هل من الممكن تحرير المعارف في الفلسفة من النزعة الكولونيالية؟ - أرنست ماري مبوندا* - ترجمة : عبد الوهاب البراهمي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"إنها (أي الِّديكُولوِنْيَنَةdécolonisation) ضرب من الثورة الكوبرنيكية المتمثّلة في الانفصال عن المركز بالتساؤل، لا عمّ يمكن تعليمه للآخرين، بل عمّ يمكن تعلّمه من الآخرين."(مبوندا)
"يتعلّق الأمر بقطع الاتصال بمواقع التعبير والقول المتصلة بالكولوينالية / الحداثة، و وربط الصلة بالذات ، بالمواقع الذاتية للقول ، بـ"الأساطير" الخاصّة، والتحرّر والانفلات من " المصفوفة الكولونيالية للسلطة"، و التحرّر من نظام ابستيمي يمنع من التفكير بذاته وانطلاقا من ذاته "( أ. ماري مبوندا)ّ
 "إنّ العقل ( الكولونيالي) المتكبّر أو الخامل، هو العقل الذي يرفض تعلّم إماتة أفكاره المسبقة ، والذي يرفض التخلّص من مقولاته الأبدية والكونية، و إزاحة الحواجز للتفكير على نحو آخر، للتفكير مع الآخر وللتفكير في الغيرية". ( أزم. مبوندا)

     إنّ مقولة دِيكُولِونْيَنَةِ décolonisation المعارف أو تحريرها من النزعة الاستعمارية، حاضرة بشكل يتزايد في أعمال العلوم البيوطبية biomédicales ، وفي العلوم الاجتماعية ، وفي الأدب وفي الفلسفة. وبإمكاننا كذلك تعريفها في عبارات التفكيك   déconstruction ، و" العصيان الإبستيمي"  (1) « désobéissance épistémique ، وفقدان الوجهة أو " التيهان"(2) « désorientation ، و" ترييف أوروبا" « provincialisation de l’Europe(3)، وباختصار في إدانة كلّ إدّعاء هيمني وغير تساؤلي لحيازة المعرفة الكونية ، إدانة مؤائمة للدفاع من أجل "الإزاحة عن المركز"décentrement »  و تداول المعارفsavoirs"  « circulation des . إضافة إلى أنّ تفعيلها يصطدم بعوائق  يجعلها جدّ خيالية . تتميّز هذا الديكولونينة للمعارف في مجال الفلسفة ، إنْ لم نقل ملغومة ، بجملة من " النزاعات" المتّصلة بتاريخها وجغرافيتها وأمكنتها وأنماط إنتاجها وذواتها وموضوعاتها.

نجد فيها غالبا التساؤلات التالية : هل يوجد فلاسفة لاغربيين ؟ هل توجد فلسفات هندية، صينية وإفريقية؟ أيّ منزلة تحتلها الفلسفات اللاغربية في شرائع  الإستوريوغرافياhistoriographie  أو عمل المؤرخ للفلسفة؟ إيّ منزلة تحتلها الفلسفات اللاغربية في برامج تعليم الفلسفة في الغرب وفي أماكن أخرى؟ هل بإمكان المستعمَرين القدامى الكلام والتفكير" على نحو آخر مغاير لنمط الجواب والتفاعل في اللغة ووفق منطق التحكّم والهيمنة؟"(4) .

