أنفاس1ـ في الشرق الأدنى القديم:
التوفيقية الفكرية والمجتمعية التي تتوالد ضمن التطور التاريخي للشرق العربي، هل هي مجرد استجابة آنية لظروف وقتية عابرة ستزول بزوالها، وبالتالي طفرة منبتّة الجذور، منقطعة الصلة بالاستمرارية التاريخية ـ الحضارية للمنطقة، أم إنها إحياء واستعادة لنمط متكرر في سياق تلك الاستمرارية؟
إذا كانت الظاهرات الفكرية والمجتمعية لا تبرز من فراغ، وإذا كانت العصور لا تبدأ منقطعة الصلة بما سبقها، فلا بد من التنقيب تحت سطح الأرضية المعاصرة لاكتشاف حفائر التكون الحضاري التوفيقي في طبقاته التاريخية المتراكمة ولاستبانة أجيال السلالة الفكرية التوفيقية التي توالدت عبر العصور، حتى أنجبت الكائن المعاصر موضع الدرس، وذلك ليكون بحثنا في مناحي التوفيقية المعاصرة مستنداً إلى جذوره التاريخية القديمة، بعد أن رأينا مدى صلتها بالبيئة الاجتماعية السياسية الحديثة التي تولدت فيها.
تبدو (الظاهرة التوفيقية) على الصعيد الحضاري العام ـ وفيما يتعدى النطاق الكلامي الفلسفي الخالص ظاهرة قديمة الجذور في تاريخ الشرق الأدنى. ويمكن إيجاز أبرز معالمها وأدلها، وتبيان طبقاتها المتعاقبة وصورها المتكررة المستعادة في تتبع التشكلات الحضارية التاريخية التالية بشكل وجيز ومكثف.
أولاً: عندما حدثت المواجهة بين التراث العقلي الهيليني والتقليد الديني العبراني في القرون السابقة للمسيحية نشأت الحاجة لأول مرة في الشرق الأدنى ـ وربما في تاريخ العالم ـ إلى إقامة التوفيق بين العقل والإيمان وبين المنطق الانساني والوحي الإلهي، وشهدت الديانة الموسوية جهداً عقلياً ونشاطاً دينياً متفلسفاً كان أبرز مفكريه (فيلون) الذي عاش بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، وجاء بالمفهومين المزدوجين القائلين: إن النص الديني (التوراة) وحي إلهي، وإن الفلسفة اليونانية تمثل الحقيقة الكونية، وعليه فقد وجد نفسه في مواجهة مشكلة (إقامة التوفيق reconciliation) بين الفلسفة والشريعة، بين أفلاطون وموسى. ويرى أرنولد توينبي ان هذه المجابهة المبكرة بين التأثير الإغريقي (الهيليني) الوافد مع النفوذ الروماني، وبين التراث الديني الإيماني للمشرق السوري لم تقف عند حدود إقامة توفيقية دينية فلسفية في اليهودية، بل مثلت ـ حسب تعبيره ـ الجدلية الخلاقة التي أثمرت المسيحية.

أنفاس شمل النقد الديني في القرن الثامن عشر السماء والأرض وكان نقداً للإله المسيحي، وقديسيه وشياطينه، ونقداً لكنائسه وقساوسته. كان هناك، من ناحية، نقد الدين كحقيقة موحاة ونص ثابت، ونقده كمؤسسة صنعها الإنسان، من ناحية أخرى. قوضت الفلسفة الصرح المفاهيمي للاهوت، وهاجمت مزاعم الكنيسة بالهيمنة والكونية. دمرت صورة الإله المسيحي، لا فكرة الله. وكانت الفلسفة معادية للمسيحية وربوبية، توقف الله عن كونه شخصاً وتحول إلى مفهوم. أصبح الفلاسفة حماسيين حين واجههم مشهد الكون: اعتقدوا أنهم اكتشفوا في حركاته نظاماً سرياً، إلهاماً مخبوءاً لا يمكن إلا أن يكون مقدساً وإلهياً. الكمال المزدوج: تحرك الكون خطة عقلانية وهي أيضاً خطة أخلاقية. حل الدين الطبيعي مكان الدين الموحى، وحلت الفلسفات مكان مجلس الكاردينالات. كانت فكرة النظام وفكرة العلة تجليين مرئيين، وبرهانين عقلانيين وحسيين على وجود خطة إلهية. لقد ألهمت