوب هو حفظ المسافة بين "المفكر" و"الباحث" في "فكره". أو القارىء لفكره، طبعا هذا يأتي بعد أن يكون "الباحث" قد تماهى مع "فكر المفكر" من أجل فهمه...

انفاسباستثناء بعض المواقف اليتيمة، مواقف أفلاطون وماركس وسيمون دي بوفوار مثلا، ظل الموقف الفلسفي من المرأة موقفا سلبيا وغير مشجع على نفي حالة الصراع بين الرجل والمرأة التي طبعت التاريخ البشري، على الرغم من وجود مجتمعات موشومة بالبدائية تحتل فيها المرأة مركز الصدارة، في حين يقبع الرجل في ركن خفي، ينتظر نظرة حالمة من زوجته، أو هدية تتحف بها وجدانه، وتقبل بها مودته.
لقد اعتبر أرسطو المرأة رجلا ناقصا أو ذكرا غير مكتمل، ولا تصلح إلا لوظيفة الإنجاب، واعتبرها الفيلسوف الأنواري والأب الروحي للثورة الفرنسية، جون جاك روسو منذورة فقط لخلط الخضر بالحساء وإعداد الطعام لفارسها، وفي جميع الأحوال على المجتمع أن يربي المرأة منذ الصغر على الخضوع للرجل وإلا  فإن وجود المجتمع سيكون في خبر كان. وكانط المتخم بالأخلاق رأى فيها كائنا أخلاقيا ناقصا لأنه ناقص عقلا. أما شوبنهاور  فليست لديه جنسا لطيفا، وإنما هي جنس لا يتذوق الفن، ولا يعرف إلا تبذير أموال الزوج في المناسبات التافهة. ويزيد نيتشه النار في الهشيم حين ينصح كل رجل قاصدا امرأة بقوله: " إذا ذهبت إلى النساء فلا تنسى السوط " . فلم كل هذا الإزدراء للكائن التائي(نسبة إلى تاء التأنيث)؟هل يتعلق الأمر بكينونة بيولوجية ترث بها في خلقتها الأولى مورثات دونيتها أمام الرجل، أم هي العوائد والأعراف الأبيسية التي فعلت فعلها فمنحته الامتياز الاجتماعي وهوت به في الوجود إلى قاع الدونية؟ ألا يؤدي التفسير الاقتصادي إلى تحليل أدق لوضع هذا الكائن وحدود إمكاناته في المجتمع، وبين المجتمعات؟
يمكن القول بأن القول الفلسفي الذي وشم تاريخ الفلسفة قد علق بالثقافة السائدة داخل كل مجتمع. هذه مفارقة وقع فيها المزدرين لقدر هذا الكائن في الوجود، وفي نسمة الحياة التي تمنحها للعلائق التي ينسجها بني البشر. فإذا كان موقف هؤلاء موقفا تنويريا في العديد من النقاط والقضايا التي أقاموا فيها الحفر بمنطق العقل البرهاني وآليات اشتغاله، وقلبوا فيها كثيرا من الأوضاع التي يغلفها ضباب سديمي، دون إمعان للفكر والنقد في مدى استيعابه لموطنات وجوده الذاتي ووجوده العلائقي الذي يضمه إلى الآخرين، فإن موقفهم من هذا الكائن ظل موقفا متخلفا، ولا يحتفي بحال بكرامة الإنسان التي نص كانط على أنها غاية تعلو على المصالح والمنافع الذاتية التي تجعل البعض أدوات في خدمة غايات الآخرين، مثلما يقع بالنسبة للرجل، حين يتخذ المرأة مجرد متعة، أو وسيلة لحفظ النسب من الإندثار.

