أنفاس إن دعاوي " نهاية المثقف "، في اطار ما يعرف بخطاب النهايات، لم تفعل سوى أن أكدت، ربما بقوة، على ضرورة الثقافة والمثقفين، ويكمن مصدر هذه الضرورة في ارتباط الثقافة بالهوية خاصة في الثقافات "المغلومة"   "والمهددة " مثلما نجد في العالم العربي والإسلامي. وتتأكد مشكلة الهوية، وبشكل جلي، على صعيد العودة إلى التراث الذي يعد "قضية القضايا"، ويشرح ادوار سعيد في كتابه "الثقافة والامبريالية "ان الثقافة "مصدر" من مصادر الهوية "، اضافة الى انها "مصدر صدامي " كذلك. وهو (أي ادوار سعي) يستخلص هذا المعنى " للثقافة " من حالات "الرجوع " الى الثقافة( ذاتها) والتراث(1).
ومن هنا فإن التراث لا يمثل حافزا من ناحية نسقه النظري الخالص أو مجاله التاريخي المحدود. هناك الفكر العربي،"إشكالاته المتعددة " و"ايديولوجيته المعاصرة " و" نزعاته المادية " و"ثابته ومتحوله " و"وثورته وعقيدته "... الخ، بكلام أخر: هناك الحاضر الذي يلون قراءة التراث أو المجال التراثي المشروط بمقتضياته التداولية الأساسية. الحاضر الذي يؤثر في علاقات القناص الموجبة التي تصل ما بين الماضي والحاضر، أو ما بين تاريخية القارئ وتاريخية المقروء. ثم إن هذا الحاضر. أو "تحدياته "، هو الذي يجعل العودة إلى التراث ذات "معنى ومعنى درامي" كما يقول محمد عابد الجابري أحد أبرز المشتغلين على التراث (2). وفي هذا المنظور فان ما أبدع رجالات التراث، دون أن نغفل ما تعرضوا له من قمع واضطهاد، هو ما عجزنا عن الإتيان بمثله في وقتنا الحاضر الذي اشتد فيه "استئسار الإبداع " و"تحقير العقل "، ومن هنا يمكن أن نفهم تضارب المواقف والنتائج على مستوى قراءة التراث، وعلى مستوى مكانته ذاتها ضمن لائحة القضايا التي تستأثر بالفكر العربي المعاصر. وفي جميع الحالات فإن الموقف الذي يدعو إلى "القطيعة " مع التراث بدعوى "التاريخانية " أحيانا والاندماج في العصر وحركته التقدمية أحيانا أخرى. يظل وعلى أهميته، "ضئيل " التأثير مقارنة بدعاوي العودة للتراث من أجل "تمثل " أفكاره التي نعتقد أنها "تجيب " على أسئلة الهوية / الحاضر. من الجلي إذن أن التراث ليس مشكلا نظريا أو معرفيا. وإنما هو مشكل معقد تتداخل فيه عوامل عديدة مما يجعل من القراءة فعلا تأويليا مركبا دون أن نغفل هنا مدى "التباس " هذا الفعل بالأطر الثقافية والتاريخية لدارسي التراث. بالإضافة الى المتغيرات العالمية التي تتخل بدورها في توجيه القراءة، قراءة التراث التي تعنينا هنا.

أنفاستمهيد:
 يعد ألتوسير L.Altusser من أهم النقاد والفلاسفة الذين عرفتهم فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين الى جانب ميشال فوكو M.Faukault وجاك دريدا J.Derida وجاك لاكان J.Lacan وقد عرف ألتوسير بمحاولاته النظرية المتميزة، الهادفة الى إخضاع الماركسية لنسق المقاربة البنيوية، ومن ثم تخليصها من طابعها الايديولوجي التعميمي.
والحقيقة أن ألتوسير لم يكن سباقا الى هذا النهج، فقد سبقه إلى ذلك مواطنه لوسيان سيباغ L.Sebag الذي تميزت مقارباته بالجذرية، مما أدى به الى طرده من الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1965، ومن جملة ما طرحه سيباغ اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، وإنكار مبدأ الحتمية في النظرية الماركسية، وعدم اعتبار العامل الاقتصادي أساس الحركة التاريخية، إضافة الى الاعتراف بدور الأنظمة الايديولوجية (الفكر، الدين، الثقافة،...) في حركة التاريخ(١).
أنجز ألتوسير كتابين هامين في سياق قراءته الجديدة لماركس، وهما «قراءة رأس المال» Lire le Capital و«من أجل ماركس» . Pour Marx ويرى عمر مهيبل ان ألتوسير نزع الى هذه القراءة بدافع سببين:
1 - شعوره بالنقص النظري للفلسفة الماركسية في فرنسا، بفعل انصراف الماركسيين الفرنسيين الى السياسة.
