التعليم عن بعد تاريخيا.
التعليم "عن بعد " هو ظاهرة تعليمية قديمة جدا، كانت أولا "على بعد "، لما كانت وسائل الاتصال والنقل غير فعالة كما هي عليه الآن، والأخبار الواردة والرسائل تحتاج أيام، وأيام لتصل إن وصلت! وكثرة المعيقات: من قطاع طرق، وحروب وأوبئة...
وعلى سبيل المثل لا الحصر نذكر من علمائنا الأجلاء المغاربة من سافروا طلبا للعلم على بعد: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن داود الصنهاجي، والعلامة القاضي عياض، وابن تومرت مؤسس الدولة الموحدية...
ابتداءا من القرن الثامن عشر، عند تطور وسائل النقل، و تبني الدول الخدمات البريدية كرافد مهم وفعال في التنمية والتطور لا محيد عنه، بدأت تظهر مدارس تقدم خدمة التعليم عن بعد للراغبين في تعميق دراستهم. او لكسب مهارات غير متوفرة مكان إقامتهم، ما فتئتْ أن تنامت بتطور وسائل الاتصال وسرعة وسائل النقل، لتصل ذروتها مع سيادة الأنترنيت.. وترسخ أيضا قي قرار النخبة المتعطشة للتعلم جدوى، ونجاعة التعليم عن بعد كخيار لتوسيع أفاق معارفهم.

لا يختلف اثنان في أن فيروس كورونا الذي اخترق صور الصين العظيم، وبدأ يجتاح الأرض طولا وعرضا من شمالها إلى جنوبها وشرقها إلى غربها، خلق أزمة كبيرة وحيرة عظيمة في نفوس الإنسانية، جعلت كل الشعوب تفكر في مصيرها المحتوم، وتحاول البحث عن سيناريوهات للنجاة والظفر بتأشيرة الاستمرارية في الحياة، وإنقاذ المجالات الأكثر تأثير وتأثر بالأزمة من الشلل والكسود. فكان ضمان استمرار العملية التعليمية التعلمية وتجنب توقفها رهانا ثقيلا أمام الأنظمة التربوية في مختلف البلدان والمجتمعات، الأمر الذي دفعها للبحث عن آليات وميكنزمات جديدة للتأقلم مع الوضع ومواجهة واقع الحال، وإنقاذ الموسم الدراسي من شبح سنة بيضاء كذا أن يعصف به..

لا مندوحة أن رهانات التعليم عن بعد بالمغرب في زمن الكورونا في ظل التطورات التقنية والتكنولوجية التي يشهدها العالم قاطبة لن تكون سهلة المنال بالقياس إلى دولة في طور النمو والتقدم كالمغرب، وخاصة في منظومة التربية والتعليم التي تحبو شيئا فشيئا نحو التقدم والرقي والازدهار، لكن أن نمخر عباب بحر مدرسة بلا أسوار ونغوص في أعماقه ونحن لا نجيد السباحة  قد يؤدي بنا إلى الموت السريع، ذلك أن الدول المزدهرة اقتصاديا هي من نادت بالفكرة، مع العلم أن لها بنيات تحتية في مستوى هائل، فضلا عن تاريخها العلمي والتقني المبهر كألمانيا واليابان والصين وكندا وغيرها.

   ومما لا ريب فيه أن ذيوع فكرة -مدرسة بلا أسوار- تعود إلى دول شمال أوروبا في غضون الحرب العالمية الثانية، ولعل السبب كما في المغرب والعالم اليوم في الآونة الأخيرة هو تفشي فيروس كورونا، مما أدى بنا إلى تدشين مشروع جديد فرضته الأوبئة والأمراض العاصفة بالبشرية دون سابق إندار وبشكل مفاجئ ألا وهو -التعليم عن بعد- من خلال مدرسة بلا أسوار.

هذا المقال هو في الأصل ترجمة للفصلين الرابع والخامس اللذين يشكلان جوهر/صلب أطروحة السويسري "فليب هرتيغ Philippe Hertig "، الباحث في ديداكتيك الجغرافيا، وهي الأطروحة التي قدمها بجامعة لوزان سنة 2009، وأعاد نشرها معدلة ضمن الفضاء الرقمي سنة 2012 تحت عنوان " ديداكتيك الجغرافيا والتكوين الأساس للمدرسين المتخصصين" معتبرا أنها تمثل "ملفا ضمن أطروحة".   

