أنفاسبين تاريخ صدور بواكير دواوين محمد الطوبي، وصدور ديوانه: "غواية الأكاسيا"(1) ثلاثة عقود من الزمن تنقل فيها بين الهموم الذاتية، والهموم الوطنية بحكم تفتق وعي الذات المبدعة على ما كان يشغلها حينما كانت الآفاق مشرعة على المستقبل الحامل لبشارات الأضواء التي بدأ يخفت وميضها مع مرور الزمن، لتسلم الشاعر إلى نوع من الارتداد إلى هواجس الذات المهزومة التي تتجاذبها رغبات يومية بسيطة.
غير أن هموم هذه الذات المنهارة بحكم قساوة الواقع المر وفظاعته، لم تتخلص نهائيا من الأحلام التي كانت تؤرقه حين كان- مع رفاق له- يؤمنون بحتمية تحققها.
ومن ثم جاء ديوانه: "غواية الأكاسيا" نسيجا متساوقا مع هذه الأحلام.
وهي على بساطتها أحلام ثلاث.
1- أحلام الوطن المنزوع الهوية، الوطن المسروق.
2- أحلام الذات العاشقة لأطياف الأجساد المغسولة من صدإ النفاق والرياء الذي ملأ الدنيا.
3- أحلام التشرد والانصياع لغواية مملكة النبيذ.
والخيط الرابط بين هذه الأحلام الثلاثة التي تؤثث قصائد الديوان؛ هي الانخطاف تجاه سلطة العشق والغواية". فالحب في تصور الطوبي لازال ممكنا ولم تنطفئ ذؤاباته في الروح بعد. وهذا الإيمان بالعشق هو ما يدفع الشاعر إلى مقاومة الحزن واليأس.
" أنا أحببتكم
الحب لا يزال ممكنا
لم تنطفئ ذؤاباته في الروح بعد.
لكن فليكن انه لن يؤرقكم أكثر،
كم لا أريد أن أحزنكم بأشيائي"(2).
ويشكل هذا الإيمان بالعشق التيمة الكبرى المهيمنة على جل قصائد هذا الديوان كما سيتضح لاحقا.
1- أحلام الوطن المنزوع الهوية، الوطن المسروق:

أنفاسلم أكن أحسب أنني على موعدٍ باذخٍ مع كل هذا النقاءْ , وهذه الأصالة التعبيرية التي ذكرتني بالشعراء العذريين العرب أو بأقرانهم الأبطال العشّاق في القرون الوسيطة , ولكن .... أن تجد شاعراً حقيقياً بكلِّ ما تنطوي عليه الكلمة من مغزى ودلالة , ومتواضعاً ونبيلاً كطيران الفراشِ الأنيق إلى سدَّةِ الحلمِ , في هذا الوقت بالذات , فهذه نادرةٌ قلمَّا يجودُ الزمن البخيلُ بمثلها .
حتى أنني عندما أهداني الشاعر ديوانيهِ الأخيرين الصادرين عن مؤسسة الأسوار بطبعةٍ أنيقةٍ مخمليَّةِ الطراز, وهما " تضيقُ الخيمةُ يتسِّعُ القلب" و" الكتابان :ويبدأ بالأوَّل وينتهي بالثاني" تيَّقنتُ أنني أقفُ على كلمةِ الشاعر وبيت قصيدهِ , ولم أتفاجأ أبدا من حجم الطاقة النورانية والزخم الشعوري المنفلت منهما .
الديوانان عبارةً عن سجلَّين للندى, والأزهار, والتراب المعشوق, والضبابِ الطفوليِّ الناعسِ في ظلال أشجارِ اللوزِ والزيتونِ والسنديانِ , وعن سمفونيَّة عشقٍ لا تحاول المآلفة بين فوضى حواسها ومشاعرها , بينَ الحسيِّ والمجرَّد .
لم أكدْ ألمسهما حتى انبثقت من أصابعي الأنهارْ , وخفَّت في القلبِ المذبوحِ بسيفِ اشتهاءٍ شتاءٍ بعيدٍ , كلُّ العصافير المُلوَّنة بألوان الفرح الخفيِّ والغناء, والنجوم الخريفيَّة المبتلَّة بدموع كيلوباترا وليلى وجولييت والزا وفاطمة ومي .
