فلسفة سقراط عبر ثلاث مراحل - أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

منذ سنة 2020، ظهر على بوابة "openedition” الفلسفية مقال بالفرنسية بقلم جورج رودبوش
اهتم فيه بالتمييز في فلسفة سقراط بين ثلاث مراحل. ونظرا لأهميته الفلسفية والتاريخية، اقترح ترجمته في حلقات.
المقال:
بحسب وصف أفلاطون، اشتهر سقراط بعد "تغيير اتجاهه وفحص كلام الإله”، أي بعد اختبار كاهنة هيكل الوحي التي رأت أنه لا يوجد رجل أعظم حكمة منه. مثل هذا الوصف يثير أكثر من سؤال. في الواقع، ما هو الاتجاه الذي اتخذه سقراط قبل اختبار كاهنة دلفي؟ ما الذي فعله لحث شيرفون على سؤال الكاهنة عما إذا كان هناك رجل أكثر حكمة منه؟
مما لا شك فيه، حتى قبل استشارة الكاهنة، لا بد أن شيريفون كان مقتنعا بالشخصية الاستثنائية لسقراط. ومع ذلك، وفقا لشهادة سقراط في "المرافعة”، فقط بعد أن أصبح على علم بكلمات الكاهنة، حقق أخيرا السمعة السيئة التي نعرفها عنه. وبالتالي فإن الشهادة الواردة في مرافعته تبدو متناقضة. أقترح حلاً لهذا اللغز من خلال التمييز بين ثلاث لحظات في حياة سقراط الفلسفية. أولا، سأبين كيف أدار سقراط، خلال المرحلة الأولى من حياته، محاورات، أعطت، بسبب فشلها في جعله مشهورا، شيريفون سببا كافيا لاستشارة كاهنة دلفي. ثم أتوقف عند مرحلتين لاحقتين، تتميزتا بأعمال مختلفة: الفترة التي حاول فيها سقراط حل اللغز، والفترة التي تمكن فيها من إيجاد حل للغز.
عند وصوله إلى معبد دلفي، استجوب شيريفون الكاهنة ليسألها عما إذا كان هناك رجل أكثر حكمة من سقراط. أجابت بيثيا أنه لا يوجد رجل أكثر حكمة منه. رد فعل سقراط على جواب بيثيا، الموصوف في "دفاع” أفلاطون عن سقراط، يسمح بتقسيم رحلته الفكرية إلى ثلاث مراحل متميزة .. تتعلق المرحلة الأولى بالحياة التي عاشها سقراط قبل أن يعلم بجواب بيثيا. تبدأ المرحلة الثانية من جانبها عندما ينقل شيريفون جواب الكاهنة إليه.
عندما ينقل شيريفون جواب الكاهنة إليه.
بعد أن اعترف سقراط بجهله، حاول فهم مقصد الكاهنة، حتى أنه أخضع الأخيرة للاختبار من خلال استجواب العديد من الشخصيات العامة في مدينته. وأخيرا، تبدأ المرحلة الثالثة عندما تمكن سقراط من حل اللغز الذي طرحته الكاهنة. هذه المرحلة الأخيرة من حياته، سيقضيها سقراط في الدفاع عن الكاهنة، وفي إفناع أي شخص بالفلسفة، وهو يتقوى بتلك المهمة الروحية.

لكن، ينبغي طرح بعض الأسئلة حول هذه الخطوات الثلاث. للقيام بذلك، سيكون من المفيد تقديم كل خطوة من الخطوات بترتيب عكسي.
تتعلق المرحلة الأخيرة من حياة سقراط بمهمته في العالم. وكما وصف سقراط نفسه في المرافعة – بعد حل لغز الكاهنة مباشرة – تمثل نشاطه الفكري في ممارسة "التفلسف”، أي في التساؤل أو طرح الأسئلة. لا يتعلق الأمر هنا بالتباهي، على طريقة السفسطائي، بخبرته في تعليم الفضيلة أو التميز، بل بالأحرى إظهار الرغبة في امتلاك مثل هذه الحكمة. وبالتالي فإن "التفلسف” يتكون من "الدفاع والتفكير”، كما يوضح المثال التالي:
"ماذا ! صديقي العزيز، أنت مواطن أثيني، مواطن في مدينة أكبر، وأكثر شهرة من أي مدينة أخرى بعلمها وقوتها، ولا تخجل من الاهتمام بثروتك، وزيادتها قدر الإمكان. وكذلك بسمعتك وشرفك؛ لكن في ما يخص عقلك، والحقيقة، وروحك، وذلك ما ينبغي تحسينه باستمرار، نجد انك لا تهتم به، ولا تفكر فيه!”
