المعتزلة (الجزء 1) - عبد العزيز ورحو

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسيشكل مذهب أهل الإعتزال أحد المذاهب الكلامية الكبرى في تاريخ الإسلام, حيث حاول مشيخة المذهب إعادة قراءة موضوعات الله و العالم و الإنسان إعتمادا على العقل المحض و بحضور قرآني , و رغم اختلافهم فقد اتفقوا في المنهج و الأصول و كانوا في ذلك يصدرون عن نزعة نقدية أسست للهدم و البناء بشكل مسؤول و مهذب , فساهموا في إنشاء لاهوت وقف صلدا و صامدا أمام الزنادقة و المجوس..فصح بحق أن يكون علم الكلام المعتزلي رياضيات العقل التجريدي.
و نظرا لكوننا لا نقدم هنا دراسة كاملة تحيط بعناصر المذهب فسأقتصر على عرض عام لنظريتهم في المشكل الإنساني و الطبيعي و كذلك مسألة المسائل و التي منها انطلقوا لفهم العالم و الإنسان , إنها مشكلة الذات و الصفات مع ذكر لبعض من رجالاتهم بشكل وجيز.
ولعل ما يلحظه القارئ لفكر المعتزلة هو منهجهم التحليلي للميتافيزيقا و مشكل الحرية اعتمادا على ملكة العقل الحرة , و هو موقف يذكرنا بعكس ما قام به أهل العرفان و الذوق حينما فكروا في اللغة و هدموها هدما فأسسوا بذلك لعالم لغوي خاص أقرب للغو بمخالفته لمنطق اللغة الطبيعية , و بانبنائه على كيان عجيب قوامه الهمس و الغمز اللغوي و الرمز و الإشارة.
لقد رأت الصوفية في اللغة العادية نفس ما رآه علماء الرياضة والمنطق: عقبة أمام المعرفة, فأنتج العقل العلمي و المنطقي لغة أسست على الرموز الرياضية و المنطقية يسهل تطويعها في مجال البحث العلمي و حاجات الإنسان اليومية. و على الرغم من أن اللغة الطبيعية تستطيع استيعاب القضايا العلمية الكبرى إلا أن فك رموز الكون المكتوب بلغة حسابية صارمة و تحقيق التقدم في هذا المجال يلزم استخدام أسلوب المعادلات الرياضية و كذلك يوجب إتباع لغة منطقية تفي بغرض التعبير الدقيق لدنيا الفكر بعيدا عن الإعتبارات السيكولوجية.. فكان أن إنتهى العلم الدقيق و المنطق إلى طريقة لقراءة العالم عكس المتصوفة الذين هدموا اللغة من أجل هدم العالم و المعرفة فأسقطوا حالاتهم النفسية على الخالق و رسله..عليهم السلام فأنطقوهم بعجائب الأمور.
و إذا كانت لغة المتصوفة, في حالات الفناء و الإتحاد و الشطح.. منتجة للاعقل و الباثولوجيا فإن العلم الدقيق بنى بلغته الصارمة نسقا معرفيا منتهاه فك طلاسم الوجود بمنهج علمي ينتج اليقين, و لم يتنكب الطريق كالدراويش لإزدرائهم حضور العقل في كل عمليات التفكير العليا .. وبتزويرهم معاني الطبيعة و اللغة و الوحي تحت مسمى منهج الذوق الذي يعطي معنى يختلف عن ما نفهمه نحن بعقولنا من الأشياء.
