تكثر مواضيع الرغبة وتتعدد، وهي فريدة في حد ذاتها. كما أنها قوة وتأكيد وإثبات وحضور، قوة حاضرة وقوة محدودة. إنها أساسية لكونها تشكل ماهية الإنسان حتى تستمر كينونته. وتذكرنا  J.Beillerot أن الرغبة طموح أولي Aspiration première، وهذا ما يجعلها لا نهائية. كما يؤكد سارتر Sartre أن معناها هو تطلع الفرد إلى أن يصير إلها Dieu. وهكذا تثبت رغبة الإنسان نزوعه وتطلعه إلى تفعيل كينونته (Lacan, 1966).
وتضيف J.Beillerot: "إن الرغبة هي السبب، وليس الموضوع هو الذي يسبب الرغبة (Beillerot, 1996). وإذا كانت الرغبة هي المعطى الأساس، وإذا كانت تعرف باعتبارها كذلك وليس انطلاقا من موضوعها، فإنها لا يمكن أن توجد إلا في شكل رغبة في…، إذ ليست هناك رغبة بدون موضوعها. وفي نهاية التحليل، فإن الرغبة تكون في الآخر، إنها من منظور هيجل Hegel رغبة الذات في اعتراف الآخر بها ورغبته فيها. كما أنها من منظور روني جيرار René Girard رغبة في رغبة الآخر فينا، إذ لا يمكنني الاستيلاء على كينونة الآخر إلا من خلال استيلائي على رغبته. إن الغير هو هدف الرغبة، إنه دائما الآخر، ولا تقوم الرغبة إلا على رغبة أخرى، إذ أنها ترمي إلى ما يشكل رغبة لدى الآخر. وفي نهاية المطاف، فإن جوهر رغبتي هو رغبة في أن يتم الاعتراف بالقيمة التي أمثلها وممارستها من قبل الآخر. وهكذا تعني الرغبة أنه يجب أن يكون الغير آخر بالنسبة إلي وأكون نفس الشيء بالنسبة إليه. وبعبارة أخرى، يجب أن يكون الآخر ذاتا حرة حتى يكون لكلامه معنى أمام عيناي وفي مسمعي وذهني؛ وإلا فإنه لا يمكنني أبدا أن أكون آخر بالنسبة إليه، حيث إنه إذا لم يكن حرا سأصير أنا ذاتي موضوعا. فإذا لم يكن الغير حرا، وإذا كان مسيطرا عليه، فإنني لن أتأكد أبدا من حريتي الخاصة.  
ليست الرغبة تحويلا لنزوة بيولوجية. إنها في الآن نفسه غياب الذات عن نفسها وحضورها في الآخر. فالذات الباحثة عن نفسها والمتفتحة على الآخر والمنفتحة على العالم هي التي تدرك المعنى وتمتلكه. وكل علاقة للذات بذاتها هي علاقة بالعالم وبالآخر. وكل علاقة للذات بالآخر هي علاقة بذاتها. وهذه العلاقة المزدوجة –التي هي بالفعل علاقة واحدة- هي علاقة بين الأنا والآخر في عالم نشترك فيه، عالم أوسع من علاقتنا ومتجاوز لها. وتدخل هذه المسألة في إطار الأنثروبولوجيا، إذ تستمد، كل من الذات ورغبتها، معقوليتهما من خلال خصوصية الوضع البشري La condition humaine. فمن هنا يجب البدء، وهذا الوضع البشري هو ما يجعل من الإنسان الصغير ذاتا مرتبطة بالآخر وراغبة فيه ومشتركة في العالم مع ذوات أخرى، بل مغيرة له معها. إن هذا الوضع هو ما يفرض على الإنسان الصغير اكتساب العالم وبناء ذاته بنفسه ومن قبل الآخرين.
فمن خلال خصوصية الوضع البشري يكون الإنسان غائبا عن ذاته. إنه يحمل هذا الغياب في ذاته باعتباره رغبة في ما ينقصه. وهذه الرغبة التي هي دائما في العمق رغبة في الذات وفي ذلك الكائن الذي ينقصها، هي رغبة لا يمكن إشباعها، وذلك لأن الإشباع هو إعدام للإنسان باعتباره إنسانا.