حركة الكون غاية وهدف: الله غير مرئي، لا أعماله ولا النوايا التي تنفخ فيها الحياة. ولقد اشترك الماديون والملحدون، مع بعض الإستثناءات، في هذا المعتقد: الكون نظام ذكي منح هدفاً واضحاً، على الرغم من أننا لا نعرف ما الذي سيتمخض عنه في النهاية... كان ديفد هيوم هو أول من انتقد نقاد الدين، وبقي نقده متفوقاً وقابلاً للتطبيق على كثير من المعتقدات المعاصرة. أظهر في حوارات بخصوص الدين الطبيعي أن الفلاسفة وضعوا على مذابح الدين المسيحي الفارغة آلهة أخرى ليست أقل شبحية، ومفاهيم مؤلهة كالانسجام الكوني والهدف الذي ينفخ الروح في هذا الانسجام. إن فكرة الخطة أو الهدف هي جذر الفكرة الدينية، أينما ظهرت، دون إقصاء الفلسفات الإلحادية والمادية، يظهر الدين أيضاً، وعاجلاً أم آجلاً، كنيسة، وأسطورة، ومحكمة تفتيش. ويمكن أن يتنوع محتوى كل دين ـ إن عدد الآلهة والأفكار التي عبدها البشر لا نهائي تقريباً ـ ولكن وراء جميع هذه المعتقدات نجد النموذج نفسه: يعزى هدف إلى الكون، وحالاً بعد ذلك يماثل هذا الهدف مع الخير، والحرية، والقداسة، والأبدية أو فكرة ما مشابهة.
  وليس صعباً أن نستنتج من نقد هيوم النتيجة التالية: أن أصل فكرة التاريخ كتقدم هو ديني والفكرة نفسها شبيهة جداً بالدين. إنها نتيجة استنتاج ناقص: الاعتقاد بأن الطبيعة لها خطة، ومماثلة هذه الخطة مع حركة التاريخ والمجتمع إلى الأمام. ويظهر خط التفكير نفسه في جميع الأديان والأديان الزائفة في مرحلتها الأولى، كما لوحظ الانتظام الحقيقي أو الظاهر. وأدخلت فكرة الغائية في نظام الطبيعة، بعد ذلك على الفور، عزيت التغييرات والاضطرابات الاجتماعية إلى فعل المبدأ نفسه الذي يدفع الطبيعة إلى العمل.

أنفاسلم يميز المؤلفون المسلمون بين التحقيب والتأريخ كما يدل على ذلك التعريف الذي يقول: التاريخ تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع وقيل إنه مدّة معلومة بين حدوث أمر ظاهر وبين أوقات حوادث أخر. التعريف الثاني، النسبي، هو الذي يفيد فكرة التحقيب.
يلجأ المؤرخون الذين كتبوا بالعربية، أكانوا مسلمين أو لا، إلى تقسيم تقليدي نلخصه في النقاط التالية:
1- يسوقون في قسم تمهيدي الملاحم والأساطير على صورتها الشائعة بين أصحابها، في غياب قياس برهاني يمكن من تمحيصها. يحشرون المرويات المتعلقة ببداية الكون والأرض والإنسان وكذلك أخبار الأمم البائدة أو النائية مثل الصين والهند والزنوج وسكان المناطق الشمالية. فهذا القسم هو بمثابة وصف _كوني (كوسموغرافيا)، وصف _جنسي (اثنوغرافيا ووصف _ أرضي (جيوغرافيا).
2- ثم ينتقلون، في قسم لاحق، إلى أخبار الأنبياء والرسل معتمدين على ما جاء في التوراة، وبالمناسبة يذكرون أخبار الأمم التي كانت لها علاقة ببني إسرائيل كالكلدانيين والسريانيين وغيرهم.
3 -  ثم يروون، في قسم ثالث، أخبار الملوك، أي وقائع الامبراطوريات القديمة، الفارسية واليونانية والرومانية، ويذكرون بالمناسبة أيام العرب الأولين.
4 - ثم يقصّون، في قسم رابع، تاريخ العرب بعد ظهور الإسلام ويلحقون بهذا التاريخ ما يعرفون عن الروم والإفرنج وملوك الهند وغيرهم.
5 - ثم يسوقون، في قسم خاص، أخبار العجم من أتراك وبربر، إلخ. وبما أن هذا التاريخ لا يزال في تطور، فإن الرواية تنحلّ تدريجياً في حوليات قابلة للوصل والتكملة.