2 - الرد على النزعة الانسانية التي روج لها بعض الماركسيين الفرنسيين أمثال جارودي  R.Garaudy ، والتي رأى فيها ألتوسير إفقارا للماركسية، وتجاوزا لطابعها العلمي.(٢)
القراءة المنهجية لرأس المال:
يعد منهج ألتوسير من المناهج البنيوية المغرقة في الصرامة العلمية، لقد انتهى الى تقسيم مسار ماركس الفكري الى مرحلتين كبيرتين:
مرحلة الشباب التي كان فيها متأثرا بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ومرحلة الكهولة والنضج التي قطع فيها ماركس مع ماضيه الايديولوجي والمثالي، ليبلور مقاربة علمية، تبدو بصورة واضحة في كتابه «رأس المال».
من خلال هاتين المرحلتين، يبدو ماركس قد حقق قطيعة ابستيمولوجية ونقلة معرفية من الممارسة الايديولوجية الانسانية الى الممارسة العلمية والنظرية، ومن التأثير الهيغلي- الفيورباخي الى الوعي الأصيل بضرورة قراءة الأشياء قراءة نسقية، تكشف عن بنيتها الخفية ونظامها الهيكلي، بدل الاكتفاء بالتأمل الفلسفي.

أنفاس لم يخلف الفيلسوف الالماني مارتن هايدجر مبحثا في علم السياسة. غير انه بسبب السياسة نفسها أمسى موضوع جدل لم ينقطع منذ ما يربو على نصف قرن. فهايدجر، وكما لا يخفر، كان نازيا، بل وعلى ولاء النازية لم يتورع بسببه عن الوشاية بزملاء له في الحقل الاكاديمي، وانكار فضل آخرين رعوه في مطلع حياته الفكرية واسبغوا عليه من الاهتمام ما يحتاجه كل ذي موهبة. ولم يكن انكار الهؤلاء او وشايته بأولئك الا لكونهم يهودا او لانهم لم يظهروا من الولاء "للامة الالمانية " ما لم يتوان هو عن  اظهاره.
واذ تسوغ هذا المفارقة امرا فإنها تسوغ النظر الى المسافة الفاصلة ما بين إعراض الفيلسوف عن الكتابة في علم السياسة على غرار ما ذهب اليه عدد كبير من الفلاسفة وما بين انضوائه عضوا في الحزب النازي، كمبعث جملة من الشكوك والتساؤلات لم تبرح تظهر كلما أشير إليه من قريب او بعيد: امن الاحق الربط ام الفصل ما بين الموقف السياسي لهايدجر وما بين فلسفته؟ فهل كان للسياسة موقع في فلسفته؟ وما طبيعتها وعلى اي وجه تكون وما اثرها العام على مشروعه الفلسفي، وهو، على ما يزعم، صاحب مشروع فلسفي راديكالى؟ ولم أعرض الفيلسوف عن وضع مؤلف في السياسة طالما انه لم يتوان عن الالتزام بحزب ساسي؟
سؤال الكون
والحق فإن الفيلسوف الالماني الكبير لم يستنكف من الكتابة في السياسة او في اي من حقول المعرفة الاخرى كتابة مستقلة الا لان في ذلك استباقا للسؤال الاساسي الذي شاء العودة اليه من جديد، أي سؤال معنى الكون، او ما ه معنى ان تكون؟
ولقد رأي هايدجر ان ثمة مفهوما لكون كافة الكائنات يكمن في مجمل ادراكنا للواقع. صير الى نسيانه عن قبل الفلسفة الغربية منذ افلاطون وارسطو والانشغال عنه بما ينشق عنه من اسئلة اخرى.وكان ارسطو قد ميز ما بين معان كثيرة للكون كثرة الكينونات المتوافرة بما اشارع الظن بأن الكون هو ان تكون هيوليا فضلآ على المقولات التسع الاخرى. التي ارسي الفيلسوف اليوناني القديم اسسها، والصفات الملازمة للهيولى. وعلى منوال ارسطو سارت الفلسفة الغربية متناسية البحث عن معنى موحد لكون سائر الكائنات.
وبخلاف الفلسفة الانطولوجية التقليدية التي سلمت بداهة بأن ما يعين او يعرف كون الشيء، او كيانه. هو جوهره الموضوع الثابت، رأى هايدجر ان ثمة تداخلأ ما بين الذات المفكرة والواقع. الموضوعي بما خلص به الى القول ان نظرنا هو الذي يعزو الدلالة الى الموضوع، ولكن شريطة ان يكون الموضوع قابلأ لحمل هذه الدلالة. فعلى هدى فلسفة علم الظهور (الفينومينولوجيا) التي امتاز بها استاذه ادموند هوسيرل.