   لقد اخترت التعبير عن عنوان هذا المقال بصيغة السؤال التي فضلا عن ذلك ، تحمل لأول وهلة، بعبارة "ممكنة"، على التفكير في تحيّز ريبي بالنسبة إلى ما هو موضوع الرهان. وبالفعل، فالسؤال يمكن أن  يُؤوّل بما هو استفهام عن الطابع الممكن ببساطة لمثل هذه الديكولونْينة. وقد يكون بإمكاننا أيضا، للتشديد على هذا الارتياب الظاهري، إعادة صياغة السؤال على النحو التالي: ما هي شروط قابلية التفكير pensabilité أو شروط إمكان ديكُولُونْينة فعلية للمعارف في الفلسفة؟  بهذه الصياغة للسؤال ، وبالتشديد على شروط ديكولونْينة للفلسفة ، تترك الرّيبية المجال مفتوحا لإمكانية فحص بنّاء لما يظهر كممارسات لديكولونْيَنَة للمعارف. سأبدأ هذا الفحص بمحاولة توضيح مقولة ديكولونْينة المعارف ذاتها. ثمّ سأحلّل ما أسمّيه " نزاع" ديكولونْينة المعارف في الفلسفة بالارتكاز بالخصوص على حالة الفلسفة الإفريقية التي تبدو لي احد المختبرات الرئيسية لهذا النوع من التساؤل . و سأحاول،انطلاقا من هذه الحالة الخاصّة ، بيان أنّ المحاولات البارزة لديكولونْينة لمعارف في الفلسفة الإفريقية تجد صعوبة في التخلّص من مكر العقل الاستعماري أو الكولنيالي. إنها ( أي هذه المحاولات) ، سواء قدمت نفسها في شكل مطالبة "بحقّ الاختلاف"أو " بحقّ التشابه"، ذات ميل إلى تثبيت، على نحو مفارقي، هيمنة المعرفة الكولونيالية. إنّ إمكانية ديكُولونْينة للفلسفة تقتضي فيما يبدو لي الأخذ بعين الاعتبار لهذه المفارقة.

 

 - تصنيف دِيكُولونْيَنَة المعارف: ثلاث نماذج.

      أشرت فيما سبق إلى أنّ حضور مقولة الدِكُولونْيَنَة للمعارف متزايد. سأنطلق من هذا الحضور وهذا الاستخدام لإبراز التوجهات الأساسية التي تميّزها، والتي أقدمها هنا على صورة تصنيف في ثلاث نماذج : نموذج التفكيك، نموذج التحرّر والعصيان الابستيمي، ونموذج التداول والهجرة .

1- التفكيك أو نقد العقل الكولونيالي

  يتغذّى هذا النموذج من النظريات النقدية المابعد حداثية وفلسفات التفكيك التي أنشاها مؤلفون مثل ماركس ونيتشه وفوكو وداريدا وديوي ورورتي ، الخ . وهو نموذج يضع بالخصوص موضع السؤال فكرة معرفة " موضوعية"، غير مجسّدة، وتعبيرا عن " وجهة نظر الإله" أو عن " وجهة نظر من أيّ مكان" عن الواقع وافتراض إمكانية تجريد الذات العارفة من الظروف الاجتماعية - التاريخية لإنتاج المعرفة. إنه نموذج يحيل إلى نظرية وجهات النظر stand point  التي تتنزّل وفقها كل معرفة في سياق مخصوص للإنتاج. يطبّق بالأخصّ هذا التحليل للمعرفة الغربية في علاقتها بالمعارف الأخرى أو معارف الآخرين، مؤلّفون أمثال فرانتز فانون Frantz Fanon ، شيخ أنتا ديوب Cheikh Anta Diop، بيفونتيرا Boaventura دي سوزا سانتوس إدوارد سعيد ، وفالنتان ميدانبو Valentin Mudimbe ، فابيان البوسي بولاغة Fabien Eboussi Boulaga ، نغوغي وا تينوغو Ngugi wa Thiong’o ، إنريك ديسيل والتر مانغولو Walter Mignolo كاترين والش Catherine Walsh ، ولويس غوردون Lewis Gordon رامون غروسفوغل Ramon Grosfoguel. يدين هؤلاء بالخصوص موقف استعلاء المعرفة الغربية التي تختصّ بـ"نسيان" تاريخيتها الخاصّة أو أركيولوجيتها، و بزعمها غير النقدي قول الحقيقة والعادل والخير في المدينة والعالم urbi et orbi. هذا الاستعلاء هو الذي يصفه بوفنتيرا دي سوزا بعبارات " عقل خامل "« raison indolente »(5)  باستعادة عبارة استعملها ليبنتز للحديث عن حجة السفسطائيين في خصوص الحتمية. يظهر "العقل المتراخي أو الكسول "  حسب دي سوزا سنتوس في أربعة أشكال : عقل زَمِن(impotent reason),   أو واهن raison impotente ، عقل متكبّر raison arrogante، عقل كنائي raison métonymique، وعقل يردّ الاعتراض المتوقّع أو توقّعي. proleptique(6). سوف لن أفسّر معاني مختلف تمظهرات "العقل الخامل" raison indolente . بل سأقتصر على العقل المجازي الذي يوافق أكثر هذا النموذج الأوّل لديكولونْينة المعارف . يتمثّل العقل الكنائي في أخذ الجزء مأخذ الكل. ويعرّف بالفعل بضرب من الهَوَسِ بفكرة الشمولية التي يحتفظ بها بوصفها مبدأ نظام ومعقولية لكلّ أقسام الواقع. لا يوجد شيء، في هذه المنظوريّة ، خارج الشمولية التي وقع تعريفها بوصفها المجال الوحيد للمعقولية. يزعم هذا العقل لنفسه التفرّد والاكتمال والكونية، بالرغم من أنه ليس معقولية متميّزة بالنسبة إلى عالم خاص. لا يأخذ العقل الكنائي بعين الاعتبار ثراء العالم اللامحدود، ويطوّر ابستيمولوجيا تتميّز بعجزها عن الاشتغال بموضوعات " غائبة" أو بالأحرى مستبعدة من مجال الشمولية والمعقولية، لأنها لا تتوافق مع ترسيمات أو مخططات إنتاج المعرفة منظورا إليها بوصفها " كونيّة" (7).