تهدف مثل هذه الموعظة إلى إثارة رد فعل احتجاجي ("نعم، أنا أهتم!”). يمكن أن يبدأ الفحص بعد ذلك، في شكل استجواب أو تفنيد، وربما سينتهي بالاعتراف بالجهل والقرار المشترك لإعطاء الأولوية الكاملة لاكتشاف الحكمة. ومن ناحية أخرى قال سقراط:
"لذا، إذا بدا لي يقينا أنه لا يمتلك الفضيلة، مهما قال عنها، فإنني سألومه لأنه أعطى قيمة ضئيلة لما هو أكثر قيمة، وقيمة كبيرة لما هو أقل قيمة”.
تفسر مثل هذه الملامات السبب وراء اعتبار سقراط لعقود من الزمن مصدراً للاضطراب العام. كما أنها تشرح لماذا صنع سقراط أعداء وتم إعدامه في النهاية.
تتعلق المرحلة الثانية من حياة سقراط الفلسفية باختبار كاهنة دلفي. يبدأ سقراط هذه المرحلة التي تتوسط حياته عندما سمع وهو يتحدث عن الكاهنة ووجد نفسه في حيرة من أمره.
"عندما عرفت هذه الكاهنة، قلت في نفسي: لنر، ما معنى كلام الإله؟ ما هو المعنى المختفي فيه؟ وأنا أعي بأني لست عالما لا بالقليل ولا بالكثير. فماذا يقصد عندما يقول أنا الأعلم؟ ومع ذلك فهو لا يتكلم عكس الحق. لا يمكن له ذلك. وبقيت لفترة طويلة دون أن أفهم شيئا من ذلك.”
وبعد أن شعر سقراط بالارتباك خلال "فترة طويلة من الزمن”، اتخذ قرارا بالغ الأهمية: "قررت تغيير الاتجاه وفحص كلمات الإله”.
ثم قرر سقراط إجراء بحث منهجي بين سكان أثينا. استراتيجيته هي "دحض الكاهنة”، أي العثور على فرد يتمتع بحكمة عظيمة. بحث في ثلاثة أنواع معينة من المواطنين الأثينيين: السياسيين والشعراء والفنانين. وإذا وجد شخصا ذا حكمة عظيمة، يخبر العرافة ويقول لها: هذا أعلم مني، وأنت أعلنت عن كوني أكثر علما”.
قام سقراط باستجواب مواطنيه عدة مرات، وظل غير قادر على العثور على شخص يمتلك الحكمة الحقيقية حول الفضيلة، وتمكن أخيرا من حل لغز الكاهنة:
"(…) ومن خلال هذه الكاهنة أراد [الإله] أن يعلن أن العلم البشري قليل أو حتى لا شيء . ومن الواضح أنه إذا ذكر سقراط، فذلك لأنه كان يستخدم اسمي ليأخذني كمثال. وكان ذلك بمثابة القول: "أيها الناس، إن هذا الشخص الذي يعيش بينكم هو أكبر عالم يعلم، مثل سقراط، أن علمه في النهاية منعدم”.
نتهي المرحلة الوسيطة من حياة سقراط الفلسفية بمجرد أن يجد هذا الحل.
إن موضوع وشكل ونتائج المناقشات التي تتم في المرحلة المتوسطة تكون بشكل عام مشابهة لتلك الخاصة بالمرحلة النهائية. وفي كلتا الحالتين، تتعلق المواضيع الرئيسية بالفضيلة في حياة الإنسان وخبرتنا في إنتاج هذه الفضيلة. وأما الشكل كما تقدم فهو شكل المحاورة.
تتمثل مهمة سقراط في المرحلة الأخيرة من حياته في استجواب محاوريه ومحاولة إظهار جهلهم وافتقارهم إلى الخبرة. يتم إجراء نفس الفحص في المرحلة الوسيطة. مع الشخصيات العامة، "فحص” سقراط من خلال "التحاور” و”حاول إثبات” جهل محاوريه.
