أنفاس 1- تقديم:
    لقد أخذ الحديث عن المكان في الشعر العربي أبعادا مختلفة، بحسب زوايا الرؤية التي عالجته من جهة، وبحسب الفهم الذي أنيط به من جهة ثانية،وبحسب المعارف الرافدة التي تؤثث الدراسة. وكل مقاربة للمكان من هذه المنازع إنما قدمت نتائجها الدقيقة التي أعطت للمكان ثقله الفني في البناء الشعري شكلا ومضمونا، حتى غدت مقولة المكان من الخطورة ما يجعلها موضوعة تتشعب إلى رؤى ذات طبيعة ميتافيزيقية، بعدما كانت تدرك فقط في الحدود الجغرافية والاجتماعية والنفسية. ذلك أن المكان في صلته بالذات المبدعة والمتلقية، يتخذ من الصفات المتشابكة ما يجعله من المقولات الأكثر تعقيدا على مستوى المعنى والمبنى. وأن فك هذه العلاقات يقتضي من الدرس التحليلي أن يسترفد سائر المعارف التي أنتجتها العلوم الإنسانية لفك ألغازه، حتى تفضي إلى الحقيقة التي من أجلها سيق المكان في الشعر موضوعا، أو إشارة، أو رمزا.
2-الموضوع، النداء والتلقي:
    فإذا كانت الدراسات الواقعية قد رأت في المكان " شيئا " يتحدد وجوده في إطار الواقع، بعين المواصفات الخارجية التي تمتلكها الأشياء، فإنه في الدرس النفساني يستحيل إلى " تمثيل" و " تصور " وكأن المسألة عند هؤلاء تفترق عن الشيء الغفل ذي المادة الصلبة، إلى لون من التصور الذي يحدث على مستوى النفس فقط، حين يجعلها تتمثل من خلال المكان جملة من الأحاسيس والمشاعر التي ربما أثارها المكان بمحمولاته التذكُّرية، التي لها صلة بالذات في لحظة من لحظاتها السالفة. والتمثيل يحيل المكان على عملية القلب التي ترتفع بالمكان من الوجود الفعلي إلى الوجود المتصور في أعماق الذات. فليس القصد من ورائه عرضه موضوعا جماليا، بل الغرض في اعتباره محولا يمكِّن الذات من التقاط المشاعر والأحاسيس، مما يفيض عن المكان، وهو يندرج ضمن البناء الفني عموما. فإذا آنسنا من الموقف الواقعي تطرفا في التعامل مع المكان، تطرفا يجعله شبيها بأي شيء آخر.فإن التطرف عينه نلحظه عند النفسانيين وهم يحاولون جعل المكان مجرد تمثيل، تُسلب منه خاصية الموضوع المستقل بذاته، ليكون أيقونا على إحساس ما يعتم في أعماق الذات.

أنفاسمنذ ظهرَ الديوان الأول للشاعر محمد الماغوط: "حزن في ضوء القمر" عام 1959، ثم ديوانه الثاني: "غرفة بملايين الجدران" 1960، و"الفرح ليس مهنتي" عام 1970، كان الماغوط قد رسخ بقوة أسلوباً شعرياً جديداً من حيث الشكل والمضمون.. لقد كتب الماغوط المسرحية، والزاوية الصحفية، وكتب للسينما وللتلفزيون كما كتب رواية "الأرجوحة" إلا أنه في كل كتاباته ظلّ الشاعر الذي لا يمكن النظر إليه إلا من جهة الشعر!..‏
لم يكن شعره أنيقاً ولا متأنّقاً، بل كان شعراً غاضباً، شرساً، معفّراً بالحزن والقساوة ومغمساً بماء الحياة الآسنة والعذبة، لقد صور الماغوط نفسه في شعره مرّة كطفل متشرد جريح أو كفأر مذعور، ومرّة كوحش قادم من بيداء موحشة أو من خرائب لا وجود فيها سوى للعواء ونداءات الضواري. شعر الماغوط مليء بالمفارقات والمتناقضات سواء على مستوى الصورة الشعرية، الذهنية أو السيكولوجية للشاعر. ولكن الصورة الآخاذة التي تستهويه دائماً هي صورة البدوي أو الهمجي غير المتحضر الذي يهزأ بالمتحضرين أو الفلاح الساذج البريء القادم إلى عالم المتمدنين بارتباك حيناً وبصلافة حيناً آخر... وبين هذا وذاك برزت صورة المتسكّع على الأرصفة والعابر أمام واجهات المحلات والمقاهي وكأنه وباء يهدد بلادة الأثرياء والميسورين، فكان هجائياً، متهكماً، نافراً:‏