فالمعنى موجود بثبات في الكون و القرآن و ما علينا سوى قراءتهما من أجل فهم المعنى الواضح.. و كذلك أقول كفى من الصراخ و العويل و أكذوبة التأويل المتعدد..أو فهم خاص -عالم- للعلماء و فهم -هابط- للرعاع و العامة-الدهماء -و هذا تقسيم قديم في التاريخ كرسته الفلسفة المشائية.. و كان إبن رشد أحد الذين إرتكبوا خطأ فادحا بتقسيم المعرفة إلى نوعين : معرفته هو و أستاذه أرسطو و معرفة الرعاع..و هذا غاية في الدجل. فخالق العباد لم يميز بين الناس إلا بالتقوى, أما العلم: فعقول البشر جميعا قادرة على إستيعابه و فهمه , فهو لا ينتج, و إنما: يكتشف .إن المعنى يسكن مصادر المعرفة و ما العقل والحواس سوى وسائل..و المشكل ليس في اللغة..بل في سلوك الإنسان الفكري و إحترامه لشروط التفكير الصحيح..أو لا.
لماذا نقول أن القرآن يحتاج لعلم كبير حتى يفهم كنهه ؟ لماذا ندعي أن عقل العالم غير عقل الإنسان العادي ؟ ما هذا ؟ ما معنى العقل و العلم؟؟ لماذا نؤمن بأن ما يفهمه الإنسان البسيط غير ما يفهمه الإنسان العالم.. هل أرسل الخالق كتابا غامضا لا يفقهه سوى بعض العلماء , الصوفية,الأئمة,الفلاسفة ؟هل نادى القرآن بالطبقية في العلم ؟ و هل عقل الفلاح و بائع الرثاث لا يعرف بميزانه العقلي الغريزي تعلق فهم النصّ بمعرفة سياقه العام و الخاص و فهم من المخاطب و المخاطب و شروط الزمكان و الثقافة... لفهم النص؟ إن القرآن ندد فقط و ناقش العقل المكتسب لتأثيره القوي على العقل الغريزي و بالعقل الغريزي نستطيع أن ننسف الثقافة المكتسبة و كذلك حث العقل الغريزي على إعادة النظر في الكون و المكتسبات..و أثبت قدرته في الوصول إلى الحقيقة و بالرغم من ذالك لن يعذبه إلا إذا بلغه الوحي الإلهي و رفضه.

و الإيمان بالله هو أساس و نتيجة للعلم به والنظر و البراهين متعلقة بالهدى و التقوى ..
لهذا تجد علماء كبار أغنوا الحضارة الإنسانية بعلمهم و لكن ضلوا الطريق إلى الله ,ضلوا الطريق إلى الجنة..بينما تجد راعي غنم بفطرة طاهرة - لن يحصل عليها العالم إلا إذ كابد المحن و انتقل من الحيرة و الشك بسبب العقل المكتسب إلى الأمن النفسي و الإطمئنان ..- يعيش أعلى درجات الخشوع النقي و الطهر الديني حيث لا مكان هناك للنفاق.. إلا فيما ندر. أوليس هذا بالعلم أي الإيمان الذي يريده الله تعالى للعبد ؟ أوليس العلم هو معرفة الله و طاعته حتى الممات ؟ فالعلم يؤدي إلى الإيمان حيث تعيش الهدى و هي مرحلة تطمأن فيها أنك على طريق صحيح و أن لا مجال للعب..
فراعي الغنم عندما يقرأ القرآن أو يستمع إليه ينحني ملتزما به إنحناء لن يذقه العالم إن وجد .
و إن كان هذا العالم موجودا فهو نادر جدا .و هذا العلم منشؤه إستخدام العقل الفطري و هذا الأخير نجده عند راع بين الجبال...و ما أقوله هنا يلاحظه من عاش و ناقش و لا حظ حياة البدويين .ثم سؤال ثان :
لماذا ليس هناك تأويل متعدد لسلوك الطبيعة ( كينونة الأمر الإلهي) إلا عندما تكون النظرية العلمية مجرد نظرية أي : إحتمالات و فروض لم يبرهن بعد عن صحتها و ثباتها أمام النقد ؟ فهناك دوما حقيقة علمية واحدة يتفق عليها كل البشر فيكون إختلاف العلماء فيما بعد عن مصدر .. تلك الحقيقة و ليس الحقيقة ذاتها , و هذا الأمر ينتمي إلى فلسفة العالم ,عندما يتفلسف العالم, و فلسفة العالم غير العلم ذاته , فيكون العالم المتفلسف خارج القفص الصارم للمنهج العلمي و بذالك يتيح الفرصة لثقافة الأجداد للتعبير عن نفسها فينسب له العلم و هو ينتج الخطأ قياسا على إنتاجه الصائب في العلم الدقيق..

