نهاية أمريكا: الشرخ العرقي يُنذر بالانهيار - عبد الحميد العلاقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

يقول الباحث والمؤرخ الأمريكي ميكائيل بهرنتMichael C. Behrent  " لم يأت باراك أوباما إلى السلطة لأجل الدخول بأمريكا إلى عصر الما بعد- عرقية ذلك أنّ غياب المساواة بين السود والبيض محفور بعمق في النفوس ولايزال مغذيا رئيسا للشعور العنصري."[1]

إنّه تاريخ خيبة ذاك الذي حدث عشية العشرية الثانية من الألفية الثالثة، بدأ بأزمة الرهن العقاري أواخر العام 2007 وانتهى بسقوط الحلم عند قطاع كبير من الأمريكيين المعتقدين بأنّ انتخاب باراك أوباما سيكون لحظة تاريخية فارقة في تاريخ أمريكا وستجعل من الحرب العرقية داخل المجتمع شيئا من الماضي[2]. لا شيء من ذلك الحلم تحقق بل يبدو أنّ الأمر سار إلى سوء أكبر. وتنضاف هذه الخيبة إلى خيبات أخر لا تكفّ عن الحدثين، كخيبة الاعتقاد بنهاية التاريخ وسيادة الانسان الأمريكي على العالم سيادة مطلقة. إنّ المتفائلين في تلك الفترة من الزمان لم يدركوا أنّ التراتبية الفجة الواقعة داخل المجتمع الأمريكي والتفاوت المسيطر منذ قرون لم يكن من الممكن تجاوزه بحدث يعد عارضا وهو انتخاب رئيس أسود للولايات المتحدة، إن الحلم بالعبور إلى عصر ما بعد-عرقية post-racial بدا بعيد المنال فالرئيس أوباما نفسه تعرّض إلى مضايقات عنصرية عديدة إبّان حكمه في الفترة الأولى والثانية على حدّ سواء، ولقد تضاعفت النزعات العنصرية في المجتمع وتمظهرت في اشتباكات بين السود ورجال الشرطة، وكانت تنتهي في الغالب بإطلاق النار على أشخاص عزّل من السود وقتلهم بدم بارد، وقد تعقّد الأمر أكثر مع وصول الرئيس الجديد دونالد ترمب إلى سدة الحكم.

دلائل كثيرة تشير إلى أنّ اللاعدالة القائمة بين الأعراق في الولايات المتحدة اليوم تتضاعف فقد ساهمت الأزمة المالية لسنة 2008 في زيادة الشرخ بين الأعراق وتكبدت الطبقة ذات الأصول الأفريقية هذه الأزمة بشكل أكبر من الطبقة ذات الأصول الأوروبية، ويتجلى التفاوت الاقتصادي بين الأسر البيضاء والأسر الأفرو-أمريكية واللاتينية بشكل لا تخطئه العين، فما يكسبه البيض يمثّل أكثر من ضعفيْ ما يكسبه الملونون في الولايات المتحدة. فوفق معهد ايربن انستيتيوتUrban Institute  أنّ ممتلكات البيض العقارية تمتلك مستويات ربحية أكبر بأربع مرّات قياسا بغير البيض، فلقد فقدت العقارات العائدة إلى السود أو غيرهم من الملوّنين عقب أزمة الرهن العقاري في 2008 نسبة تتراوح بين 31 و44 % من أرباحها بين سنتي 2007 و2010 أمّا الخسائر التي تحملتها الأسر البيضاء فلا تتجاوز نسبة 11 %[3]. وحتى مبدأ المساواة أمام القانون والمحبّر في الدستور الأمريكي يبدو ظالما للأقليات لأنه دستور أنشأته الأغلبية البيضاء ولم تراع فيه خصوصيات الأقليات. ويتعمّق الانشطار العرقي في الحياة العامة كما في السجون أيضا فقد تضاعف عدد السود في السجون الأمريكية وفق مؤسسة National Association for the Advancement of Colored People) NAACP أربع مرات من 500000 سجين سنة 1980 إلى 2،3 مليون سنة 2013، وفي إحصائية سنة 2008 فإنّ نسبة58% من السجناء هم من السود ومن ذوي الأصول اللاتينية رغم أنهم لا يمثلون سوى ربع سكان الولايات المتحدة، والعمليات السجنية المتعلقة بالسود تصل إلى ستّ مرات أكثر من تلك المتعلقة بالبيض. إنّ الأمر الأكثر جلاء وتعبيرا عن العنصرية السوداء حالات القتل الظالمة التي تعرّض لها الكثير من السود على أيدي رجال الشرطة البيض، ففي 26 نوفمبر 2014 يُقتل تامير رايس Tamir Rice ابن ال12 عاما من قبل الشرطة في حديقة عمومية بكليفلند أوهايو ليُكتشف بعد ذلك أنه كان يلعب بمسدس بلاستيكي وكذلك الشأن في ولاية ميسوري. إنّ معظم الضحايا هم من الأبرياء وغير المسلحين وقد أججت الصور التي تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي عن هذه الانتهاكات الاحتقان القائم أصلا داخل المدن التي يقطنها السود ومن أغرب صور الانتهاك البشري الذي لحق الانسان في الحياة ما حصل للسجين الأسود الذي أمضى 39 سنة ظلما في حكم مؤبد ليقع اكتشاف مظلوميته لاحقا بفعل خطا قضائي فادح. أو كذلك كارثة إعصار لويزيانا الذي أودى بمئات السود لتأخر طواقم الإنقاذ بسبب ضعف التغطية الاجتماعية لهذه الشريحة الفقيرة من المجتمع الأمريكي، ففي الوقت الذي تخصص فيه طائرات الإنقاذ وتجنّد وسائل الاعلام من أجل اسعاف حيوان عالق في بركة أو مستنقع، يموت مئات السود في مقابل ذلك بسبب عوامل طبيعية دون أن يلقوا بالا. وفي جويلية/تموز سنة 2016 وفي ردّ فعل على قتل رجال الشرطة لشاب أسود تعرض خمسة أعوان من الشرطة إلى القتل قنصا أثناء مظاهرة حاشدة في دالاس. إنّ هذه الحوادث على اختلافها تُنبئ بانفجار عرقي بدت بوادره تترى مع استحالة احتواء أزمة الصراع العرقي لتعقّدها وتمكّنها من أسس البناء الشامل للمجتمع الأمريكي. لقد باتت العنصرية في قطاع غالب من المجتمع الأمريكي واقع حال لا يمكن تجنّبه وباتت مؤثراتها ذات آفاق تدميرية قد تعصف بمبدأ التعايش، خاصة عندما تكون العنصرية سلوكا تتبنّاه أجهزة الدولة.

