أنفاس 1-  العلمانية كظاهرة تاريخية
لا تكاد العلمانية تحقق أي تقدم في الحياة الاجتماعية العربية، لا على مستوى النظرية ولا على مستوى الممارسة، في الوقت الذي لا تكف فيه الفكرة الدينية، بأشكالها الأشد أصولية واحيانا تطرفا وعنفا، عن توسيع دائرة نفوذها واكتساح حقول جديدة من الممارسة المجتمعية، الفكرية والسياسية والاقتصادية. وربما ترجع هذه المراوحة في المكان، إن لم نقل الانحسار للفكرة العلمانية، في جزء كبير منها، إلى أسلوب تناولها من قبل أنصارها، على المستوى الفكري والسياسي على حد سواء. فهي لا تزال تطرح في الأدبيات السياسية والفلسفية الحديثة من زاوية ما تعبر عنه من قيم ومباديء سياسية ايجابية تتعارض مع متطلبات العديد من النصوص والممارسات الدينية السائدة، ونادرا ما يتجاوز الأمر ذلك إلى دراسة مساراتها العملية في سبيل الكشف عن معيقاتها، - التي لا تقتصر بالضرورة، ولا حتى بالدرجة الرئيسية، على العوامل الدينية، - وتعيين العوامل المساعدة على انتشارها، ووسائل العمل من أجل تحريرها من تناقضاتها وتعزيز قدراتها وفرص تطويرها.
أما على المستوى السياسي، فلا يتمتع المنادون بالعلمانية بأي رؤية مستقلة أو برنامج عمل خاص، يتيح لهم التأثير في مسار الصراع السياسي، والخروج من دائرة التجاذبات التي تتعرض لها قضية العلمانية، سواء أجاء ذلك على يد القوى الرسمية الحاكمة التي تستخدم التمسح بها كذريعة لمنع الانفتاح السياسي، أو على يد المعارضات المختلفة المتنازعة على تحديد موقعها ومكانتها في دائرة التحالفات المعقدة التي تسعى لبنائها في وجه السيطرة الطاغية للسلطة الأمنية. وأقصى ما يطمح إليه العلمانيون المخلصون لقضيتهم اليوم الاتحاد في جمعية مدنية تمكنهم من تطوير تفكير جدي ومعمق بمسائل نشر العلمانية وتجذيرها في تربة تتعرض أكثر فأكثر للتفتت والانجراف في اتجاه المواقف الأصولية الدينية.
ويبدو لي أن من الصعب إخراج القضية العلمانية من الطريق المسدود الذي وصلت إليه من دون تغيير في منهج تناولها، والانتقال من المقاربة الايديولوجية السائدة إلى المقاربة التاريخية والنقدية معا. وتقتضي هذه المقاربة في نظري التمييز منذ البداية بين العلمانية كمفهوم سياسي يشير إلى رؤية ايديولوجية لطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تنشأ بين المؤسسة الدينية والدولة في العصر الحديث، بمفهومها المواطني الجديد، والعلمنة كمفهوم علمي يعنى بوصف مسار أو مسارات تاريخية متباينة ومتعدد للوصول إلى ما تشير إليه العلمانية أو تهدف إلى تحقيقه، في سياق تكوين الدولة الحديثة وتعميم نموذجها، والذي لا يشكل موضوع استقلال السلطة الزمنية عن السلطة الدينية إلا أحد أبسط مشكلاته.

أنفاس تنطلق هذه الورقة من الفكرة القائلة بأن الإشهار جزء لا يتجزأ من الثقافة. لذا لايمكن الإحاطة به إحاطة فعلية من منطلقات أحادية الجانب كتلك التي ترتكز فقط على الجانب الفني أو الجمالي أو التقني دون ربطه بالإطار السوسيو-حضاري الذي ينتج فيه. سنحاول من هذا المنطلق تسليط بعض الأضواء على علاقة الإرسالية الإشهارية بالنظام الأبيسي، وخصوصا بإفرازه لمفاهيم >الذكورة< و>الانوثة<. إذا كانت مفاهيم الرجل والمرأة مرتبطة بالجسد كاختلاف وكمعطى بيولوجي، فإن مفاهيم >الذكورة< و>الأنوثة< مرتبطة بالثقافة، أساسا بالمجتمع والتاريخ، إذ إن مجتمعا معينا يعطي لهذه المفاهيم بعدا خاصا مقرونا بنوعية علاقة الأفراد والجماعات التي تكونه، وبتاريخ معين لأن الثقافة تتميز بالديناميكية على المستوى الزمني. لهذا السبب وجب التأكيد على نسبية وتاريخية هذه المفاهيم وعلى أبعادها الثقافية.
