ضحكة العجوز الألماني – قصة: خيرالدين جمعة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

لم أره يضحك و لو مرة واحدة طوال حياتي ، و لا أحد في القرية يتذكر أنه رآه مرة يضحك .صارم النظرات كان صامتا كوادي قريتنا ، وارفا كالشمس هادئا كليالي الربيع ، بمعطفه الأسود و كبوسه الاحمر و حذائه الثقيل يبدو من بعيد وهو يمشي في شوارع القرية الترابية يتبعه كلبه ، جبلا من العظمة وبستانا من أكاليل الورد و أهازيج المتعبين .
كان الناس يتهافتون على مصافحته و السلام عليه فهو أول من أدخل سيارة إلى القرية ، يومها ظهر للناس و كأنه جنيّ يمتطي غولة من الصخب ، يقول الناس أنها كانت سيارة عسكرية ألمانية مكشوفة ، لقد عمل مع الألمان طويلا حين سيطروا على جنوب تونس ، يترجم لهم و يساعدهم في كل شيء هكذا يقول أهالي القرية ، تعلم فنون البناء منهم و لقنوه لغتهم ، فتشرّب منهم الصرامة و حب العمل و قلة الكلام ، و لذلك كان أهالي القرية يتهامسون بأنه أصبح هو أيضا ألمانيًّا حتى بعد أن تركوا قريتنا ،رافقهم هو إلى الحدود الليبية . وحتى بعد الحرب والاستقلال ظل سبّاقا في كل شيء : فهو أول من بنى بيتا كبيرا فيه الماء والكهرباء ، و أول من أدخل خط هاتف أرضي في القرية ، و أول من كان ينزع أسنانه ويركبها كساحر و الناس منبهرون بذلك العجوز الذي سكنه الجن ، و هو الوحيد الذي ترسل له فرنسا الجرائد مطوية بعناية يحملها له ساعي البريد كل بداية شهر ، وهو الوحيد في القرية الذي يشتري الورق من الدكان و لا أحد يعرف لماذا يشتريه ، و هو أول من اشترى سيارة مثل شاحنة صغيرة رمادية من نوع بيجو ، و هو العجوز الوحيد الذي رغم ثروته لم يفكر في الحج للأراضي المقدسة بل أرسل ابنه الأصغر للدراسة في فرنسا و هو الذي يحوّل مستودع مقاولاته إلى مطبخ كلما حل شهر رمضان فيوزع على الفقراء الطعام قبل أذان المغرب طيلة الشهر المعظم ، لا يجلس في مقهى القرية أو يتعبد في جامعها بل تبدو حياته عادية و روتينية ففي الصباح يذهب إلى مكتبه في وسط المدينة و عند العصر يقضي وقته في الاعتناء ببستانه الخلفي وراء بيتنا والذي ضم شتى أصناف النباتات و الخضر و بعض أشجار الرمان و النخل والتفاح ، كنت كلما رأيته يعمل بصمت و أنا ألاعب كلبه ، أتذكر كل ما يقوله الناس عنه فأشعر أن هناك سرّا يمنعه من الاختلاط بهم و هو لا يكسر نظامه الصارم إلا يوم الجمعة ففي ذلك اليوم يترك كلبه في البيت و يسير راجلا إلى جامع السوق وسط القرية وقد لبس برنسه الأبيض الصوفي الطويل فيلفّه على رأسه و يشده بخيط إلى كتفه تماما مثلما يفعل عمر المختار ، و لكن ما أجمع عليه أهل القرية هو أنه الوحيد الذي لم يضحك أبدا في حياته . ، و لا أحد في القرية يتذكر أنه رآه مرة يضحك، ولا أحد يتجرّأ على أن يسأله عن السبب إلا أنا ، و حتى حين أسأله لا يجيبني بل ينظر إليّ نظرة غريبة لا أفهمها ....

ذلك كان جدي ذلك الجبل الوارف كشمس النهار الصامت كظلمة ليلٍ........ ذلك الرجل الذي لم أحب شخصا مثله في حياتي ، كان شموخه مدوّيا و منزلته في القرية تتغنى بها النساء في ليالي الشتاء الطويلة مرحبا و ما يروونه عنه من حكايات تجعله بطلا في نظري و لكن تلك النظرة ستهتز في تلك السنة .
