انتظرت قدومها طويلا، وحين أتت بسنواتها الأربعين كانت ضاجة بالحياة والأنوثة، مفعمة بالأمل، مقبلة على المرح المتفلت من بين الأصابع، تلهج بالفرح الذي تلحظه عيناها السابحتان في لجج من الخيلاء من وراء الغيوم الداكنة. لم تعد تحفل للحزن واليأس، ولا بمشاهد الدم المتناثر والدمار والخراب.
تحدق في شاشة جوالها، تتصفح الفايسبوك وتكتفي بقراءة العناوين دون الغوص في التفاصيل، مملة صارت تلك الأشياء في حياتها، لا ترغب في الغوص بين تلافيف الأخبار ولا أن تتوه بين ثناياها. تكره التحليل والعمق. حسبها أنها ترمق الصور بعينين طافحتين بالأمل والتفاؤل. تحضن الحياة تماما كما تحضن أم رضيعها حبا وعطفا وخوفا.

ذات آخر نهار، سبق الليل المغيب إليّ. فكنت ألمح السحب سوداء، دكناء، تراقصها الريح، فتعبث بها في اتجاهات شتّى منذرة بهطول المطر. كنت قد نزلت للتّو من مكتبتي الخاصة إلى الشارع اقتنص لحظة امتلاء وتوهج بعد أن كنت منكبا على مواجهة هول الورقات البيضاء ورعبها. محاولا حلّ اشكالية التوفيق بين وجوديّة متعالية وروحانيّة محايثة، ذلك أني عندما أصاب بدوار لولبيّ وأشعر بغثيان تفاهة اليومي الروتيني الذي كان يصادفني بين الفينة والأخرى.
اشتاق إليك صديقي ، فأقصدك، اطلب منك المواساة والجلوس في ورشتك، أراقبك عن قرب وأنت تلاطف الحديد أو آخذك في نزهة قصيرة كما كنّا قد تعودنا على ذلك، فتقبل دوما رغم ارهاق العمل الذي كان باديا على وجهك. كنت لا تطيل معي التجوال وبسرعة تودعني لتتركني للضياع الذي يؤول بي دوما لأجدد التأمّل لعلي أجد فيّ مسالك ملغمة هداي.

كلما ادلهمت الخطوب، وأحسست بالغربة في وطني، وتكالبت على صدري آهات من شتى المزامير الحزينة، أشيح بوجه ذاكرتي عن مصادر الأسى، وقد تعددت مشاربها بين إدارات ومستشفيات ومدارس وأسواق وأنفاق وأبواق وغيرها، بين بر وجو وبحر، بين رطب ويابس، بين مخذول وعابس... وكعادتي كل مرة، حين يَثقُل كاهلي، وأحس رأسي أثقل عضو في جسدي، أنزل بكامل الثقل على الوسادة، وأمنع نفسي من التفكير، في انتظار غفوة أو سبات، أو سهاد يؤرق جفني حد الممات...
الممات هذه المرة، كان نوما مغلفا بالكوابيس المرعبة، حيث العبور اللامرئي صوب العالم الآخر، حيث انقسم العالم إلى قسمين عملاقين، لا ثالث لهما: الجنة والنار... لا وجود للعالم الثالث، في قسمة عادلة، عز أن أرى فيها اعتراضا أو امتعاضا...

[ عيناك والسحر الذي فيهما ••• صيرتاني شاعرا ساحرا ( ابو ماضي) ]
في جو صباحي ينازع فيه الدفء بقايا برد شديد، والشمس تنزع عن الصباح بقايا نومه، جو يغازل أوتار القلوب، كم من السحر في هذا الوجود، وكم من السحر في عيناها، وقَفَت والألق ظاهر في عينيها، المحطة كانت تعج بالمسافرين، و وحديَ انتظرتني اللحظة راحمة، نظرت اليها بشيء من السؤال وبشيء من الغرابة! ماذا تفعل هذه الغريبة هنا! كل الناس هنا، ووحدها لم تكن هنا، يظهر جليا أنها ليست قطعه من هذه اللوحة، ثمة سحر في عينها وثمة ضياع وألم، الناس كلهم مسافرين ونحن الغريبين الوحيدين هنا هذا الصباح، وصلت حافلتي ولم تكن ستصعد نفس الحافلة انتقيت مكاني قرب النافذة والى جهة اليمين نظرت؛ تقف كما العصفورة مرتبكة في قفص، عيناها لا تهدأ أبدا وفي ملامح وجهها بقايا من بكاء قديم، وانا انتظر - والرغبة تقول ايتها الحافلة لا تنطلقي - بدأت أتأمل شفتيها لعل طيف او شبح ابتسامه يلوح من الغيب، وكم كانت خيبتي أنني لم أرَ ولو هذا الشبح، أما عيناها فما زالت لا تهدأ أبدا.