أنفاس ترى حنا أراندت أن العنف, كمفهوم وكظاهرة, لم يجلب اهتمام الفلسفة السياسية بصفة رئيسية حيث إنها لم تسع إلى استجلاء معانيه ودلالاته, بل ما كان يهمها هو مدى تأثير العنف على الإنسان والمجتمع, وكيف يمكن احتواؤه أو توظيفه. على أن هذا التساؤل الذي طرحته على نفسها واصطدمت به وأرق مضجعها هو الآتي: كيف يمكن تفسير العنف لما يصل إلى أقصاه, إلى حدود غير متوقعة, ويتحول إلى ما أسمته بالشر الراديكالي أو الشر المحض (Le mal radical)؟
إن الفلسفة السياسية, حسب ليوستروس, تهدف إلى الإمساك "بالأشياء السياسية"(1) وإلى فهم معانيها, بحثا عن ماهيتها وحقيقتها, وهي كذلك تفكير وتأمل في القيم الإنسانية, وهي قيم سياسية وأخلاقية, كالمساواة والعدالة والحرية والوحدة الخ…(2) وبالتالي تتمحور الفلسفة السياسية حول الغايات المتوخاة من السلطة بصفتها الأداة الضرورية لتحقيق القيم(3). فما هي مكونات هذه السلطة وما هي طبيعتها؟ إن تحديد هذا التساؤل يبدو ضروريا منذ الوهلة الأولى حيث أن القيم السياسية والأخلاقية, تبقى رهينة بطبيعة السلطة التي يتعين عليها ترجمتها على مستوى الواقع. ولما نحاول معاينة السلطة والإحاطة بها انطلاقا من التاريخ ومساره نصطدم، بصفة تكاد تكون حتمية، بظاهرة العنف.
ذلك أن العنف يبدو كأنه يحوم حول السلطة بل مرتبط بها، ولعله كان كامنا فيها. ونراه يهدد وجودها واستمراريتها في ذات الوقت. وهنا تتمثل المفارقة الأولى!
وإذا أخذنا بالفكرة القائلة بأن العنف يمثل إحدى مكونات السلطة وهو لصيق بها, فكل القيم الأخلاقية والسياسية تبقى مرتبطة بشكل أو بآخر بالعنف. فبناء "المدينة الفاضلة" بمعنى آخر, يوجب نظريا اللجوء إلى العنف ما دام العنف محايثا للسلطة, أيا كانت هذه السلطة. العنف إذن من أجل الحكمة والفضيلة! وهنا تكمن المفارقة الثانية!
هذا المأزق النظري يدعونا إلى التساؤل عن حقيقة العنف. هل هو بالفعل ملازم للسلطة، لصيق بالعمل السياسي ومرتبط بكل اجتماع بشري؟ كما ذهب إلى ذلك عدد كبير من المفكرين المحدثين كماكس فيبر وكارل سميت وجوليان فروند وغيرهم… أم هو ظاهرة تاريخية, متغيرة وعارضة مرتبطة بطبيعة السلطة وبأهدافها وببنية التركيب الاجتماعي؟
تبعا لما سبق سنقوم بتقسيم هذه الدراسة إلى شقين:
القسم الأول يحمل العنوان الآتي: التعارض الأنطولوجي بين العنف والسياسة.
أما القسم الثاني فيحمل العنوان الآتي: التلازم العضوي بين العنف والسياسة.