إن الإرسالية الإشهارية معطى تواصلي مرتبطة بالحداثة والمعاصرة، إذ إنها لم تعرف تطورا هائلا إلا في العقود الأخيرة، ولم تظهر إلى الوجود إلا في نهاية القرن التاسع عشر. غير أن الثقافة التي تحيط بها وتخترقها وتحتويها موجودة في كل الفضاءات ومتجذرة في التاريخ. لذا فهي تترك بصماتها على هذا الخطاب الكتابي والسمعي-بصري الذي يــــــــوحي بأنه ينفلت منها.
هناك تناقض جوهري بين كل المظاهر الخارجية للإشهار التي تدعي أنها تعيش عصرها وتستكشف المستقبل والبنيات الحضارية العميقة والأنظمة الذهنية اللاشعورية التي تقولب هذا الخطاب في أنماط تقليدية. فعلى مستوى الشكل، هناك طفرة في التمكن من الأدوات التقنية بما في ذلك استغلال الموسيقى وديناميكية الصورة وتشابك أنواع مختلفة من الخطابات والاعتماد على آخر المستجدات في التصوير الفوتوغرافي والفيلمي واختيار الألوان، وإيجاد نماذج جمالية في الكالغرافيا والطباعة وطبوغرافية الحروف، والانحياز نحو التركيب والتركيز والتناسق الكلي. إن هذه الطفرة أضفت على الإشهار لا أقول طابع الفن ولكن نوعا من الفنية.
لكن المفارقة تتجلى في أنه على مستوى المفاهيم الفلسفية العامة المؤطرة له و التصورات الحضارية التي ينطلق منها يبقى الإشهار قوة محافظة تحاول إبقاء الأشياء على ما هي عليه. لإبراز هذا الجانب التقليدي ستركز هذه الورقة على تمثلات >الذكورة<و>'الأنوثة< في الإرساليات الإشهارية لبعض الصحف والمجلات.
قبل هذه العملية لا بد من الانعراج قليلا لوضع وفهم الإطار العام الذي يؤطر العملية الإشهارية؛ هذا الإطار يتجلى في النظام الرأسمالي الذي بدونه لا يمكن أن نتكلم من منظور ثقافي >شامل< عن الإشهار. إن مصطلح >النظام الرأسمالي< أصبح من المحرمات نظرا لتاريخه المرتبط بجدال وسجال طويل عرفته أوروبا على الخصوص والعالم أجمع على العموم إلى حدود سقوط جدار برلين الرمزي.

أنفاسلقد أسهم في نقد مثل هذه الطرق جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما جميعا، كما أن الثورات الإسلامية اصطدمت ببعض الطرق الصوفية، وبعضها أصدر فتاوى بتحريمها ومنعها بالقوة. وقد كتب الشيخ محمد رشيد رضا كتابا ضد بعض الطرق الصوفية أسماه "الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية".
أسهم الشيخ أبو الثناء الألوسي وحفيده الشيخ محمود شكرى الألوسي صاحب تفسير "روح المعاني" إسهاماً كبيراً في الرد على فلسفة "الحلول والاتحاد _ وحدة الوجود" وتبيان مخالفتها للإسلام.
واشرك في الحملة على هذه الفلسفة كما يذكر الأستاذ أنور الجندي علماء كثيرون منهم الشيخ عبد الله السنوسي، والشيخ المهدي الوزاني وعبد الحميد بن باديس وغيرهم.. ويقول الدكتور صادق أمين أن المقصود "بالحلول والاتحاد" هو: "حلول الذات الإلهية واتحادها بالمخلوقات" ويواصل قائلا: "ومن هنا يعتبر أغلب أهل السنة هذا كفرا اعتقاديا أخطر من أي كفر عملي".