كيفَ لا وأنا على موعدٍ مع كُلِّ هذا الإحتفاء بالجمال والأنثى والحبقِ النسائيّْ؟
كيفَ لا ...... وأنا على موعدٍ مع مملكة النقاء الأبجديّْ؟
ما أن بدأتُ بالقراء المتأنيَّة التي ينبغي أن يُقرأ بها شعرٌ في مثل هكذا حجم , حتى انزاحت الحُجب والستائر عن ذاكرتي المثقلة بعشبِ الصحراء, وعن الديوانين, وتأكدَّ رهاني من جديدٍ على صاحبهما, رهاني الذي بدأتهُ منذُ سنين عديدة وأخذَ ينمو رويداً رويداً حتى اكتملَ اليومَ بدراً مبينَ النورِ والهالةِ في سماءِ شعرنا العربي الفلسطيني , وأظنُّ أن الناقدة والشاعرة الأمريكيَّة "إميلي ديكنسون كانت محقَّةً عندما قالت أنَّ أجمل الشعر في نظرها ذلكَ الذي تقرأهُ فتحسُّ أنَّ قمة رأسكَ قد أُنتزعتْ من مكانها , أظنها لم تكن تعني الاَّ شعراً كشعر حسين مهنا , ذلكَ أنَّ شعر حسين مهنا ينتزعُ قمة رأسك وقلبكَ وأحاسيسكَ معاً وفي لحظةٍ ضوئيةٍ واحدة, أو هو كالمغناطيس الهائل الذي يجذبكَ الى ذاتك الجميلة الأخرى, أو أشبه بغناءِ الأمازونيات في الأوديسة, ذلك الذي لا يختلفُ كثيراً عن النغمةِ الشجيِّة المتدافعة بحرارة من أقصى قلبِ شاعرنا وكأنها بركانٌ احتبسَ طويلاً , وها هو يتكأُ اليومَ على قريحةٍ سيَّالةٍ تجددُّ أشياءها باستمرار وبهجة . وتشحذُ ذاكرتها الايروسية وذائقتها الرفيعة المتجددَّة بالبلوَّر النسائيِّ الناصع الرهافة والحساسيَّة والصوتْ .

أنفاس1-  مدخل :الإبداع يصنع المعجزات
يتطلب الإبداع  من النفس المعاناة والمكابدة والتأمل ، لتقديم صورة مركبة ومؤلفة تأليفا ،يميز مبدعا عن آخر ،وللمبدع دور في النصوص من حيث كيانه النفسي والاجتماعي والثقافي ،لذا فهو  لا يكتب من فراغ ،دون حافز قوي يترجم عبر اللغة ما يخالج الذات ،بل من  حمولة ثقافية متراكمة  ،فتصبح لديه طقوس وأدوات ينفرد بها عن غيره ..إن الإبداع هو استحضار لحظات التأمل والانفعال والشعور ،حيث تترتب المعاني في نفسه على نحو متسق ، ومنسجم ، فيتشكل  شفويا في اللغة وفي الصورة الجمالية ،قبل أن يخرج إلى النور لغويا في شكله النهائي ..وهذا هو السر في اختلاف قيمة النصوص الإبداعية ، على الرغم من تقاطع بعضها في توظيف ألفاظ موحدة ..ومن هذا المنطلق ،سأتناول مجموعة المبدع علي أفيلال القصصية ،المعنونة ب"أفعى في صدري "انطلاقا من الجانب النفسي ،أي التجربة التي عاشها الشاعر في كل نص من نصوصه ،والجانب اللغوي والفني والتركيبي والصياغي ،لإبراز إلى أي حد ،استطاع هذا المبدع، شق طريقه في عالم السرد القصصي ،وهو معروف عليه شخصية روائية محضة...