والفلسفة هي نهاية العلم و بدايته.
فلنعد إلى المعتزلة العقلانية..
و إذا كان الأمر كذلك فلنطرح السؤال عن معنى العقل الإعتزالي ؟؟

و لماذا قابلهم أصحاب المذاهب الأخرى بضرب كف بكف و الصراخ و النحيب ؟
و لماذا أسموهم بمجوس هذه الأمة ؟ بل العجيب أن النسابة بمنقرها الطويل قالت بدون إستحياء و لا خجل أن النبي (ص) قال :
القدرية مجوس هذه الأمه فإن مرضوا فلا تعودوهم , و إن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم !! ؟ أمر عجيب و جرأة كبيرة..فالقدرية مصطلح مستحدث لوصف من دافع عن حرية الإنسان في خلق الأفعال و أنكر القدر السالب لها. و كان ذلك بعد موت النبي (ص) .
وهل فعلا من قال بأن الله تعالى لا يرغم أحدا على الكفر أو الإيمان مجوسي؟ فالقرآن ممتلئ و يفيض بآيات تطفح بهذا .. و هذا الحديث الكاذب يضاهي قول الإمام الشافعي :
إذا وجدتم السنة ( الحديث) فاتبعوها و لا تلتفتوا إلى أحد . كان من الأولى أن يدعوا إلى القرآن أليس كذلك؟؟
فقد حكم سلبا و طعن في الله تعالى و هو يدري ما يقول طبعا..

يعتبر العقل عند المعتزلة الحجة القائمة بذاتها , المستقلة بكيانها, لذالك فهي غير محتاجة لدليل تحتج به فالعقل هو كل العلوم الضرورية المركوزة في المكلف و هي سبيل لتحقيق المعرفة بالنظر و التفكير في الأدلة و هو قوة تحصيل العلم و التمييز بين الأضداد و الأشياء.
العقل إذا هو القادر وحده على البحث بشكل منظم في القضايا الوجودية لإدراك كنه الحياة و سننها و كذلك لمعرفة حسن الأشياء و قبحها , و العقل يحتوي قوانين ركبت فيه أساسا لانتاج قراءة صحيحة للعالم ..طالما رافقته الحرية في البحث و النظر.
إن العالم ليس بكائن مغلق , تحتويه الألغاز ..بل على العكس فهو شديد الوضوح يحتاج فقط لعقل حر للتبحر في أركانه القصوى.

و حرية العقل تلزمه القدرة على تبني موقف أو إعتقاد.. معين أو تركه بدون ضغط و إلزام خارجيين كتدخل الإرادة الإلهية في تغيير مجرى الإختيار الإنساني الحر و لذلك فالعبد منتج أو قل خالق لأفعاله و ان شئت فكل إنسان مشروع لنفسه , يفعل ما يشاء بدون إكراه خارجي. و لعل هذا الإعتقاد يهدم أساس الإيمان بالجبر الإلهي , فالقدر لا يضطرك جبرا لكي تزني , تكفر , تسرق , تحكم بالسيف , تكفر, تؤمن , تفعل الخير ..فالمسألة مسألة إلتزام حر و ليست مسألة إلزام..
ليس هناك حتمية في مجال أفعال العباد , فالعبد قادر على فعل الخير و الشر بينما الخالق لا يفعل سوى الخير .
