أنفاسلعل ما حققته علوم الطبيعة من نجاحات باهرة سيما في مجالي الفيزياء والكيمياء كان مدعاة للتراجع الحاصل في مضمار الفلسفة بعد ان كانت هذه الاخيرة امأً للعلوم والمحدد لها في النظام العام للفكر الانساني .. لكن ـ منذ القرن التاسع عشر ـ طفقت تلك العلوم تنفصل عن امّها حتى قال اغيست كونت : (( آن الاوان لنحد من غرور الفلسفة )) ، وحجم عملها واناط بها فقط مسؤولية تنظيم العلوم وتنسيق نتائجها .. غير ان تلك المهمة ما برحت تنحسر بعد ان استبدل (( الانجلوسكسونيون )) الفلسفة بالمنطق واطمانوا الى تقليده تلك المهمة.
 يمكن القول ان استقلال العلوم عن الفلسفة نجم عن اعتماد هاتيك العلوم على الرياضيات التي لا تحتاج الى علل ما ورائية لكي تكون يقينية .. بخلاف ما كان ما يظنه (( ارسطو )) من (( ان حقيقة الموجودات تكمن في عللها القصوى )) .
       من هنا ميز (( كانت )) بين الاحكام الرياضية والاحكام الماورائية واسبغ المشروعية على الاولى فيما وصم الثانية بالسببية في تكوين في تكوين اوهام العقل ، وبقول آخر فان العلوم تهتم بالكيفية التي تجري بها الاحداث لا باسبابها وعللها القصوى التي هي مركزالبحث الفلسفي المبني دائما على السؤال : لماذا ؟ .
       كانت الابستمولوجيا في الماضي تعرف بكونها خطابا فلسفيا حول العلم أي مجرد كلام حول اصول العلم ونتائجه ، فيما صار معناها بعد انفصال العلوم عن الفلسفة الى خطاب علمي حول العلم او دراسة علمية للعلم او تسمى (( علم العلوم )) .
       فيما خلصت النظرة العلمية الجديدة الى اسباغ معنى اكثر جدوى على الابستمولوجيا عندما وسمتها بانها بحث نقدي في مبادىء العلوم واصولها واهدافها وعلاقتها بالانسان والمجتمع والطبيعة .. لكننا يجب ان نستدرك فيما اذا عتبرنا الابستمولوجيا ـ كنظرية منطقية تضبط اسس وقواعد علم ما ـ هي ذاتها علم ، لانها والحال هذه تحتاج بدورها الى نظرية اخرى تضبط اسسها وقواعدها وهكذا دواليك .. الامر الذي يمنعنا من دراسة العلوم بذات رموزها وقواعدها لان محاولاتنا هذه تضطرنا الى تجاوز اسس ذلك العلم للاحاطة بالظروف والمشكلات الناجمة عنه .

أنفاس"ينظر الفلاسفة إلى الأهواء التي تختلج في صدورنا على أنها رذائل نقع فيها بمحض إرادتنا ولذلك فقد تعودوا مقابلتها بالسخرية والعتاب واللوم بل وباللعن أيضا حتى يظهروا بمظهر الطهارة والعفة... وفعلا فإنهم لا ينظرون إلى البشر على حقيقتهم وإنما على نحو ما يرغبون."[1]
ربما لاحت صورة الفيلسوف زمن العولمة مفارقة لما كانت عليه في الماضي القريب والبعيد على السواء، فهو لم يعد ذلك النسقي الذي يتدرج من منزلة إلى أخرى ولا ذلك المفكر الذي يتبع منهجا ويقود فكره بنظام، انه خارج مقولتي النسق والمنهج وقريب من تجربتي الحرية والترحال على طول مسطح المحايثة برا وبحرا وجوا، انه يعشق المبادأة ويتبع أسلوب الشذرة ويفضل الركض خلف السلحفاة تماما مثل أخيل الذي لا يلتحق أبدا، كما أنه لم يبق ذلك المربي الذي يملئ الدنيا ويقعدها وعظا ونصحا وإرشادا ولا رجل العلم الزاهد في استنباط القانون والمختص في إنقاذ الظواهر ولا ذلك الفنان عاشق الطبيعة والحريص على إظهار مسحة من الجمال في جميع آثاره ولا ذلك الناسك المتصوف الغارق في تأملاته والمبحر في موج اعترافاه بل أصبح هذا الطبيب السياسي المنقب عن العلل والمفتش عن الأمراض والشاعر الذي ينهمك في قص الوضعيات الحدية التي يعاني منها النوع الآدمي.