كنت في الصف الخامس ابتدائي و نهاية العام الدراسي طلبوا من الثلاثة الأوائل في الصف أن يصطحبوا آباءهم لتسلم الجوائز في حفل نهاية السنة الدراسية ، فطلبت من جدي أن يأتي معي ذلك السبت ففرح بالخبر كثيرا و ضمني إلى صدره و لكني في ذلك الأصيل و ككل سنة ، قلت لجدي:
- جدّي لم لا تكلم أبي كي يعود من فرنسا و يحضر الحفلة ....جدي حتى أصدقائي يسألونني عنه ..جدي كلِّمْه رجاء دعه يحضر الحفلة ، أنت كل سنة تقول لي السنة القادمة سيأتي و يحضر الحفلة ويقضّي عطلة الصيف معنا ...و لكنه لا يأتي ..كلّمه يا جدي أرجوك ..
نظر الي نظرة صارمة ، سرعان ما رقّتْ ، ثم لانت ، ثم تحولت إلى بريق ، وسمعته يقول بكلمات خافته:
- سأكلمه يا بني غدا إن شاء الله...
من الغد ما إن عدت إلى المدرسة حتى ذهبت إلى مكتبه حين رآني قال لي :
- لقد كلمته ...اطمئن...سيأتي .
سألته بلهفة : متى سيأتي؟؟
- يوم السبت صباحا
لا أدري ما الذي انتابني في تلك اللحظة و لكني شعرت بجدي و كأنه يتهرب مني ، إذ لم تبدُ عليه علامات الفرحة لقدوم أبي ، هو كان يقول لي أن أبي أتى سابقا و لكني لا أتذكر ذلك ...لم أفهم صمته وهو يغوص في أوراقه و ملفاته . ظللت أنتظر يوم السبت ....بقي يومان ..............يوم واحد ........
و جاء صباح السبت كنت أهم بالخروج إلى المدرسة حين وجدت جدي في مكتبه على غير العادة لأنه من المفرو ض أن يذهب مبكرا إلى المدينة ، ذهبت اليه مستغربا : وما إن راني حتى قال لي بابتسامة غريبة :
- الحفلة اليوم. سنذهب إليه لا تخش شيئا ...سأمر عليك في المدرسة و نذهب معا لاستقباله .
عانقته بكل قوة و خرجت.
عند منتصف النهار حين خرجت من المدرسة وجدت جدي يقف مع مدير المدرسة عند البوابة ، استغربت ارتداءه لبرنسه الأبيض لأن اليوم ليس يوم جمعة وما إن رآني حتى ابتسم لي ، صافح هو مدير المدرسة مودّعا وانطلقنا في السيارة .
طوال الطريق كان يحكم وضع برنسه على رأسه حتى أني ما استطعت رؤية وجهه ، سألته :
- أول مرة أراك تقود السيارة و أنت تضع برنسك الأبيض. ؟
التفت إلىّ مبتسما وقد راعني احمرار وجهه فواصلتُ مستغربا :
- و لكن وجهك شديد الاحمرار يا جدّي ...؟!
أجابني بسرعة دون أن يلتفت :
- الحرارة شديدة يا بني ...
وصلنا إلى مكان يبدو مقفرا عند أطراف القرية نظرت إليه مستغربا :
- كنت أتصور أننا سنذهب إلى محطة القطارات في المدينة ؟
أجابني بصوت لا يُسمع :
- سنذهب إلى المحطة في ما بعد ..