ونظرا للقيمة النظرية الأصيلة لهذا الجزء من ملف هذه الرسالة (الصفحات 21 – 65) فقد حاولت الحفاظ ما أمكن على هوية ومنطوق المقال أثناء ترجمته، في أفق الإجابة عن العدد من الإشكالات :

- إلمام المقال المترجم بالعديد من الجوانب الإشكالية المؤثثة لتطور ديداكتيك الجغرافية، ولكثافة التوثيق المرجعي وحداثته، ولاعتبارات منهجية قمت بحذف كل الإحالات التوثيقية داخل النص الأصلي، وللقارئ الحق في العودة إلى النص الأصلي من أجل توثيق كل الإحالات المرجعية والنصوص الديداكتيكية الأصلية ؛

هذا المقال هو في الأصل ترجمة للفصلين الرابع والخامس اللذين يشكلان جوهر/صلب أطروحة السويسري "فليب هرتيغ Philippe Hertig "، الباحث في ديداكتيك الجغرافيا، وهي الأطروحة التي قدمها بجامعة لوزان سنة 2009، وأعاد نشرها معدلة ضمن الفضاء الرقمي سنة 2012 تحت عنوان " ديداكتيك الجغرافيا والتكوين الأساس للمدرسين المتخصصين" معتبرا أنها تمثل "ملفا ضمن أطروحة".
ونظرا للقيمة النظرية الأصيلة لهذا الجزء من ملف هذه الرسالة (الصفحات 21 – 65) فقد حاولت الحفاظ ما أمكن على هوية ومنطوق المقال أثناء ترجمته، في أفق الإجابة عن العدد من الإشكالات :

ما من شك أن واقع التعليم، كما تشهد على ذلك أوضاع المدرسة المغربية، لا يساعد على تحقيق مجتمع المعرفة بوصفه مشروعا مجتمعيا ترنو إليه القوى الوطنية الحية في هذا البلد. إذ كيف يمكن المراهنة على المدرسة لتحقيق مشروع نهضوي  طموح في ظل منظومة تربوية تقف عاجزة أمام تراجع مهارة القراءة والكتابة لدى المتعلم بسبب عوامل عديدة ومتنوعة لا يتسع المجال هنا لتفصيل القول فيها. وإن كنا نستطيع أن نشير، في هذا المقام، إلى عاملين اثنين لا نتصور أن تقوم للمدرسة المغربية معهما قائمة رغم كل مقترحات الإصلاح التي يمكن أن تتعاقب على منظومة التربية والتعليم.

حين نتطرق لماهية العلاقة القائمة بين الاتصال والتربية، أيمكننا أن نتساءل عن طبيعة هذه العلاقة؟ حدودها، مجالها، ومكوناتها، بمعنى أن نبحث في مجال كلا الطرفين؟
أنحنُ أمام مجموعة من الممارسات التي تحدد أسس الاتصال والتربية أم أنَّ المشكل أكبر من ذلك؟ يتعلقُ بمجالين يهتمان بالفرد ومكوناته انطلاقا من أرضية واحدة.
ومن الثابت أننا حين نتكلم عن التربية، فإننا نتكلمُ عن علم قائم بذاته يستمد جذورهُ وقوَّتهُ من عدة علوم أخرى، والشيءُ نفسُهُ بالنسبة لعلم الاتصال، وإن كان هذا الأخير، ما يزالُ محلَّ نقاش وجدل حول أسسه المصدرية ومجالاته.

حين نتطرق لماهية العلاقة القائمة بين الاتصال والتربية، أيمكننا أن نتساءل عن طبيعة هذه العلاقة؟ حدودها، مجالها، ومكوناتها، بمعنى أن نبحث في مجال كلي الطرفين؟
أنحنُ أمام مجموعة من الممارسات التي تحدد أسس الاتصال والتربية أم أنَّ المشكل أكبر من ذلك؟ يتعلقُ بمجالين يهتمان بالفرد ومكوناته انطلاقا من أرضية واحدة.
ومن الثابت أننا حين نتكلم عن التربية، فإننا نتكلمُ عن علم قائم بذاته يستمد جذورهُ وقوَّتهُ من عدة علوم أخرى، والشيءُ نفسُهُ بالنسبة لعلم الاتصال، وإن كان هذا الأخير، ما يزالُ محلَّ نقاش وجدل حول أسسه المصدرية ومجالاته.

من العبارات والموضوعات ما تستدعي مثيلاتها كما يقع في تداعي المعاني، حدث لي ما يشبه هذا عندما سمعت بعض الزملاء المدرسين في قاعة من قاعات مؤسسة تعليمية تربوية، حينما كانوا يتحدثون عن "القلق التربوي" كتجربة وجودية لدى المدرسين والشعور بالذات لديهم، ضمن بعض الهموم والانشغالات أثناء مزاولة مهامهم وأدوارهم التعليمية والتربوية سواء تعلق ببعض الممارسات السلوكية أو القيمية أو التواصلية اليوم، أو في بعض الاختيارات الديداكتيكية أو بعض الضغىوطات الاجتماعية ضمن مناخ عالمي متسارع ومتحول، أصبحت فيه المدرسة التقليدية عاجزة عن التجاوب الفعال مع متطلبات الحراك الاقتصادي والمعرفي والثقافي والاجتماعي. وضمن مناخ كذلك وطني تغذيه متغيرات الوضعية التربوية الراهنة، والتي تعيشها منظومة التربية والتكوين، ويشكل فيه رهان تجديد المدرسة المغربية وسبل تأهيلها للنهوض بوظائفها كاملة تجاه ذاتها، وتجاه الدولة والمجتمع عنوانها الأبرز، مع التحدي والرهان الكبير والمتمثل في بناء الإنسان، الإنسان الذي ينبض بالخير والعطاء والحب والجمال، والرقي بالذوق، وبالإحساس وصفاء الفكر، وصلاح الفعل وبالتعايش وبياض الفعال والتسامح....بعيدا عن الصراع وباقي السلبيات ولا سيما العنف...