    يدمج العقل الكنائي بين الخمول والتكبّر، ويتغذّى كل عيب من هذه العيوب من بعضه بعضا. إنّ العقل المتكبّر أو الخامل، هو العقل الذي يرفض تعلّم إماتة أفكاره المسبقة ، والذي يرفض التخلّص من مقولاته الأبدية والكونية، و إزاحة الحواجز للتفكير على نحو آخر، للتفكير مع الآخر وللتفكير في الغيرية. إن العقل المتكبّر أو الخامل على يقين راسخ بإطلاقيته  ووحدته وكونيته. توافق ديكولونْينة  الفكر إذن تحوّلا في النظر إلى الذات ، انزياح ذاتي عن المركز auto-décentrement وانفتاحا على منظور أقلّ شمولية، وأقلّ عولمية و متعدّد المراكز polycentrique.

"من الممكن إذن الانسلاخ  بشكل أفضل عن هذه العدّة المفاهيمية باختيار تحوّل إبستيمي... يتأتى مثل هذا البون من فعل تحرّر يتجرأ على اختراق الإحالة إلى كونية مجرّدة موروثة عن المحدثين لأجل الهيمنة على العالم. إنه فعل" عصيان إبستيمي" ( امبوندا).

2- التحرّر أو " العصيان الابستيمي"

   إذا كان النموذج الأول يتّجه إلى حاملي ومروجي المعرفة " الكونية" ، وإذا كان نقدا للعقل الاستعماري أو الكولونيالي / الاستيطاني أو " الخامل" ( المتكبّر والكِنَاِئي)، فإنّ الثاني يعني المستعمَرين أو " التابعين" « subalternes » الذين تحمّلوا التهميش marginalisation ونفي ابستيمياتهم والذين انتهوا بالنظر إلى المعرفة المهيمنة بما هي بدهية وبما هي مكوّنة لنظام ابستيمي مطلق وباريدغماتي paradigmatique . يمكننا إذن اعتباره نقدا للعقل المستعمَر أو الخاضع للاستعمار raison colonisée ، الذي يقدّم نفسه على شكل دعوة إلى التحرّر ، إلى " "الإستصغار"« déprise »,، إلى الانفصال  la dissidence، إلى البحث عن نماذج  وأنماط معارف بديلة و محليّة المنشأ. يتعلّق الأمر بقطع الاتصال بمواقع التعبير، القول المتصلة بالكولونيالية / الحداثة، و وربط الصلة بالذات ، بالمواقع الذاتية للقول ، بـ"الأساطير" الخاصّة، والتحرّر والانفلات من " المصفوفة الكولونيالية للسلطة"، و التحرّر من نظام ابستيمي يمنع من التفكير بالذات وانطلاقا من ذاتها . يفسّر الفيلسوف الغاني كواسي ويريدو Kwasi Wiredu (8) هذا التمشيّ بمماثلة رائعة، بعملية طرد للأرواح الشريرة " أو "رُقية"أو " تعويذة" l’exorcisme ، بالحديث عن " رُقْيَة ذاتية مفاهيمية"  auto-exorcisme conceptuel » "  تتمثّل في تحرير الفكر من هيمنة المعرفة الكولونيالية، والتخلص من عادة التفكير آليا عبر الأنساق المفاهيمية الغربية، وتعلّم التوسّل بطريقة نقدية بترسيمات ذهنية قائمة في التقاليد الخاصّة  وربما في تقاليد أخرى.