توقف عن شعاراتك الرنانة وخطبك البراقة، لا يمكنها إحياء الموتى ولا حتى إشباع الجوعى.. حروفك المبعثرة فوق ورقتك البيضاء، لن تخلخل ركائز الخزي الصامدة وبيوت العار الواقفة…
لا تقل شيئا، أعلم أن صدرك يضيق بما حولك، ومن شدة حزنك تحتج، ومن حبك الفياض تصرخ، ومن بريق أمل في قلبك تكتب.. لكن مثل هذا، أشك أن ينفع.. لماذا لا تبحث لك عن منبع للحياة، وتخلع عنك رداء الموت الذي انغمست فيه ونسيت متعة الوجود؟
أتقصد أن أتوارى عن عيون أحبتني، وأختفي بين أحراش الذل، وأهجر تلك القلوب المتألمة وجميع تلك الأماني والأحلام...؟ ماذا عن تضحيات الأجداد؟ ألم تكن دماؤهم نهرا ما زال يروينا؟
ها أنت تعزف سمفونية تعلم جيدا أنها مشروخة، تقنع نفسك بوهم متبخر كدخان.. لقد ثاروا من أجل وطن كانوا يعرفونه.. أما أنت، قل لي ما هذا الذي تمزق طبلات أدانينا من أجله؟ أخبرني لما تكتب تلك الأشعار؟

" نبيلٌ كانَ هو الجرحُ ......و كنتُ أنا الجريحْ !!!!"
من رواية دواعش قرطاج لــــــــ : خيرالدين جمعة
النساء بهاءٌ من الحياة القاتل ، إكسيرُ الدُّنيا المعتَّق بالزّهر والمطر والرّياح !!
المرأة كائن سحريّ ....لا تنحتُه سوى الذكريات ...لا ترسمه إلا التفاصيلْ ....
تلك التفاصيل الصغيرة التي تنفذ إليك كبداية الموت أو بقايا الحريقْ !
تلك التفاصيل العذبة : رقصةُ الأهداب....ارتعاشُ الأصابع ...حركة امتعاضٍ على الشفتيْن ...التفاتةٌ عجْلى على الرصيف ....يدٌ أتلفها الصقيع فمضت تبحث عن قبلةٍ في ثنايا المعاطفْ .....خاتمٌ شامخٌ يحيط إصبعا من كبرياء .....أناملٌ من عاج تُسوِّي خصلة شعْرٍ تُهرول في خِفّة لتعانق نسائم الصباح ......نظرةٌ مبتلَّة كالشتاء ، مُعلَّقةٌ بشبّاك قِطارٍ ، سيَرْحل ويحْملُ صخَب أحزانه بعيدا ، بعيدا .....كعبٌ صينيٌّ لحذاء شامخ... يحْتسي جراح طريقٍ أنهكه انتظارُ العاشقينْ ...!!!!!!!!

أعياه المكوث في بيته على مدار الأيام المنصرمة. فجلوسه المنتظم في إحدى زوايا البيت كان قد أثارفي نفسيته انقباضا بلغ حد القرف.
هادئا كان الفضاء الذي يقطنه ويعيش على إيقاعه، ومع ذلك لم يدرك بشير في تلك اللحظة ارتسامات أناس حدثوه عن جاذبية هاته القرية. فانبهارهم برونق طبيعتها جعلهم يضفون عليها أسماء كزمردة الأطلس، وجوهرة سيمير اميس ثم جنة عدن. إلا أن بشير لم يكن من هؤلاء ولا من أولئك. كان بشير وحيدا في أعماق وحدته منذ أن حط رحاله هنا في منتصف شهر دجنبر حيث استقبله وابل من المطر و رياح باردة..

أليس هذا غريبا، وهل هناك شيء يؤلم أكثر من الغربة، إن أي شيء ينتهي ليس صادقا او انه ليس موجودا، ولكن حتى الصباحات الجميلة تنتهي.
ليس الذي يؤلم الانسان هو ان ينتهي الصباح ولا حتى ان يسرع المساء الى الذهاب، الذي يؤلم حقيقة هو ان يعيش الانسان بين الصباحات والمساءات غريبا.
كانت هناك يمامة تعيش في شجرة خروب قديمة، لا ادري ان كانت تتألم لأنها تعيش لوحدها، على الاغلب كنت اراها حزينة ذلك لأني لم افهم الامر جيدا حينها. وبقليل من النور الساطع عرفت ان اليمامة كانت تعيش وحدتها ولم تكن تعيش وحيدة، وثمة فرق شاسع بين الامرين؛ ان يعيش المرء وحدته وأن يعيش وحيدا، والذي يثير الألم هو الأمر الثاني بينما الأمر الأول يثير البهجة. والبهجة غير السعادة، فلسنا اغبياء الى الدرجة التي نحاول فيها التحدت عن هذه الفكرة الفاسدة.