2-  علي أفيلال ظاهرة ثقافية
عرفت شخصية علي أفيلال خلال المعرض الدولي لسنة 2008،وكنت أجهله تماما كما أجهل إبداعه ..وقَدّمَ إلي نفسَه بصفته حلاقا ،غاص في ترعة الأمية حتى سن 24 من عمره ،لم يعرف فيها المدرسة ولا حتى الكتاب ...وحين نبشْت الترب ،طلعت جواهره تضرب بأشعتها النظر ..ظاهرة إبداعية صرفة فرضَتْ نفسها بقوة في المشهد الثقافي ، أثمرت كنوزا متنوعة لألاءة ،لكن ، تغمرها تلال الإهمال ..ولاأدري بعد، ماسِرّ إهمال  أديب من العيارالثقيل ؟،و الذي قارب أل 20 إصدارا مابين روايات ،ومجاميع قصصية ،تضيق المساحة لاستعراضها هنا ، وسأقتصر على بعضها :
بوح العواصف :رواية
وشم على جدار القلب :رواية
اعترافات امرأة :رواية

أنفاسصمت إلى الأبد الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط، الطائر الريفي الشريد، بعدما سئم التسكع تحت نور المصابيح ومل التنقل بين الأرصفة وحقائبه مليئة بالجراح والهزائم، فمضى وهو يحمل تاريخه كالحطاب، وشفتاه في قاع الزجاجة.
وبرحيله فقد الشعر العربي أحد أهم شعرائه الطليعيين الذين ملأوا المنابر الثقافية ـ ولمدة طويلة ـ بحضورهم القوي عبر مواقف جريئة حارقة، وقائمة على الرفض والنقد الصريح، لأنه كان مهووسا بجوهر الوجود ومعناه. ومن ثم راح يستعيد البحث الرامبوي عن ذلك الاحتجاج الاجتماعي ـ الوجودي ـ، ويصرخ بأعلى صوته معلنا عبث العالم، داعيا إلى تغييره.
لقد اختمرت تجربة محمد الماغوط الشعرية في ظل ثنائية الصراع بين العرب والصهيونية على الصعيد الخارجي، وبين قوى التخلف والتقدم داخليا، وتشكل هذه الثنائية خلفية أساسية لرؤية الشاعر للعالم. إذ انخرط في حركة المجتمع يندد بالهزيمة وبالواقع الاجتماعي الذي أنجبها، ويحاسب المسؤولين الحقيقيين عنها.
وتتسع رؤية محمد الماغوط المنددة بالهزيمة في كل ما كتب من شعر، وهي أكثر احتفالات بالمحتوى السياسي وافتضاح السلطة العربية عقب هزيمة حزيران 1967 المريعة.
وتكمن أهمية محمد الماغوط في كونه استطاع أن يعطي للغته الشعرية حرية جنونية، إذ اتخذ تعبيره الشعري نبرة عنيفة في محتواه الدلالي، وفي شكله اللغوي والأسلوبي في آن معا، وهذا ما تجسد في نكهة العري التي مارسها الماغوط في معجمه الشعري عبر توظيف لغة الانتهاك، وتعمد البذاءة اللغوية المتحررة من أسار اللغة النمطية المقدسة "اللغة التراثية الفصيحة" ليحط في عالم الناس ويلتحم بمشاكلهم وتناقضاتهم جريا على مقولة" اندريه برتون: André Breton" حين يتعلق الأمر بالتمرد، ينبغي ألا يحتاج أحد منا إلى أسلاف" بيانات السريالية ص 80.
والمتتبع لأعمال محمد الماغوط الشعرية، يلاحظ أن البذاءة اللغوية اتخذت عنده حجما أوسع من شعراء جيله، لأنها مرتبطة عنده بالتمرد على المواضعات الاجتماعية المكبلة للحرية. ففي ديوانه: "حزن في ضوء القمر" قصيدة بنفس العنوان يقول فيها:
" وأنا أتسكع تحت نور المصابيح.
أنتقل كالعواهر من شارع لشارع...
أشتهي جريمة واسعة

أنفاسمرّ، يوم 21 أيار (مايو) الجاري، ربع قرن علي رحيل الشاعر المصري الكبير أمل دنقل (1940ـ 1983)، وكان ثمة دلالة بالغة الخصوصية، عندي شخصياً، أن تكون أوّل مادّة أقرأها في استذكار الراحل مقالة منصفة كتبها الشاعر المصري رفعت سلام، صاحب وردة الفوضي الجميلة وأحد أبرز أصوات السبعينيين، وبين أفضلهم ثقافة وأكثرهم امتلاكاً للعدّة النقدية التنظيرية والتطبيقية التي تحتاجها القصيدة الجديدة.