ربما يوجد هذا السارد المتفجع بالقرب من المدينة ويجعل من فكره شكلا من التجذر والالتزام بقضايا عصره، انه يفكر أكثر من كونه سيد تفكيره أو سيد التفكير بالنسبة للأجيال المتعاقبة وينزل إلى الشارع ويقابل الغرباء والمهمشين ويتفحص المارة ويشخص الأحوال ويلتفت إلى الأشياء المعروضة على قارعة الطريق ويهتم بالتجارب اليومية متلقطا المعنى وظافرا بالدلالة ومحددا المقصد، انه الباحث دوما عن الحقيقة المتخلي عن أكوام الأجوبة القديمة المفلسة، والمفتش عن الأسئلة الجديدة والباعث من الرماد للأسئلة الجديدة طالما أنها أسئلة الكينونة.

أنفاسمع تباشير ظهور عالم جديد .. ومع طوفان العولمة العاتي الذي يجتاح العالم بدفقات معرفية وتقنية متواصلة برفقة ضغوطات اخضاعية .. ديدنها الانسان،يمكن القول ان ثلاثة عوالم باتت تتجاذب     الانسان - لكل منها هويته ومركز استقطابه -  تؤلف مايمكن تسميته بثالوث الاصولية والحداثة والعولمة : فالاصولية تشتمل على العالم القديم باصولياته الدينية وتصوراته الماورائية .. وهو عالم قد استنفد قدرته على الابداع والابتكار منذ قرون خلت .. لاينتج الا بالاجترار كل تكرار ومعاد .. لذلك ماعادت تنفع محاولات استيعاب العالم وفهمه وتوجيهه بقيم الاصولية ووسائلها وادواتها ، والحداثة تشمل العالم الحداثي بطروحاته العلمانية  وتمجيده للعقل وادلجته الاممية  وتهويماته الانسانية القائمة على((الانسنة))التي تعطي للانسان مركزية الكون وسموه .. وبالتالي تسخير هذا الكون لمصلحته . ان ادوات المقاربة واشكال العقلنة وخطط التغيير ووسائل التعديل التي انتجتها الحداثة لم تعد تجدي في فهم العالم وهذا بالضبط مايشكل الاشكالية الكبرى .. اشكالية النهايات التي باتت تشكل مرحلة مفصلية - لافاصلة -  بين الحداثة  وما بعد الحداثة .. مرحلة الانتقال من الحداثة الى عصر العولمة التي تؤسس لعالم في طور التشكل ((اي عالم العولمة بفضائه السبراني ومجاله الاعلامي ، بانسانه العددي  ومواطنه الكوكبي )).. العولمة التي تنتقل بالانسان من عصر ((الانسنة)) الى عصر ((الكوننة)) التي تعني ان الانسان احد موجودات الطبيعة ومسؤول عن الحفاظ عليها .. ذلك العالم - العولمة -  الذي ((يخضع لتحولات تنقلب معها القيم والمفاهيم ، وتتغير المشروعات والمهمات ، بقدر ماتتجدد القوى  والوسائل والمؤسسات )).