وهكذا نلاحظ نفس الاتجاه العام في التأليفين، العربي والغربي، من أخبار الأمم والدول (الحقبيات والتجارب) إلى أحداث السنوات وربما الشهور (الحوليات واليوميات). لا يوجد إذاً فرق جوهري بين الاسطوغرافيتين، اللهم ان الإسلامية أوسع مادة وأكثر دقة فيما يتعلق بأخبار الشرق والمناطق المجاورة له وأكثر خلطاً وإيجازاً عندما تتعرض لأخبار اليونان والرومان.
يوجد إذاً توافق ضمني بين التحقيبين التقليديين، الإسلامي والغربي، ويدخل في هذا الإطار اقتراح المؤرخ الامريكي مارشال هودجسُن الذي يميز داخل التاريخ الإسلامي الفترات التالية:

انفاسليس أدل على نقلة الفكر التاريخي _بفضل الإسلام _ مما حدث بالفعل في عصر الراشدين من الاهتمام بالتاريخ كموضوع وتطور تقنية تناوله. فمن حيث الموضوع ظهرت مباحث ثلاثة؛ الأول منها يتعلق بدراسة سيرة الرسول ومغازيه، والآخران يختصان بدراسة القصص العربي القديم والتراث القبلي. ويخطىء بعض الدارسين حين يتصور أن الفكر التاريخي آنئذ كان فكرا دينيا قحا غايته خدمة الحديث والفقه، بل لا يخفف من الخطأ تصنيف البعض الآخر هذا الفكر صنفين: الأول ديني، كما هو الحال بالنسبة للسيرة والمغازي، والثاني دنيوي متمثل في القصص العربي القديم والتراث القبلي.
والصواب _فيما نرى _ أن كل موضوعات التاريخ _وبالتالي فكرة التاريخ_ كانت ذات طابع دنيوي؛ فسيرة الرسول ومغازيه ليست إلا أحداثا ووقائع حدثت على مسرح التاريخ، هذا فضلا عن أن الاهتمام بدراستها ودراسة القصص العربي القديم والتراث القبلي جرى لخدمة أغراض عملية دنيوية. وإذ اختلطت موضوعات التاريخ بغيرها من الموضوعات الأخرى كالحديث والفقه، فالثابت أن جهود المحدثين والفقهاء كذلك كانت تحركها حوافز حياتية؛ سياسية واقتصادية واجتماعية.
وتكمن تلك الحوافز _التي كانت من وراء النشاط الفكري عموما _ في محاولة الخلافة _وخاصة في عهد عمر _ مواجهة المشكلات العديدة التي نجمت عن اتساع الدولة الإسلامية بعد الفتوح، وإقرار نظم وتشريعات تكفل إدارتها. كانت كافة المشكلات وطرائق إيجاد حلول لها ذات طابع دنيوي، ولعل من أهمها المسائل الإدارية، والمالية، وأوضاع أهل الذمة، وتحديد العلاقات بين دار الحرب ودار الإسلام... الخ. ولا غرو فقد جاء التشريع متسقاً مع طبيعة تلك المشكلات. حيث أقر الخليفة عمر كافة التنظيمات الموجودة وأبقاها على حالها، مجتهداً في تأويل الشرع بما يجاري ويساير الواقع.
كما استجدت مشكلات متعلقة بالعرب أنفسهم؛ كانت جذورها تضرب في عصر ما قبل الإسلام، وإن اكتسبت في ظل الحكومة الثيوقراطية صبغة جديدة، أعني الصراعات والسخائم القبلية التي أعيدت صياغتها في شكل تيارات حزبية سياسية واجتماعية، احتوت العصبية القبلية في باطنها.
قصارى القول _إن تلك المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها أصبحت موضوعا للتاريخ الإسلامي، فاتسعت دائرة مباحثه باتساع الإمبراطورية التي احتوت شعوبا أخرى غير العرب، وبديهي أن يحتوي موضوع التاريخ فضلا عن تراث العرب؛ تراث الشعوب الأخرى التي دخلت في نطاق الإسلام.

انفاسحقيقة مصطلح الأمازيغ
في المقابل، إذا كانت دلالة مصطلح أمازيغ اللغوية تعني الرجل/الإنسان الحر، فإن الدلالة التاريخية والسياقية تحيل على أن أمازيغ هو الأب الروحي للبربر أو الأمازيغيين، وذلك اعتمادا على ما ذهب إليه ابن خلدون في تحديده لنسب الأمازيغ. فهو يقول في المقدمة:" والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح عليه السلام... وأن اسم أبيهم أمازيغ". فابن خلدون يحاول هنا الفصل في أمرين مهمين: أولهما يتعلق بأصل الأمازيغ وثانيهما يرتبط باسم أبيهم.