في ما يتعلق بالشعراء، يأخذ سقراط "قصائدهم التي يبدو أنهم عملوا عليها أكثر من غيرها” ويطلب منهم أن يفسروها له. لا يقدم لنا سقراط أي تفاصيل عن مناقشاته مع الفنانين – باستثناء الإشارة إلى أنه "ذهب عندهم” – لكن لا شك أن المحادثات "التي أجراها معهم أخذت شكلا مشابها”. وأخيرا، النتيجة واحدة: الأشخاص الذين يستجوبهم سقراط وأولئك الذين يحضرون المحاورات ينتهي بهم الأمر إلى كرهه.
رغم أن ن موضوع المحاورت وشكلها ونتيجتها هي نفسها في المرحلتين المتوسطة والنهائية، إلا أن اختيار المحاورين يختلف. في الواقع، خلال المرحلة الوسيطة، يختار سقراط بشكل منهجي ثلاث فئات محددة من الأفراد؛ ومع ذلك، في المرحلة النهائية، يصبح اختيار المحاورين عشوائيا وأقل منهجية، حيث يقرر سقراط التحدث "مع من منكم سأتقابل؟". كذلك يختلف سبب المقابلات. يهدف الفحص الذي يتم إجراؤه خلال المرحلة الوسيطة إلى حل لغز الكاهنة. يتعلق الأمر بالعثور على فرد يتمتع بخبرة كبيرة في الحياة الإنسانية، فرد أكثر حكمة من سقراط، الذي يعتبر نفسه جاهلاً.
على العكس تماما، كان هدف سقراط طوال المرحلة الأخيرة من حياته هو خدمة الإله من خلال إظهار للناس جهلهم. هنا يقوم سقراط بتحويل محاوريه إلى الفلسفة من خلال جعل الأخيرة أولويتهم المطلقة.
تثير المرحلة الأولى من حياة سقراط الفلسفية العديد من الأسئلة حول شهرته. أثناء محاكمته، توجب على سقراط أن يشرح الأسباب التي جعلته مشهورا: "يجب أن أحاول أن أدمر في أذهانكم الافتراء القديم الذي ترسخ في عقولكم؛ وليس لدي سوى القليل من الوقت للقيام بذلك". لمحو هذا الافتراء، يجب على سقراط أن يجيب على الأسئلة التالية: "ولكن بعد كل شيء، يا سقراط، ما الذي تشغل نفسك به؟ من أين تأتي هذه الافتراءات التي أنت موضوع لها؟ لأنه، بعد كل شيء، إذا لم تكن تفعل أي شيء استثنائي، فكيف يتحدث الناس عنك كثيرا؟ وإذا كنت تعيش مثل أي شخص آخر، فمن أين تأتي هذه الشهرة؟ يجيب سقراط على هذه الأسئلة مصرحا بأن سلوكه غير الاعتيادي، والذي جلب له الشهرة، نتج عن بحثه عن ما قالته الكاهنة. بمعنى آخر، اشتهر سقراط لأنه "غيَّر اتجاهه وتفحص كلمات الإله".
مثل هذا الوصف يثير أكثر من سؤال. في الواقع، إلى أي اتجاه حول سقراط خطواته وما هو المسار الذي اتبعه قبل اختبار كاهنة دلفي؟ وعلى وجه الخصوص، ما الذي فعله لحث شيرفون على استشارة عرافة دلفي وسؤالها عما إذا كان هناك رجل أكثر حكمة منه؟ مما لا شك فيه، حتى قبل استشارة الكاهن، لا بد أن شيريفون كان مقتنعًا بالشخصية الاستثنائية لسقراط. ومع ذلك، وفقا لشهادة سقراط في محاورة "الدفاع"، لم يبدأ في استجواب مواطنيه بطريقة غير تقليدية إلا بعد حكم الكاهنة، وبالتالي حقق شهرة كبيرة. ولذلك فإن الشهادة الواردة في محاورة "الدفاع" تبدو متناقضة. على أقل تقدير، هناك حاجة إلى تفسير: ماذا كان يفعل سقراط قبل أن يصبح مشهورا وما الذي دفع شيريفون إلى استشارة العرافة؟
بالطبع، من الممكن أن تكون شهادة سقراط كاذبة: ربما كذب أو كان مرتبكا؟ ومع ذلك، هناك تاويل أفضل. في الواقع، من الممكن تحديد اللحظة الدقيقة - الفترة من شتاء عام 424 ق.م. إلى شتاء عام 423 ق.م. - التي اشتهر خلالها سقراط. سأبين لماذا، خلال المرحلة الأولى من حياته، لم تجلب له المحاوات التي شارك فيها الشهرة. وسأشرح أيضا الأسباب التي دفعت شيريفون إلى استشارة الكاهنة حتى قبل أن يكتسب سقراط صيتا ذائعا. أخيرا، سأطرح فرضية حول التاريخ الذي ذهب فيه شيريفون إلى معبد دلفي لاستشارة الكاهنة. يغطي هذا الافتراض فترة من سنة إلى سنتين.