فلقد رفض دونالد ترمب صراحة أن يدين الرأي الذي يقول بتفوق العنصر الأبيض على الأسود، وهو بهذا الرفض يشرعن دونما مواربة السلوك العنصري ويعزّز الاحتراب الإثني.

عنصرية بلا عنصريين

في كتاب له صدر سنة 2003 بعنوان عنصرية بلا عنصريين[4] يقول ادواردو بونيلاّ-سيلفا Eduardo Bonilla-Silva إنّ مظاهر العنصرية الفجة التي كانت سائدة في أواسط القرن الماضي من خلال سلوك البيض إزاء السود قد تلاشت اليوم وتحوّلت إلى عنصرية خفية يعزز سطوتها التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين العرقين على وجه الخصوص بل اتخذت العنصرية أوجها متعلقة بالاقتصاد، فالليبرالية الأمريكية التي تقوم في مبدئها العام على تكافؤ الفرص، تؤكد بشكل خفيّ أنّ فقر فئة السود عائد إلى غياب رغبتهم في تحمل مشاق تحسين أوضاعهم الاجتماعية والميل المتزايد عندهم إلى الكسل والراحة ممّا دفع بهم إلى مسالك الجريمة، إنّ هذا التصوّر العنصري يشمل قطاعا عريضا من البيض الذين يمارسون على السود أو الملونين بشكل عام سلوكا عنصريا صامتا ومهينا دون الوقوع في المحظور القانوني (أي دون ارتكاب جريمة السلوك العنصري) ويعتبر بونيلا- سيلفا هذا الضرب من العنصرية  الذي أطلق عليه اسم "العنصرية المحايدة" أشدّ أنواع العنصرية وأقساها إزاء السود في امريكا. وفي تطور مريع للاعدالة العرقية وبفعل الفقر وغياب التغطية الاجتماعية فإنّ تجارة المخدرات باتت تستقطب هي الأخرى نسبا مهولة من الملونين الذين يفقدون بانخراطهم الاضطراري في هذا المسلك كل أشكال الانتماء في بلاد "العم سام"، ويعدّهم بشكل حتمي للفوضى والتمرّد والاهتياج الجماعي، خاصة من خلال تجاربهم السجنية القاسية التي لا تورّث في نفسياتهم غير الأحقاد الطبقية. وحتى السجناء الذين انهوا فترات عقوباتهم السجنية يفقدون الأمل تماما في الاندماج داخل المجتمع الأمريكي مجددا بفعل القوانين التي تمنع تشغيل من لهم سوابق عدلية بل يصل المنع في بعض الولايات إلى حدّ الحرمان المؤقت من الانتخاب. إنّ الامتيازات التي يحظى بها البيض داخل الولايات المتحدة في مقابل ذلك، ووجودهم خارج المجال المشكليّ للمجتمع الأمريكي جعل الباحث الأمريكي تا-نهيسي كوتسTa-Nehisi Coates  في كتابه "ما بين العالم وبيني"[5] between the World and me يعتبر البيض حالمين   dreamersلأنهم يعيشون في عالم أسطوري صار الرفاه فيه حقيقة ماثلة لم تمنحهم سوى شعور العنصرية والصلف، داعيا إلى وجوب أن يتوقفوا عن التفكير باعتبارهم بيضا أو أن يتكلموا باعتبارهم بيضا أي اعتبار أنفسهم خارج حدود أخطاء الإنسانية. وينقل تا-نهيسي في صورة شديدة الألم مقدار القهر الذي قد ينزل بالانسان عندما يولد في جسد أسود. إنّ الوضعية الاثنية في الولايات المتحدة في تغيّر متسارع وأغلبية البيض في المجتمع الأمريكي ستتحول في أقل من ثلاثين سنة قادمة إلى أقلية. وعلى طول مسار التغيير هذا ستتضاعف الجرائم العنصرية وقد تُسقط الكيان الأمريكي في مدارات حروب أهلية طاحنة.

