أصول فلسفة التنوير - عبد الحليم مستور

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تنطلق  هذه المداخلة  من الافتراض الآتي : " إن  فلسفة سقراط جزء لا يتجزأ من المشروع التنويري العام الذي تروم الفلسفة تحقيقه. وحتى يتسنى لنا إيضاح ذلك، فالأمر يقتضي الغوص في دواليب التفكير الفلسفي، من الفلسفة اليونانية إلى حدود الفلسفة المعاصرة. فكما يعلم الجميع أن  الطبيعة  شكلت موضوعا لاشتغال الفلسفة اليونانية لاسيما ما قبل سقراط  أو ما يصطلح عليه بالفلسفة الكسمولوجية، كيف لا وهي التي انطلقت من سؤال ما أصل الكون ؟ هذا السؤال الذي أنعش القريحة الفكرية لفلاسفة تلك الحقبة " القرن 6 و 4 قبل الميلاد" خصوصا طاليس الذي قال بأن الماء أصل كل الأشياء وهي الإجابة التي جعلت منه أول فيلسوف يوناني  على حد قول فريدريك نيتشه[1] ويعزى ذلك  إلى كون فكرته هذه تتضمن أن الكل واحد.

وتجدر الإشارة  إلى أن إجابة طاليس ما هي إلا جزء من الإجابات التي قدمت من طرف فلاسفة آخرين كفيتاغورس انكسمانس انكسمندرس ... وفي ظل الأوضاع السياسية المتردية التي عرفتها اليونان جراء انهزام أثينا على يد اسبرطا، ظهرت حركة فلسفية جديدة تسمى "بالفلسفة السوفسطائية" التي كانت تُعَلم الناس فن الخطابة وكيفية التأثير في المستمع واستمالته عاطفيا، كما أن ممثلي هذا الاتجاه كانوا يَدعُون امتلاك المعرفة والحقيقة، وهو الأمر الذي أقلق راحة سقراط وجعله يغير منحى الفلسفة السابقة عليه، وهذا ما نجد له صدى في مقولة شيشرون الشهيرة " سقراط هو الذي أنزل الفلسفة من عالم السماء إلى عالم الأرض"  بمعنى أنه إذا كانت الفلسفة السابقة عليه اهتمت بدراسة الطبيعة لمعرفة أسباب حدوث مجموعة من الظواهر وسبر أغوارها، فإن الفلسفة السقراطية كان لها رأيا آخر؛ وهو الاهتمام بالإنسان وكل ما يرتبط به أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا... معتمدا في دراسته على منهجين هما التوليد " إذا كانت أمي تولد النساء، فأنا أولد الفكر من أذهان الرجال" ومنهج التهكم الذي قال على إثره " ما أعرف هو أنني لا أعرف شيء "[2]  أما الشعار الذي  رفعه في فلسفته بشكل عام فهو " يا أيها الإنسان أعرف  نفسك بنفسك" والذي  دعا  الإنسان من خلاله إلى البحث عن حقيقته الداخلية ، وذلك بموجب  معرفة ذاته وأهدافها ومعرفة الأسرار الكامنة ورائها عن طريق البحث والتنقيب ،ومحاولة ترويض شهوات النفس عن طريق عمل الخير والبعد عن الشر والصفات السيئة، مثل الكذب الذي كان ينزه نفسه عنه فقد كان يمثله بالشر دائماً، كما دعا سقراط  إلى حب النفس والبعد عن التصنع وادعاء المعرفة التي كان يراها هلاكا  للنفس البشرية. وحتى تتحقق كل هاته الأشياء، فقد حرِص سقراط على اتخاذ منهج الحوار المنطقي مع أتباعه وتلامذته، وذلك من أجل الوصول إلى فكر فلسفي حر منطقي؛ أي غير مقيد بإرهاصات العادات والتقاليد والفكر الأسطوري الخيالي ومن ثمة، فالفلسفة  عمل مستمر ضد الحدود، خرق للجدران ، وتوسيع متواصل لإمكانات المعرفة[3]. وهكذا فالفلسفة السقراطية في نظري تعد بمثابة الفضاء الخصب الذي غير من نمط اشتغال التفكير الفلسفي وأرسى  دعائم الفكر التنويري في بعده الحديث إن صح القول. وأخيرا مرحلة فلسفة ما بعد سقراط. و يمكن إجمالها في تلميذه أفلاطون صاحب نظرية الكهف والتي تصور بشكل مجازي واقع حياتنا وكيف يؤثر الواقع على رؤيتنا للأمور ووصولنا إلى الحقيقة. فرغم بساطتها إلا أنها فلسفة من الممكن أن تقودنا لاستخراج الكثير لتخبرنا كيف بوسعنا أن ننظر للعالم من زوايا تختلف عن تلك التي اعتدنا النظر منها. فحين ندرك أن الأفكار هي نتاج واقع أو محيط أو قيود ساهمت في تشكيل قناعاتنا سيساعدنا ذلك بلا شك لتقبل الاختلاف خاصة في الأفكار . و يبني أفلاطون فكرته الجوهرية في هذه النظرية من زعم مفاده أن ما نراه أو ما اعتدنا أن نراه قد لا يكون الواقع، أو الحقيقة بل مجرد ظلال خادعة للحقيقة. ولذا، فالحواس بالنسبة له تخدع ولا يمكن الاعتماد عليها. وبالتالي، فهناك دعوة صريحة لإعمال العقل في الحكم على الأشياء بدل الاقتصار على الحواس[4]. ومن جهة ثانية، فهو يدعونا كذلك إلى ضرورة الخروج من براثين الجهل و اللا معرفة  و اللا حقيقة لكي نعانق مجال العلم والمعرفة والحقيقة، وهو مكمن التنوير وجوهره.  لكن السؤال الذي يبقى عالقا هو هل ساهمت فلسفة القرون الوسطى في إذكاء وترسيخ مبادئ التنوير أم أنها مَرْتَع  للجهل والظلمات ؟