   وباستخدام مجاز آخر، مجاز النافذة الذي يقترحه ريموندو بانيكار Raimundo Panikkar (9)، والذي يتعلّق الأمر فيه بالكفّ عن اعتبار الإبستيمية الغربية بمثابة النافذة الوحيدة التي تسمح بالنظر إلى العالم بغرض تعلّم النظر إلى العالم من نوافذ أخرى وعبر نافذة خاصّة . وهذه طريقة أخرى أكثر صرامة في التعبير عن هذا القطع للاتصال déconnexion, ، والحديث عن ذلك بعبارات " العصيان الابستيمي" مثلما يقترح ذلك فالتر مينيولو Mignolo Walter في عدد من أعماله(10).

  وللتفكير من وراء الحدود الابستيمية والترابية التي أقامها الاستعمار في القرن 15 م و16 م، من الضروري تعيين أشكال الفاعلين والمؤسسات التي أنقصت هذه الحدود من قيمتها . من الممكن إذن الانسلاخ  بشكل أفضل عن هذه العدّة المفاهيمية باختيار تحوّل إبستيمي... ويتأتى مثل هذا البون من فعل تحرّر يتجرأ على اختراق الإحالة إلى كونية مجرّدة موروثة عن المحدثين لأجل الهيمنة على العالم. إنه فعل" عصيان إبستيمي(11"). إنّ العصيان الإبستيمي هو الصورة التي تتشكل عليها ديكولونْينة المعارف عندما تفهم بوصفها محاولة هدّامة. وفي الواقع يلحق لحظة التفكيك وإدانة التأسيس الذاتي لفكر خاص في الفكر الكوني. ويمنح من جديد رؤية لما كان غير مرئي، ويمنح المَعْنَى لما أقصي من مجال المعنى ، والمعقولية لما استبعد إلى اللامعقول. إنه يبدو بوضوح هنا بمثابة مكسب منهجي مسبق لمعرفة متحرّرة من النزعة الاستعمارية بذاتها ومن العالم ، معرفة أكثر اتساعا وأكثر انفتاحا.

"توافق ديكولونْينة  الفكر إذن تحوّلا في النظر إلى الذات ، انزياحا ذاتيا عن المركز auto-décentrement وانفتاحا على منظور أقلّ شمولية، وأقلّ عولمية و متعدّد المراكز polycentrique" (مبوندا)

3-  إعادة البناء ، هجرة المعارف والترجمة البينثقافية.

    إنّ النموذج الثالث هو بمثل نقطة وصول للنموذجين السابقين. التفكيك وقطع الاتصال لا يفضيان إلى الاستعاضة عن إبستيمية بأخرى، ولا إلى تقاطع اثنين أو ثلاثة عوالم ابستيمية، بل يسمحان بخلق فضاء مشترك يمكن أن نميّزه بواسطة عدد من المجازات، منها بالخصوص هنا الهجرة والترجمة.