لابد من القول ان الثقافة الجنائزية لم تبارح سيرورة الحداثة ، اذا لم نقل انها كانت تغازلها حتى تطارحها الهوى تارة وتنعاها وتبكي ايامها الاخيرة - نهاياتها- تارة اخرى .. وكانت الثقافة الجنائزية التي انتجتها الحداثة تشير الى تحولات نوعية ، وتعبر عن سرعة  التغير والانتقال في كل مستويات العصر الحديث .. وهي اذ تقيم مآتمية ((الموت والنهايات )) فانها تعكس ازمة الحداثة الدورية من جهة وتظهرالتحول الدوري المستمر في بنيات الحداثة من جهة اخرى .. ((كما تعكس فكرة اساسية تجمع بين كل هذه النهايات والموتات،  وهي غياب الفاعل المفرط او غياب الفاعل المطلق وسيادة السيرورات والصيرورات )) ..

أنفاس" ان معنى العقل في اللغة العربية وبالتالي في الفكر العربي يرتبط أساسا بالسلوك والأخلاق"[1]
محمد عابد الجابري
هناك تنافر حسب الرأي السائد بين الدين والعقل لاسيما وأن الدين يفيد الإيمان والاعتقاد والتسليم والطاعة والتقليد والنقل والتقديس بينما العقل يفيد التفكير والشك والرفض والحرية والإبداع والبرهان والتنسيب. زيادة على أن الدين ينطلق من فرضيات غير مثبتة وغير قابلة للعرض على محك التجربة ويفترض حقائق ماورائية وعوالم وكائنات غيبية في حين العقل يتحرك في فضاء السؤال ويشتغل على الوقائع والأحكام ويترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ويبني الحجة بالارتكاز على الحجة ويعتمد كليا على المنهج. لكن إلي أي مدى يجوز لنا الإقرار بوجود تنافر في المطلق بين العقل والدين؟
ألا يمكن أن نعثر على قرابة وتواشج بين ما يشرعه الله وما بحوزة الإنسان؟ ماذا نفعل أمام مصطلح عقل ديني عند أركون ودين في حدود العقل كما يقول كانط؟ هل أي دين حق ؟ متى أصبح العقل هو معيار الحق؟ وكيف شرع الإنسان في إعمال عقله من أجل البحث عن الدين الحق؟ هل يدعم الدين العقل أم يحد منه؟  وهل يثبت العقل الدين أم يشكك في صحته ويبطله؟ ماذا نعني بالدين؟ وهل هناك دين بمعزل عن العقل؟ كيف يمكن إيجاد معنى للعقل؟ وهل هناك عقل بمعزل عن الدين؟
 وماذا يحصل للدين لو نظرنا إليه من جهة العقل؟ وماهو مصير العقل لو حكمنا عليه من منظور الدين؟ هل يجوز الحديث عن دين عقلي وعقل ديني أم أن الدين هو لاعقلي بالضرورة والعقل هو لاديني من حيث الجوهر؟
ليس رهاننا هاهنا الدفاع عن الدين فهو قد جعل وسيلة من أجل الإنسان ويدافع عن نفسه بنفسه من خلال حاجة الإنسان إلى وجوده إلى جانبه ولكن غرضنا التشجيع على تعقل الوجود وإعمال العقل لأننا مقصرين في هذا المطلب رغم علمنا أن ذلك واجب ديني وطريق نحو رقينا وعزتنا.