للتذكير فإن المقصود بفلسفة القرون الوسطى؛ هو تلك الفلسفة التي امتدت من القرن 5 الميلادي إلى حدود القرن 16 الميلادي. وتنقسم إلى فلسفة مسيحية وفلسفة اسلامية. وقد عالجت هذه الحقبة إشكالية تاريخية كبرى تتصل بالعلاقة بين العقل والنقل. فمثلا "القديس أنسلم" يرى أن الإيمان ضروري للعقل، وشرط لصحة التفكير، وقد ساعد تصور المسيحية لله على ذيوع مذاهب كثيرة تجعل حجر الزاوية في تفكيرها، رد كل ما في الكون من ظواهر وأفعال وحركات إلى الله. وعملت كذلك فلسفة العصر الوسيط على تفسير الكتب المقدسة وجعلت هدفها الأول هو التفقه والتبحر في أمور الدين والعقيدة. وكان الشعار الذي سارت عليه الفلسفة في ذلك الوقت؛ هو أن تكون في خدمة الدين، لكون العقل ليس في وسعه وحده أن يصل إلى جميع الحقائق، بل هناك حقائق لا نصل إليها إلا عن طريق الوحي . وها هو "أنسلم" يقول في عبارة مشهورة له " العقل يسبق الإيمان، والإيمان يسبق العقل، وأنا أؤمن لكي أتعقل"[5]. اما "القديس توما الاكويني" فيذهب إلى أن العقل والوحي وسيلتان من وسائل المعرفة. وكان للفلسفة الاسلامية نصيب هي الأخرى في الاهتمام بقضية علاقة الحكمة " الفلسفة" بالشريعة "الدين "، بيد أنه وقبل تعميق البحث في الموضوع، لابد من الإشارة إلى أن الفلسفة الاسلامية تدل على ثلاثة اتجاهات رئيسية:

  • فلاسفة الاسلام : ويمثلون حقا الفلسفة الاسلامية العقلية الخالصة، أي البحث العقلي الخالص في الوجود بصرف النظر عن الدين. وقد تأثر هذا التيار إلى حد كبير بالفلسفة اليونانية.
  • التصوف أو الصوفية : التي تعتمد على المعرفة الذوقية الكشفية التي أداتها القلب والوجدان.
  • علم الكلام : هو أول ما ظهر في الثقافة الاسلامية من العلوم النظرية[6]، ويمكن إجمالا تلخيص قضايا الفلسفة الاسلامية في التساؤلات الآتية : ما العلاقة بين الفعل الإلهي والفعل البشري؟ هل الإنسان مسير أم مخير؟ وهل أفعاله صادرة عن اختياراته وحريته أم أنها مرتبطة بقضاء الله وقدره؟ وما طبيعة العلاقة بين الفلسفة والدين؟  هل تتسم بالاتصال أم بالانفصال؟