"نزرع في الهجير ويأكلون في الظل‏
أسنانهم بيضاء كالأرز‏
وأسناننا موحشة كالغابات‏
صدورهم ناعمة كالحرير‏
وصدورنا غبراء كساحات الإعدام‏
ومع ذلك فنحن ملوك العالم..‏
بيوتهم مغمورة بأوراق الخريف‏
في جيوبهم عناوين الخونة واللصوص‏
وفي جيوبنا عناوين الرعد والأنهار".‏

أنفاسما كادت سنوات العقد الثالث من القرن العشرين تستقر في تونس حتى  أصبحت النصوص الشعرية المنشورة وقـتذاك تشتمل على أصناف عديدة من الشعر العمودي ، إلى الشعر المتحرر من النمطية العروضية ، إلى الشعر المنثور  ذلك الذي اِقتبسه بعض الشعراء التونسيين من مدونة شعراء المهجر ومن الشعر الفرنسي خاصة و لكن ذلك لم يتجاوز المحاولات الفردية ومن حين إلى آخر فحسب ، ولقد كان أبو القاسم الشابي واعيا بتلك المسائل الشكلية في الشعر منذ البدايات الأولى له في النشر حيث أنه أرسل إلى صديقه محمد الحليوي في حاشية رسالته الثالثة قائلا خاصة :
( سألتني عن مجلة سعيد أبي بكر و هل أن الداعي إليها مادي أم فني و أنا لا أدري على التحقيق كيف أجيبك و بماذا أجيب إذ كل مبلغ العلم عندي هو أنه تولّى إدارتها الفنية أعني إدارة التحرير و أنه تسلم مني قطعة من الشعر المنثور عنوانها ـ الشاعر ـ تحت عنوان أكبر أود أن اكتب تحته مواضيع مختلفة إن ساعد الدهر و أشفق الله و هذا العنوان هو : صفحات من كتاب الوجود ـ و أعلم أنني رأيته يصحح ما طبع من المجلة و من بين ذلك قطعتي )
        فنص الشابي الذي أدرجه تحت الشعر المنثور اعتبره ( قطعة) و تلك كلمة تدل على القصيدة أيضا و معنى هذا أن الشابي كان مدركا تماما للجنس الأدبي الجديد الذي سيواصل الكتابة فيه بعدئذ على صفحات مجلة (العالم الأدبي) التي كان يديرها زين العابدين السنوسي و هو الآخر يعتبر مثل سعيد أبي بكر من دعاة التجديد الأدبي و الفكري في الثلث الأول من القرن العشرين ، بل هو المحرك الفعلي للأدب التونسي الحديث في بعض الأحيان..
       إن آثار الشابي في هذا النوع من الشعر لم تلق العناية بالجمع و الدرس مثلما تسنّى لبقية آثاره الأخرى أن تحظى به و  لعل السبب في ذلك راجع إلى اعتبار تلك القطع- حسب تسمية الشابي نفسه من الشعر المنثور- مجرد محاولات أولى سرعان ما تجاوزها إلى كتابة القصيد العمودي ثم هو نفسه لم يجمعها مع شعره في ديوانه أغاني الحياة فظلت مبثوثة في  مصادرها الأولى و قلّما أشار إليها الدارسون باِعتبار صعوبة الوصول إلى تلك النصوص من ناحية و باِعتبار أن ذلك النوع من الشعر الجديد ، على تعدد مصطلحاته ، قد واجهته تحفظات شديدة لدى كثير من النقاد عل مدى فترة طويلة فالسكوت على نصوصه تلك في هذا النوع من الشعر ليس دائما موضوعيا أو لأسباب بريئة !!
       في سنة 1984 و بمناسبة خمسينية الشابي صدرت الأعمال الكاملة للشابي و قد تضمنت في الجزء الثاني منها نصوص شعره المنثور التي أمكن الوصول إلى جمعها و لكن دون تحقيق و من دون أن توضع تحت عنوان الشعر المنثور.

أنفاسشاءت عوادي الزمن الموبوء إلا أن تقتلع هامة من هامات شعرائنا الشرفاء، إنه محمد عمران الشاعر السوري الكبير الذي "حرنت خيله وسقط الشرق في ثيابه دنانيرا، وصلى لحضرة المطر ومضي بين الليل والفجر صخرا لا تحركه المدام ولا الأغاريد".
إن السمة التي لازمت محمد عمران، هي سمة الحزن، الحزن الشفيف لا الحزن السوداوي، يقول في معرض حديثه عن هذا الحزن في إحدى الندوات التي خصصت لدراسة تجربته الشعرية.