بخصوص الأمر الأول الذي يقترن بأصل الأمازيغ، نشب جدال ساخن انقسم فيه المتجادلون إلى تيارات ثلاث
1- دعاة التيار الأول تأثروا بالفكر الاستعماري الغربي، حيث يرون أن أصل سكان المغرب الأقدمون إنما يتأصل في أوروبا، إذ ثمة معطيات لغوية وبشرية كثيرة تشير إلى أن الإنسان الأمازيغي يمت بشكل أو بآخر بصلة إلى الجنس الوندالي المنحدر من ألمانيا (حاليا)، والذي سبق له وأن استعمر شمال أفريقيا. هذا التفسير ينطوي على مؤشرات بمقدورها أن تغالط وتخادع البعض، خصوصا وأنها تركز أولا على الناحية اللغوية، فتدعي أن ثمة تماثلا لغويا بين الأمازيغية ولغة الوندال التي هي الجرمانية، لكن هذا لا يعدو الجانب المعجمي حيث هناك بعض الكلمات الأمازيغية المعدودة، التي لها مقابلات لفظية وليس دلالية في الجرمانية، وهذا أمر جد طبيعي، حيث تمكن علم اللسانيات الحديث من اكتشاف الكثير من مثل هذه الظواهر اللغوية الناشئة، إما عن طريق الاقتراض اللغوي أو بالصدفة. وتستند ثانيا إلى ذلك التشابه الكائن بين ملامح البربر والأوروبيين كلون العينين الأزرق، ولون الشعر الأشقر وغير ذلك، غير أن هذا الدليل يظل نسبيا مادام الأوروبيون قد استعمروا بلاد الشمال الأفريقي غير ما مرة، لذلك ليس ببعيد أن يكون قد تم التزاوج والتمازج بين هذين الجنسين، مما نتج عنه ظهور أجيال أمازيغية تحمل ملامح أوروبية.
2- أما أصحاب التيار الثاني فهم حديثو العهد، حيث تنبني وجهة نظرهم على بعض الكشوفات الأركيولوجية والأنثروبولوجية؛ إذ تم العثور على أول إنسان في التاريخ في بعض مناطق أفريقيا(بوتسوانا بجنوب أفريقيا، غرب أفريقيا وكينيا)، بل فقد أوضحت بعض الدلائل والاكتشافات العلمية الجديدة، أن أصل الإنسان الحديث ربما لا يعود فقط إلى أفريقيا، وإنما يرجع إليها ظهور أقدم دلائل السلوك الحضاري للإنسان. لذلك يعتقدون أن الإنسان الأمازيغي لم يهاجر إلى شمال أفريقيا من منطقة ما، وإنما كان فيها منذ بداية تاريخ الإنسانية.

انفاسحقيقة مصطلح البربر
شاع حول لفظة البربر تصور مبني على أحكام القيمة والإقصاء والانغلاق، يختزل دلالاتها في كل ما هو متوحش أو همجي أو بدائي أو نحو ذلك. ولا يعدو هذا التصور المعنى اللغوي والمعجمي المبثوث في بعض القواميس سواء العربية أم الأجنبية التي تتضمن أكثر من تلبيس أو مغالطة، حيث لا يرجع أصحابها إلى تاريخ هذا المصطلح ليثبتوا جذوره الحقيقية وإرهاصاته الأولى، ويطلعوا على الكيفية التي نشأ بها، بل ويتعقبوا تطوراته اللغوية وتبدله المعنوي، فيدركوا أن أصل هذه الكلمة إغريقي صرف، حيث سمى اليونانيون القدامى كل من لا يتكلم بالإغريقية (بارباروس)، ثم استعار الرومان نفس المصطلح فأطلقوه على الأجانب، وبالتحديد الخارجين عن طاعة الإمبراطورية الرومانية والنابذين لأفكارها الاستبدادية والرافضين لنفوذها العسكري. وبما أن الأمازيغ كما يشهد تاريخهم القديم تمردوا على الحكم الروماني العاتي، ورفضوا تمام الرفض وبكل الوسائل المادية والمعنوية سيادته، فقد نعتوا من قبله ب(Barbari)! أشار المؤرخ شارل أندري جوليان في كتابه تاريخ أفريقيا الشمالية "إلى أن البربر لم يطلقوا على أنفسهم هذا الاسم، بل أخذوه من دون أن يروموا استعماله عن الرومان الذين كانوا يعتبرونهم أجانب عن حضارتهم، وينعتونهم بالهمج، ومنه استعمل العرب كلمة بر ابر وبرابرة."