ولا ضير إذا استحضرنا هنا الجدل الواسع القائم بين ابن رشد والإمام الغزالي بخصوص هذا الإشكال. ففي اللحظة التي اتبع فيها الأول النزعة العقلية، واسترشد بالقرآن الكريم الرامي إلى ضرورة النظر بالعقل في الموجودات، وطلب معرفته بها، فإن الامام الغزالي رأي مخالف، عندما أقر أن المشكلة الدينية لا يمكن أن تحل عن طريق العقل، وإنما تتطلب ذوقا باطنيا يستطيع المرء عن طريقه أن ينفذ إلى جوهر الحقيقة الدينية، الأمر الذي جعل تفكيره يصطبغ بصبغة صوفية جعلته يُقر بأن المعرفة لا تتهيأ للإنسان إلا بنور يقذفه الله في قلب المؤمن.

هكذا، يتبدى لنا أن فلسفة القرون الوسطى لدى الأوروبيين تنقسم إلى: القرون الوسطى الأولى، والقرون الوسطى الثانية، والأولى تمتد من القرن الخامس الميلادي وحتى القرن العاشر، والثانية من القرن العاشر حتى الخامس عشر. وهذه الأخيرة أكثر استنارة وحباً للفلسفة من الأولى. فأثناء العصور الأولى هيمن اللاهوت المسيحي بشكل مطلق على عقول الناس وحذف الفلسفة حذفاً كاملاً تقريباً، وكان الأوروبيون غارقين في ظلمات الجهل والتعصب الديني وكره العقل والحضارة القديمة السابقة على المسيحية.

وقد عرفت أوربا خلال القرنين 17 و18 الميلادي بروز حركة فلسفية قادها مفكرون فرنسيون وإنجليز؛ ركزت هذه الحركة على بناء تصور جديد للمجتمع[7]. فما هي خصائص هذه الحركة الفلسفية ؟

"يُحددُ عصر الأنوار كفرصة لانفلات الإنسان من وضعيته المتدنية بسبب أخطائه الشخصية، وضعف استعماله للعقل دون أن يكون موجها من طرف شخص آخر. لا ترجع هذه الوضعية المتدنية إلى نقص في مستوى الفهم، بل إلى ضعف في تحليل الأمور وقلة الشجاعة على استخدام العقل دون ضغط خارجي...إن كلمة "الأنوار" تحيل على الحرية والاستعمال الشامل للعقل الذي يجب أن يكون دائما حرا، وهذا ما سيشيع الأنوار بين الناس." ونخلص إلى أن فكر الأنوار دعا إلى:

  • ضرورة اعتماد فلاسفة الأنوار على العقل في تحليلهم لواقع مجتمعهم: 
  • إحداث قطيعة مع الفكر الخرافي و النفوذ الكنيسي، و الاستبداد و التقليد.
  • كما أنه أعاد الاعتبار للعقل و اعتماد الملاحظة و التجربة في بناء المعارف.
  • الاختراعات و الاكتشافات و المؤلفات العلمية.
  • تشجيع الفضول العلمي.
  • إبراز عيوب المجتمع و تناقضاته، و فضح المعتقدات.
  • إلى مفاهيم جديدة كالحرية الفردية و السعادة و الشعب...   
  • استعمال فلاسفة الأنوار لعدة وسائل لنشر أفكارهم الجديدة: 
    الصالونات و المقاهي: حيث يلتقي الفلاسفة و الفنانون و العلماء و الكتاب لمناقشة الأفكـار و النظريات الاقتصادية و العمل على نشرها[8].