فالإنسان عند المعتزلة ,حالة خاصة , و إذا كان حرا مريدا لأفعاله ..لزم أن يخضع للثواب و العقاب و هذا الأمر صاغه الفلاسفة كمبدأ فلسفي للبرهان على وجود الله تحت إسم البرهان الأخلاقي و الذي مفاده :
أنه من المستحيل أن تنتهي حياة البشر على الأرض بالفناء بدون حياة أخرى حيث سيعاقب الظالم على ما ألحقه بغيره من ظلم و كذلك ليثاب المحسن و يتمتع المظلوم بالعدل و الإنصاف.
و بما أن الدنيا الحالية لا نرى فيها هذا النوع من القسط لزم أن يكون هناك خالق للناس سيتولى في الآخرة مسألة الحكم بين العباد بالقسط.فالعقل السوي الغريزي ـ الميزان ـ لا يقبل العبث.
فكما ترى فالنسق المعتزلي ـ متناغم الأطراف ـ أزاح بالفعل الجمود الفكري و إنقض بالحجاج و الأدلة لنقض نظرية الجبر الإلهي .. دفاعا عن الإرادة الحرة و تنزيها للخالق تعالى عن الظلم .

و بطبيعة الحال فالمعتزلة ساهموا في بناء علم الكلام , و علم التوحيد في تاريخ الإسلام لم يعرف التشاؤم و هو يناقش الله و العالم ..كما ضاعت فلسفة اليونان و حكمة الهند.. في أحضان العدمية .. مستنقع نيتشه ,فيلسوف اللامعنى , و السبب البسيط هو عدم الإيمان بخالق أسمى و أكمل علما من قدراتنا المعرفية.. فإنكار الخالق ـ و هذا قمة الغباء المستكبر ـ أدى الى أن دب الإرهاب و الضياع إلى نفوس هي أقرب في بنائها إلى بناء العنكبوت فراحت تؤسس لفلسفة الجنون و التصحر العقلي.. مناقضين بذالك فلسفة الوحي حين صاغ نسقا نهائيا في الطبيعة و ما ورائها مرورا بالوجود الإنساني.
و ليس هناك من شك في إطلاع المعتزلة على فلسفة يونان و فهمهم إياها و إن كان ذالك تأسيسا لنقدها موضوعا و منهجا مؤسسين بذلك نظرة جديدة في الوجود و المعرفة.. لم تكن إمتدادا للفكر الهيليني و إن تأثرت بمفاهيم يونانية إحتوتها كذلك نحل متعددة كالديصانية وا لمانوية الممتلئة بالأفكار الغنوصية و اليونانية..التي هاجمت الإسلام فكان لها حضور قوي في فكر السهروردي المقتول و إبن سبعين و إبن عربي..الذين محوا الفوارق الموجوده بين الخالق و المخلوقات . هذا الأمر الذي جالده رواد الإعتزال بقوة كبيرة لطمس ما يناقض القرآن المقروء عقلا , أو قل أن المعتزلة حاربوا الملل و النحل في ضوء العقل المحض و هو يتأول القرآن عقلا .
فالمعتزلة أخضعوا التراث اليوناني.. الذي هاجمهم كما أخضعوا القرآن للعقل المحض و ظلوا أوفياء لأسسهم الفكرية سواء إتفق النص الديني معها أو لا , فهم يرفضون نصا دينيا لا يقبله عقلهم , بل يقومون بتأويل له دعما لمبادئهم الفلسفية, و كانوا يقومون بهذا كفلاسفة مسلمين , مومنين بالوحي ..
و إعتمادا على هذا صاغوا نظريتهم في الله و العالم فرأوا أن :
الله تعالى شيء لا كالأشياء , ليس بجسد و لا مادة و لا جوهر و لا جزء و لا عرض.. و لا يتحرك و لا يسكن و ليس له جهة , خارج الزمكان , منزه عن الشريك و الولد و الصاحبة , غير مدرك بالأبصار و لا يشبه الخلق بوجه من الوجوه , اي هو خالق الأشياء , أزلي , غير محدث فهو الأول و غيره محدث..فالله تعالى كما جاء في مقالات الكعبي :عين واحدة.
