من أنت أيها الصاحب الفريد.. يا مدى المجهول وشقيق المغامرة؟.. أيها البحر طالعاً من دفـاتر المهاجرين، مـن أنت مـن أنت..؟.. حامت الأسئلة تترى في الليل البحري الطويل.. والرجل النحيل الصامت يواكب موجاً يتلاطم والفنار الوحيد يلوح واهناً بعيداً يتدفق الليل الخريفي ثقيلاً هامدا ًوالرجل يتوسد حقيبته صغيرة وبقـايا دراهم عليه أن يسـددها لمن سيحمله في زورق الليـل مهـاجرا إلى المجهول.. صفقة يعرف أبعادها جيداً وفحواها انه لـن يعود.. لـن يعود.. فالبحر وخباياه تحمل نذر اللا عودة.. وكل أولئك العابرين سيحملون تابـوت الوقت معهم.. إذ قد يداهمهم حـرس السواحل فيتهاوى زورق الغرباء إلى القاع.


يا نذير الراحلين، يا أصدقاء الوهج القديم من هؤلاء.. ومن أولئك.. ماذا بقي منهم، قلبوا مشاهد الرحيل الطويل عبر البوابات والعسس والغرباء، قلبوا أوراقه وتفرسوا في ملامحه وسألوه مرارا لأنه كان قد ألغى قصائد الترحال، واجل جنون المغامرة إذ سقته السلطات علماً جعله يواكب ولا يمضي ويكتم ولا يركب موجة التعبير عن مكنونات روحه.. روحه الوحيدة الأسيـرة، التـي تمردت على ثـلة المعاصرين الـذين حاؤه بأمـواج الحداثة وتفرقوا فجـأة بلا مـلاذ.

انفاس  منذ عدة أيام لاحظ بعض رواد القاعة بأن عدد الحضور يتناقص حتى تحول إلى أقل من النصف. قال البعض بأن السبب هو رداءة المواضيع التي تقدم للجمهورالذي ضجر من حالـة اللاجديد. ورأى البعض بأن فصـل الصيف الشديد الحرارة هو السبب.ونظر البعض الآخر بأن حالة الفقـر التي أتت على البلاد هي التي جعلت الأهالي لا يفكرون إلا بتأمين لقمة العيش. لأن حضور الأنشطة الثقافية يعد من الثانويات ومن الأمور الترفيهية التي يقضي بها المرء وقت فراغه في متعة ثقافية. بعد انتهاء النشاط الثقافي الأخير الذي حضره فقط تسعة أشخاص سار السيد عارف مع صديقين له نحو قلب المدينة وقال: كل الكلام الذي قيل كان فارغا.


من السخافة أن نعيد السبب إلى رداءة المواضيع لأن الجمهور لا يعلم مسبقا ما سيسمع. وحتى الكاتب الرديء يظهر أحيانا بكتابات جيدة وجريئة وهو في أحضان رداءته. وأما المضحك أن نعيد السبب إلى الصيف لأن كل سنة فيها صيف. وقاعتنا مكيفة ومغرية للجلوس فيها ساعات طويلة. وما هو مثار السخرية أن نعيد السبب إلى الفقر. فالقاعة لا تقبض من أحد اشتراكا ولا رسما للدخول. وأي شخص في العالم يجد ساعة واحدة في المساء يمضيها لمتعته الشخصية.

انفاسكلانا وحيد: أنتِ ترقدين بعيداً عن الضوضاء، فيما المطرقات تحطم أغصان ذاكرتي، أنت ترقدين تحت التراب وأنا أرقد تحت جبل من الحروب. ليس لديك ما يحلم به أحد، وأنا من حولي العواصف التي تهز أبواب قلبي. أمنياتك تكاملت وأنا لا أحد يدعني لأتمنى. فلم لا نتبادل الأدوار، أيتها الغائبة، بعض الوقت، ونجرب، ان الذي لا يحلم، هو أكثر فأكثر مسرة فريدة. أنتِ تنظرين لي، فيما أنا أعمى. أنتِ تتحركين داخل مملكة السكون، وأنا ساكن في كون يعج بالصخب ودقات الساعات التالفات. أنت لا تكبرين.. وأنا، في كل دقة ريح على الشبابيك، أرتفع نحو الهاوية. أنتِ لا ترتكبين الأخطاء، أبداً، بينما أنا على العكس منك، لا أعرف من يلوث الآخر، الهواء أم أنا. أنت لا حروب وأنا بلا سلام. فلماذا، للحظات، لا نتبادل الأدوار. أنت غاضبة على شيء، وأنا الأشياء كلها غاضبة علي. أنت لا تبحثين عن مأوى، وأنا طردوني من كوخي.