وأصدر الشيخ محمود شلتوت عددا من الفتاوى ضد بعض اتجاهات التصوف.
ويكشف الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف. في كتابه "السيد البدوي ودولة الدراويش في مصر"، عن مدى انتشار الطرق الصوفية في صفوف الجماهير. وكيف دأب حكام مصر في الماضي القريب على استرضائها، ويذكر أن الأزهر خسر عدة جولات في مواجهتها بسبب نفوذها الشعبي، ويقول أن الشيخ محمد رشيد رضا حاول مع بعض قادتها إقناعهم بالتخلي عما يعتقده بدعا وضلالات والتمسك بالتصوف الإسلامي الأصيل. ولكنه عاد فيئس من إصلاحها ويذكر الأستاذ أنور الجندي أن الشيخ أبا الثناء الألوسي عمل أيضا على التقريب بين الفقهاء والصوفية.
أما من جهة أخرى فقد ثارت حملة ضد بعض الطرق الصوفية التي تعاونت مع الاستعمار. ويذكر الأستاذ أنور الجندي أسماء شيوخ بعض تلك الطرق مثل عبد الحي الكتاني وعبد الرحمن الدرقاوي اللذين تعاونا مع الفرنسيين ضد ثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب. ويشير إلى الطريقة التيجانية التي حاربت الأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر، وإلى الشيخ الدمرداش الذي تعاون مع الاستعمار في مصر، وكان الأمير شكيب أرسلان قد أشار إلى تعاون بعض الطرق مع الفرنسيين ضد ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي.
جاء في القانون الأساسي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين: "اعتقاد تصرف أحد من الخلق مع الله في شيء ما شرك وضلال، ومنه اعتقاد الغوث والديوان"، وأن بناء القبور، ووقد السرج عليها، والذبح عندها لأجلها، والاستغاثة بأهلها ضلال من أعمال الجاهلية ومضاهاة لأعمال المشركين، "والأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف ومبناها كلها على الغلو مع الشيخ والتحيز لأتباعه.." ويروى عن الشيخ محمد بشير الإبراهيمي أنه اتفق مع عبد الحميد بن باديس في 1230ه‍، 1912م أن الجزائر تعاني من استعمارين مشتركين يؤيد أحدهما الآخر وهما "استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي واستعمار روحاني يمثله مشايخ الطرق".

أنفاسيحضر المقدّس في الاجتماع العربي بشكل لافت، متجلّيا في عدّة أنشطة مشوبة بمسحة دينيّة، الأمر الذي يرفع الدّيني إلى مرتبة الفلسفة الاجتماعية المنسابة في وعي الفرد وسلوكه. ولكنّ حالة الحضور الواسعة تلك، تعوزها في الحقيقة متابعة علميّة تليق بها وفي مستواها. ونعني بها وضع الدّيني، في شتى مظاهر تشكّلاته، وانبعاثاته، وأنشطته، ودوافعه، وآثاره، بين قوسين. بإخراج المقدّس المعيش من العفوية والانسياب، إلى الضّبط والفهم.
فعادة ما تتركّز دراسة الدّين في مستواها الأكاديمي، في البلدان العربيّة، في كلّيات الشّريعة والجامعات الإسلامية، أو في الحوزة العلمية، بين أتباع المذهب الإمامي؛ وفي الكلّيات الحبرية لدى المسيحيين. تتلخّص علوم الدّراسة، في الجانب الإسلامي، بالعلوم الشّرعية: من فقه وأصوله، إلى علوم القرآن والحديث، إلى المواريث والمقاصد، إلى الدّعوة، إلى علم التجويد والتّفسير وعلم الكلام. وفي الجانب المسيحيّ تتوزّع بين علوم اللاّهوت والعلوم الكنسيّة بشتى أصنافها: اللاّهوت الكتابي، واللاّهوت المنهجي، واللاّهوت التّاريخي، ولاهوت الآباء، واللاّهوت الرّوحي وعلم التبشير والقانون الكنسيّ، بغرض تأهيل الخرّيجين لممارسة دور كهنوتي.
وتتميّز مناهج الدّراسة والبحث في العلوم الشّرعية واللاّهوتية، لدى الجانبين الإسلامي والمسيحي، بطابع مدرسيّ داخلي، بصفتها علوما إيمانية، غرضها الأساسي دحض القلق العميق الذي يكتنف وجود الإنسان.