انفاس" إن الديمقراطية هي أبعد المفاهيم السياسية عن الطبيعة وهي وحدها تسمو في المقصد على الأقل على شروط المجتمع المغلق، إنها تنسب للإنسان حقوقا لا يجوز انتهاكها ولكي تبقى هذه الحقوق مصانة توجب على الجميع أن يخلصوا لواجبهم إخلاصا لا يتبدل."[1]
ظلت الأنظمة التي تزعم الديمقراطية منذ بداية المجتمع الانساني  مجرد ديمقراطيات زائفة والإنسانية إلى اليوم مازلت  تبحث عن دولة ديمقراطية بالمعنى الحقيقي للكلمة تجمع بين النجاعة والعدالة وبين السيادة والمواطنة وبين السؤدد والمجد وكأن النظام الديمقراطي لا يناسب هؤلاء الخطائيين من بني البشر الذين يصعب علينا أن نتصور شعبا يظل مجتمعا دون انقطاع متفرغا في مناقشة الشؤون العمومية" [2]،وبالتالي فإن شعب من الآلهة هو فقط  بإمكانه أن يحكم نفسه بطريقة ديمقراطية".
لقد تبادر إلى الأذهان أن الديمقراطية هي حكم الشعب للشعب وأنها احترام المجتمع السياسي الذي يدبر الشأن العام للمجتمع المدني الذي يمثل الشأن الخاص وأنها ناشئة عن تشكل الإرادة العامة عن طريق تعاقد حر بين الأفراد وأن تأسيس الدولة هو أمر ممكن من جهة النظرية الفلسفية وجائز من جهة الممارسة سواء بجعل مدينة الأرض تحاكي مدينة السماء كما يفعل اللاهوتيون أو بإيجاد تناغم مع نظام الكوسموس عند الإغريق ومع الطبيعة البشرية عند فلاسفة الحداثة السياسية ومع نظام العقل وتجليه في التاريخ عند هيجل ولكن كل هذه الأدبيات هرمت بسرعة وبان بالكاشف أنها تعاني من العديد من النقائص وتحولت الدولة الى "أبرد مسخ من المسوخ الباردة تكذب بكل رصانة عندما تقول:"أنا الدولة أنا الشعب""[3] وأصبحت حسب باكونين " كلية مفترسة تعيش على قرابين بشرية و جهاز يضحي بالحرية الطبيعية وبمصالح كل واحد في سبيل مصالح جميع الناس"[4] وبالتالي فهي تحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة هيكلة وعرضها على غربال ديمقراطية المعرفة نفسها والشروع الجدي في البحث عن آلية ما بعد ديمقراطية تنهض بسياسة الحضارة وبتدبير فن الحياة على المعمورة.
ان الذي يجب تغييره هو مفهوم الدولة نفسه وكل العدة المفاهيمية التي تستوجبها فهي لم تعد الجسم السياسي والحقوقي الذي ينظم العلاقات بين الأفراد بل أصبحت الإدارة السياسية التي تعمل على كبح القوى اللاعقلانية المتصارعة في المجتمع وتتفهم دوافعها من أجل التمييز بين الأصدقاء والأعداء.

انفاسيعتبر سؤال "الحداثة" عند الأستاذ عبد الله العروي من ألغز الأسئلة، فهو من جهة سؤال يستوعب كُلَّ كُتُب سلسلة المفاهيم بحيث يقول العروي:"إن ما كتب إلى الآن يمثل فصولا من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة "(1) ويضيف "إن كل ما كتبه يندرج تحت مفهوم مهيمن على الكل هو بالطبع مفهوم الحداثة"(2) وهو ما يبين أن مفهوم "الحداثة" يستغرق كل مؤلفات العروي بأكملها، بل إنه يصرح أن "منطق الحداثة" هو الذي دفعه إلى الشروع في كتابة سلسلة المفاهيم(3) إلا أن "الحداثة"- في نظر عبد الله العروي- واقع تاريخي ومبادئ تتشكل فيما بينها لتنتج مفهوم الحداثة.
 أما من حيث هي واقع تاريخي، فيلخصها العروي- مع المؤرخين- في عدة مياسم يذكرها كالتالي:                   
ثورة إقتصادية.
إحياء للتراث القديم في الفلسفة والقانون.