أنفاسما الذي يمكن أن نكتشفه بعد الآن عن هيجل ؟ ألم تكتب عنه مئات بل آلاف الكتب في مختلف اللغات ؟ وهل بقي شيء لكي يقال،أم "هل غادر الشعراء من متردم "، كما يقول شاعرنا الجاهلي ؟ ومع ذلك فهذا هو التحدي الذي يطرحه على نفسه الباحث الفرنسي جاك دوندت أحد كبار المختصين في الدراسات الهيجلية، فقد نشر سيرة ذاتية كاملة عن الفيلسوف الألماني الكبير. وزعم بأنه أتى فيها بأشياء جديدة لم تكن معروفة من قبل، وكل ذلك بفضل الوثائق والارشيفات التي اكتشفت مؤخرا عن هيجل وفترته. وقد عدل من الصورة الشائعة عن هيجل، وخصوصا تلك التي تقول بأنه كان ثوريا في شبابه ثم أصبح محافظا في كهولته ونضجه، فهو يبرهن على أن هيجل بقي وفيا لمبادئه الليبرالية الأولى التي اعتنقها في مرحلة الشباب، ولم يصبح منظرا للدولة البروسية الاستبدادية أو الرجعية كما يزعم خصومة مهما يكن من أمر فإن كتاب البروفيسور جاك دوندت يستحق الاهتمام على أكثر من صعيد. فقد أمضى عمره المديد في دراسة هيجل وفلسفته. وأصدر عنه على مدار الثلاثين عاما الفائتة مجموعة كتب متواصلة أصبحت مراجع مهمة في المكتبة الفرنسية. نذكر من بينها: هيجل في زمنه (1968)، من هيجل الى ماركس (1972)، هيجل والفلسفة الهيجلية (1982)، هيجل السري (1985)، هيجل، فيلسوف التاريخ الحي  (1987).. هذا يعني أن شهادة شخص مثل جاك دوندت تستحق كل اهتمام. يفتتح المؤلف كتابه بمقطع من شعر هولدرلين، صديق هيجل الحميم، قبل أن يغطس في بحر الجنون يقول هذا المقطع:"أحس في داخلي بحياة لم تخلق من قبل أي إله،حياة لم تولد من قبل أي انسان. أعتقد أننا نوجد بأنفسنا وأننا لسنا مرتبطين بالكل ( او بالاله) الا عن طريق رغبة حرة...»(1)
سوف نرى فيما بعد نوعية العلاقة بين هولدرلين وهيجل، وكيف أنهما ناضلا كل على طريقته، من أجل المثالية والحرية في، كل ما نعرفه عن طفولة هيجل هو أنه ولد في مدينة شتوتجارت عام 1770م في عائلة متواضعة من الناحية المادية. وقد أصيب بعدة فواجع في طفولته، ففقد أمه التي كان يحبها كثيرا في الحادية عشر ة. وقتل أخوه في الحرب، وجنت أخته التي كان متعلقا بها أيضا كثيرا. تضاف الى ذلك مأساة طفله غير الشرعي الذي سبب له متاعب عديدة طيلة حياته كلها. وبالنسبة للفيلسوف المقبل، فقد تضافرت الصدفة والضرورة لكي تصنعا منه أكبر فيلسوف في ألمانيا، وربما في العصور الحديثة كلها، فقد بلغ سن النضج (أي 18 سنة) عندما بلغت فرنسا نضجها السياسى بأندلاع ثورتها الكبرى عام 1789. وكان مساره  الفلسفي متساوقا مه مسار هولدرلين الشعري، أو مع مسار بيتهوفن الموسيقي، ومع مسار نابليون السياسي... فلم يكن نابليون فاتحا في مجال الحرب والسياسة بأكثر مما كان هيجل فاتحا في مجال الفكر والفلسفة. ويبدو أن التعاليم الأول لم تؤثر عليه كثيرا من الناحية الفكرية.

أنفاسإن أي دراسة للحضارة الغربية لا تأخذ الأبعاد الفكرية والفلسفية التي بُنيت عليها ستكون حتما دراسة قاصرة، وغير ناجعة، لفهم ما آلت إليه هذه الحضارة من تيه وضياع، ومن بين مظاهر هذه الحضارة الآن التطور التكنولوجي المذهل الذي يسابق الزمن، وحصر مفهوم التقدم في الأشياء المادية دون الأخذ بالاعتبار الأبعاد الربانية والإنسانية للإنسان، وكان الأولى أن يكون هذا التطور والتقدم نعمة على الإنسان، وفي خدمته، إلا أن النقمة لاحقت الإنسان، وجعلته يتحسر على الزمن الماضي.. زمن البساطة والسهولة.
الحياة في هذا الزمن ( الصعب ) تسير إلى العدم، والكون يتجه إلى الانتحار، وهذا كله نتاج العقل الإنساني العبثي، الذي طلق الوحي الإلهي، وآمن بالعقل، وكل ما يتوصل إليه في حل المشكلات التي تواجه الإنسان في حياته، وجعل أولى أولوياته الربح المادي.. هذا العقل العبثي الذي أعلن موت الإله، هو نفسه الذي قرأ تراتيل النهاية على الإنسان.
موت الإله: المتتبع لتاريخ الفكر الغربي يجده قد مر بالعديد من المراحل، ولعل أبرزها الصراع الكبير بين العقل والدين/ الكنيسة، هذا الصراع لا يرجع إلى اعوجاج في آليات التفكير العقلي فحسب، بل إلى التناقض الفادح بين المبادئ التي تؤمن بها الكنيسة، وتدعو لها، وتطبيقاتها على أرض الواقع.
فتصرفات رجال الكنيسة، وتضييقهم الخناق على العقل، والفكر الحر، وتواطؤهم مع ذوي السلطة والمال، على حساب الطبقات الكادحة، هي التي ولدت الكراهية والامتعاض ضد الدين وتعاليمه، مما أدى بالكثير من الفلاسفة والمفكرين أن يتبنوا أفكارا مناهضة للدين، وقراءات مناقضة للوحي الإلهي، هذه الأفكار والقراءات كانت بمثابة إعلان عن انتصار الإنسان على الإله، وانتصار العقل على الدين، وطلاق الأرض من سلطة السماء..