أنفاسلماذا، عندما بدأ الإنسان
يعمل لكي يصبح إلها،
بدأ يعلو،
وعندما وصل إلى ما ظن أنها غايته،
أخذ ينحدر؟


أدونيس، من ديوان ليس الماء وحده
جوابا عن العطش

توطئة حول سؤال الحداثة في السياق الإسلامي
كثيرا ما يثار السؤال حول تأخر العرب والمسلمين التاريخي في "دخول الحداثة". وهذا سؤال في الحقيقة سؤال سيّء الطرح، لأنه يسلّم ضمنيا بوجود فضاء منجز للحداثة، وما على العرب والمسلمين إلا شحذ الهمة لدخوله، ضاربا صفحا عن مسار كامل للتاريخ الثقافي والحضاري الإسلامي. هذا الفضاء الحداثي المقصود هو الفضاء الأوروبي والغربي بوجه عام. على العرب الدخول إليه كما يقومون بزيارة لمدينة أوروبية، أو يختارون الإقامة فيها. بينما المشكل هو أن الإقامة في الحداثة لا تتأتى إلا لمن بنى حداثته بنفسه، لأن الحداثة الأصيلة ليست غزوا من خارج، بل فتحا وبناء من الداخل، حيث تعتمد كما نبه إلى ذلك آلان توران في "نقده للحداثة"، على ركيزتين هما الفرد (أي بناء مفهوم الإنسان الحر) والعقلانية، وهما يحيلان ضرورة إلى معنى البنائية التي لا تكون في الآخِرِ إلا ذاتية. وهذا يعني أن الحداثة ليست مجرد نتاج يوفره الآخر لنا كما يوفر لنا أي مادّة استهلاكية، بل هي بالأساس تمشٍّ واعٍ ونشط من أجل التحرر من الاستلاب الميتافيزيقي والثقافي اللاعقلاني، مقدمةً ضروريةً لسيادة العالم الطبيعي من قبل العقل العلمي المتجدد، ومن أجل التحرر من الاستلاب السياسي والاقتصادي شرطا ضروريا لسيادة الدولة من قبل إرادة الأفراد التفويضية المؤقتة، تتجدّد وفق قواعد اللعبة الديمقراطية.
فيصبح السؤال الأكثر أهمية هو: لماذا لم يفلح المسلمون في إنجاز حداثتهم بعدُ وكيف يتسنى لهم القيام بذلك؟

أنفاسيبدو أن الهم المركزي الذي يشغل الأستاذ طه عبد الرحمان هو التفكير في كيفية الخروج من دائرة التكرار والاجترار والتقليد والنقل إلى زمن الإبداع الفلسفي. ذلكم الإبداع الذي زان الإسهام الفلسفي العربي في اللحظات المشرقة من تاريخنا الفكري.
         هذا الإبداع يريده الأستاذ طه على ثلاث مستويات متداخلة:
1- مستوى فهم التراث
2- على مستوى الكتابة الفلسفية
3- على مستوى الترجمة
        1 – على مستوى فهم التراث يلاحظ الأستاذ طه بأن المعالجات التي اشتغلت بالتراث على إسقاط مفاهيم منقولة من التراث الفكري الغربي، جرى نقلها دون تمحيص ودون تبيئة، ودون مراعاة للمقتضيات الأساسية التي يفرضها المجال التداولي العربي والتي هي العقيدة واللغة والمعرفة.
وقد أدى هذا النقل إلى معالجات إيديولوجية قوامها النظرة التجزيئية للتراث، وتغليب الاشتغال بالمضامين على فهم الآليات. بينما يدعو الأستاذ طه إلى النظرة التكاملية للتراث نظرة معرفية تستهدف كشف الآليات كطريق إلى فهم المضامين. فهو يعارض المحاولات السابقة في هذين العنصرين: التجزيئية والنزعة الإيديولوجية المسيسة. لكن معارضته الكبرى تتجه لا فقط نحو هذه الطرائق، بل نحو طبيعة وماهية نهج المقاربة ذاته. فهو يدعو إلى إقامة ابستمولوجيا ذاتية مستقاة من التراث ذاته، وكأن الطريق الأمثل إلى فهم التراث هي المرأة الداخلية للتراث نفسه.
وقد سبق لي أن أبديت في قراءة سابقة لكتاب "تجديد المنهج في تقويم التراث" ملاحظات تساؤلية عن مدى علمية دعوى قراءة وتقويم التراث انطلاقا من مرآته الخاصة.
قد تكون هذه القراءة الداخلية ممكنة، بل ضرورية في مستوى أول، لكن قراءة هذا التراث وتقويمه تقويما علميا تكامليا لا يمكن أن تكون مهمة وافية وعصرية إلا عندما تقرؤه على ضوء المستجدات التي حملتها العلوم الإنسانية المعاصرة من لسانيات وسيميولوجيا وعلم النفس وأنثروبولوجيا... إلخ.