والسّائد في مناهج تدريس تلك العلوم، تقديمها بحسب مرويات تخلو من إعادة النّظر في مناهج السّابقين وأساليبهم. وحتى المحدَثين الذين كتبوا في هذه العلوم، غالبا ما لخصوا المدوّنات السّابقة للآباء (أوريجانيس –ت254-، وترتوليانوس القرطاجي-ت225-، ويوحنّا فم الذّهب –ت407-، والقدّيس أوغسطين-ت430-، وتوما الأكويني-ت1274-)؛ أو علماء السّلف (أبو حامد الغزالي-1058-1111م-، وشيخ الإسلام ابن تيمية-ت1328م-، وأصحاب المذاهب الأربعة)، وقدّموها في حُللٍ حديثة مع محافظة على البناء الفكري وإبقاء على الأفق النّظري. والذين حاولوا الخروج عن مرويات الآباء وعلماء السّلف، غالبا ما أزيحوا وأبعدوا، نذكر علمين بارزين في الرّاهن، هانس كونغ من الجانب المسيحي ونصر حامد أبو زيد من الجانب الإسلامي.
فالعلوم الشّرعية واللاّهوتية، في ثوبها التقليدي المعروضة فيه، لم تساير التحوّلات الاجتماعية، من حيث طرح سؤال براغماتيتها وجدواها وقدراتها على فهم الدّين والمتديّن، حتى شاعت مقولة خصوم رجال الدّين القائلة: "زبل البقر أجدى نفعا من اللاّهوت نستطيع أن نصنع منه السّماد". فلو أخذنا دارس علوم القرآن وتفحّصنا طبيعة المواد التي ينكبّ عليها, من ناسخ ومنسوخ، ومكّي ومدني، وأوّل ما نزل وآخر ما نزل، ومطلق ومقيّد، نرى أن هذه العلوم تسمح له بالكاد للاندماج في مؤسّسات المجتمع العصري، لافتقاره لقدرات حقيقية تؤهّله لأداء نشاط عملي أو نظري.

أنفاس الإسلام المستنير مصطلح شائع منذ عقدين من الزمان. ويشير إلى تيار فكرى يجمع بين الإسلام والعصر، الماضي والحاضر، وكما عرف باسم الأصالة والمعاصرة أو التراث والتجديد، ويقال عادة أنه لا يوجد إسلام مستنير وإسلام غير مستنير فالإسلام واحد. والواقع أن الإسلام المستنير تيار ثقافي يوجد في كل عصر عبر تاريخ الإسلام الطويل يشير إلى تفسير معين للنصوص، واختيار جماعي معين. فهو يشير إلى تيار اجتماعي في مقابل تيارات أخرى كما هو الحال في الفرق الكلامية معتزلة وأشاعرة، وفي المذاهب الفقهية ، والاتجاهات العقلية أو الاشراقية، والمذاهب الصوفية المعتدلة أو المغالية. وكلها تنتسب إلى الإسلام.
وهو قادر على أن يكون جسرا بين التيارات المتصارعة في عصرنا الحاضر وينهى القتال الدامي بين أنصار الدنيا وأنصار الدين، المتحررين والمحافظين. لأنه يدافع عن مصالح الناس، ويحاول نقل المجتمع كله من عصر إلى عصر، و يبدأ من تراث الأغلبية وهى المحافظة الدينية، ويلتحم معها لأنها الاتجاه الغالب على الناس، ويحقق مقاصد الشريعة.
والإسلام المستنير ليس غريبا على الإسلام فقد بدأ منذ نشأته الأولى. كان فهما مستنيرا لليهودية والمسيحية بعيدا عن عبادة الأحبار والرهبان وتعظيمهم واعتزازا بدور العقل في رفضه مظاهر الشرك والتعدد، وتأكيدا على المسئولية الفردية، واستحقاق الإنسان بصرف النظر عن انتسابه إلى جماعة أو انتظار مخلص، اعتمادا علـــــــــــى الفطرة الأولى، الطيبة الطاهرة بلا وزر، لا حيلة للإنسان فيه، يتوارثه عن غيره. السلطة فيه بيعة من الناس، والأمر شورى بينهم، والعدالة الاجتماعية سارية فيهم، ومن ثم أصبح الإسلام منذ نشأته دين العقل والحرية والفردية والطبيعة والإنسان والتقدم. وهو ما عرف في الغرب بعد ذلك بفلسفة التنوير.