"فالله قد مات" كما أعلن نيتشه، و"الدين أفيون الشعوب" كما قال ماركس، لهذا لابد للعقل أن يأخذ زمام المبادرة، دون الحاجة إلى تعاليم السماء، حتى ولو أدى ذلك إلى عقد ميثاق مع الشيطان، والتعاون معه من أجل اكتساب العلم والمعرفة كما فعل " فاوست ".
مفهوم موت الإله: لقد أعلن فيلسوف العدمية الشهير فريدريك نيتشه " موت الإله " في كتابه " هكذا تكلم زرداشت " بصرخته المرعبة " يا قوم، لقد ماتت القيم، لقد مات الدين المسيحي في أوروبا، ومات الإله " علما أن الإله الذي يهاجمه نيتشه، ويعلن موته هو غير إلهنا الذي نعبده، وندعوه، ونوقره، وعالم نيتشه الروحي غير عالمنا الروحي الذي نحياه ونعيشه.
والسؤال المطروح لماذا أعلن نيتشه موت الإله؟.

أنفاسالمسلمون يقولون بالتوحيد بل إن عنوان دين الإسلام هو لا اله إلا الله ولكن الفلاسفة وعلماء الكلام فلسفوا هذا التوحيد وبحثوه بحثا كلاميا وعمقوه تعميقا جدليا وأضفوا عليه صيغا منطقية ومصطلحات فلسفية وعدد الذين شكوا في وجود الله ووصلوا إلى مرتبة الإلحاد والزندقة يعدون على الأصابع، فمعظمهم ينطلق من أن الله صانع العالم ومبدع الكون ويقيم أنساقا معرفية ومناهج فلسفية كلها تبرهن وتثبت وجود الله لكن إن اتفق المسلمون أن الله تعالى واحد اختلفوا في علاقة ذاته بصفاته وعدد أسمائه الحسنى و قالوا أن كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تنسب إلى الله العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام فهل هذه الصفات هي أسماء زائدة أم عين الذات؟ بعبارة أخرى هل الأسماء مجرد صفات أم عين للذات الإلهية؟ ثم ما الفرق بين التصور الاعتزالي والتصور الأشعري للذات الإلهية؟ ألم يقع التصور الكلامي برمته في خطأ منهجي هو قياس الغائب الإلهي على الشاهد الإنساني؟
1-   الله عند المعتزلة:
يقصد المعتزلة بعلم التوحيد العلم بأن الله تعالى واحد لا شريك غيره فيما يستحق من الصفات نفيا وإثباتا على الحد الذي يستحقه والإقرار به وهذا الحد الذي يستحقه هو عندهم التنزيه المطلق للذات الإلهية ونفي المثلية عنها بأي وجه من الوجوه وفي إطار هذا التنزيه المطلق نشأت عندهم مباحث متعددة كمبحث الذات والصفات. إن معرفة الذات الإلهية عند المعتزلة واجبة لما تؤدي إليه من الالتزام بحدود الشريعة الذي هو غاية وهدف الدين الإسلامي ولأن المفهوم الاعتزالي للإيمان والذي أساسه العمل يستوجب معرفة الحقيقة الإلهية والاقتناع بها مما يدفع إلى كمال العقل والتشبث بالطاعات العملية ولذلك فان شيوخ الاعتزال وجهوا جهودهم إلى تركيز حقيقة التوحيد في النفوس واستعملوا في ذلك مختلف الأساليب والمعطيات الفلسفية والطبيعية هادفين إلى أن يصل التصديق بهذه الحقيقة إلى مرتبة الدفع إلى العمل وأجمعوا على أن الله واحد ليس كمثله شيء وأنه ليس بجسم طبيعي أو حيواني وأن ذاته ليست مؤلفة من جوهر ذي أعراض تدركها الحواس وأنه منزه عن عوارض المادة وخواصها وأنه بسيط يستحيل عليه التجزؤ ولا يحيط به المكان ولا يجري عليه الزمان ولا تحدده الحدود والنهايات ولا تحيط به الكميات، انه تام الكمال بحيث لا يتصور له شبيها ووجوده أزلي لا شاركه في الأزل أحد،فالله واحد لا شريك له من أي جهة كانت ولا كثرة في ذاته البتة وهو خالق الجسم وليس بجسم ولا في جسم ومحدث الأشياء وليس بمحدث منزه عن كل صفات الحدوث.