"إذا كنتم تنطلقون من الحزن مفتاحا لتجربتي الشعرية فأنا معكم... ذلك أن الحزن الذي عنه نتكلم، هو حزن من يحمل هم تغيير الأشياء، وهو إعادة ترتيب العالم وهذا الحزن في ما أذكر هو الذي رافق كل الحالمين بالتغيير منذ البداية... بهذا المعنى إن مفتاح تجربتي الشعرية ينطلق من هذا الهم بدءا من الهم القومي الذي هو في الأصل مشروعي الشعري وصولا إلى الهم البشري، هم الإنسان في مسيرته على هذا الكوكب وفي معاناته، في نضاله من أجل حياة أكثر دفئا وأمنا وسلاما. "من مداخلة الشاعر بمناسبة تكريمه في مهرجان السنديان الشعري الأول في الملاجة (مسقط رأس الشاعر).
لقد خاض الشاعر المبدع محمد عمران على امتداد أربعة عقود من الزمن ونيف تجربة إبداعية مرموقة، كان حريصا فيها على الهمين: القومي والوطني، وامتزجت هذه التجربة في نضجها بالأرض والطبيعة، وعانقت في عمقها أسئلة الوجود مرفوعة إلى أفق غنائي يفيض إنسانية وعذوبة، كما أنه حمل القصيدة هم التجريب ونزعة تجاوز الناجز حتى لو كان من إنجازه هو نفسه.
نشأ محمد عمران في بيئة ريفية (قرية الملاجة)، وهي قرية متخلفة ونزح إلى دمشق؛ المدينة الصاخبة باحثا عن توازنه المفقود في القرية ولكن دون جدوى؛ لقد صدمته المدينة وأدهشته وأشعرته بالنقص لأنها لم تعترف به ولم تستجب لرغباته، ففي قصيدة: "ثلاث وجوه للريح" يقول:
"باحثا في مدائن الجسد الزرقاء
عن رايتي وأخباري
عن خيول أغزو بها شهرزادي
لم أجد أرضها القصية
أرضها البكر

أنفاس 1
يحكى انه قال العتابي فيما مضى:
 (البلاغة إظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق)
وذكر لنا الجاحظ عن أعرابي انه قال: (من التوقي ترك الإفراط في التوقي!)
2
ما من أديب منا- إلا وقد غطته التراكيب المتواشجة بالأساطير، والخزعبلات وأقصته بعيدا عن المعالم الحضرية المتناثرة على وجوه الحقيقة المريعة..  
كلما تصورنا ان نواجه الكلمات الأكثر سلطة من الصمت، الأكثر حيوية من النص، إلا وغرقنا في تفاصيل موقودة بالمحرم، بالممنوع..
 لكم تصورنا ان عالم الكلمة اليوم وغدا سيكون من قاعدة ثابتة.. ضمن ما يكون التحديث العصري المواكب لانزياح المعلومة الغيبيّة بمعلومة ذات أصل، وكيان!
لكننا لم نـر سوى انكسار آخر ضمن المعنى. انكسار لم يعني الانحراف عن القصد، فحسب. قد يؤلف معنى جديدا/ يكتسب ثباتا آخر.
كيف تثبت تلك الحيثيات بين المعاني وتخرج صارخة بوجه المتلقي العارف/ العليم.. صماء اكثر عفوية وأوغل معنى…؟
ان ذلك الصدق المعنون، المسمى لا يكون إلا احترافا قدريا يكتبه المرء دون ان يستند على دوغماجية بالية أكلتها العثة.. دون ان يتحرر من الفراغات العفوية بين العهد القديم/ الجديد، والهفوات الجوفية غير المقنعة.. اقتدارا تكون الكلمات المستندة على معرفية عريضة، فمن أين يأتي بكل تلك الإرادة صانعها، وناحتها بأبشع الأزاميل الطاهرة…
    نكون في لحظة عفوية قد امسكنا المعنى المفترض بين التلافيف، نكون قد صادرنا الاعتباطي الغيبي المجوف، واللا توجه فنقف حائرين ضائعين بين حدود النص في الذهن، وبين إدراك مغزاه على امتداد المقصود..
 ما نكتبه الآن يصبح بعد حين، بعد جفاف الحبر شيئا باليا، رغبتنا بالتمزيق اكبر من رغبتنا بان يبقى، وان يقرا.. وما ان يقرأ بعد حين يكون ثاويا في مجد الذهن يطاردنا ككابوس متسلط متنفذ على آلية ما نكون به، ومازوشيا على حيوية ما نعرف…
ان الكتابة قد تطوف حروفا متناثرة بين جزئيات الكتاب، مؤثرين ان نجمع الدم، والموقف فلا نحيد عن عزمنا اللبيب إلا بالكتابة المتفجرة كالدم الخارج نزفا من جرح عميق..