أنفاس"إن عقلانية باشلار ما فوق عقلانية. وهو يعرف كيف يُعلم العلم والحلم معاً".جان فال
مقدمة:
بدايةً، لا بُد من الاعتراف باستحالة الإحاطة بمشروع باشلار (Gaston Bashlard) المعرفي بجوانبه الإبستمولوجية، والعلمية، والتاريخية، والشاعرية في مقالة أو حتى في كتاب، ولكننا سنحاول في هذه المقالة عرض خيط رفيع من هذا المشروع العابر لجدلية: العلم والفلسفة، الاتصال والانقطاع، العقل والوجدان، الخيال والواقع، الحدس والتجريب، الموضوع والذات، وذلك بهدف تقديم مقاربة مغايرة لموضوع المعرفة العلمية، هذه المعرفة التي يُمكن رؤيتها من خلال منظورين: الأول، منظور عقلي-تجريبي، حيث المعرفة العلمية تخضع للتجربة والقياس المنطقي، وكل ظاهرة قابلة لأن يُعبَّر عنها بمعادلة رياضية دقيقة، وقد أفرز هذا المنظور اتجاهات تقتنع بموضوعية المعرفة العلمية وإمكانية فصل المعرفة عن الذات العارفة، ويُعد جاليليو (Galileo) وديكارت (René Descartes) من الآباء الروحيين لهذا المنظور، والثاني منظور يرى أثر العوامل النفسية والشروط الاجتماعية والمعتقدات الشخصية على النظريات العلمية، حيث أن هناك عناصر من الخيال والحدس تساهم في عملية تكوين المعارف العلمية أو صياغتها، ويُعتبر باشلار أهم دليل على هذا المنظور.إذن، في هذه المقالة سنتطرق إلى المشروع الباشلاري، كمشروع علمي- معرفي-فلسفي، تأسس على عقلانية علمية حاورت تجريبية بيكون (Francis Bacon) ووضعية كانط (Immanuel Kant)، متنقلاً من عقلانية تطبيقية إلى عقلانية صوفية انفتحت هذه الأخيرة على أشعار بودلير (Charles Pierre Baudelaire)، وريلكية (Rainer Maria Rilke)، ورومانتيكية نوفاليس (Novalis).  لقد وضع باشلار مشروعه في مراحله الأخيرة تحت راية التحليل النفسي وطاقات الشعر العالية.  ومن يعرف باشلار عالماً عقلانياً من خلال قراءات مؤلفاته الأولى: تكوين العقل العلمي، فلسفة اللا، العقلانية التطبيقية،... الخ، قد يستغرب من هذا الرجل العقلاني وضع مشروعه بعيداً عن عقلانية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بكل يقينياتها، والدخول فيها إلى مختبرات الشعر في كل ما تحمله من لايقين، ولكن نظرة باشلار للعقلانية تختلف عن نظرة عصر التنوير والفلسفة الوضعية، التي اعتقدت بفصل العقل عن اللامعقول، بفصل العلم عن الأدب، وقللت من دور الحدس والخيال في الوصول إلى المعرفة، ولم تعترف بالعلاقة الجدلية بين الوعي واللاوعي، وبين الحلم والواقع، على العكس فباشلار يرى أن تركيبتنا النفسية يشتبك فيها الواقع بالحلم، والوعي باللاوعي، والعقل بالخيال، لذلك فهو كثيراً ما كان يعثر على "نظرة ذات أعماق متكافئة من عنصري العقل والخيال، فالعلم والشعر لدى باشلار هما حدسان كامنان في الإبداع البشري، وهما الرغبة الكامنة لإضفاء معنى وجمال ما على العالم" (محمود، 2005: 7).  ولهذا، كان مشروع باشلار في مراحله الأخيرة يهدف لتوجيه العقل نحو المباهج الأخرى للرضا الفكري-مباهج العلم- تأسيساً على تحليل نفساني للمعرفة الموضوعية، حيث يُعتبر العلم بالنسبة له جمالية العقل، فلا فصل بين الواقع والحلم، بين الأدب والعلم، بين العقل والوجدان.