و لا يخفى عليك أن هذا كان ردا على هجوم المعتقدات اليونانية , و النصارى .. و المجسدة ..
و يمضي المعتزلة : فالله خلق الخلق على ما خلق , و ليس على مثال سابق ( أفلاطون) .. كما نفوا صفات الله تعالى كصفات قائمة بالذات تشاركه القدم , و أنه تعالى أعطى للعدم وجودا, و العدم شيء ذو ماهية.
و قول المعتزلة هذا قد يؤدي للظن أنهم ارادوا بذلك قدم العالم كما عند إبن رشد..و لكن مرادهم غير هذا : فقد أثبتوا ازلية الخالق وحده فهو الأول ..و المشكلة قائمة في فهم الخصوم لمعنى العدم و حمولته المعرفية المعتزلية , و العدم كما نعلم لا شيء , حتى لا يكون الأمر متماشيا مع المثل الأفلاطونية أو الهيولي عند أرسطو .
إن المعتزلة تؤمن بأن الله تعالى خلق الخلق و الخلق غير أزلي و إذا فالخالق وحده هو الأزلي و هذا و اضح في نقدهم لفكرة المحرك الأول الذي يقتصر دوره على تحريك العالم , و الطبيعة عند المعتزلة محدثة , فعل لله , فهو علتها , فلا مجال هنا للقول بقدم العالم .
و السياق العام للمعتزلة ينفي شيئية المعدوم , فالعدم ليس بمادة أولى , و الكون الحالي لم يصبح كما هو الآن بعد ما كان على حالة و طبيعة أخرى في العدم , و قول المعتزلة بشيئية المعدوم كان من أجل حماية التنزيه و التوحيد , و لم يهدفوا الى القول بقدم العالم , و لم يتأثروا بفلسفة يونان لأن هذا الأمر يناقض التوحيد عندهم , و قصدهم بشيئية المعدوم يعني : أن حقيقة الوجود الحالي كانت ثابتة في علمه تعالى قبل إنتقال الوجود من حالة العدم إلى حالة الوجود تماما مثلماأن حقيقة العالم الأخروي ثابتة في علمه قبل تحققه في الوجود و هذا صريح في القرآن و كلنا يعلمه ..فلا داعي للقول بأن المعتزلة تأثروا باليونان..

ونظرا لخطورة العقائد فقد توجه المعتزلة بالنقد لكل فكر يعارض مبدأ التوحيد , فآمنوا بنفي الصفات الزائدة على الذات و أنه ليس كمثله شيء و أدى هذا إلى القول بخلق القرآن و قالوا كما أسلفنا بما ينقض الجبر فدافعوا عن مذهب الإختيار و حرية الإنسان في خلق أفعاله , و أن الله لا يفعل القبيح و لا يخل بما هو واجب ..و لا يظلم و لا يجور ..فانتهوا إلى أن الله عادل و أن القبح و الحسن ذاتيان في الأفعال نافين بذالك القدر الإلهي.
و بما أن الله لا يظلم أحدا ,فالعبد مسئول عن معتقده و سلوكه, فان الوعد و الوعيد يلزم تحققه في الآخرة لإن الكافر غير المومن الصالح, و قالوا أن الفاسق يحمل صفة الكفر و الإيمان في نفس الوقت و لقصور العقل الانساني فالله هو الأقدر على إصدار الحكم عليه إعتمادا على مقدار الكفر و الإيمان ـ ايهما أكبر ـ لتحديد مصيره أنار أم جنة .كما شكل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أصلا من أصولهم . فأسسوا بهذا بنية اللاهوت رفقة من قام بالرد عليهم و لا شك أن المعتزلة و الأشأعرة إرتكبوا أخطاء و لكن هذا لا يقدح في ما أضافوه معا للحضارة الإنسانية. و الآن سنعرض فقط لشيخين من شيوخ الإعتزال إختزالا للوقت و تخفيفا على من لا يملك الرغبة في القراءة..