هكذا يمكن اعتبار هذا الدليل الذي يفسر به هذا المؤرخ الكيفية التي تم بها إلصاق هذا المصطلح بسكان الشمال الأفريقي الذين كانوا يسمون الأمازيغ، خير شاهد على براءتهم من الشحنة المعنوية الرديئة والغثة، التي تنتقص من شأن شخصيتهم وقدر ثقافتهم، وقيمة الحضارة التي شيدوها في بلاد شمال أفريقيا المتاخمة لحوض البحر الأبيض المتوسط وجزء من المحيط الأطلنطي. اعتبارا بأن هذا الكلام إنما هو صادر ليس عن أديب يخمن أكثر مما يعلل، أو عن سياسي ينساق إزاء سراب الأيديولوجيا فيجادل أكثر مما يوضح، وإنما عن دارس للتاريخ يستند إلى الشواهد التاريخية والأثرية، فيعمل فيها أدوات البحث من مقارنة وتمحيص وضبط زمني وجغرافي وغير ذلك. ثم إن هذا المؤرخ يذهب إلى حد بعيد في إنصافه لهؤلاء الناس، الذين ظلمتهم الدولة الرومانية ومن والاها من مؤرخي البلاط وكتبة التاريخ الرسمي، فرغم أن شارل أندري جوليان ينحدر من الربوع التي نشأت فيها تلك الإمبراطورية وسادت، فإنه توخى الموضوعية والعلمية في كتاباته التاريخية، فكانت ثمرة ذلك هو كشف النقاب عن حقيقة البربر الذين لم يكونوا بربرا إلا من حيث التسمية.

أنفاسلقد أصبحت مسألة الموروث الثقافي والأصالة والتراث عملة رائجة في سوق المثقفين وموضة كل المنتديات واللقاءات الفكرية و الثقافية, ويكفي أن نلتفت قليلا إلى الوراء حتى نجد كم شهدت الحقبة الفائتة من الطروحات والأطروحات في الفكر العربي بكل مستوياته، على مختلف الأصعدة والطبقات الفكرية والفلسفية بكل الأبعاد والاحتياجات، والتي تمثلت بالكم الهائل من المؤتمرات والندوات التي عقدت حول إشكالية الموروث والعلاقة التي يجب أن تربط الأمة بماضيها وموروثها الثقافي.
هذه الطروحات تناولت القضايا الجوهرية الأساسية في محددات الجماعات والأفراد ولعل من أهم هذه القضايا ما يتعلق ب "الهوية " و"التجذر التاريخي" و"التراث" والعمق الحضاري، وكل ما اتصل بهذه الموضوعات ومصطلحاتها المنبثقة عنها كالأصالة والخصوصية والانفصال عن الدخيل والأمة والوحدة والكونية.....
بدون شكّ فإنّ هذا التوجه يلهب مشاعر الفرد العربي بشكل عام، ويؤجج إحساسه، الذي يستشعر من خلال مفهوم "الأمة" المتخيّلة في ذهنه، وعقليته ويرى فيه صورة "البطل " و"القائد " هذه الصورة المتخيلة ترضي "نرجسية الأمة " وتثري "الأنا العربي".
والذي يُراجع التاريخ يكتشف دون جهد أن الأمم والشعوب تزداد انشغالاً بتاريخها وماضيها حين يكون حاضرها مأزوماً و مؤشرات أسهمها الحضارية في هبوط، وهذا قد أشار إليه الكثير من مفكري العصر الحالي والفلاسفة عبر التاريخ ولا يحتاج إلى الأدلة والبراهين للتدليل عليه.
فالأزمات الكبرى التي تطال "أنا" الإنسان الحاضر تدفع به آليًّا إلى البحث عن "الأنا" الماضي عبر الغوص والبحث عن مسوغات تاريخية تعيد لذاته المتصدّعة اعتبارها من جديد عبر اجترار الماضي "المجيد"، لذلك فإن الخطاب العربي بعد 1967 شهد انشغالا واسعًا وعميقا بالإرث الفكري والعقدي.