فمن منا أجدر بالرثاء، يا من كنت، قبل قليل، تقاسميني رغيف الريح، وعواء الجدران وخرائب المدن.؟

انفاسلمعان باهت ولّده امتزاج الملح والرمل مع العرق المنداح حول العنق، مسح جبينه بكم القميص المخطط، ووجد نفسه خارج الحفرة بعد أن سمع: اعطني يدك يا صبّار، لقد تعبت. ومرة بعد أخرى، كانوا يتناوبون السقوط في الحفرة بعد السحب، وأصوات المعاول تغزو الرأس وهي تحتك بالأحجار، الأحجار المنتصبة في الأرض على شكل علامات دالّه، أسند رأسه عليها، فأبصر القادمون على شكل خيط ملتو، ملتو لأنه يشبه مكحول، مكحول الممتد أمامه مثل مسبحة، رأسها في الشمال، أطلال قلعة لأسلاف مضوا، ويحضن جسدها لفيف قرى ـ متناثرة ـ لا يفصلها عنه سوى دجلة وجذوع أشجار فضيّة. صعّد من وتيرة زفيره في محاولة لطرد التعب إلى الخارج، فامتزجت أمامه مجموعة من الصور: القادمون على شكل خيط، خيط الحذاء المعقود على شكل فراشة، الفراشة التي طارت عندما أزاح الأشواك عن باب الخندق منذ عام تقريباً. أقول(تقريباً) لوجود مثل هذه الأعوام دائماً!!.


الخندق الملتوي إلى اليمين ثم إلى اليسار، ثم سواد، سواد في وضح النهار رحلة في وجه زنجي أو شعر سعاد!! فتمنى لو أنه بومة!. العيون تتسع لطرد الخوف، الخوف القادم من المفاجئة، المفاجئة التي تتوقعها لدى دخولك لجحر لم يتشرف يوماً بالوقوف في حضرة الشمس منذ اكثر من عقدين من السنين، قصيرة مثل حلم وطويلة مثل كابوس. عفونة، رائحة براز، صوف مهضوم، والقلب ينقر أعلى الصدر فأحس (بالهضيمة). تتصلب اليد بشكل مخيف للدفاع عن النفس ضد أي ظفر أو ناب. فكّر، ملابسي سميكة لا يمكن تمزيقها بسهولة قبل وصول خليل، ثم إن حذائي قوي، وإذا تعقدت الأمور سأستخدم أسناني، فسمع الصرير، صرير أسنانه لا صرير الباب لأنه ليس ثمة باب بالمعنى الفيزياوي إنما هي فتحة في الأرض، جحر أرنب.

انفاستكلمَت هي كثيراً بصوت مبهم، أرسلَت نظرها بمستوى ذراعها الممدودة وهي تؤشر بسبابتها إلى منحدر التل.كان يقف كمحنط يغلفه الصمت. استدارت ودفعت رأسها نحوه مطلقة تنهيدة من أنفها وشفتيها مزمومة.. ثم انزلقت مع السفح في المنحدر الضيق، هناك، حيث أطلت ورود من شقائق النعمان المختبئة في ملاذ الصخور.
عادت، بعدها، مجهَدة وأمسكت بعضديه وذراعيه مسبلة، هزته بانفعال:
ـ تكلم لمرة واحدة.. واحدة فقط أرجوك.
كانت نظراته مسددة نحو النهر القريب بشكله الملتوي ووسطه الممتد والمجعد بالأمواج تلتمع عليه أصداف الشمس، ثم تنفس بعمق وهز رأسه بهدوء.. تكلم:

ـ نعم سأبوح لك يا رؤى..