نزل من السيارة ، انتظرني قليلا ، ثم أمسكني من يدي ، و أخذ يمشي متحاشيا النباتات الشوكية ممسكا بيسراه طرف برنسه ، عرفت في ذلك الوقت أين نحن ، عرفت وهو لم يشأ أن ينظر إلي ، كان يسير دون توقف بخطوات بدت لي مضطربة على غير عادته ، كنا نسير بين القبور و الدهشة تنحرني بلا رحمة ، بعد لحظات توقف عند أحد القبور ، رفع رأسه ثم نظر إلي ، جثا على ركبتيه فسقط برنسه من على كتفه ، أمسكني من ذراعي برفق ، نظر إليّ ، و قد انقبضت عضلات وجهه والتمع بريق غريب في عينيه ، اقترب مني أكثر و صدره يعلو و ينزل ، ثم قال لي مختنقا بالكلمات و قد انقطع نفسه تماما ، شعرت بالخوف عليه و عانقته ولكنه واصل والكلمات تخنقه وهو يلهث :
- بْببببببببببني ، أبببببببببببوك رحححححححل منذ زمن ........الله .......الرررررررحمة ..
وقف بتثاقل و لكنه بدا لي خفيفا و كأنه قد نزع حملا ثقيلا كان جاثما على صدره ، و لم أفهم بالضبط ما قاله في تلك اللحظة لأن الخوف عليه سحق قلبي الصغير ، وقف كجبل منهك وهو يعدّل برنسه ، توجه ناحية القبر ، ثم فتح راحتيه و ظل يقرأ القرآن و يدعو ، بيدين مرتعشتين . ثم عاد يمعن نظره فيّ بكل رقة وقد تزايد لمعان عينيه حدّق فيّ وكأنه يريد أن ينفذ إلى عقلي ، بدا وجهه شاحبا ، و بينما كانت الأفكار تعتصر دماغي ، أخذ يحدق في القبر بعمق ،أمعن إليه النظر ، ظل واقفا كتمثال من الملح ، و فجأة ارتخت يداه فانهال برنسه على الأرض ، و في لحظة خاطفة انفجر ضاحكا ، هكذا بدون سبب ، نعم ضحك بأعلى صوته ، بل أخذت ضحكته ترددها القبور المتناثرة في مقبرة القرية ، بل تعالت ، و تعاظمت حتى تصورت أن الموتى أصبحوا يضحكون ، خيل إلي في تلك اللحظة أن قهقهاته قد ركبت الرياح و فاضت بالمطر و فجرت السيول و اقتلعت الشجر و البشر و الذكريات الحزينة فلم أعد أسمع شيئا ولا أرى شيئا ، أحسست أن ضحكته لم تكن وحدها بل كانت تصرخ مع الرياح وترقص مع الظلال و تنحر الصباح و تبحث عن أنيس في عالم قذر ، إنها ضحكة سنوات الصمت رددتها بيوت القرية الفقيرة و بساتينها المترامية البسيطة ، ضحكات بثت في نفسي الخوف ، في تلك اللحظة حين تثبتُّ في وجه جدي وجدت الدموع تسيل على خديه ، و لكنه سرعان ما أخذ يهدأ شيئا فشيئا و يتوشح صدره السكينة ، عاد إليه رشده و لبس هيبته التي انهالت على الأرض منذ قليل ،أما أنا فلم أفهم معنى تلك الضحكات ، ولكن ما أتذكره أن جدي انفلت يسبقني بخطوات متعثرة و جسد ينتفض أمامي و خطواته تزداد سرعة وكأنه يريد الهروب مني ، و في كل مرة أراه يعدّل برنسه و يشد خيطه إلى كتفه ثم محاولا وضعه على رأسه ، و بدا جسمه أمامي يهتز جبلا هدّه الزمن بلا رحمة ، و عندما ركبنا السيارة التفت إليه فوجدته ساهما و عيناه معلقتان في الفراغ . في ذلك اليوم وجدّي يمسك بالمقود منطلقا بسيارته ، قال لي وعيناه تغرق في الطريق :
- الآن عرفت يا بني لماذا جدّك لا يضحك أبدا ؟؟؟
أجبته مختنقا دون أن أنظر إليه :
- عرفت........ يا أبي .
مسح بأصابعه على شعري و نثر ابتسامته البراقة على طول الطريق .
كان لابد أن تمر سنوات حتى أعرف أن الدمعة نشيد البائسين و أن الضحكة وحدها تحلق عاليا كالصمت أعتى من الحقيقة و أشدّ من الجبال و أكبر من صهيل الموت !!!!

تونس 12-2-2024 خيرالدين جمعة

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