حياة ـ قصة : رشيد بلفقيه

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

-أبوكم نائم .. لا تزعجوه..
كانت هذه الجملة الصارمة حدا فاصلا يعيد كل نزقنا و فوضانا و زعيقنا -و نحن الصغار- إلى النظام و الصمت "اللمط" .
في الغرفة المجاورة كان يتمدد في هدوء خلال فترة الظهيرة بعد وجبة الأكل و كنا نحن نحشر في الغرفة الأخرى و نؤمر بالتزام الصمت و التقليل من الحركة طواعية أو تحت التهديد و الوعيد .
لم يكن الوالد ديكتاتورا ، لم يكن ينهرنا بالمرة و لم نره يوما ينظر الينا شزرا ... إلا في ما قل و ندر .
قسمات وجهه المتعبة دائما و المتألمة -أو هكذا كان يخيل إلي و أنا صغير-هي كل ما زال عالقا في ذهني بوضوح بعد كل هذه السنين.لكن في تلك الظهيرة الحزينة التي لن أنساها ما حييت ، كان الجميع يتحركون في المنزل .. و لم يكن هذا من عادة ساكنيه في هذه الفترة من اليوم .
كانت حركة لا تفتر تعم أرجاء البيت و كان بعض الغرباء عني يحتلون البيت متوزعين هنا و هناك .
أما هو فقد كان ممددا في الغرفة المجاورة التي أسدلت على بابها ستارة مفبركة .

كنت قد عدت من الخارج لتوي بل كنت قد تأخرت كثيرا في العودة . لكنني لم أجد من يستقبلني بالتوبيخ و التقريع المعتادين عقب كل تأخر . و كانت أمي تجلس في البهو تبكي و تولول بصمت و حولها نسوة أعرف بعضهن و لا أعرف البقية .
أصابوني بالدوار، ضجيجهن لايطاق و التفافهن حول أمي أصابني بالحنق ..
في البداية تجنبتها ، فقد كانت ستوبخني بشدة و قد تقرص أذني مستفسرة أين غبت "هاد النهار كااامل؟؟" لكنها بالكاد لاحظت وجودي و انصرفت عني إلى من هم حولها ..
ازداد حنقي و سخطي و تلوت أمعائي من الجوع ،حاولت لفت انتباههم و لكن بلا جدوى .
كان الكل منشغل عني .. تجمع الغضب في بطني و صعد جارفا نحو الأعلى .
لم أدر متى صرخت بكل حنقي بالجملة الشهيرة :
-أبوكم نائم .. لا تزعجوه !
عندها فقط .. امتدت بعض الأيادي و رفعتني إلى حيث وضعوني قربها .. حاولت التملص و لكنني عجزت ظلت الأيادي و الهمهات تحاصرني ، و زاد ارتباكي و حنقي و احتبست الدموع في حلقي الطفولي .. أحسست بطعمها مالحة كثيفة قبل أن تنزل من عيني و ارتعدت شفتي قبل أن أنفجر بالعويل مقلدا من هم حولي . بل مساهما في ارتفاع أصوات النشيج و العويل التي رافقتني متضامنة و متفاعلة . و كأنني أعطيتها مبررا لترتفع ..
كنت الوحيد الذي يبكي خارج السياق
بل كنت الوحيد الذي لا يعي ساعتها أن الممدد في الغرفة المجاورة لم يعد يهمه إن صرخنا أو ارتفع ضجيجنا لأنه وجد الطريق -بدوننا جميعا - نحو الهدوء الأبدي ..

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