كان ابو الهذيل العلاف أحد الشيوخ الكبار المنافحين عن مذهب الإعتزال و المدافعين عن عقائد الاسلام و كان نسيج و حده , و عالم دهره , ولم يتقدمه احد من الموافقين له و لا المخالفين...كما جاء في كتاب المنية و الأمل ,وكان مولده سنة أربع و ثلاتين و مائة و كان مولى لعبد قيس .
توفي العلاف عن سن إختلفوا فيها و الأرجح انه كان طويل العمر و مات ايام المتوكل سنة خمس و ثلاثين و مائتين حسب نفس المصدر.
و حسب المصادر فالعلاف تفرغ للبحث و دراسة الفلسفة اليونانية .. و ناظر العديد من ممثلي مختلف الملل و النحل , و كان يقطعهم بما قل و دل , كما كان زاهدا عابدا و إن رموه بالكفر..مخلصا للإسلام خائضا جليل الكلام و مساهما في تأسيس دقيقه , بانيا بذلك نسقا رائعا جعله يتعرض لنقد الزنديق إبن الروندي .. فانبرى الخياط , أحد شيوخ المعتزلة لتأليف كتاب الإنتصار كرد فعل للرد على إبن الروندي .
كان العلاف أستاذا للنظام ـ ابن أخته ـ و روح مذهبه لا تخالف المعتزلة إلا في بعض الفروع , فسنقتصر فقط على عرض بسيط لبعض من آرائه .
فالله تعالى عنده ذات و هي عين الصفة , و الله ليس بجسم ...و وجهه تعالى هو نفسه و نفسه هي هو تعالى و يده نعمته , فالعلاف يثبت الذات و الصفات , إلا أن الصفة هي عين الذات , كما آمن العلاف بأن الخالق يقدر على فعل واحد و هو الأصلح لإنقاد الحريه الإنسانية في إتيان الأفعال , مقررا أن العباد في هذه الدنياأحرار مخيرين و في الآخرة مجبرين , لا يقدرون على شيء , لانها دار جزاء و ليست بدار عمل , كما قال بإنه تعالى لا يستطيع إتيان ما دون الأصلح لينسب الشر و الخير للانسان و بذالك إقتصر فعل الله على فعل الخير فقط و مؤدى هذا تقييد القدرة الإلهية بالإستطاعة الإنسانية .. و للعلاف مذهب في الارادة الإلهية : فإذا اراد الله تعالى خلق شيء ما يقول له كن فيكون و إرادة الله تعالى قديمة و هي عين الذات و محدثة قبل خلق الكون و هي صفة للفعل , و الإرادة المحدثة غير الشيء المحدث , و هي لا في محل . و مراد هذا القول قد يكون ان العلاف جابه النصارى المومنين بقدم كلمة الله ـ المسيح ـ فجاء رأيه المنكر لقدم الكلمة دفاعا عن التوحيد و التنزيه و لا علاقة له بالمثل الأفلاطونية القديمة و التي في محل .
و يرى كذلك انه تعالى خالق الذرات و هي مخلوقة يحكمها الزمن .. لها بداية و نهاية , و الخالق يفعل فيها ما يشاء بإرادته تعالى , و بهذا يخالف ذرات اليونان الأزلية عند أبقورس و ديموقريطس ..
فالعالم عند العلاف يتكون من الذرات , في إتصالها ينشأ الكون و في إفتراقها يفسد و الله تعالى من يحركها و يفعل فيها ما يشاء , و هو قادر على تجزئة الجسم حتى يصل إلى مستوى يقف فيه الإنقسام و هنا الإختلاف بينه و بين تلميذه النظام و الذي سنعرض له في الحلقة القادمة لنرى أن علماء الكلام أنتجوا كلاما تقف الفيزياء الحديثة بجانبهم بعض الشيء.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