حظيت رحلات المغاربة الحجية بعناية عدد من الباحثين والمؤرخين، لِما أبرزوه من معطيات تاريخية واجتماعية وثقافية وحضارية.. تضمنتها، بالمقابل ظل وضع الحجاج دون ما هو شاف وكاف من دراسة وتحليل لرصد ما كان عليه هؤلاء أثناء تنقلاتهم بحراً من مشاق وأخطار عرضتهم لأوبئة أتعبتهم في طريقهم ونزولهم وحجرهم الصحي. والحديث عن أوبئة وحج مغاربة زمان هو استحضار لجوانب بنيوية تجمع بين هوامش مجالية مغربية وزمن منسي ومغيب وغير رسمي..في تاريخ البلاد، ومن هنا ما يمكن أن تسهم به نصوص هذا المجال من اغناء لوعاء التاريخ الاجتماعي وتحقيق فهم أهم وأوسع لِما حصل.
ولعل ما عرفه مغرب القرن التاسع عشر من فترات طبعتها قلة مؤونة وجفاف مجاعة..وغيرها، كان يسهل معه انتشار أوبئة أتت على عدد كبير من الضحايا. للوقاية منها كان أجانب بعض مدن المغرب بدور في تغيير نظامها المعتمد، فضلاً عن ضغوط قنصليات أجنبية كانت بأثر في دفع المخزن لتبني اجراءات وتدابير صحية وقائية أكثر نجاعة. فمع انتشار وباء الكوليرا خلال ستينات هذا القرن مثلاً، تم منع نزول حجاج مغاربة قادمين من الديار المقدسة إثر ضغوط دبلوماسيين أجانب بطنجة، ليجبر هؤلاء على قضاء حجر صحي بجزيرة الصويرة طيلة عقود لاحقة، علماً أن كثيراً منهم كانوا يتعرضون للهلاك بها من شدة حرمان واهمال وقلة عناية وليس بالوباء.

       ما أقدمت عليه السلطات الفرنسية خلال عهد الحماية من دراسات وتقارير ذات طبيعة محلية،  في اطار ورشها الاستعماري من خلال ما سمي ب"التهدئة" رغم ما يسجل حولها من خلفيات، في تقدير كثير من الباحثين المغاربة عمل على درجة من الأهمية لِما طرحته هذه الدراسات من قضايا ارتبطت بالمجتمع المغربي ومجاله وتركيبته القبلية. وكانت القبيلة المغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر وجهة لدراسات أعدها سوسيولوجيون ورحالة ومخبرون وعسكريون وغيرهم. بهدف التعرف على بنية المجتمع وذهنياته وأنماط عيشه وفهم أيضاً ما كان قائماً من علاقات بين المخزن والقبائل لأغراض استعمارية أساساً.

لا تزال العديد من الأوساط في الغرب تذعِن لكنيسة روما، رغم ما دبّ في نسيجها الاجتماعي من "انسلاخ مسيحي" مرفوقٍ بفتور ديني تحت وطأة موجات العلمَنة المتعددة. فالحجّ إلى روما، وتحديدا إلى حاضرة الفاتيكان، مازال دأبَ ساسة ومتنفذين كثيرين، رغم مزاعم العلمَنة والفصل بين السلطتين الدنيوية والدينية. ولم يسلم من التودد للكنيسة حتى عتاة العلمانية والشيوعية. فمنذ فترة، انسحب رئيس "حزب إعادة التأسيس الشيوعي" الإيطالي ورئيس مجلس الشيوخ الأسبق، فاوستو برتينوتي، في خلوة روحية مع رهبان بشبه جزيرة مونتي آثوس باليونان، المخصّصة للذّكور حصرا والمحرّمة على الإناث، بشرا وطيرا وحيوانا، تعبيرا عن ولائه لضمير أوروبا الديني.