لا تحتوي حوارات أفلاطون على حجج فلسفية منسوبة إلى سقراط فحسب، بل تضم عناصر درامية. مثل هذه العناصر الدرامية، التي تخبرنا عن التاريخ المحتمل الذي جرت فيه الحوارات، تسمح لأفلاطون برسم صورة عن أنشطة سقراط الفلسفية، منذ مراهقته حتى وفاته عن عمر يناهز 70 عاما. على وجه الخصوص، يخبرنا الإطار الدرامي عن الفترة التي اشتهر فيها سقراط في أثينا، أي عندما "غير اتجاهه وفحص كلمات الإله”. يتوافق تاريخ هذا الحدث مع المعلومات التاريخية القليلة التي لدينا عن حياة سقراط. وربما أراد أفلاطون بفعله هذا أن يعكس الحقائق التاريخية لحياة سقراط، على الأقل في بعض حواراته. هناك أيضا تفسيرات أخرى ممكنة. ففي نهاية المطاف، ليس لدينا أي يقين بأن التواريخ الدرامية لمحاورات أفلاطون صحيحة تاريخيا.
تشير العناصر الدرامية الواردة في محاورة "لاخيس" إلى أن سقراط عاش حياة مقبولة اجتماعيا خلال هذه الفترة المبكرة وقبلها. وهكذا، في بداية الحوار، قام ليسيماخوس وأب آخر بدعوة لاخيس ونيسياس - وهما جنرالان في الجيش وشخصيات عامة مهمة - لحضور مظاهرة في القتال المسلح. بعد ذلك، عندما يطلب الآباء القدامى النصيحة حول أفضل السبل لتحسين شخصية ابنهم، يوصي كل من لاخيس ونيسياس باستشارة سقراط:
لاخيس: "(...) ولكن ما يدهشني هو أنك تطلب النصيحة لتربية الشباب من نيسياس ومني، وأنك تتجاهل استشارة سقراط، الحاضر هنا، مواطن من بلدك، والذي يقضي كل وقته في الأماكن حيث يمكنك العثور على ما تبحث عنه، الدراسة أو التمرين الذي يناسب الولد الشاب".
ليسيماخوس: "ماذا تقول يا لاخيس؟ سقراط يتعامل مع هذه المسائل؟
لاخيس: "بالتأكيد".
نيسياس: "يمكنني أن أؤكد ذلك لك بنفسي كما فعل لاخيس: لقد هداني مؤخرا إلى أن أقوم بتدريس الموسيقى لابني، ديمون، تلميذ أغاثوكليس، الذي ليس فقط موسيقيا رائقا، ولكنه أيضا في جميع المواضيع، وبالنسبة إلى الشباب في هذا العصر معلم مثالي.
ليسيماخوس: الرجال من جيلي – يا سقراط، وأنت أيضا، نيسياس ولاخيس – لا يعرفون سوى القليل عن الجيل الذي يليهم؛ لأن سننا تبقينا غالبا في المنزل. ولكن إذا كانت لديك أي نصيحة جيدة تقدمها لي، فأنا من بلدتك، يا ابن سفرونيسكوس، فيجب أن تقدمها لي. سيكون ذلك صحيحا، لأنك مرتبط بي بصداقة عن طريق والدك: لقد كنا، أنا وهو، صديقين ورفيقين، وتوفي قبل أن يكون على خلافه الأول معي".