    ندين بمجاز الهجرة لسلوى ليست بولبينة Seloua Luste Boulbina (12) التي ، بارتكازها على مفهوم " النظريات المهاجرة" أو " الرحالة" المستعار من إدوارد سعيد تتحدّث عن " تداول المعارف"  أو أيضا بناء " عوالم مشتركة  inter-monde" داخلها " تتحرّك الأفكار المتحرّرة من الكونولنيالية، منفصلة عن قيودها ، أي عن مواقعها الخاصّة" (13"). إنّ هذه الهجرة الديناميكية و فكرة نشر المعرفة من مركز نحو " المحيط" تترك مكانها لمسار مزدوج، النزوح والهجرة l’émigration et de l’immigration. إنها ضرب من الثورة الكوبرنيكية المتمثّلة في الانفصال عن المركز بالتساؤل لا عمّ يمكن تعليمه للآخرين، بل عمّ يمكن تعلّمه من الآخرين. ولا يتعلّق الأمر إذن مطلقا باستبدال كونيّ بكوني آخر ، ولا الكوني بالمختلف، بل بتطوير فضا- عالم، فضاء مزوج الموضعية حيث تلتقي المعارف الآتية من مختلف المواضع، وكل موضع معترف به بوصفه حيّزا شرعيا لإنتاج المعرفة ، حيّزا يوفّر في الآن نفسه نقطة ترسيخ ، ونقطة انطلاق ونقطة وصول لحركة التداول بين مختلف المواقع الإبستيمية . يحدد فالتر مانيولو ذلك بدقّة : ليست الديكولونيالية مشروعا يبحث عن الهيمنة من حيث هو كوني مجرّد جديد سيعوّض "وسيحسّن" إعادة التغريب réoccidentalisation واللاتغريب désoccidentalisation. بل يتعلّق الأمر بقوّة ثالثة مرتبطة بالمشروعين ، وتطالب بحضورها في بناء المستقبل الذي لا يمكن أن يترك بين أيادي مخطّطات التغريب أو اللاتغريب (14). إنّ مواجهة المعارف وتحركها داخل نفس الفضاء ، يجعل ممكنا، لا تقوية ما يفرّقها، بل بالأحرى سماع الصدى الذي تحدثه الاختلافات بين بعضها بعضا، وفسح المجال لظهور"تأثير المرآة"  effets de miroir »  الناتج عن هذه المواجهة . هذا " التأثير للمرآة" هو الذي يسلط عليه سيفيرين كودجو - جراندفو Séverine Kodjo-Grandvaux، الضوء، في خصوص العلاقة بين الفلسفات الإفريقية والفلسفات الغربية:" تأثير المرآة لا ينضب، والفلاسفة الغربيون والأفارقة يتدافعون، ويوفّرون مواقع للّقاء حيث تتداخل الصور و انعكاسات الذات والآخر "(15) يسمح التداول بالفعل بإنشاء " كونيّ هو حقّا كونيّ« universel vraiment universel » " و في الآن نفسه، بالرفض " للكوني الإشرافي"« universel de surplomb »   والخصوصية التمييزية le particularisme différencialiste (16). إنّ مقاربة التداول أو النزوح تعني أن كلّ الأفكار تصبح أفكار المَعْبَر التي، وفق تفسيرات جودوفروي بيديما Godefroy Bidima (17)، ترفض على نفسها " الانطواء الهَووي repli identitaire، العُصَابي والاحتجاجي، بمثل ما ترفض الانصهار في كونية متخثّرة universalisme coagulant  (18).