وقد عبرت الاتجاهات الفكرية عبر تاريخ الإسلام الطويل عن هذه الروح. ففي علم التوحيد ظهر الاعتزال مؤكدا أصلى التوحيد والعدل أو أنه لا توحيد دون عدل، ولا عدل دون توحيد، ويشمل العدل أصلى الحرية والعقل، فلا عدل دون أن يكون الانسان حرا عاقلا. والحرية تأتى قبل العقل، ويتفرد بها عن غيره، ثم يأتي العقل سندا للحرية. والعقل قادر على الفهم والتأويل، فالعقل أساس النقل. والانسان باستحقاقه، آخرته مشروطة بعمله في دنياه، الثواب والعقاب طبقا للعمل الحسن أو القبيح، وأن صلة الحاكم بالمحكوم عقد اجتماعي يبايع فيه المحكوم الحاكم ويطيعه بشرط طاعة الحاكم لشروط العقد وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب على المحكوم قوله وواجب على الحاكم سماعه. وقد ظهر التنوير أيضا عند الحكماء، الفلسفة والدين شئ واحد متفقان في الهدف وهو الوصول إلى الحكمة وفي الوسيلة وهو العقل. لذلك   وكذلك الأحاديث النبوية(أفلا تعقلون)كثيرا ما نصت الآيات على العقل  "أول ما خلق الله خلق العقل ...".
 والنظر أول الواجبات على المسلم، والنظر يتم بالعقل وهو شرط التكليف، فلا تكليف لصبى أو مجنون، وجود الله وخلق العالم، وخلود النفس، كل ذلك يثبت بالعقل. بل أن الصوفية جعلوا الذوق مرادفا للعقل، وسيلتان لغاية واحدة فالصوفي يشاهد ما يعقله الفيلسوف.

أنفاس من الأسباب التي أدت إلى تقلص نطاق مصطلح العلمانية، تصور البعض أن العلمانية ليست ظاهرة تاريخية، شاملة كاسحة، وإنما هي ظاهرة محددة تتم من خلال آليات واضحة (مثل مصادرة أموال الكنيسة وإشاعة الإباحية)، يمكن تحديدها ببساطة، كما يمكن تبنيها أو التصدي لها بشكل واع.
ومن المنظور الاختزالي نفسه تناقش العلمانية في إطار نقل الأفكار والتأثر بالحضارات الأجنبية، فينظر إلى العلمانية على أنها مجموعة من الأفكار الغربية صاغها بعض المفكرين الغربيين، وأن هذه الأفكار نشأت في أوروبا بسبب طبيعة المسيحية، باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الدولة وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله (كأن الغرب لم يشهد ظاهرة تداخل الديني والزمني!)، وبسبب فساد الكنيسة وسطوتها، فالعلمانية من ثَم ظاهرة مسيحية غربية وحسب، مرتبطة ارتباطاً كاملاً بالغرب (الذي لا يزال البعض يصفه بأنه مسيحي)، ولذا، فلا علاقة بالاسلام والمسلمين بها. وحسب هذا التصور الاختزالي، يعود انتشار العلمانية إلى أن بعض المفكرين العرب قاموا بنقل الأفكار العلمانية الغربية، فتبناها بعض أعضاء النخبة، ثم قلدتهم دائرة أوسع من الناس، ثم أخذ نطاق التقليد يتسع تدريجياً إلى أن انتشرت العلمانية في مجتمعاتنا. بل يذهب البعض إلى أن عملية نقل وتطبيق الأفكار العلمانية تتم من خلال مخطط محكم (أو ربما مؤامرة عالمية يقال لها أحياناً (صليبية) أو (يهودية) أو (غربية)!). وللتحقق من معدلات العلمنة في مجتمع ما، فإن الباحث الذي يؤمن بمثل هذه الرؤية يتناول عمليات العلمنة الواضحة وآلياتها المباشرة ومؤشراتها الظاهرة، فإن وجدها، صنف المجتمع باعتباره مجتمعاً علمانياً، وإن لم يجدها، فهو، بكل بساطة، مجتمع إيماني!