يؤكد لاخيس في هذا المقطع أن سقراط "يقضي كل وقته" في أماكن تساعد على التربية البدنية والفكرية. ويضيف نيسياس أنه في حالة ابنه، كان سقراط يعرف بدلا عنه أفضل معلم يمكن البحث عنه. لاخيس ونيسياس مواطنان شريفان وعاديان، ولم يلحظا بأي حال من الأحوال الفضيحة من سلوك سقراط. في الوقت الذي تجري فيه هذه المحاورة، كان سقراط يقضي وقته وكأنه مستشار أكاديمي لجامعة. ينصح الشباب بالطريق الصحيح للحصول على التربية المناسبة ويوصي بالمعلمين المناسبين. ولكن على عكس هؤلاء، فإن سقراط لا يطلب أجرا، في حين أنه يستطيع – ولا تقول الحوارات ذلك في أي موضع – أن يحصل على مبلغ معين من المال مكافأة على خدماته. ما يهم هنا هو أن نمط حياة سقراط مقبول اجتماعيا. ولا ينتهك بأي حال من الأحوال حدود قواعد الاستقامة المتعارف عليها.
ويظهر المقطع نفسه كذلك أن سقراط لم يكن مشهورا بعد في الوقت الذي دار فيه هذا الحوار. في الواقع، ينتمي سقراط إلى نفس العائلة التي ينتمي إليها ليسيماخوس وميليسياس. ومع ذلك، لا يعرف أي من الرجلين مهنته، حتى لو كانا يعيشان في نفس الحي منذ عقود. لم يكن والد ليسيماخوس وسقراط مجرد جارين، بل كانا "رفيقين وصديقين"؛ ترتبط العائلتان ارتباطا وثيقا لدرجة أن ليسيماخوس يذهب إلى حد القول إن "كل شيء مشترك بيننا" (الاستشهاد التالي). لسنا هنا أمام غرباء يحتاجون إلى التقديم: يعرف ليسيماخوس أن "سقراط، الحاضر هنا"، هو "ابن سفرونيسك". رغم هذا الارتباط الوثيق، من اللافت للنظر أن ليسيماخوس لا يعرف شيئًا عن أسلوب حياة سقراط.
للاعتذار عن عدم معرفة حقائق حول حياة سقراط، يعلن ليسيماخوس: "إن سننا يبقينا غالبا في المنزل". بهذا الرد، لا يتظاهر ليسيماخوس بتجاهل حياة المشاهير أو الشخصيات العامة. على العكس من ذلك، فهو يسعى بنشاط إلى الاستماع إلى الرجال الذين يقدمون أنفسهم علنا كمعلمين (من بين آخرين، الرجل الذي يظهر كيفية القتال بالأسلحة). بل إن أعذاره تفسر أسباب تجاهله لمهن جيرانه، رغم أن أحدهم ابن صديق.
تفاصيل إضافية تخبرنا عن شهرة سقراط بين من يعرفونه. فرغم أنه ليس شخصية عامة بأي حال من الأحوال، إلا أن سقراط يتمتع بسمعة طيبة بين من حواليه. في هذه الفترة بالذات، أي في الوقت الذي تجري فيه محاورة "لاخيس"، المعجبون بسقراط لا يربطونه بأي فضيحة يجب أن يعذروه عليها.
ليسيماخوس: "من جهة أخرى، أتذكر كلمات هؤلاء الشباب الذين غالبا ما ينطقون اسم سقراط بمديح عظيم في محادثاتهم في منزلي. لكنني لم أسألهم أبدا عما إذا كانوا يتحدثون عن ابن سوفرونيسكوس. أخبروني يا أطفالي، هل سقراط هو الشخص الذي تتحدثون عنه طوال الوقت؟"
الأطفال: "إنه نفسه يا ابي"".
ليسيماخوس: أقسم بهيرا، يا سقراط، أهنئك على تكريم اسم والدك، أفضل الرجال، وسأكون سعيدا بكون كل شيء مشتركا بيننا.
ليسيماخوس هو المواطن الأكثر اعتيادية في أثينا. يخبرنا رد فعله أن أسلوب حياة سقراط - قضاء وقته في أماكن يتلقى فيها الشباب تربية وتكوينا محترما - يعتبر جديرا بالثناء. إن أسلوب الحياة هذا يديم سمعة والده الطيبة ويحظى بإعجاب العائلات التي تحافظ على علاقات مع عائلة سقراط. ورغم أن هذه المهنة معروفة على نطاق واسع، إلا أنها لم تجعل سقراط مشهورا.