أنفاستمخضت حقوق الإنسان و التي تبدو اليوم، في غالب الأحيان، وكأنها مسألة بديهية وتلقائية، عن تحول عميق طال مفهوم طبيعة الحق. والذي امتد عبر مدة طويلة، منذ أفول العصور الوسطى إلى الثورة الفرنسية. هذا التحول هو الذي ولد، في جميع الميادين، ما يعرف بالحداثة.
في المجال الحقوقي، ما هي الخطوط العريضة، لما كان عليه مفهوم الحق قبل ً الحداثة ً؟ إن ميشال فيلي، وهو نموذج للمفكر أو الفقيه الروماني التائه في نهاية هذا القرن ( الروماني الذي، ربما، أعيد تكوينه جزئيا، لكن ذلك لا يغير في شيء من طابع تفكيره الروماني ) يقول إن الحق، حسب التصور التقليدي الذي نضج في روما بصفة خاصة، هو معرفة بالوقائع وقياس لها، و علاقة 1 **. وهذا الحق يوجهه قاض محايد، نزيه و متمثل لفكرة العدالة. فالحق ليس مطلبا ذاتيا بكل وأي شيء كان. كما أنه ليس أبدا - كما ُيعتقد اليوم – أمرا صادرا عن ً السيد ً و نتاجا للإرادة.  إنه اكتشاف بارع ومتأن   ودقيق للنسبة القائمة بين كمية الأشياء الموزعة و الكيفيات المختلفة للأفراد، ولتلك القائمة بين الأشياء المتبادلة. إن الحق هو تحقيق لعدالة تعرف كلاسيكيا بكونها تقوم على إعطاء كل ذي حق حقهius suum cuique tribuere  . وهو أمر تقوده الحكمة العمليةPrudence؛ وهي تدبير عملي يتعلق بقاعدة الاختيار، والذي لا ينصب على الاختيار بين خير وشر مطلقين، بل نسبيين و ملموسين. ولتحقيق ذلك، لا مجال هنا للصيغ الفضفاضة. بل يتطلب الأمر حضور معنى الوسط العادل ورأي القاضي المستنير بالمناظرة و التشاور، حيث يتطور الجدل لينتهي عبر الآراء المتضاربة إلى اكتشاف حل محتمل. وهو حل لا يدعي بلوغ كمال وهمي أو مفارق، بل يعبر فقط عن إرادة متواضعة للتطابق مع الواقع.
لا شك أن الإنسان كان حاضرا في تفكير القدامى، ككائن متميز باللوغوس، أي بالنطق والعقل والقدرة على الاختيار. ومتمتع بكرامة ذات قيمة سامية، رغم أن العبودية كانت أمرا مسلما به. لكن ما كان غريبا عن الفكر القديم، هو فكرة الحقوق الذاتية، أي تصور حق أساسي مرتبط بالفرد و مستنبط من طبيعته2…

أنفاس" لقد أثارت طبيعة هذا التيار استغرابي منذ أن علمت بها، وشعرت بقليل من السأم، وهو أمر يجب أن أعترف به، وأنا أسمع عدداً من الخبراء الفطنين يكررون أمامي: "إننا نعرف ما يرفضونه، لكنهم لا يعرفون ما يريدونه". ميشيل فوكو
مضى الآن على وفاة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو(1926-1984) أربع وعشرون سنة وهو ما يزال يتربع على عرش الساحة الفكرية وينصب على رأس الاهتمامات الفلسفية في الدوائر الأكاديمية ولكن مقاله عن ما حصل في إيران من منعطف تاريخي الذي كتبه منذ ثلاثين سنة (1978) مازال يفيض بالمعاني ويزخر بالدلالات وأظن أنه لم يقرأ قراءة وافية كافية ولم يقدر حق قدره والمرات القلائل التي ذكر فيها استغل للمساندة والتبرير وتلميع الصورة والتباهي بالحصول على اعتراف من الآخر بعظمة الأنا أو لإثبات قدرة الغرب على إنتاج مثقفين عضويين ينتمون إلى المجتمع المدني العالمي ويمثلون الجانب الإنساني ويساندون القضايا العادلة في العالم النامي .