استنادا إلى هذه الخصائص، يمكننا القول إن التنوير هو " خروج المرء من وضع الحجر الذي هو نفسه مسؤول عنه. وهذا الحجر يعني عجر الإنسان عن استعمال عقله دون قيود ووصاية غيره،"[9] فالإنسان مطالب باتخاذ القرارات التي تتماشى ومنطق العقل بعيدا عن أي إكراه، لأن شعار التنوير يتجسد في القول الآتي: " لتتجرأ على المعرفة، ولتكن لديك الشجاعة على إعمال عقلك الخاص". وحتى يتحقق ذلك، فلا بد من وجود الحرية كصفة ملازمة للذات الإنسانية، كما أنها تحتل مكانة مهمة في فكر الأنوار ويقصد بها حق القيام بكل ما تسمح به القوانين، أي التصرف وفق ما تمنحه القوانين، وإذا ما قام أحد المواطنين بفعل ما تحرمه القوانين، فإنه لن توجد هناك حرية لأن المواطنين الآخرين سيصبح لديهم جميعا نفس الحق.

يتراءى مما سبق ، أن السؤال حول التنوير، يعتبر في ذات الوقت نبراسا نحو تحقيق الهدف المنشود ألا وهو التنوير ذاته، أي النظر إلى التنوير لذاته، بمعنى باعتباره غاية، الأمر الذي يجعلنا نطرح سؤال الوسيلة القادرة على إخراج الإنسان من براثن الجهل والظلمات، نحو العلم والنور، ولتحقيق ذلك  فالأمر يستلزم منا  التسلح باليات ومعدات منهجية؛ ومعرفة قادرة على رفع التحدي اليوم، لاسيما في ظل هذا الزخم الهائل من المعلومات والأفكار التي يتوصل إليها الإنسان بمجرد عملية النقر على محركات البحث. أضف إلى ذلك الانتشار المهول لوسائل الاتصال الحديثة، وكيف غيرت من نظرة الإنسان إلى ذاته وإلى العالم من حوله؛ فبالأمس القريب كان الإنسان سيدا ومالكا على الطبيعة، غير أنه اليوم بات سيدا ومالكا على الإنسان نفسه. فاليوم أضحينا نتحدث عن الإنسان التقني أو بتعبير "هربرت ماركوز" الإنسان ذو البعد الواحد. وبالتالي، فسؤال التنوير يبدو لي، أنه لايزال يحتفظ بمكانته، كفكر يعلي من شأن الإنسان وقيمه الإنسانية، ويَتَغي إعادة الاعتبار لمقومات الذات الإنسانية كالحرية، والوعي والإرادة...

 هكذ، ففعل الخروج من الظلمات إلى النور إذن، يتطلب :

  • التسلح بالمعرفة البناءة
  • الابتعاد عن النظرة الاختزالية للإنسان.
  • التعامل الجيد والمعقلن مع مختلف وسائل الاتصال الحديثة.
  • إعادة الثقة للكتب الورقية .
  • إرساء قواعد القراءة وتحفيز وتشجيع مختلف شرائح المجتمع على فعل القراءة.
  • إعادة الثقة للمدرسة العمومية .
  • النهوض بالقطاع الثقافي كقطاع حيوي قادر على إحداث التغيير.
  • وضع خطة ورؤية استراتيجية تأخذان بعين الاعتبار خصوصيات المجتمع المغربي.
  • نهج سياسة ذات حكامة جيدة ورسم خارطة طريق واضحة للشأن السياسي ببلادنا.

 

[1] في رحاب الفلسفة، الجذوع المشتركة للتعليم الثانوي التأهيلي، مجموعة من المؤلفين، مكتبة السلام الجديدة، ص 15.

[2]  " تاريخ الفلسفة اليونانية" وولتر ستيس، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع دون طبعة ص 92.

[3]  " فيليا أو الفلسفة كفن للخروج" عبد الله باعلي، مطابع نيت، ص 11.  

[4]  " تاريخ الفلسفة اليونانية" مرجع سابق ص 155.

[5] " ما هي الفلسفة؟" الدكتور حسين علي ، الصياد للتجارة والتوزيع، ص 89

[6]  " ماهي الفلسفة؟ " مرجع سابق ص 92.

[7] " الجديد في التاريخ" سلك التعليم الثانوي التأهيلي، الجذع المشترك للآداب والعلوم الانسانية، دار النشر المعرفة ، ص 125 .

[8]  مقالة منشورة على موقع : " http://3an3an.over-blog.com/article-2488907.html"

[9]  " ما التنوير؟" ترجمة مصطفى العريصة، أستاذ الفلسفة بجامعة القاضي عياض مراكش.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