ذاع صيت المؤرخ الشهير بجامعة السوربون "إرنست لافيس" وهو يعلن أن" معرفة التاريخ تنير حب الأوطان"، وإذا كان بالفعل تدريس التاريخ مفيدا ،وبقوة، في المعرفة بالماضي وبناء الذاكرة الجماعية، فإن الحياد السياسي للتاريخ المدرسي مجرد أحجية fable(Vincent Capdepuy).
بتزامن مع تصاعد النزعات القومية، وفي سياق بناء الدولة الوطنية، شكلت الكتب المدرسية قنوات فكرية للمرور الهادئ نحو أذهان الصغار والمتعلمين في المدارس والثانويات، وقد شارك المؤرخون عبر إنتاجاتهم في نقل الوقائع إلى قلب الفصول لتشيد الإرادة الجماعية للأمة، ولكن في كثير من الأحيان ب"موضوعية" مُرادها تبرير الحدث لا تفسيره ، بغير قليل من الانتقاء في الوقائع والمنعطفات الكبرى، ويصير إقناع المتعلمين بالضرورة الحضارية للاستعمار ملازما لمهمة "تهذيب" الشعوب الأصلية و"تمدينها".
إضاءة خاطفة في الموضوع نعرضها في ترجمة متواضعة لنص حول الكتب المدسية والتاريخ مقتطف من كتاب "المدارس التاريخية" وهو من تأليف كل منG.Bourdé وH.Martin .

مقدمة:
عندما لا يكون التعليم مستقلا ذاتيا، له مركزية الإدارة والتدبير والتفكير، كفيلا بإدارة أزماته وحل معضلاته، وتقييم ذاته؛ يعود إليه - هو وحده - دون غيره حرية القرار وصلاحية الاختيار اعتمادا على مُقدراته البشرية والمادية لا تقوم له قائمة، ولا يستقيم له نهج !، بل يصبح - كما هو حاليا في بلدنا - رهين اللوبيات السياسية والاقتصادية والدينية والصراعات الإيديولوجية؛ تركب أزماته أو تفتعل عينات منها أنى كانت إشراقة انتخابية تعنو قريبا، أو نُشرت معطيات تحدد لنا موقعا متدنيا بين الدول، أو لما تنتشر بين الخاصة والعامة تقاريرُ نابعة عن تقييمات في الغالب  انطباعيّة، فرديّة لا سندَ دراسيا علميا دقيقا لها؛ تنتقص من مردوديته، ونجاعته.

لمحة تاريخية سريعة، والبحث عن تعليم ملائم :

منذ قرابة 60 سنة ونحن نجتر عبَارة : (إصلاح التعليم) في حين لم يكن لنا البتة تعليمٌ مغربي متكامل  قد تداعى لنرممه ! وإنما ورثنا عن مُستعمِرنا واحدا حَقنّاه بمقرر في اللغة العربية   مُستورَدا هو الآخر من الشرق العربي وحمولتَه الديداكتكية، لا غير..إلى أن تحصّل لدينا واحد باجتهادات السيد بوكماخ يغطي أقسام الابتدائي (مقرر القراءة) رفقة مغامرين آخرين في الميدان  وقد نجحنا إلى حد ما بدليل أن النخب السياسية والمثقفة والمفكرة والمسيرة للشؤون البلاد الاقتصادية والمالية  حاليا هي حاصل تحصيله، وما اكتفينا، بل حسنّاه، فعربنا كلا من التاريخ والجغرافية والفلسفة إلا المواد العلمية، غير أنه في  أواسط السبعينات بدأ التأفف من مردوديته و نجاعة مناهجه  ولمّا يفكرْ أحدٌ من التربويين ليُشيع أن عشر سنوات ونيف غير كافية لتحديد فشل أو نجاح تجربة تعليمية ما،  ولم يستشعر آخر بأن حالات التسرب والانقطاع الدراسي كانت بسبب الفقر المدقع المتفشي بين الأسر، إذِ انكفأ قدرٌ وافرٌ من الطلبة على الدراسة  طلبا للعمل في الوظائف والخدمات الدنيا التي كانت البلد تفتقر إلى من يقوم بها؛ والأغرب لم يأخذ أحدٌ – عند أواخر سبعينية القرن الماضي - كمقياس نجاح: فوران الشُعبِ العلمية، خاصة العلوم التجريبة بالطلبة حتى صارت تسمى  بالشعبة الشعبية. وذي هنّة لم يفطن لها المفكر المغربي المرحوم الدكتور عابد الجابري (رحمه الله) وهو يلقي أضواءه على مشكل التعليم في المغرب .