انفاسفي سنة 1958 اقترح الدكتور جون أوري مصطلح "البيداغوجيا المؤسسية" La pédagogie institutionnelle معلنا بذلك إمكانية استفادة الحقل البيداغوجي من منجزات علم النفس العلاجي La psychothérapie(1). وفي سنة 1965 أصبح الاقتراح رسميا(2) ليعبر عن تيار ظل على امتداد الستينات وما بعدها توجها جديدا في مسار "التربية الجديدة" في فرنسا خاصة. وقد تحكمت الخلفيات المعرفية في تقسيم هذا التيار إلى توجهين: الأول تبنى المقاربة اللاتوجيهية Nondirective والسيكوسوسيولوجيا، وتزعمه لوبرو Lobrot ولا باساد Lapassad والثاني تبنى المقاربة الفرويدية ومساهمة علم النفس العلاجي المؤسسي "La psychothérapie institutionnelle" وتزعمه فرنوند أوري F.Oury وعايدة فاسكيز A.Vasques(3). في هذا المقال سنتوقف عند التوجه الثاني لمعرفة مكوناته البيداغوجية وخلفياته، المعرفية.

ما هي البيداغوجيا المؤسسية؟
تعني البيداغوجيا المؤسسية مجموعة التقنيات والطرائق، والمؤسسات الداخلية، المنبثقة من الممارسة داخل الأقسام التعاونية Classes coopératives(4) في أفق خلق نشاط تربوي حر وهادف ومشترك، يساهم في إنجازه جميع الأطفال. وبذلك تكون المؤسسة استجابة لحاجات الطفل النفسية والاجتماعية والحياتية، كما تقرب المسافة بين المدرسة والأسرة، المدرسة والمجتمع، بتعويد الطفل على الانخراط في العمل الجماعي المنظم. ولتحقيق هذه الأهداف قامت البيداغوجيا المؤسسية على مكونات ثلاثة هي: الأنشطة، التنظيم، المؤسسات.

1 - الأنشطة:
ويقصد بها مجموع البرامج المنجزة داخل المؤسسة أو خارجها لتحقيق التعلم وهي:

انفاسمن المؤكد أن ظهور العولمة لا يعود بالضبط إلى سقوط جدار برلين، وبداية ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، بل إنها تعود إلى مرحلة أبعد، قد تصل إلى قرون خلت. غير أن الشكل الذي ظهرت به العولمة في العقد الأخير، وإيقاعها السريع في الانتشار وفي غزو كل الآفاق، بفضل اعتمادها على تقانة اتصالية جد متطورة، يعبر عن تحول نوعي في نظام العولمة وفي استراتيجيتها. ونظرا لأن العولمة كمشروع تاريخي هي عملية لم تنته بعد، فإنه يصعب الإلمام حاليا بكل خباياها، أو فهم القوانين المتحكمة فيها بدقة. لذلك فإنه من غير الممكن حاليا تقديم إطار مفهومي شامل للعولمة، بل يمكن فقط الاكتفاء برصد البعض من آثارها الدالة عليها ومنها:
ـ اقتصاد تتحكم فيه الشركات متعددة الجنسية، وتبادل تجاري غير متكافئ، في المجالين المادي والرمزي؛
ـ تقليص أدوار الدولة القومية، والسير في اتجاه إلغاء الحدود بين الدول؛
ـ ثورة عارمة في مجال الإعلام والتربية والاتصال، والتقانة المرتبطة بها؛
ـ شيوع ثقافة الاختراق التي تسعى لفرض قيم وفكر واتجاهات وأذواق استهلاكية منمطة؛
إن تشريح الظواهر السابقة ومساءلتها، سيؤدي بنا إلى تسجيل الملاحظات الأولية التالية:
1 ـ إن العولمة لا تعني بأي حال من الأحوال العالمية Universalité، وذلك رغم كل المظاهر الخادعة التي تحاول ارتداءها تمويها للحقائق. ففي الوقت الذي تطمح فيه العالمية للتفتح على ما هو عالمي وكوني، نجد أن العولمة تبقى سجينة نزوعها نحو إحتواء العالم. إن إرادة فرض نظام اقتصادي واجتماعي وثقافي وتربوي وحيد، لا يمكن أن يدخل إلا في باب إرادة الهيمنة واختراق الخصوصيات الوطنية. فما يميز العولمة عن الاستعمار هو اختلاف في أسلوب الهيمنة ووسائل فرضها. إن العولمة تلتجئ لخلق شروط تنطوي أحيانا على إغراءات لا تقاوم، تجعل الآخر يتقبل بسهولة ضغوط العولمة أو يطالب من تلقاء نفسه بإحدى منافعها الظاهرة.