أنفاساتسم الأدب المغربي عموما والأنماط السردية المتجسدة في الرواية والقصة كنموذج بشكل خاص باحتوائها لمجموعة من القضايا ذات العمق والمتجذرة في قلب الواقع المغربي، عذا مع تسجيل بعض الاستثناءات البسيطة والتي لا تعدو أن تكون إنفلاتات لا غير، لكن هناك بعض القضايا ولقوة حضورها كانت غالبا ما تصفو على سماء الإنتاجات الأدبية السردية من رواية وقصة، ومن أبرز هذه القضايا وأكثرها حضورا القضية الوطنية، أي مجموع الشعور التي يكتنزه الفرد في ذاته واتجاه وطنه ويعبر عنه إما بالثورة أو المقاومة السرية ضد سالبيه حريته، ونقصد به المستعمر، وكان حضور هذه القضية مختلفا ما بين حقبة وأخرى، حيث كان حضور القضية الوطنية في الانتاجات ما قبل الاستقلال يحمل بعدا توعويا وتحميسيا يراد منه إثارة هيجان المواطن المغربي بغية تحفيزه ودفعه للإقدام نحو كل من عبد المجيد بن جلون وع بد الكريم غلاب، حيث نلمس هذا التحفيز وهذه الإثارة جليا في أعمالهما خصوصا السيرة الذاتية لعبد المجيد بن جلون " في الطفولة" و" دفنا الماضي" لعبد الكريم غلاب، إذ هناك بعض المقاطع في السيرتين المذكورتين تحاول إثارة شعور الثورة والهيجان في غياب المواطن المغربي لتدفعه للثأر والصراخ في وجه المستعمر وتحقيق أهداف الأمة النبيلة وفي مقدمتها الاستقلال.
وجاءت فترة ما بعد الاستقلال وإلى حدود سنة 1984 والتي كان الإنتاج الأدبي فيها ضعيفا حيث لم ينشر فيها سوى 3113 كتابا، مما جعلها بحق مرحلة حسب النقاد والدارسين مرحلة السنوات العجاف، وإمتازت جل الانتاجات الروائية والقصصية فيها بطابع الافتخار والنشوة بعد النصر، إذ نرى مثلا الكاتب المغربي مبارك ربيع يتحدث في بعض أعماله عن المقاومة المغربية ومعركة التحرير والاستقلال باعتزاز كبير يشخصه أبطال رواياته وقصصه، ومنها على سبيل المثال حينما يستعرض أمجاد المقاومة المغربية أيام الاستعمار في مجموعته القصصية " سيدنا قدر" وبالضبط في قصته المعنونة ب " الأصم" فيقول " نحن في سنة 1954 والمقاومة على أشدها إذ ظهرت في الميدان منظمات جديدة بجانب منظمتنا التي كانت وحدها أول الأمر، كانت عملياتنا تنجز بإحكام ورصيد منظمتنا منها كان عظيما" ( " سيدنا قدر"/ الأصم: ص 1 7) ويقول في أحد المقاطع الأخرى من نفس القصة " ذلك أن عملي قبل ذلك كان ينحصر في إعداد المنشورات والسهر على وثائق المنظمة، أما رفقي فكان من رجال العمليات الممتازين يحظى بمكانة عظمى في المنظمة"، ونلمس أيضا هذه النزعة الإعجابية في إنتاجات كتاب آخرين كمحمد برادة ومحمد الصباغ وآخرين، وفي مقابل هذا نجد فئة من الروائيين والتي تنتمي إلى نفس الفترة ( 1957 – 1984) تحاول قراءة ذاك الماضي أي ماضي المقاومة وفترة الاستقلال بنوع من النقد الموجه، موجه بالتحديد إلى القوى السياسية المجسدة في الحزب الذي كان يعتقد بأنه يمثل الشعب ويتبنى مطالبه في حين أنه لا يعدو أن يكون براغماتيا يجلب النفع لذاته وذويه.

أنفاسيوضح علي كنعان علاقته بالشعر قائلا:
"بدأت العلاقة بيني وبين الشعر في التاسعة من عمري – على ما أذكر – بعد أن ختمت القرآن وأمرت بحفظ المقطوعات الشعرية لإلقائها في السهرات أمام الضيوف" (1).