 لكن الأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي التالية: كيف يدافع أحد أهم دعاة التحررية والمثلية الجنسية على الثورة الدينية ويتسامح مع عودة الأنظمة الثيوقراطية التي حسمت الحداثة الغربية المعركة معها منذ الثورة الفرنسية وإبعاد سلطة الكنيسة عن التدخل في الشأن العام؟ وألا يوجد تناقض بين السياسة الحيوية التي ينظر لها فوكو في كتاباته المتأخرة والروحانية السياسيةpolitique spirituelle التي صعدت في الجامعات الإيرانية؟ ألا يحاول فوكو الانتصار إلى النزعة الثقافية التي تمثلها فرنسا ضد النزعة الاقتصادية التي تجسدها أمريكا؟
البعض يفسر سر افتتان فوكو بما حدث في إيران بكونه كان ضحية غواية الصورة الشبقية التي قدمها الاستشراق عن سحر الشرق وجماله وتعدد مجالات تحقيق الرغبة وتنشيط الخيال وإطلاق عنان الغرائز فيه ولكن الحقيقة هي أبعد من ذلك بكثير إذ يطبق فوكو هنا منهجه التشخيصي ويستعين بمسبره الأركيولوجي ومنهجه البنيوي من أجل قراءة الواقع الاجتماعي والمستقبل السياسي لأكبر دولة نفطية في الشرق تحاول التحرر من هيمنة شيوعية السوفيات وامبريالية الأمريكان.

أنفاس"المرأة لا تُولد امرأة
وانما تُصبح إمرأة"

         سيمون دى بوفوار
كتب فولتير يقول: "إن تقدم العقل بطيء بينما جذور الأفكار الفاسدة ضاربة فى العمق". هذه الجذور هى تحديدا ما أود أن أعرض له فى صدر هذا المقال وألفت النظر إليه، طالما أن أمر انتزاعها غير ميسر. والمسألة ـ كما سوف نلاحظ ـ تتطلب منا البحث والخوض فى أفكار وتصورات دفينة فى أذهاننا  ـ معشر البشر ـ تتعلق بالمرأة وعلاقتها بالرجل، فضلا عما تتطلبه من مناقشة جادة لمكانة المرأة فى الفكر الأنسني الذى لطالما تمنيت أن يجد له ملاذا آمنا فى ربوعنا، باعتباره السبيل ـ ربما الوحيد ـ المتاح أمامنا للعودة إلى التاريخ(1).
أقول إن السعى الحثيث للتعرف على الأفكار والتصورات الدفينة فى أذهاننا، والتي تتعلق بالمرأة وعلاقتها بالرجل، والتى تشكل فى الوقت نفسه ميراثا،  يُعتد به فى رسوخه وصلابته، لابد وأن يشكل البداية المنطقية لمقال كهذا. فلنلتمس إذن إجابة شافية على السؤال التالي: كيف بنى العقل البشري فكرة النوع؟
ولكن..كيف السبيل لمثل تلك الإجابة الشافية؟! إنها تتطلب بالضرورة قدرا من الرصد والتحليل، لا يمكن أن يسمح به الحجم المقرر سلفا لهذا المقال، فالأرجح أننا فى حاجة لدراسة تُخصص بأكملها لذلك الغرض، أتمنى أن تُتاح لي الفرصه لانجازها فى المستقبل! وحتى ذلك الحين، أرانى قانعا بأن المخرج الوحيد من هذا المأزق هو الاكتفاء بعرض أحد النماذج التفسيرية، بشرط أن يعبر في مجمله عن المحاولات المبكرة لبناء العقل البشرى لفكرة النوع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لابد للنموذج المُختار أن يكون فلسفيا مدعما بالأسانيد العقلانية، تتفق فيه العديد من الأفكار الفطرية للشعوب البدائية حول هذا الموضوع..!