ذلك لأنّ جمهرة من الشعراء السبعينيين، أعضاء جماعتَيْ إضاءة 77 و أصوات ، وكان سلام في عدادهم إلي جانب حلمي سالم ومحمد سليمان وأحمد طه وعبد المنعم رمضان، لم يخفوا نزاعهم التامّ مع دنقل، بل ذهبوا في هذا النزاع أبعد مما ينبغي، وبلغوا مستوي حاداً لم يكن يبرّره أيّ اعتبار واضح أو وجيه. جماعة أصوات ، مثلاً، جرّدت دنقل من الشعرية، هكذا ببساطة، وأطلقت عليه صفة شاعر لكلّ العصور ، بالمعني القدحي طبعاً؛ ورأت أنه نموذج للشاعر الذي تصنعه السلطة لكي يتكسّب بالشعر، ويتحوّل بالهجاء والمديح من الرفض إلي القبول!
أحمد طه، مضي شوطاً دراماتيكياً حين اتهم دنقل بالإرتداد عن الخصوصية المصرية في الشعر ، لصالح العمومية العربية ، وذلك في الحوار الذي أداره إدوار الخراط مع عدد من الشعراء السبعينيين (فصلية الكرمل ، العدد الخاص بالأدب المصري، 14، 1984). قال طه: أعتقد أنّ شعر السبعينيات يمثّل عودة إلي أصالة الشعر المصري (...) وشعر السبعينيات كان عودة للقصيدة المصرية كما بدأها الرواد من مدرسة أبولو، ثمْ محمود حسن اسماعيل، ثمّ محمد عفيفي مطر، وأبرز ما فيها أنّها تمثّل الخصوصية المصرية في الشعر، لا العمومية العربية، التي كان يمثلها بشكل واضح شاعر كأمل دنقل أو أحمد عبد المعطي حجازي .
تصريحات كهذه كانت جزءاً من الكلام الكبير ، المفتعل والمتسرّع والأجوف، الذي سيمتلك حلمي سالم شجاعة الاعتراف باستخدامه في تلك الحقبة. ولعلّ معظم سخط السبعينيين ذاك لم يكن نابعاً من انشقاقهم عن قصيدته أو مناهضة خياراته ومواقفه، الجمالية والسياسية والفكرية، فهذا لم يتضح في نصوصهم، أو أنهم لم يفلحوا في إعادة إنتاج الإنشقاق ضمن صياغات بديلة. ولعلّ أكبر الدوافع، الخافية غير المعلَنة مع ذلك، كانت انتقادات دنقل اللاذعة لحال التناقض التي عاش في إسارها معظم أولئك الشعراء: بين إدعاء الإنتماء إلي الحداثة، وممارسة نقيضها في الحياة كما في النصوص.

أنفاسمن منَّا نحنُ المنتظرون ما لا يأتي , البسطاءُ في صياغة أحلامنا , المحكومونَ بالعدم وشقاءِ الدمِ الأزرقِ " حبر مواجعنا والنجوم" , يملكُ نفسهُ اللاهثة خلف سرابِ الأهواءِ الفضيِّ , كما يملكُ عفويَّة أحلامهِ وبساطتها المؤجلَّة , ولا يترَّصدُ الفُرَصَ  المُبتذلة واللحظاتِ الحرجة والمواقف الرخيصة ليرمي ظهورَ أصدقائهِ الساذجين اللاهينَ بسهامِ عبثهِ غيرِ البريء ؟؟
من منَّا لا يُروِّجُ لأضغاثِ أوهامهِ وهشاشةِ أمانيهِ المُهشَّمةِ كالبلوّر على صخرِ الحياة , المبعثرة على سطحِ كوكبٍ ضائعٍ في مجرَّتهِ ؟
من لا ينافقُ في أصغرِ جزئيَّاتِ علاقتهِ مع الأشياءِ والآخرين ؟؟

حبَّذا لو فعلنا كلَّ هذا ولكن بقدرٍ معلوم ٍ ...حبَّذا .
"كُلنَّا في الهواءِ سواء" هذا ما نكتشفهُ في النهاية ونعترفُ بهِ , هذه الحقيقة تطبقُ علينا كلعنةٍ محتومةٍ , كظلامٍ قاسٍ.