 


أنفاس "ثمة شيء في الحاضر على غير ما يرام وهذا ليس كما يجب أن يكون"
                                                  جاك دريدا   أطياف ماركس

بقي العالم العربي الإسلامي إلى حد الآن عالما تحكمه رؤية قروسطية متخلفة تتخللها نظرة ماورائية سحرية أسطورية إلى الوجود ومازال المرء ينتمي إلى ما قبل الأزمنة الحديثة يعيش وفق المعايير القديمة ويتصرف بطريقة لا تبعد كثيرا عن ردود أفعال السوائم، كما ظل الفكر جالسا على افتراضات صورية مستخدما حيل لغوية عقيمة وخائضا في مهاترات سفسطائية ونقاشات بيزنطية تحاصره الغيبيات من كل جهة وتهزه المغالطات من الداخل وتسيطر عليه النزعات الدغمائية والكليانية.الفلسفة نفسها التي دشنها الكندي وهذبها الفارابي وابن سينا وطورها ابن رشد وابن خلدون تبدو اليوم بائسة مهجرة إلى غير ديارها غريبة عن أهلها وهذا لا يعود إلى الموقع الذي تحتله بل إلى الوظيفة التي حادت عنها وكذلك يرجع إلى الدور الذي يؤديه السفسطائيون الجدد والمجادلون المتزلفون،فهم إن وجودوا يعيشون في حالة استقالة تامة وغياب فضيعة يجهلون ما يدور خارج قصورهم المعرفية ومفاهيمهم المجردة من استعباد للإنسان واستغلال للطبيعة وتهديد للبيئة ولقيمة الحياة على الأرض ولا يكترثون بصعوبة الحياة اليومية واستفحال الأمراض والبطالة والأمية وسطوة الدعاية والإشهار على العقل والذوق وتنامي مشاعر القلق والضياع،إنهم لم يخرجوا من نظامهم الشمسي ولم يتنحوا عن برجهم العاجي ولم يعزفوا عن وظائف التبرير والتسويغ ليكونوا مرآة عاكسة لمشاكل عصرهم شاهدين عليه وشهداء من أجل إنارة حقيقته.
عندئذ هناك تباعد فظيع بين ما يعلنه الفكر العربي اليوم من وصفات وما يعد به من مشاريع وبين ما يحدث في الواقع المعاش ويصير على الناس من نوائب الدهر وفواجع الزمان وما تظهر من تحديات. إن الثقافة برمتها وليس فقط الفكر متخاذلة ومهزومة والحضارة العالمية بأسرها مخترقة وملوثة بجرعات مسمومة فهجرة الأدمغة إلى الخارج وتخلف البحث العلمي وقلة استثمار الدول العربية في هذا المجال في مقابل الاعتمادات الكبيرة لقطاع الرياضة والفن والسياحة وتناقص عدد العلماء العرب الموسمين والحائزين على شهائد تقدير عالمية فكيف نفسر الغياب الكبير للعلماء العرب والمسلمين عن جوائز عالمية مثل جائزة نوبل؟
 ربما سبب هذا الغياب هو العامل الخارجي وتنامي النزعة العنصرية والتمييز والتمركز على الذات التي تعاني منها الثقافة الغربية ولكن التطرق إلى العامل الداخلي مهم في تفسير هذا العجز ذلك أن التجديد صار عند العرب عبورا نحو الوقوع بين براثن التقليد والإصلاح أصبح مطية من أجل التخريب والتفويت ولفظة الثورة اكتفت أن تكون مؤنث ثور هائج ولم تحمل إلينا سوى الانقلابات العسكرية والمشانق والتصفيات ولم تكن مطية نحو بناء المشروع الحضاري المنتظر أو نقطة الوصل مع المستقبل والآخر العالمي.

أنفاس قراءة في المقالة السابعة من "الطبيعة"
ومن مفارقات الزمان، أنه بعد مرور أزيد من عشرين قرنا على موت أرسطو، وهي القرون التي كان فيها للفكر الأرسطي الحضور الأكبر من أي حضور آخر ستظهر في أوروبا نهضة علمية نبعت من جوف الأرسطية وضدها في آن واحد ومستلهمة أفلاطون حسب ادعائها. والمسألة ما زال فيها نظر.
مقدمة:
ذكر روبير واردي R.Wardy في كتاب مشترك تناولت مقالاته، ذكر كيف رأى بعض الباحثين في تاريخ الفكر العلمي الفصل الخامس من المقالة السابعة من كتاب الطبيعة هذا، رأوا فيه عامل الهام لأعمال أرخميدس (+212 ق.م) الميكانيكية، بينما ذهب آخرون إلى أن هذا النص قد أثر حتى في أعمال كل من ليوناردو دافنتشي (+1519) وجاليلي (+1642)(1) هذا دون أن نشير إلى أن هناك من اعتبر أرسطو سواء من خلال هذا الفصل أو الفصل الثامن من المقالة الرابعة من كتاب الطبيعة أو من خلال كتاب "الميكانيكا" المنسوب إليه، اعتبروه رائد الفيزياء النظرية المعتمدة على الصياغة الكمية الرياضية، أو على الأقل أحد الأوائل الذين زرعوا البذور الأولى لهذه الصياغة.