لقد وضع لنا الفيلسوف اليوناني أرسطو واحدا من أقدم وأبرز النماذج التفسيرية لعملية التناسل وتحديد النوع. وهو نموذج فلسفى مدعم بالأسانيد العقلانية، تتفق فيه العديد من الأفكار الفطرية للشعوب البدائية حول هذا الموضوع. إضافة إلى أن نمط التفكير الأرسطي ليس فى واقع الأمر غريبا عن خطابنا الحديث، لاسيما العلمي منه، فمازلنا حتى الآن نجهل على وجه اليقين مكمن القدرة على تحديد النوع!! وقد استند كاتب هذه السطور فيما يقول للكتاب الرابع من مؤلفات أرسطو "عن الجنس الحيوانى"، الذى كتبه، ما بين عامي 330 و322 ق.م. وفيه ينطلق أرسطو من فكرة تضمنتها أعمال من سبقوه(2).

أنفاسبين الفلسفة والادب والفكر من اواصر التواصل وشباك التواشج مالايلغي نقاط التفاصل وعلامات التفرد وسمات التمايز .تمتد جذور الخصومة بين الفلسفة والادب في الفكر الغربي الى العصور القديمة .. في عهد الاغريق ، عندما ربط افلاطون المعرفة بالفلسفة فيما وسم الشعر بالانفعال والعاطفة وجعله نقيض الفلسفة وعدوها اللدود .. وفي القرن السابع عشر ومع ظهور النزعة العلمية والاكتشافات الجديدة .. بان جلياً ان الفصل بين الفلسفة والادب كان قد تجسم على يد الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي جاهر بعداوة شديدة للشعر والشعراء حتى قيل فيـه انه : (( حز عنق الشعر )) كما هاجم توماس لف بيكوك في كتابه (( عصور الشعر الاربعة)) الادب وعده نشاطاً متخلفاً لاينتمي الى روح العصر الذي تهيمن عليه المعرفة والعقل والتنوير وحاكى وجهة نظره هذه الفلاسفة النفعيون مثل جون ستيوارت مل .
وفي القرن التاسع عشر ومع انبهار الانسان بالانجازات العظيمة للثورة الصناعية وظنه انها البلسم لادواء البشريـة ومعضلاتهـا .. فقد القـى العالم الانكليزي توماس هكسلي (1825-1895) خطبة نعى فيها على الادب .. وعد من الحمق والشعوذة وجوده في عصر العلم والتنوير والعقلانية .
اما في القرن العشرين .. فقد استمرت النظرة المضادة للادب رافضة أي تطابق فلسفي مع الادب .. وقد طرح جورج بواس في محاضرة له بعنوان (( الفلسفة والشعر)) هذه النظرة بصورتها الفظة : (( تكون الافكار في الشعر عادة ممتهنة وغالباً زائفة )) .. فيما كان يرى ت.س. اليوت أنه : (( لاشكسبير ولا دانتي قاما باي تفكير حقيقي )) ! .. لانه كان يظن ان لهما احساسا مرهفاً ولكن دون فكر .. في الوقت الذي كان يعتقد فيه بان الانسان عندما يكون مفكراً فانه يكون بعيداً كل البعد عن القلب والعاطفة والوجدان ! .. وهكذا كان الفكر يطغى ويتلفع بسربال المادة .. بينما ساد شعور بوهن القلب وضعف العاطفة وسبات الخيال .. وقد تنبه الفيلسوف الالماني (( نيتشه )) .. الى خطورة ذلك – على حد اعتقاده – وعدها معضلة العصر المتمثلة في (( هيمنة الفكر على العاطفة )) .. وقد عزا ذلك في كتابه (( ولادة التراجيديا)) الى الفكر التحليلي الذي يمثله سقراط في الفلسفة ، فيما يمثله في الادب (( يديس)) .. ودعا (( نيتشه )) الى حل هذه المعضلة من خلال العودة الى ما يعتمل في انفسنا من عناصر بدائية للارتشاف من نبع العاطفة .. حتى ولو ادى ذلك الى تحطيم الفكر التحليلي .