إنَّ ما أغراني بكتابةِ هذا الكلامِ الجريحِ يراودني منذ زمنٍ حتى رنَّ هاتفي ذاتَ مساءٍ
وطُلبَ إليَّ أن أكتب تحيةً تقييميّة للصديقِ الكاتب سهيل كيوان بمناسبة تكريمهِ من مدرسةٍ في قرية كفر قرع , حينها أغراني سريعاً جمالُ ترَّفعهِ عمَّا إنحطَّ إليهِ الكثيرُ من الآخرينْ , من أخلاقيَّات صدئتْ في الشمس العربية , فمنهم من يطعنُ من الخلف , ومنهم من ترميني نرجسيَّتهُ بتلكَ التهمةِ أو بذاكَ الإفتراءْ أو ربمَّا بنصالِ الحقدِ المزمن , ومنهم من يتعامى ويصمُّ أذنيهِ عن صراخِ ضميرهِ في زمنٍ لا يقيمُ وزناً لقيم ولا لمُثلِ , تزدادُ فيهِ حاجتنا إلى درعٍ من الذهبِ الُمقوَّى ليلفُّنا كالجناحِ الدفيءِ ويحمينا من سطوةِ بردِ الآخرينْ .

الكتابة عن أديبٍ بحجم سهيل كيوان مُربكة قليلاً أو ربمَّا كثيراً , ممَّا وضعني في موقفٍ حرجٍ من نفسي وترددّتُ حينها لإتسَّاعِ معنى الكاتب سهيل كيوان وضيق عبارتي , فروائيٌّ مثلهُ متعددُّ الأساليبِ والطرقِ التعبيرية وفسيح المجالاتِ يحتاجُ أدبهُ الى دراسةٍ وبحثٍ علميين دقيقين أمينين ومن أكادميين متخصِّصين ليُوَّفى بعضاً من حقهِ , لا إلى كلامٍ قليلٍ عابرٍ , لإيماني بقيمة كاتب مكافح وعصاميِّ تركَ بصمتهُ على أدبنا المحليِّ , وبأنَّ خيرَ من يقيمُّ سهيل كيوان أدبهُ نفسهُ , رواياتهُ , مقالاتهُ , حسُّهُ النقدي ,سخريتهُ المرَّة ,عصاميَّتهُ الفذة , وطعمُ قصصهِ المراوغة والمراوحة بينَ الأدب الإجتماعي أو السياسي الملتزم والمفارقة الساخرة المنتقاة بعناية فائقةٍ كحجر الزاوية , وفوقها تلتئمُ مداميكُ البراعة الفنيَّةِ واللغويَّةِ .

أنفاسأقيمت في مسرح الميدان الموجود في مدينة حيفا قبل مدةٍ وجيزة إحتفالية بتدشين نشر رواية الشاعر والروائي الفلسطيني المعروف والمقيم في عمَّان إبراهيم نصر الله " زمن الخيول البيضاء " والتي قامت بتبنيّها واحتضانها مكتبة كل شيء في حيفا وهي من كبريات دور النشر هنا في  الداخل الفلسطيني , ولكن حلقةً ضائعةً لا زلتُ أبحثُ عنها في تبلوِّر هذه العلاقة المفاجئة بين دور النشر عندنا والأدباءِ المقيمين خارج الوطن , لا أريد أن أقول الأغيار أو الأجانب حتى لا أُتهَّم بالتطرَّف الثقافي أو بالعنصريَّة , مع أنَّ الشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله من لحم هذا الوطن مقتطعٌ ,وليس من باب التقليل من قيمة شاعر وكاتب بحجم إبراهيم نصر الله بالتجائه القسريِّ إلينا بعدما كانت كبرى دور النشر في عالمنا العربي" المؤسسة العربية للدراسات والنشر" تحتضنهُ كابنها وتتبنَّى كتبه . فأنني أعترف بأنه من أنشط الكتاب والشعراء الفلسطينيين في الوقت الراهن ويمتاز برأيي بغنى ثقافي وحضور أدبي آسر وشاعرية إنسانية رقيقة  ومسحة غنائية صافية الجرس وعميقة الحسِّ , قرأت ربمّا كلَّ دواوينه الشعرية الأمر الذي لم أفعله حتى هذه اللحظة مع رواياته اللاتي يبدو لي أنها من الأهمية الأدبية والتاريخية بمكان .