ويحدد ما يشغله كشاعر: "تشغلني قضيتان أساسيتان:
العدالة الاجتماعية والحرية، ان شتى مظاهر الظلم الاجتماعي تثيرني بجزئياتها الصغيرة وتملأني حقدا. فلا أجد عزاءا أولا في غير الكتابة أو المطالعة. ومع إيماني بأن السير بحزم في ضوء الفكر التقدمي يستطيع أن يقضي على هذا الظلم، إلا أن الخطر يكمن في أن تتولى حمل المشاعل وتحريك الخيوط في هذه المسيرة طبقة من الموظفين والمستوظفين الذين يعرفون جيدا من أين تؤكل الكتف، والذين تقضي مصالحهم ان يحافظوا على أمراض الواقع ويزيدونها تعقيدا وخطرا لتبقى الحاجة إليهم قائمة باعتبارهم أداة خبيرة بحل المستعصيات، وهكذا يعيشون ويتكاثرون كالعلق على أكتاف جماهير المنتجين، وبخاصة الفلاحين. إن نقمتي على هذه الطبقة، وأنا واحد منهم، تجعل كتابتي أحيانا أشبه ما تكون بتقشير جرح تقيح ليبقى مفتوحا – رغم بشاعته – أمام شمس الناس المطهرة"(2).
يحدد الشاعر في هذا الاستشهاد طبيعة انشغاله كشاعر، وتتخذ هذه الطبيعة أساسا ايديولوجيا واضحا.
وعلاقة علي كنعان بالشعر توطدت في سن مبكرة – كما جاء في شهادته السالفة – إذ نشر أولى قصائده في مجلة الآداب سنة 1959، كما أنه خبر القصيدة الكلاسيكية ونال عليها الجائزة الرابعة في مهرجان الشريف الرضي عام 1964 باللاذقية، وكان من المدافعين الأوائل عن القصيدة الحديثة في سورية. درس الأدب الإنجليزي في جامعة دمشق وتخرج منها، واشتغل بالصحافة الأدبية بصورة متصلة ومتقطعة منذ عام 1964 .
وقد أثر كل ذلك في شعره (الريف والأدب الإنجليزي والصحافة، التراث الأدبي والأسطورة) وكان الأساس الجمالي لمجمل نتاج الشاعر.

أنفاسيقدم الجندي نفسه بقوله:
"كانت عائلتي إسماعيلية أغاخانية، ثم تمرد والدي ظانا أنه يقوم بثورة، ونال في سبيل ذلك اضطهادا اجتماعيا وفرنسيا وفقرا"(1).
لقد نشأ علي الجندي في "سلمية" وهي مسقط رأسه تقع على أطراف البادية في سورية، عاش بها ظروفا قاسية من الاضطهاد والفقر، وهو ما جعله يتمرد تمردا فرديا خاصا ضد هذا الواقع منذ مطلع شبابه ـ شأنه في ذلك شأن أبيه ـ ومن ثم راح يمارس تمرده الرواقي العبثي بصورة علنية في الجامعة السورية في مطلع الخمسينيات.
يقول عنه سعيد حوارنية: "وكان علي الجندي المفتون ببايرون الجميل جدا والمتحدث دوما، الضاحك أبدا والملتهب شبقا إلى الحياة الفريدة... لم يكتشف أن الشعر قضيته إلا في وقت متأخر، وبعد أن استهلك نفسه وجسده كرواقي خرافي، وبعد أن امتدت إليه يد الحياة التي ذللته بخنجر رمادي يلمع ويحاذي لحمه"(2).
هذا هو علي الجندي إذن سيصحو فجأة على السقطة المروعة التي تلقاها جيله في حرب حزيران 1967، فانهارت أحلامه السياسية، وأحس بالخراب يحاصره من الجهات كلها وبالوحدة القاتلة المدمرة، فلم يكن له من حل سوى أن يجعل من الشعر عالما موازيا للواقع المزري، ومعوضا له. ومن ثم انتشر إحساسه بالقلق المدمر والبؤس النفسي والحزن المرضي، فراح يدين كل شيء، ويجزم بصورة قطعية أن كل ما كان وسوف يكون، عقيم لا جدوى منه.
وفي هذا المعنى يقول:
"إنني أعرف أني صرت وحدي.
إنني أفردت إفراد البعير
صرت كالمجذوم في أهلي
فمن دنياي غوري"(3).
ويقول في مقطع آخر عن المعنى نفسه:
" كل ما كان وما سوف يكون
صار صحنا من رماد بارد صار وجها طحلبيا
فوق ماء جامد"(4).