   لقد  أصبحت مقولة الترجمة هي الأخرى أحد المفاهيم المفاتيح لدراسات ثقافية وبينثقافية interculturelles. وكل وضعية يتعلّق الأمر فيها بعلاقة بينثقافية قابلة للتأويل بوصفها وضعية ترجمة. إنّ الترجمة في معناها الحرفي، هي عملية تتمثل في أن نجعل نصا ما في لغة نصّا في لغة أخرى. إنها إذن مستخدمة هنا بوصفها مجازا ، لكنها مجاز خصب. لأجل هذا  يمكن أن نتحدّث عن " ترجمة بينثقافية"، بمعرفتنا بالمناسبة أنّه، حتّى لو تمسّكنا بالبعد ألألسني للترجمة، فسنجد مسألة المعرفة، واللسان بما هو دوما وسيط نستخدمه كي نكشف عن الرؤية الكونية cosmovision لشعب.  ومثلما أكّد على ذلك بوفنتورا دي سوزا سونتوس Boaventura de Souza Santos الذي أخصّها بفصل في كتابه " إبستيمولوجيات الغرب. العدالة ضدّ الإبادة الإبستيمية" Epistemologies of the South. Justice against Epistemicide (19)، فإنّ الترجمة البينثقافية تثير جملة من الأسئلة هي في الآن نفسه إبستيمولوجية ( ميتودولوجية) وإيتيقيّة. أولا ، كون الترجمة هي فعل الحجاج. بيد أنّ كلّ ترجمة ترتكز على مسلّمات ( أفكار وقناعات وعواطف) ليست بذاتها خاضعة للحجاج. إنها المواقع المشتركة، أو المواضع، طوبوس des topoi (أرسطو) على أساسها يمكن أن ينجز فعل الحجاج. أيّ مسلّمة ، وأي طوبوس يجب أن نتخّذه منطلقا لعملية الحجاج، حينما نعلم أنّ المعارف المختلفة ترتكز على مسلّمات مختلفة؟ إنّ أول اختبار للتجربة البينثقافية هو القدرة على بناء طوبوس مشترك ( موقع مشترك) ، لا مجرّد " إجماع بفعل التقاطع" على طريقة جان راولس، بل بعمل "تأويلي ( هارمونيطيقي) ثنائي الطوبوس( الموضع)" diatopique « herméneutique على طريقة بانيكار Panikkar. ينضاف إلى مشكل طوبوس الترجمة أو " موضعها"، مشكل الهيمنة الألسنية لبعض اللغات وكذلك مشكل تمايز أو لا تناظر l’asymétrie المتكلّمين. لابدّ من القدرة على الجواب عن السؤال المتصل بمعرفة كيفية اختزال أو إلغاء هذا اللاتناظر حتّى " نخلق تواصلا لا تراتبيا وننتج معاني مشتركة(20)" . سوف يكون بإمكاننا إذن الحديث عن إيتيقا الترجمة البينثقافية أو يجب، باستخدام معجمية هابرماسية، أن تكون لنا القدرة على تصوّر وضعية مثالية للترجمة البينثقافية بوضع جملة من " المبادئ" مثلما يقترح علينا بوفنتيرا دي سوزا سانتوس:

- تقرّ إيتيقا الترجمة البيثقافية بإمكانية تحوير هويات الأشخاص المعنيين. تعيد الترجمة النظر في كلّ تصوّر جوهراني للهوية. فعلاقتنا بالغيرية بالضرورة تغيّرنا، في معنى أنها تغيّر شيئا ما في هويّتنا.

- للترجمة البينثقافية أثرها المتمثّل في تقليص المسافة بين الذوات، واعتياد الاختلافات.

- تنتج الترجمة البيثقافية ضربا من الفضاء الثالث أو " منطقة لإتصال كوسموبوليتيكي" هي منطقة التداول. إنّ ميزات الترجمة البيثقافية عديدة. فهي تسمح بتوسيع كلّ آفاق المعرفة على كلّ المسائل التي يثيرها العالم الراهن ( ميزة عرفانية أو إبستيمولوجية)، وكذلك خلق العدالة العرفانية والعدالة الاجتماعية الشاملة - ميزة إيتيقية). وهي تسمح بالتصدّي للكونية المجرّدة بقدر التصدّى لفكرة " اللاقياسية l’incommensurabilité بين الثقافات".(21)."