ولقد اندفع بعض مؤيدي هذا الرأي إلى تحرير مقالات وكتب مدافعين عن موقفهم هذا ومحاولين إيجاد أصول لبعض المفاهيم والتصورات والنتائج العلمية الحديثة والمعاصرة في متن أرسطو.
وفي مقابل هؤلاء، تبنى آخرون رأيا مخالفا إذ اعتبروا أرسطو فيلسوفا تأمليا وميتافيزيقيا، وأن فيزياءه ظلت حبيسة تصوره الميتافيزيقي، وأن ما ينسب إليه من أعمال "علمية" لا تعدو أن تكون منحولة ومنسوبة إليه، أو أنها فلتات لسانية أو تعابير فلسفية فضفاضة أسيء تأويلها بعد أن تم اجتثاثها من سياقها النظري. وأكثر من هذا فإن ما يدعى بفيزياء أرسطو ليست سوى تعبير متماسك عن الحس المشترك. ومن أبرز هؤلاء برتراند راسل، كويري، إرنست ماخ وباشلار.
أما في العالم العربي، فقد نشأ، كما هو معروف، تقليد مشائي شرح مؤلفات أرسطو، وبخاصة كتاب "الطبيعة" وحاول ممثلو هذا التقليد تأسيس فيزياء انطلاقا من هذا المؤلف ونخص بالذكر ابن سينا وابن باجة وابن رشد، في الوقت الذي كان قد تأسس تقليد آخر متميز عن المشائين وإن أخذ ببعض العناصر الأرسطية (كالمبدأ الدينامي) ولكنه تقليد يرتبط أكثر بأوقليدس وأرشيمدس وهيرون، ومن أبرز ممثليه ابن قرة والخازني وابن الهيثم.
لقد تعمدت إيراد هذه المعلومات من أجل إبراز الأهمية الكبرى التي منحت للمقالة السابعة من كتاب الطبيعة لأرسطو وبخاصة الفصل الخامس منها في تاريخ الفكر الفيزيائي.

أنفاس بقدر ما يبدو صعبا رصد المسار الفلسفي-السياسي لمفكر من طينة "كورنيليوس كاستورياديس"، المتشعب والمتوغل في ذاكرة قرن فائر بالثورات والاضطرابات العظيمة التي لا يزال وعينا الراهن مشدودا بقوة لنتائجها، بقدر ما أن أصالته وحيويته الفكرية التي تواصلت على مدى نصف قرن تسمح برسم صورة واضحة لذلك المفكر المقاتل، المتعدد/ المتوحد في جبهاته الثلاث: الفلسفة، السياسة والتحليل النفسي. صورة نستعيد من خلالها ملامح مقاتل مقدام، خاض حروبا كثيرة بشجاعة نادرة وكفاحية عالية، إنما أيضا بحكمة بليغة وعميقة تنتصر للحقيقة في وضوح الفكر، ورهان الفعل من موقع سياسي مكشوف: لم توجد الفلسفة لتحايد ولا أن تسلم الأسلحة، لا في زمن الحرب ولا في زمن التسوية.
لنتذكر زمن "الاشتراكية أو البربرية"، "لبير  Liber"، ماي 68 الفجوة!، ثم أخيرا "ملتقيات المتاهة"؛ مدونة نصوص المقاومة، حيث تتداخل الجبهات الثلاث في فكر مرصع بروح الاختلاف الذي لا يفسد للمقاتل قضية. إنما لا ننسى كذلك "المؤسسة الخيالية للمجتمع"، العمل الأساسي للفيلسوف المفكر والمحلل، حيث ثمة "فلسفة مرصعة بروح كلاسيكية ومهيكلة بشكل قوي".
إن ما يؤشر على أصالة إسهام "كاستورياديس" في تاريخ الفلسفة المعاصرة هو بلا شك ذلك التداخل والتكامل الذي طبع تفكيره ونشاطه في حقول لا تخفى أهميتها ورهاناتها الاستراتيجية في الفكر والحياة المعاصرين: حقول المقاومة/النضال من أجل نيل الاستقلالية؛ كرهان للفكر والسياسة، وأفق لفردانية ديمقراطية ممكنة تؤسس لمواطنة جماعية، إيجابية، فاعلة، متدخلة ويقظة، هي ما يليق بالحياة الديمقراطية. لم يكافح كاستورياديس من أجل تعميم الوعي بهذه الاستقلالية فحسب، بل إنه تمثلها فكرا وسلوكا، من حيث هي إبداع خيالي متميز يفترض على مستوى البعد الاجتماعي-التاريخي للاستقلالية، القدرة على المساءلة (التفكير) اللامحدود للمبادئ. ولذلك فإن اختيار التفكير والعمل على الجبهات الثلاث: الفلسفة، السياسية، والتحليل النفسي، لم يكن سوى لأن الأدوات التي تمنحها إياها هذه الحقول المعرفية، هي ما يتكفل بتعميق مشروع الاستقلالية ذاك، لأجل دفعه نحو تحقق أقصى في المجال العمومي..