إصلاح ديني ووجه للكنيسة، وإحتكارها التأويل المقدس.
ثورة سياسية موجهة ضد الفيودالية والكنيسة.
ثورة فكرية تعتمد على"العقل".
      من هذا التطور التاريخي الذي وقع في "الغرب" يستلهم عبد الله العروي سؤال "الحداثة"، ويجمله في المفاهيم التالية: "الفردانية"، "العقلانية"، " الحرية"، "الديمقراطية"، "العلمية"، أو "العلمانية"،  بمعنى "العلم الحديث"(4) ولقد سبق للأستاذ العروي أن لخص سؤال "الحداثة" – من حيث هي ثقافة الطبقة الوسطى الأوروبية –  في المفاهيم التالية: مفهوم "الطبيعة"، مفهوم "الفرد"، مفهوم "الحرية"، مفهوم "السعادة"، مفهوم "العقل"... وذلك في تعبير بديع، بحيث قال:" تنطلق (الحداثة)  من "الطبيعة"، معتمدة على "العقل" في صالح "الفرد" لتصل إلى "السعادة" عن طريق "الحرية"(5) وهو ما يبين موطن "الحداثة"، وليس العالم الشيوعي(6).

أنفاس" ليس من السهل فهم كيف تتمكن الإتيقا من التحكم في ميدان الفعل وهي ملزمة كلها بالخضوع لإكراه موقف الحياد التام تجاه ميدان الاعتقاد." [1]
ما سر الحاجة الإنسانية الدائمة إلى الاعتقاد؟ أليس اللاإعتقاد هو في حد ذاته إعتقادا؟ هل من الحكمة والعقل أن نتمسك باعتقادات لا نستطيع أن نجد لها تسويغات عقلية؟ هل تكون المعتقدات مقبولة لمجرد تكاثر عدد الذين يعتقدون فيها في المجتمع؟
إن النقاشات حول المقدس قد تصاعدت في ساحة الفكر المعاصر وتغلبت على عدة اهتمامات نظرية أخرى التي تطرح إشكاليات بمعزل عن التيولوجيا واللاهوت والكتب الدينية والغيبيات والروحانيات والمسلمات الميتافيزيقية. البعض من المفكرين الذين كانوا ينتسبون إلى التيار اللااعتقادي بادروا بطرح أنفسهم اليوم كمدافعين عن الدين تحت مسميات عديدة وفي سياقات مختلفة ويبررون ذلك بحاجة الإنسان في حياته إلى المقدس والتعالي وبأن اللحمة الاجتماعية والتماسك الأسري والتضامن الوطني ووحدة الانتماء إلى هوية لن يتحقق إلا بالرابطة الروحية الدينية.
لكن ما نلاحظه راهنا يتطابق بلا ريب مع "عودة للديني" أو ما سماه موزيل "الحنين إلى الاعتقاد" وما يمكن اعتباره "تضخم في التدين" أو "إفراط في الإيمان" فكيف لحقبة غطس فيها الناس في اللااعتقاد تنجرف انجرافا تاما لتبحث لاهثة عن قبس من الإيمان؟ هل أن الشيء إذا بلغ حده انقلب إلى ضده وأن الحرمان التام يولد الرغبة الجارفة في الإشباع الكامل وأن الكبت يولد الانفجار؟ أليس الديني هو هذا البعد الذي وقع كبته وظل طي الكتمان في غياهب اللاشعور الجمعي وهاهو ينفلت مجددا على سطح الشعور؟ ما دور السياسة في هذه العودة للاهتمام بالدين؟ ألا يحظى ذلك بتدعيم رسمي من الدول والحكومات والأنظمة السياسية قصد توظيفه في لعبة المصالح واستراتيجيات الهيمنة؟
هل يتعلق الأمر باستعادة تفهمية جديدة للديني وإعادة إحياء للتراث الروحاني أم أن ذلك ليس سوى توظيف عتيق وتقليدي للعامل الديني في المسرح الاجتماعي والسياسي؟