Mbonda, E.-M. (2019). La décolonisation des savoirs est-elle possible en philosophie ? Philosophiques, 46(2), 299–325. https://doi.org/10.7202/1066772ar

- هوامش:

* أرنست ماري مبوندا : أستاذ الإيتيقا والفلسفة السياسية وفلسفة الحق في الجامعة الكاثوليكية في إفريقيا الوسطى ( يوندي ، كامرون) وأستاذ زائر بجامعة الكيباك في مونريال وجامعة موكنتون. نشر العديد من الأعمال حول مسائل الكوسموبوليتية وحقوق الأشخاص وتعدد الثقافات والعمل الخيري والعدالة الشاملة والعدالة اُلإثنية وإلإيتيقا الاقتصادية والفلسفة الإفريقية.

1- أنظر فالترمينيولو : العصيان الإبستيمي ، سردية الحداثة،منطق الكولونيالية ونحوالديكولنيالية بيتر لانج2015

2- انظر سلوى لوست بولبينا المرايا الشريدة او ديكونلنينة المعارف  (فنون أدب وفلسفة) باريس صحافة الواقع 2018 الفصل 2 فقدان الشمال : تقريظ التيه".

3- أنظر ديباش شكربرتي ، ترييف اوروبا ، الفكر المابعد كولونيالي والاختلاف التاريخي ، باريس نشر امستردام 2009.

4- فابيان البوسي بولاغة ، مسألة الفلسفة الإريقية ،من وراء الخصومات. باريس كرتالا 2011 ص10.

5- انظر بوفونتري دي سوزا سانتوس ، إبستيمولوجيات الغرب  ( الفصل6 نقد العقل الخامل ،روتلادلج  2014.

6- المصدر السابق ص165.

7- المصدر السابق ص 167-168.

8- انظر الثقافة الكونية والخصوصية . في آفاق إفريقية  الجامعة . براس 1996 الجامعة الهند ية نهج ديكارت 2002 عدد 36 ص53-64.

9- أنظر ريموندو بانيكار " مقولة حقوق الانسان هل هي مقولة غربية؟" في بينالثقافات  الجزء 17 عدد 1-2 كراس 82-83 ، 1984.

10- انظر خاصة " جيوبوليتكا الحساسية والمعرفة" ديكوليالية / الفكر الحدودي والعصيان الإبستيمي، حركات ، 2013 ، 1 ، عدد 73، ص185، العصيان الابستيمي ، خطابية الحداثة ومنطق الكونيالية ونحو الديكونليالية بيتر لانغ2015.

11- العصيان الابستيمي ... بيتر لانغ 2015.

12- سلوى لوست بولبينا " ديكولنينة المعارف ونظرياته المهاجرة" نهج ديكارت 2013 ، 2 عدد 78.

13- انظر نفس المصدر ً 19.

14-  فالتر مينيولو "جيوبوليتكا الحساسية والمعرفة" ديكوليالية / الفكر الحدودي والعصيان الإبستيمي، حركات ، ، 22013 عدد  78 ، ص19.

15- سيفيرين كودجو غراندفو " آثار المرآة: التفكير في إفريقيا ، التفكير في العالم " في آ’لان مابونكو ، التفكير والكتابة في إفريقيا اليوم ، باتريس سوي 2017 ص68.

16- أنظر النقاش آمسال في سليمان بشير ديانيو وجان لو أمسال " البحث عن إفريقيا"  الكونية والفكر المابعد كولنيالي  باريس ألبان ميشيل 2018 فصول 1و2.

17- أنظر تفسير " باراديغم العبور"مطبقا على الفلسفة الافريقية  في جان جودفروي بيديما ، الفلسفة النيقروأفريقية  باريس بيف ماذا أعرف؟ 1995 ، " مقدمة .عن العبور: رواية التجارب ، وتقاسم المعنى ". نهجديكارت ،2002 ، عدد36،ً 7-18.

18- جان جودفوراي ، بيديما ، الفن النيقرو إفريقي، باريس بيف " ماذا أعرف؟" 1997 ص108.

19- ابستيمولوجيا الغرب ...الفصل 8 البيثقافي ، الترجمة ، ص 212-235.

20- نفس المصدر ص 216.

12 -نفس المصدر ً212.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