ولا زلت أذكرُ ديوانيه " مرايا الملائكة " وحجرة الناي" وما تركاه في ذهني من عبق وتحت لساني من طعم طيِّب  فأقفُ مذهولاً أمام عبقرية شعرية تستحقُ الإلتفات والمتابعة ولا أريد أن أرّددْ ما قاله كبار النقاد العرب عن شاعر مثل إبراهيم نصر الله ومنهم عبد العزيز المقالح واحسان عباس وغيرهم كثرٌ . ولكني أريد فقط وضع بضعة نقاط على حروف مبعثرة . وأريد أن أسأل نفسي هذا السؤال الحائر,من ينشرُ لنا نحنُ الجيلُ الشابْ ؟ ألهذا الحدِّ الرخيص وصلت قيمة الكاتب أو الشاعر عندنا؟
إلى مشارف كلام ٍ جارحٍ كهذا " عزيزي أنشر لوحدك وعلى نفقتكَ ولا علاقة لنا بك" حتى أنه بات وقد أضاع بوصلة روحه وأصبح حاله أو كونهُ كاتبا على حدِّ تعبير الروائي الكولومبي الفذ غارسيا ماركيز مأساة كبرى لا تعدلها مأساة في العصر الحديث . بعد تخلِّي دور النشر عنه وبعد حصاره من جهاته الستِّ على يدِ الشلّلية  "الأدبية" البغيضة التي تتشدقُّ بدفاعها عن الأدب والثقافة  حيناً وتارة تتنافحُ بمساعدة الشعراء الجدد وتقديم يد العون المعنويِّ والماديِّ لهم . وهم في وهمهم يشطُّونَ ويعمهون . فأنهم لا يجيدون الاَّ وطئ هام الجيل الذي يصغرهم , وتعمية وتدليسَ بل إنكارَ إنجازِ غيرهم خصوصاً اذا كان أفضلَ ممَّا قدَّموا هم .

أنفاسإن مفتاح الدخول إلى عالم عبد الكريم الناعم الشعري: يكمن في قدرته الهائلة على التحليق باللغة في آفاق رحبة، تؤثثها مفاتن الطبيعة النضرة التي تمثل الوجه المادي للأرض المشتهاة بغية التوحد بها، والتماهي مع كل مظهر من مظاهرها. وعن أهمية هذا السفر المحلق مع اللغة يقول الشاعر: "الذين لا يسافرون مع اللغة وفيها يخسرون تذوق الوصل في ليالي الربيع المقمرة المليئة بالعشب والنضارة، ويضيق بهم الأفق، بحيث يسجنون العالم والأحاسيس في قفص من الكلام العادي المكرر" -1-
فالسفر مع اللغة وبها يعادل إذن عند الشاعر تذوق الوصل، وهذا التذوق مرتبط بما تحمله أمكنة السفر من دلالات ورموز.
ومن ثم يتجلى الدور الذي تضطلع به الطبيعة في عالم عبد الكريم الناعم الشعري، إنه ابن الطبيعة البار الذي افترش العشب ليكتب على "جذوع الشجر القاسي"، ويحدث الرياح والتراب والمدى، ويحلم بجناح الريح ليحلق عاليا فوق البحار والأودية والأشجار، ويتطلع إلى صبر التراب، ورسوخ النخيل الأسمر في البلاد المفضوضة، ويستصيغ السمع لحكايات الماء الطويلة وهو المترع بالفقر والأحزان في البلد النازف، إنه المسكون بذاكرة الخليج الدائري وبالجراح التي تفترش المدن الأثيمة في زمن الحصار. إنه "النهر الفراتي" المسافر في عذابات القفار ينتظر الأفق الذي لا يأتي فتحاصره "البذاءات الضريرة".
هكذا يتورط الشاعر في قافية الحروف، وينذر عمره لبقية العشق، يركض من الألف إلى الياء ليعتنق ركوب اللغة، ويسافر معها عله يطفئ "جمر التوجع" على حال الوطن المسروق في خضم الزمن الأغبر الرديئ.
هذا هو منطلق العمل الشعري كما آمن به عبد الكريم الناعم:
"هزيما صوفيا، وفعلا ثوريا، ولحنا غجريا حزينا"، كما أنه: "جنون في وطن النخاسة". وعن منظوره للشعر هذا يقول:
"علق الجراح قصيدتي،
والشعر مبدأه الجنون". -2-
" لأنك في القفر يجيء الشعر
هزيما صوفيا،
ثوريا،
لحنا غجريا" -3-