في هذا المؤلَّف الصغير الحجم والعميق المضامين، الصادر باللغة الإيطالية من تأليف أحد أبرز الوجوه الإعلامية في الأوساط الكاثوليكية، الكاتب والصحفي جان فرانكو سفيدركوتسكي، رئيس تحرير صحيفة "لوسّرْفاتوري رومانو" الأسبق، اللسان الناطق باسم حاضرة الفاتيكان، يحاول المؤلّف تقديم حوصلة للسنوات الخمس من بابوية حبر الكنيسة خورخي ماريو برغوليو المعروف بفرنسيس. مستعرضًا صاحب الكتاب فلسفة البابا القادم من أقاصي جنوب العالم من الأرجنتين، ومبرزًا مدى نجاحه وإخفاقه. لقد ورث البابا الحالي فرنسيس تركةً ثقيلة خلّفها البابا المستقيل راتسينغر، كنيسةً ترهقها البيروقراطية ويحاصرها الجمود ويستشري فيها الفساد. قدِم البابا فرنسيس محمَّلا برسالة ثقيلة، تتلخّص في خوض إصلاحات عاجلة داخل الكنيسة قبل الغرق، وهو ما بدأت تلوح نُذره.

لا يزال زمن الأزمات الاجتماعية ذات المنحى الطبيعي والبشري في تاريخ المغرب، بأبحاث ودراسات على قدر كبير من الندرة. ولعل مما تزخر به وتحتويه وتحفظه خزانتنا التاريخية من ذخيرة في هذا الاطار، وما يتوزع حول هذا الشأن من بحث وتنقيب وتراكم أكاديمي، الى جانب اسهامات كل من الحسين بولقطيب رحمه الله عن مغرب العصر الوسيط ومحمد تريكي عن زمنه الحديث وبوجمعة رويان حول الفترة المعاصرة، نجد ما أسهم به محمد الأمين البزاز رحمه الله، من عمل رزين يخص تاريخ المغرب الاجتماعي، تحديداً ما توجه اليه بالعناية حول أوبئة ومجاعات مغرب القرن الثامن عشر والتاسع عشر.

تُعدّ الأعمال الصادرة باللغة الإيطالية حول تاريخ التصوف في الغرب قليلةً، وإن تعددت الأعمال التي تتطرق إلى شخصيات وتجارب روحية محددة. ومن هذا الباب يُعدّ كتاب الإيطالي ماركو فَنّيني (من مواليد 1948) المختص بالظواهر الروحية مرجعا لا غنى لدارسي ظاهرة التصوف في الغرب، بقصد الإحاطة بأهم منابعه ورواده وصولا إلى تطوراته في الفترتين الحديثة والمعاصرة. مؤلف الكتاب فَنّيني مترجم قديرٌ أيضا، سبق وأن نقل من اللاتينية والألمانية إلى الإيطالية كافة أعمال المعلم إيكهارت. ناهيك عن أعماله الصادرة في المجال مثل: "دين العقل" (2007)، "التصوف والفلسفة" (2007)، "التصوف في الأديان الكبرى" (2010)، "قاموس التصوف" (2013).

"ما أن يبدأ استعمال التحليلات التاريخية لأهداف نقد اديولوجية حتى تصير هي نفسها متهمة."
(ر. كوزيليك، تجربة التاريخ، غاليمار، 1997، ص. 88)

التاريخانية كقدر
لدراسة العلاقة بين الفلسفة والتاريخ، الممتدة على خمسين سنة، منذ المقالات المكونة لكتاب العرب والفكر التاريخي(1)، والحاضرة بقوة، تصريحا وتلميحا، في جميع كتابات الأستاذ عبدالله العروي، نعتبر صدور كتابه، الفلسفة والتاريخ (2)، فرصة لا تعوض، فهو يصرح في أول جملة من كتابه: « مشيت دوما على رجلين: التاريخ والفلسفة» (3). مداخل عديدة لمقاربة هذا الإشكال، والمحاولة التالية واحدة منها.

يشكو البحث التاريخي المتعلّق بالفترة الإسلامية في إيطاليا، بوجه عامّ، من حالة من غبن، متأتية بالأساس من وهن التكوين اللغوي في اللسانين العربي والإيطالي من الجانبين، وهو ما مثّل ساترا وحائلا بين الطرفين. لكن إيطاليا تبدو قد فطنت لهذا العَوَر بشكل يفوق ما عليه الحال من الجانب العربي، وتسعى جاهدة لتفادي هذا النقص، وذلك عبْر ما نشهده من تشجيع موجة الاستعراب الإيطالي سيما في أوساط جيل الشباب الذي بدأ يشقّ طريقه بإصرار في تعلّم العربية، سواء ضمن التكوين الجامعي أو خارجه، وهو ما لم يخل من مصاعب وأحكام مسبقة ترهق الدارس أحيانا.