انفاسقضية التعليم وقضية العدل قضيتان مطروحتان في المغرب منذ الثلاثينات من هذا القرن، أي منذ أن جعلتهما الحركة الوطنية المغربية على رأس مطالبها الإصلاحية التي واجهت بها الحماية الفرنسية، قبل أن تنتقل إلى مطلب الاستقلال. وموضوعنا هنا قضية التعليم وحدها، وقد خصصنا لها ملفا غنيا في هذا العدد.
وما يهمنا هنا في هذا الحديث هو التذكير بما ظل يشكل "الثابت" الرئيسي في السياسة التعليمية في المغرب منذ الاستقلال، والذي يبدو أن بعض الجهات تريد تجاوزه إن لم نقل "التخلص" منه، على الرغم من أنه ظل "ثابتا" على مستوى الشعارات فقط، أما على مستوى التطبيق فإن ما تحقق في ميدان التعليم على مدى الأربعين سنة الماضية على استقلال المغرب ما زال بعيدا عن ما يجب. والرتبة المخجلة التي أعطيت للمغرب في التقرير الذي نشره مؤخرا برنامج الأمم المتحدة لسنة 1998، والذي عين لدول العالم مراتبها على مستوى التنمية البشرية، تضع بلادنا في مكان يشعر المرء معه، إن كان فيه بقية من ضمير وطني وإنساني، بالخزي والعار. ومعلوم أن من أهم المقاييس التي يعتمدها هذا التقرير في ترتيب الدول: انتشار التعليم وتعميمه ومستوى التشغيل ونسبة البطالة.

وما نقصده هنا بـ"الثابت" في خطاب السياسة التعليمية بالمغرب هو ما عرف تاريخيا بـ"المبادئ الأربعة"، وهي المبادئ التي أقرتها "اللجنة الملكية لإصلاح التعليم" التي كونها الملك الراحل محمد الخامس والتي عقدت أول اجتماع لها يوم 28 سبتمبر 1957. وكان تكوين هذه اللجنة في هذا التاريخ، في الواقع، إحياء للجنة تحمل الاسم نفسه شكلت أثناء الحماية، عقب الحرب العالمية الثانية، ولكنها فشلت في مهمتها خاصة بعد أن عدل الفرنسيون عن سياسة "التفتح" التي كان قد سلكها آنذاك المقيم العام الفرنسي في المغرب إريك لابون، مما دفع بالأمور نحو الأزمة التي انتهت بالمقاومة وجيش التحرير واستقلال المغرب.

" لا تعلموا أولادكم القراءة فحسب بل علموهم أن يضعوا كل ما يقرؤونه موضع تساؤل وشك. علموهم أن يضعوا كل الأشياء موضع تساؤل واختبار " (جورج كارلين)

"يشكل التلقين منظومة أيديولوجية واستراتيجية مصممة لتدمير العقول، وتجهيل الأجيال وإخراجها من دائرة القدرة على التفكير والنقد والتأمل المنطقي أو النظر في أمور الحياة وحرمانها من القدرة على التأمل العقلاني المتنور لمظاهر الحياة والوجود. وهو بالتالي يمثل أنجع وسيلة لتدمير العقل والعقلانية عند الأطفال والشباب، وحرمانهم من القدرة على التبصر والتفكير والـتأمل في سياق استراتيجيّة أيديولوجية لا تخفى على كثير من الباحثين وأهل الاختصاص " (علي  أسعد وطفة )