انفاسأشهر ما في هذه المدينة هي حديقة الحيوانات والسيرك الذي عسكر بجانبها ليشكلا ثنائياً قل نظيره في مخيلة الناس، والشيء الملفت للنظر في هذا الأمر هو كثرة الذئاب وتناوب تداولها وتحولها بين السيرك والحديقة، فينما شكلت فصيلة الذئاب البرية السمة الغالبة في حديقة الحيوانات تفنن إداريو السيرك في تقديم ذئاب بأنسال متطورة نتيجة حدوث طفرات وراثية في سلالاتها المتأخرة، فدخلت الذئاب مرحلة الرياضات الخطرة وتفوقت على جميع أصناف الحيوانات الأخرى كالقردة والدببة والكلاب والجياد والبطاريق والدلافين، فصارت تمشي على الحبال وتغوص في الماء وتتهجى الحروف وتداعب الأطفال وتدخن السيجار وتأكل المرطبات وترقص على العجلات وتقود العربات.. بل وتلقي النكات أحياناً وتغني أحياناً أخرى، فهي ذئاب متطورة قلّمت الحضارة مخالبها وأنيابها، ذئاب مرحة، ذئاب مسامرة مسالمة، ذئاب حكيمة وحريصة على راحة المتفرجين، ذئاب حالمة وشاعرة

انفاسفهم عمى محروس الإشارة فاستدعاني إلى حجرته.. "هل لاحظت؟". "نعم.. لكنني لم أفهم..". كنت أسير مع أبي وعمي محروس وبعض أفراد العائلة في الشارع الرئيسي للقرية.. انكسرت ظلالنا على حائط مقهى عبد الودود.. كانت كل الظلال واضحة ما عدا ظل عمى محروس.. يبدو وكأنه سيتلاشى..
قال: إنها إشارة ذهابي..
امسكني من يدي.. وخرج معي إلى الحقل.. ركب حماره العجوز وركبت خلفه.. الحمار ضامر.. رمادي اللون.. في عينيه ذكاء ما.. ولديه قدرة على الجري مثل حمار شاب.. لم يفكر عمى محروس ببيعه أو استبداله.. يرعاه كأحد أفراد العائلة.. كابنه..
جلسنا تحت شجرة الجميز العتيقة.. والحمار يتحرك بالقرب منا.. لاحظت دموعاً معلقة في عيني الحمار الذي كان ينظر إلى عمى محروس طويلا.. ثم يدير رأسه بعيداً.. ثم يعاود النظر إليه..


نظر عمى محروس إلى الحمار وابتسم قائلا: أتعرف كيف حصلت عليه؟.

انفاسابتسم وتمدد بثوبك المزرق الحائل،  متأملاً تخاريم الجير في السقف العتيق..  لا  خيار أمامك بعد السؤال اللحوح،  سوى هذه التكشيرة المستسلمة،  والنظرة الراكدة،  وقطرات من عرق،  تنعقد فوق جبهتك الغامقة.
ارفس الغطاء المتفسخ، وأشتم أولاد الـ.. هؤلاء بكل مالديك من نعوت، تعرف وحدك ببساطة، كيف تجيدها، كأنما هي من وضعك، ألم تحفظ لك أيام المجد محاصيل التحليق في إرث من العز والأمان؟!
اسعل ماشئت بمرارة، وانفث خشونة ريح غائرة، من صر تنبت بين شعبه المتوغلة، عفرة تبغ رخيص، وأجهد محنياً رأسك، أن تشهق بوجه محتقن، في جموح خاطف، فما أتعب غائلة هذا السعال الأجش المبحوح! اجمد بعدها،فقد يغلبك النوم العصي،وتتجسد لك الأحلام المستحيلة،بعد ساعات الضيق الجلفاء،فما أحوجك إلى انعطافة ترضي جوارحك،بانطلاقات غير مشهودة،من أيام مستحضرة..من ماضٍ ساحر بعيد.
أنت..ألم تهف النعمة عليك بانصباب،من نبع غني لاينضب؟ ألم تغمرك الأيام بالرضا،على تقلباتها..لكنك،دعني أقولها،كنت غير غافل،عديم الثبات وطول الباع!


من يخلد لجنون لعبة،مسارها،تلك المصادرة الذاتية،والحرق اللاهب لإرث لايحصى،وتعلق أبله بحلقات متعطشين لكل أنماط الاحتفال في حياة ليليلة شبيهة بالأحلام؟!

أَقُلْتَ الحرق؟.. ذلك ماكنت تفرقعه بالحكي حتى جذر الدهشة،وأنت تدّعي أن ترسانة من النقد،استعملتها لغلي ماء الشاي،دون حساب للتكلفة! من أين لك بكل هذه الأشكال المشوشة،المستقرة على وتيرة واحدة،من الاستهلاك المشدود إلى مآلات من ا لخراب؟! المانحة لإحساس رث من المتعة؟!