وقد طرحت هذه القضايا والموضوعات بعمق أحيانا في ظل تشابك قوي بين عناصرها في مواجهة ما كان يسمى ـ بالغرب ـ وكانت أشبه ما تكون بردّة فعل عكسية لذات متصدعة تخشى على كينونتها وصيرورتها تريد مواجهة «الآخر» خوفا على «الأنا»، باحثة عن معززات «الذات» ناعتة «الآخر» بأوصاف شتى مصوّرة أفعاله بكافة المصطلحات التي راجت و منها "الغزو الفكري والثقافي" و«تارة» الهجوم الإعلامي وتارة "الحرب النفسية" وتارة ب "العولمة"، طارحة مصطلحات مقابلة كالأصالة والهوية والخصوصية، وكانت الأوليات الدفاعية في معظم الأحيان تأخذ بُعدًا نضاليًّا وجهاديًّا، وبدأ المفكرون سيمَا الإسلاميون منهم باستجلاب التاريخ النضالي، واستنفار المخزون العقدي الذي يُؤصل ل"الجهاد " ومفاهيمه و"النضال" ورموزه، وطُرحت قضايا "دار الحرب" و"دار الإسلام" من جديد ...... وبات يُصَوّر للشعوب أن هناك "مؤامرة " مدبرة يحيكها هذا الآخر.

أنفاسمن أغرب الممنوعات في الإسلام من وجهة النظر الأوربية هي تحريم شرب النبيذ.في الآية  219  من سورة البقرة نقرأ ما  يلي:(يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما).وأثار هذا التحريم العديد من النقاشات حول جواز شرب النبيذ.تمخض عنها موقفان:
ــ الخطيئة الفعلية تكمن في الإفراط وليس في شرب الخمر بالذات أي  أن  التحريم يقتصر على المبالغة في الشرب  التي تدفع المؤمنين الى الاشتراك في الصلاة وهم سكارى.
ــ كل ما هو مسكر حرام ‘ حتى الكميات الصغيرة ممنوعة.
رغم ذلك فان شرب الخمر كان مألوفا لدى المسلمين بسبب وجود غير المسلمين بينهم و الذين كانوا دوما يزرعون العنب و يصنعون منه النبيذ ويتاجرون به. وسمحت السلطة المسلمة للاقليات الدينية من يهود ونصارى بالاستمرار بهذا النشاط.
لذلك لم يكن من السهل فرض منع شرب النبيذ و احتفظ المسلمون بموقف ملتبس تجاه الخمر و البعض منهم انغمس فيه بحماس. والعامل الذي سهل الأمر لمحبي الخمر هو وجود  نوع  من التسامح أو عدم المؤاخدة من طرف المجتمع تجاه المدمنين.و احتفظ الشاربون المسلمون بوعي بأنهم يخرقون قانونا ولكن بعكس أكل لحم الخنزير لم يكن يثير شرب الخمر أي تقزز.
ولجأت السلطة أحيانا الى اجراءات صارمة لمكافحة الشرب.فكانت تعاقب المسلمين الذين تكتشف لديهم خمرا بقسوة كالجلد أربعين جلدة.وكان حراس الليل يعاقبون السكارى الذين يُلتقطون في الشوارع  ليلا ثم المحتسب نهاراً الذي كان يراقب الالتزام بالقواعد الاسلامية في الاسواق .ولكن من الملاحظ ان المحتسب كثيرا ما  كان عرضة للسخرية في مؤلفات الادب العربي لانغماسه في الشرب هو الآخر.
محور المقال هو استهلاك النبيذ في الشرق العربي الاسلامي في العصور الوسطى. و سأقتصر على عرض كيفية التعامل مع النبيذ علانية في الحياة العامة ثم سأتناول بعض اوجه التجارة به .و لن أتطرق الى موضوع زراعة الاعناب وقطفها وصناعة النبيذ وتخزينه.
كما لن أتناول أنواع العنب المختلفة.وهناك صعوبة في النقطة الأخيرة لعدم تفريق المصادر العربية بين أنواع الأعناب 1المصادرالعربية التي تتناول الخمر واستهلاكه باسهاب: الشعر و الكتب التاريخية والأدب والحكايات.وتعطينا هذه المصادر نظرة شاملة عن التاريخ الحضاري للخمر في العصور الوسطى العربية .
وقبل الخوض في الموضوع الأساسي دعونا نلقي نظرة على أهم الأمكنة التي اشتهرت بزراعة العنب قبل أن تقع في أيدي المسلمين في الزمن الاسلامي الأول .