الراديكالية السياسية:
كان كاستورياديس في السنوات الأخيرة من حياته يحرص كثيرا على تأكيد حاجة الفكر إلى نوع من الراديكالية كسبيل لإحراز خيال الاستقلالية التي بدونها لا يكون لتدخل المفكر/المثقف في المجال العمومي من جدوى وفاعلية، بل إنه بدونها ليس ثمة فكر. ولذلك سعى فيلسوفنا في البحث عن راديكالية تكون كذلك بالنسبة للفكر، إنما كذلك للسياسة كبديل لما رآه مخرجا ممكنا من بؤس الخيارين الذي حملتهما التجربة الغربية في تاريخها، والتي تواصل اليوم الليبرالية الجديدة التنظير/التأسيس لهما بسخافة لا نظير لها: الليبرالية أو البربرية.
ا

أنفاس تقديم:
عندما كان نيتشه يتحدث عن التراجيديا اليونانية، فإنه لم يكن يتحدث عنها بلغة أرسطية واصفة ولا بلغة تاريخية بارطية (نسبة إلى بارط R.Barthes) بل كان يتحدث عنها، بلغة فنان عاشق حتى الموت.
لقد كان نيتشه يداعب التراجيديا اليونانية، كما يداعب امرأة حسناء وبدلال طفولي. كان يغازل ماهيتها بعشق وشغف، ويلامس "جسدها" في انتشار صوفي… لكن، فجأة ما يكشر نيتشه كنسر جارح فيهاجم "طريدته" /الروح العلمية ويحاصرها من كل الجوانب فيهوي بمطرقته على العقل والحكمة ويعبث بالتفاؤل ويحاصره، فيتعالى على المألوف والاستكانة.
إن التراجيديا عند نيتشه، بؤرة الحياة الأبدية وانفتاح لا نهائي نحو الآفاق المجهولة. إن التراجيديا مقاومة للموت، وممارسة للذة في الألم. التراجيديا معانقة للمتعالي.
فعندما نقرأ نيتشه في كتابه "ميلاد التراجيديا" نكون أمام ازدواجية في اللغة مقرونة بازدواجية في الرؤية نفسها. بمعنى أن نيتشه عندما يتحدث عن التراجيديا اليونانية وعن العصر الهلييني، نلمس في لغته همسا شاعريا ونبرة شفافة، فتسري رعشات الانتعاش واللذة في جسد اللغة، ولكن مقابل ذلك حينما ينبري نحو سقراط وأفلاطون أو أوريبيد… نحس بالكلمة تتجهم، وبالعبارة تقسو.
والحق أننا لا نريد الخوض في هذا المجال -أي مجال لغة نيتشه- لأننا لسنا مؤهلين لذلك البتة، بالرغم من أننا سجلنا هذا الانطباع. فكل ما نهدف إليه -واستلهاما لهذا الانطباع- هو محاولة لجمع أشلاء ومكونات التراجيديا عند نيتشه، من خلال كتابه "ميلاد التراجيديا". وهذه الغاية لن تتأتى لنا إلا بهدي من ازدواجية رؤية نيتشه نفسه للتراجيديا عبر ما أسماه: الروح العلمية والروح الديونيزوسية.
وفي إطار هذه الثنائية الكبرى وما تتضمنه من ثنائيات فرعية سنعمل على تشييد وتكوين "مفهوم التراجيديا عند نيتشه".
1 - التراجيديا والروح العلمية:
أ - التراجيديا بين الاحتضار والموت:
يقول نيتشه معرفا الروح العلمية ما يلي:" أفهم أن الروح العلمية اعتقاد ظهر أيام سقراط، وأنه معرفة الطبيعة وحقائقها. كما أن المعرفة تملك في ذاتها فضيلة الخلاص الكوني"(1).
من خلال هذا الكلام يمكن أن نستخلص بعض مقومات الروح العلمية، والمتمثلة في: المعرفة، الحقيقة، الفضيلة، ثم سقراط ذاته. ويعتبر هذا الأخير في نظر نيتشه الممثل الفعلي لهذه الروح العلمية وذلك نظرا لمطابقتها لمبادئ سقراط الثلاثة التالية:
"الفضيلة معرفة، لا نذنب إلا عن جهل، الإنسان الفاضل سعيد(2)".