1- مقدمة

 غالباً ما ينظر المفكرون النقديون إلى التلقين (Indoctrination) أو التطبيع على أنه من أكثر المظاهر خطورة وفتكا في المجتمعات المتخلفة، وهو الفعالية التربوية التي تؤسس لكل أشكال التخلف والعبودية والقهر في هذه المجتمعات، فالتلقين يشكل أحد الملامح الأساسية للعملية التربوية في مختلف المجتمعات المحكومة بالجهل والخرافات والأمية. ولا جدال في أنَّ التلقين يشكل أخطر الأدواء التي تداهم العقول والعقلانية، إذ يدمر معظم أشكال القدرة على التفكير والرؤية النقدية لدى أفراد المجتمع، ويضعهم في وهدة الجهل والأمية والتجهيل، وربما لا نبالغ إذا قلنا: إنَّ التلقين يشكل قوة أيديولوجية وممارسة تربوية مصممة لإنتاج مختلف أشكال الجهل والتجهيل والتخلف الذهني والعقلي في المجتمعات المتخلفة.

تتّخذ العلاقة بين التلقين والأمية صورة جوهرية من التكامل والتلازم حضورا وغيابا،، فحيثما يكون التلقين تكون الأميَّة والعكس صحيح، وفي غياب أحدهما يكون غياب الآخر بالضرورة، وهذا يعني أنَّ التلقين يشكل أحد العوامل الأساسية في نشأة الجهل المعرفي، وتوليد الأميَّة الأكاديمية، كما يمثل في الوقت نفسه إحدى نتائج الأميَّة الأكاديمية وأحد أبرز مظاهرها في الوقت ذاته، وهذا يعني أيضًا أنَّ العلاقة القائمة بين التلقين والأمية الأكاديمية علاقة جدلية فاعلة منفعلة ضمن سياق تكاملي يكون فيها السبب والنتيجة متواترين متعاقبين متفاعلين ومتكاملين كل منهما يعزز الآخر وينتهي إليه. فالتلقين بوصفه ممارسة تجهيل، يشكل أهم وأخطر عوامل الأميَّة الثقافية في المجتمع وأعظم منتج للأمية الأكاديمية في الجامعات العربية دون استثناء. فالوظيفة الأساسية لعملية التلقين والتطبيع والترويض هي العمل على وأد العقل وردم القدرة على التفكير في المجتمعات التي منيت بهذا الداء. والأخطر من ذلك، أنَّ التلقين - بوصفه منهج حياة وطريقة في التفكير والوجود - يحول المجتمعات المصابة بأدوائه إلى مجتمعات عبودية قطيعية مستلبة مغيبة عن كل أشكال الوعي السياسي والاجتماعي والأخلاقي.

مقدمة

باولو فريري (19 سبتمبر 1921-2 ماي 1997) كان فيلسوفًا ومربيًا برازيليًا، متأثرًا بالفكر الماركسي ورائدًا في "التعليم الشعبي". كان الهدف من عمله هو تمكين المستضعفين من خلال برامج محو الأمية لرفع الوعي الاجتماعي والسياسي. تم استخدام أفكار فريري على نطاق واسع في دول العالم الثالث كقاعدة نظرية لإصلاح أنظمتها التعليمية. نجحت أساليب فريري في رفع مستوى معرفة القراءة والكتابة، على الرغم من أن تركيزه على التنمية التشاركية قد نوقش كثيرًا. لقد دافع فريري عن التعليم التجريبي، وخاصة تعلم الخدمة، باعتباره أفضل طريقة للتعليم. وأعرب عن اعتقاده أنه من خلال هذه المشاركة النشطة، يدرك الناس حاجتهم إلى مزيد من المعرفة أو التدريب، وأن هذا الدافع هو مفتاح التعلم الناجح. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من ذلك، شدد فريري على الحوار باعتباره الطريقة التربوية الشرعية الوحيدة، مدعيا أنه يجب النظر إلى المعلم والطلاب على قدم المساواة. في حين أنه من الصحيح أن المعلمين يجب أن يتعلموا من طلابهم، وأن الطلاب لديهم الكثير ليعلموه معلميهم، فإن الهدف من العملية التعليمية هو نمو الطلاب وتطورهم. عندما يلتزم المعلمون والطلاب على حد سواء بهذا الهدف، ويحافظون على علاقة بناءة قائمة على متابعتهم، يكون للشباب أفضل فرصة لتحقيق إمكاناتهم، لتحقيق المنفعة المتبادلة لأنفسهم ومجتمعهم. كيف فهم التربية؟ ماهو تصوره للتعليم؟ وهل يمكن تعميم تجربته؟