في ركاب العولمة المضادة:

يغيّر العالم سحنته بشكل متزايد كلّ يوم، وأضحت العداوات الدولية التي تستهدف الامبراطورية الأمريكية أكثر فعالية وتأثيرا من ذي قبل، وهي عداوات خرجت من إطار الاصطراع الثقافي الزائف إلى صراع اقتصادي من أجل البقاء، وبمنطق الارتداد إلى الضدّ عند بلوغ الحدّ يبدو أنّ الامبراطورية الأمريكية تعيش منعطف نهايتها الحاسم خاصة بعد الضربات الموجعة التي صارت تتلقاها من خصوم اقتصاديين مقتدرين وأكفاء، يهدّدون فعليا وجودها كلاعب مركزي في مسرح الأحداث الكوني. إنّ الولايات المتحدة تجني اليوم قطاف ما زرعته من "ثقافة" الفزع و الفراغ و اللاجدوى التي أنتجتها أو من خلال سيطرة مفاهيم النهايات على الفكر الرأسمالي المعاصر. وفي امريكا لم يعد الخوف بضاعة يستهلكها الملونون وحدهم بل إنّ البيض أنفسهم قد صاروا على خوف متزايد من التطور المتسارع للديمغرافيا السوداء التي باتت تهدّد سلطتهم وتنذر بنهاية تفوقهم في الفضاء الأمريكي الممتدّ. وربما تجلّى هذا الخوف في الموجات المتزايدة للمدّ العنصري الذي تضاعف زمن حكم اوباما، فوصول هذا الرئيس الأسود للبيت الأبيض أذكى مخاوف البيض الذين يمثلون إلى حدّ الآن أغلبية سكان الولايات المتحدة ودفع بهم إلى مسار عنصري غير مسؤول، ومن هذا الفضاء المشحون نفسه جاء دونالد ترمب كحالة متطرفة عمّقت جراح التعايش الهش بين الأعراق. إنّ ما يجري للولايات المتحدة في المسرح الدولي من صفعات شديدة لسياساتها الدولية و لإقتصادياتها من قِبل دول مختلفة مثل روسيا والصين وإيران، و مع تنامي ضعف سيطرتها على المتغيّرات الرقمية والتكنولوجية في العالم، بفعل خساراتها المتزايدة لسلطتها التقنية والاعلامية، سيؤثر كلّ ذلك بشكل مباشر وحاسم على الداخل الأمريكي وستكون المسألة العرقية أضعف الحلقات التي من خلالها ستدخل أمريكا ضرورة في انهيارات متتالية وشيكة قد تكون أقرب ممّا نتصور، وقد تُحدث من التصدّعات بالبنيان الأمريكي ما لا نتصور.

عبد الحميد العلاقي، باحث وجامعي تونسي

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

[1] -  Michael C. Behrent, (review book)about J.Kloppenberg, reading Obama, princeton University Press 2011.

[2]- بعد فوز أوباما في انتخابات الرئاسة الأمريكية سنة 2008 كتبت صحيفة النيويورك تايمز في صفحتها الأولى: "صار أوباما رئيسا وانهارت الحواجز العرقية."

[3]- Annie Lowrey, Wealth gap among races has widened since recession, The New York Times, 28-04-2013.

[4] - Eduardo Bonilla-Silva, Racism Without Racists: Color-blind Racism and the Persistence of Racial Inequality in America, Rowman & Littlefield, 2003.

[5] - Ta-Nehisi Coates, Between the World and Me, Spiegel & Grau, 2015.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