وانطلاقاً من هذا التصور الاختزالي تصبح مهمة مَن يود التصدي للعلمانية هي البحث عن الأفكار العلمانية والممارسات العلمانية (الواضحة)، وعن القنوات التي يتم من خلالها نقل الأفكار والممارسات العلمانية. ومهمة مَن يبغى الإصلاح هي ببساطة استئصال شأفة هذه الأفكار والممارسات، عن طريق إصدار تشريعات سياسية معينة وفرض رقابة صارمة على الصور والأفكار الواردة من الخارج (يساعده في هذا البوليس السري والمخابرات العامة بطبيعة الحال!).
ول يمكن أن نقلل من أهمية الأفكار والممارسات العلمانية الواضحة، فهي تساعد ولا شك على تقبل الناس للمُثُل العلمانية، وخصوصاً إذا أشرف على عملية نقل الأفكار وفرض الممارسات مؤسسة ضخمة مثل الدولة المركزية. ولكن تصور العلمانية باعتبارها مجموعة أفكار وممارسات واضحة يظل، مع هذا، تصوراً ساذجاً، ويشكل اختزالاً وتبسيطاً لظاهرة العلمانية وتاريخها، وللظواهر الاجتماعية على وجه العموم.
وهذه الرؤية تتجاهل بعض الحقائق البديهية والبسيطة:

أنفاس ..نحن إذا أمام بنية اجتماعية معقدة تغطيها مؤشرات متداولة مثل القبيلة. وهذه البنيات العميقة إن صح التعبير هي المعبر الحقيقي عن مجتمع لا نقول بدون مشاريع، إنما مشاريعه إما ضخمة سريعة العطب –مبنية على ريع خارجي- أو متوسطة أو صغرى دائمة. إنه سلوك المزارع الذي لا يطمح إلى تسويق ولا ربح، سلوك لا ينظر إلى العمل عبر الفائض، بل العمل عنده جزء من الحياة اليومية رغم كون الفقه الإسلامي، عبر العقود وضبط الملكية، أعطى صورة تجارية لمجتمع لا يسمى مجتمعا إلا إذا كان وسيطا… ومن هذا المنطلق نتفق مع ماركس على أن الدولة ليست إلا محمولا وأن المجتمع هو الموضوع خصوصا في المجتمعات التقليدية.
إن أية دراسة مونوغرافية، سوسيولوجية خاصة كيف ما كانت درجة دقتها وقيمة وصفها، إذا لم تستطع أن تقوم بنقد إبستمولوجي، بل وحتى إيديولوجي للمفاهيم والنظريات "الجاهزة" المستغلة، إما عبر نقد منطقي أو عبر التجريب الميداني من جهة، وإذا لم تستطع صياغة استنتاجات وخلاصات تعميمية تتجاوز الرقعة المدروسة إلى المجتمع العام من جهة أخرى (قد يكون مثل هذا العمل نتيجة عوامل ذاتية أو موضوعية مشروعة أو قد يكون إحجاما عن الطموح النظري باسم مغالات المنظرين في التحليق على الواقع –الأمر الذي لا يخلو من كثير من الصواب- إلا أنه ليس مبررا كاملا للإنزواء والبقاء في مستوى الوصف الأمين)، إن مثل هذه الدراسة رغم حسناتها تبقى غير مكتملة… -مع الأخذ بعين الاعتبار طبعا الأهداف التي يحددها كل باحث لبحثه..- ولا يجب أن نفهم من هذا الحكم ضرورة استخلاص نتائج نهائية ومغلقة –الأمر الذي ليس ممكنا في أي حال من الأحوال- بل هو نوع من الدعوة إلى تجاوز التحفظ الذي طغى على العلم الاجتماعي المغربي بصفة عامة، وعلى الأعمال المونوغرافية بصفة خاصة، رغم وصول بعضها إلى درجة عالية من الجودة في التوثيق والتصنيف والوصف. بحيث لا يعدو الإحجام عند البعض أن يكون سوى ذلك التواضع الذي يسم المثقف المغربي عبر العصور. ونريد أن نشير وأن نلمح هنا بالخصوص إلى المونوغرافيات التاريخية الجيدة والتي نلمس لها العذر في عدم الاختصاص من جهة وفي المجهود التوثيقي من جهة أخرى. كما أن إحجامها مبرر في عدم تغطية ومسح المجتمعات المحلية كلها حتى نعمم على المجتمع العام.
