دعونا نتكلم في هذا المقام على الحرب العالمية الأولى، ليس من وجهة نظر سياسية أو اقتصادية، وإنما من زاوية فلسفية محضة، حيث سنستحضر في هذا الإطار شهادة الفيلسوف الألماني هايدغر، عندما أكد أن الوجه الآخر للحرب هو العقل والعكس بالعكس، كيف يمكن فهم هذا الأمر؟ للإجابة على هذا السؤال، لابد منا أن نتوسل بسؤال آخر: لماذا ظهرت الحرب في أوربا؟ في هذا الصدد يتنبأ الفيلسوف نيتشه في كتابة "إرادة القوة" عندما يقول أن العدمية التي وصلت إليها أوربا ستنجم عنها حربان كونيتان لم ير العالم مثيلا لهما، لهذا قد نشير إلى أن الشروط التاريخية والفكرية التي عاشتها القارة العجوز، لا يمكن إلا أن تنجم عنها حرب لها ما لها وعليها ما عليها..
ليس الانسان الأوربي هو المسؤول عن الحرب، بقدر ما أن التمركز حول العقل وما نجم عنه من تقديس له هو الذي شَكّل أولى معالم قيامها ـ وهنا أتحدث بالخصوص عن الحرب العالمية الأولى ـ فلنعد إلى أهم الأحداث التي سبقت الحرب، حيث يبقى من أبرزها الثورة الصناعية، والتي ستفتح شهية جشع الانسان من أجل الاحتكار والتوسع على مصراعيها. الثورة الصناعية أيضا هي ثورة لصناعة أفتك الأسلحة وأشدها تطورا، والثورة الصناعية من جانب ثالث هي من جعلت بريطانيا تغزو جنوب إفريقيا من أجل الاستحواذ على الذهب فنجم عن هذا الأمر آلاف الضحايا الذين سكت عنهم التاريخ ذات يوم، أما على المستوى الرابع، نكاد نقول أن هذه الثورة أرادتها الإمبراطورية البريطانية حكرا عليها وعلى حلفائها، بيد أن الألمان نصبوا أنفسهم قوة لا يستهان بها على المستوى الاقتصادي، لتنطلي عليهم حيلة البريطانيين والأمريكيين، والتي كان من أهمها محاصرة ألمانيا من كل الجوانب. الرابح الأكبر من كل هذا هما بريطانيا، ثم الولايات المتحدة الأمريكية على الخصوص، وذلك نظرا لموقعيهما الجغرافي الذي كان بعيدا عن بؤر الصراع الكبرى.. دون نسيان الدور الذي لعبه المليونير سوسيل رود عندما استثمر في الماس الجنوب إفريقي ثم أسس بعدئذ شركة سرية بلندن إبان سنة 1891. والتي كان من بين أهدافها استفادة كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية من الكعكة المعلومة، وذلك بهدف الهيمنة على الاقتصاد العالمي.
من ثمة قد لا نتفاجأ عندما نرى أن الأمريكيين كانوا يمولون الحرب حتى قبل دخولهم إليها، حيث سنشير في هذا الصدد إلى السفينة البريطانية العملاقة "اللوسيطانيا" التي ثم الانتهاء من صناعتها سنة 1906 أي قبل الحرب بكثير، علما بأن هذا الحدث رافقه حدث آخر يتمثل في الدور الذي لعبه ألفرد ميلنر سنة 1905، عندما كان يخطط لحرب بين البريطانيين والألمان.
توجهت اللوسيطانيا بعدئذ إلى بلاد العم سام، لتصل إلى نيويورك شهر أبريل من سنة 1915، وعند إقلاعها وتوجهها مباشرة نحو ليفربول توصل جهاز الاستخبارات الألماني بأن السفينة التي يُعتقد أنها تحمل مسافرين من مختلف الجنسيات، خاصة الأمريكية والبريطانية، تخبئ أيضا أسلحة وعتادا غرضه مواجهة الألمان طبعا، وهو الأمر الذي أدى بغواصة ألمانية إلى توجيه توربيد مدمر نحو السفينة، وإن كانت تسير بسرعة محترمة نحو أحد الموانئ الإيرلندية، وكنتيجة لذلك وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أمام ما أرادته، ألا وهو المشاركة المباشرة في الحرب التي خَططت لها سلفا بغية تقزيم القوى المنافسة لها.
انتهت الحرب وانهزمت ألمانيا ومن حالفها، بينما انتصر الأمريكيون الذين وضعوا يدهم المباشرة على أوربا، ثم بريطانيا التي أحست بدورها بحيلة الأمريكان والمتمثلة في نشوب حرب خارج أراضيها جنبتها الخسائر المادية والبشرية على مستوى المدنيين، ولكي لا يبدو أن الحرب مخطط لها سلفا من طرف هاتين القوتين، تم عقد مؤتمر "فرساي" الذي كان غرضه الأساسي ليس البحث عن السلم في العالم، وإنما معاقبة ألمانيا وتقزيم قوتها الاقتصادية الصاعدة..
عندما نعود إلى أكبر حدث خلال هذه الأيام، نتساءل عن العلاقة التي يمكن أن تجمع بين الحرب والاحتفال بنهاية الحرب، وهل فعلا مؤسسات السلام التي جاءت بعد ذلك، تمكنت من أن تحقق أهدافها، أم أنها شكلت بدورها قوة ضاغطة تخدم الأجندات الاقتصادية والسياسية للدول المهيمنة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية؟ وكيف أن فرنسا التي تعتقد وتجعل من نفسها فاعلا ولاعبا في الحرب، تحتفل بأن تدعو كبار قادة العالم للوقوف عند ذلك، دون أن تكون فعلا طرفا كبيرا في المعادلة.. سنرى أن العالم أمام مسرحية من نوع آخر، بعض ممثليها يعرفون الأدوار التي أنيطت لهم، لأنهم على علم وثيق بكواليس الحرب وبآلاف الوثائق التي تم إما تزويرها أو إخفاؤها، بينما البعض الآخر يلعب دور الكومبارس بعلم منه أو بغير علم.. يحدث كل هذا أمام دولة خسرت كل شيء ومع ذلك تكذب على نفسها وعلى التاريخ بأنها انتصرت..