إلا أن الأمر إذا كان بهذا العموم –أمر البقاء عند حدود الوصف والتصنيف- فقد أصبح ظاهرة تستدعي هي نفسها تفسيرا نلتمسه افتراضا في عدم وصول الكم إلى كيف ونوع يقتضي تنظيرات منافسة لما هو عليه الأمر في الغرب… إلا أنه لا بد من اجتهاد علمي مقتنع تمام الاقتناع بالأهمية القصوى للخطإ العلمي في بناء سيرورة العلم كله…

أنفاس لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ظاهرة العنف ضد النساء، إذ أصبح الكثير من الكتب والمجلات يطفح بوصف مسهب لمظاهر هذا العنف وتجلياته على مختلف ميادين الحياة المجتمعية. كما ذهب العديد من الباحثين والدارسين إلى البحث عن تفسيرات علمية لهذه الظاهرة. وإذا كان يبدو جليا أن هذه الدراسات بينت أن النظام الاجتماعي والثقافي والوضع الاقتصادي والمستوى المعيشي كلها عوامل تفسر هذه الظاهرة، فإن الملاحظ هو أن هذه الدراسات والأبحاث لم تضع موضع السؤال علاقة العنف بتشكيل الهوية الرجولية. مما يجعل العنف ضد النساء يبدو كظاهرة عرضية وكمسألة طارئة في الزمان والمكان، كما يتجلى بكل وضوح في خطاب وسائل الإعلام.
يظهر أن هناك علاقة معينة بين العنف وتشكل الهوية الرجولية، حيث أن هذه الأخيرة تتأسس على الهيمنة على النساء بوجه خاص وعلى تحكم الرجال في وسائل الإنتاج المادي واحتكارهم لوسائل العنف الفيزيقي والرمزي، مما يدعونا إلى طرح التساؤل التالي: هل يعد العنف ضد المرأة مكونا أساسيا من مكونات تشكيل الهوية الرجولية؟ وإذا كان الأمر على هذا النحو، فبماذا يمكن تفسير هذه العلاقة؟ وهل تسعفنا المقاربات المعتمدة في تفسير الهيمنة الرجولية على إيجاد تفسير علمي للظاهرة موضوع الدراسة؟
I- المقاربات المعتمدة في تفسير الهيمنة الرجولية:
كما سبق أن أشرنا في مقدمة هذا المقال، فإن علاقة العنف بتشكيل الهوية الرجولية لم تحض بما فيه الكفاية من الدراسة والبحث. ذلك أن الاهتمام قد انصب أساسا على دراسة الهيمنة الرجولية بوجه عام، حيث اتجه العديد من الباحثين، بالاعتماد على بعض المرجعيات الفكرية والمنطلقات النظرية، إلى البحث عن تفسير لهذه الهيمنة دون الوقوف عند مكوناتها الأساسية. وبانطلاقنا من مسلمة كون العنف بصفة عامة والعنف ضد المرأة بصفة خاصة يعد بعدا أساسيا للهيمنة الرجولية، فإنه يكون من المشروع اعتماد المقاربات المستعملة في دراسة الهيمنة الرجولية لتحليل ظاهرة العنف ضد المرأة لدى الرجال والتعرف على علاقة العنف بتشكيل الهوية الرجولية. فما هو مضمون هذه المقاربات؟
1 -  المقاربة الأبوية البيولوجية:
تستند هذه المقاربة على السوسيو بيولوجيا التي تنطلق من كون العدوانية الذكورية الموروثة هي التي تمنح الأسس البيولوجية لهيمنة الذكور على الإناث، وللتراتبية والتنافسية بين الرجال وأيضا للحرب. على أساس ذلك، فإن ستيفن كولدبيرك (Steven Goldberg)، عالم الاجتماع الأمريكي، حاول أن يوضح أن الجانب الهرموني هو السبب في هيمنة الرجل.