ومع ذلك، فإن الفقرة التالية من الحوار تزودنا بدليل حول متى أصبح سقراط مشهورا.
لاخيس: "انتظر، ليسيماخوس؛ لا تتخلص من رجلنا بعد، لأني رأيته يكرم ليس أباه فقط، بل وطنه أيضا. في معتكف ديليون، مشى بجانبي، وأخبرك أنه لو كان الجميع قد اتخذوا نفس الموقف، لكانت أثينا رفعت رأسها عاليا بدلاً من التعرض لمثل هذا الفشل.
وقعت معركة ديليون في خريف عام 424ق. م.. محاورة لاخيس، وهي المحاورة التي لم يشتهر فيها سقراط بعد، دارت أطوارها بعد هذه الأخير ة. ومع ذلك، تم العرض الأول لمسرحية "السحب" لأرسطوفانيس في مارس 423 ق. م. على أبعد تقدير. وقد فازت هذه الكوميديا، بالجائزة الثالثة خلف مسرحية أميبسياس. لقد ضاعت الآن لوحة كونوس، لكننا نعلم أن هذه المسرحية، مثل "السحب"، سخرت من سقراط. في جميع الاحتمالات، لم يكن بإمكان أريسطوفانيس وأميبسياس مهاجمة مواطن شريف وملتزم وغير معروف لعامة الناس. في أثينا، يبدأ العام في منتصف الصيف. وإذا افترضنا أن أمبيسياس وأريسطوفانيس كتبا مسرحيتيهما في شتاء عام 423 ق. م. لتعرض في الربيع التالي، فيبدو أن سقراط ذاع صيته خلال الفترة من شتاء 424 ق. م. إلى شتاء 423 ق. م..
معلومات السيرة الذاتية التي قدمها سقراط في محاورة "الدفاع" تتفق مع هذا التاريخ. في الواقع، يؤكد سقراط أن الاتهامات الموجهة ضده قديمة، قديمة جدا لدرجة أن معظم المحلفين – الذين ربما يكونون في الأربعينيات من عمرهم، أي تجاوزوا السن اللازم في ذلك الوقت لأداء العمل البدني – يعرفونها منذ ذلك الحين. الطفولة. ومن ثم فإن عمر هذه الاتهامات يبلغ خمسة وعشرين عاما أو أكثر، وقد ظهرت عندما كان سقراط يبلغ من العمر 45 عامًا أو أقل. بما أن سقراط كان يبلغ من العمر 45 عاما في عام 423 ق. م.، فمن المحتمل جدا أن تكون الافتراءات ضده قد ظهرت قبل هذا التاريخ، ولكن بعد عودته مباشرة من ديليون في خريف عام 424 ق. م.
بلغ سقراط 45 سنة ولم يشتهر بعد. محاورتان أخريان ذواتا صلة لهما تواريخ دراماتيكية سابقة على محاورة "لاخيس"؛ وهما محاورتا "خارميدس" و"بروتاجوراس". تبدأ محاورة "خارميدس" بعودة سقراط إلى أثينا بعد أن وضعت معركة بوتيدايا أوزارها. وبالتالي، تجري احداث محاورة "خارميدس" في عام 429 ق. م.، العام الذي بلغ فيه سقراط من العمر 40 عاما. وتبدأ محاورة "بروتاجوراس"، التي تجري أحداثها أيضا في أثينا، بملاحظة مختصرة عن سن ألسيبياديس، الذي أطلق لحيته الأولى.
في عام 432 ق. م.، سيغادر ألسيبياديس أثينا لمدة ثلاث سنوات للعمل كجندي في بوتيداي إلى جانب سقراط. ولذلك يجب أن يكون عمره أكثر من 19 سنة. عند عودته، كان ألسيبياديس قد تجاوز بكثير سن اللحية الأولى. ولذلك فإن التاريخ الدرامي لمحاورة "بروتاجوراس" يجب أن يكون قبل عام 432 ق. م.. في محاورة "بروتاجوراس"، يجب أن يكون عمر سقراط 36 أو 37 عاما.
العناصر الدرامية المختلفة الموجودة في محاورة "بروتاجوراس" تبين لنا أنه في الوقت الذي جرت فيه المحاورة - خلال المرحلة الأولى من حياته الفلسفية، عندما كان في الثلاثينيات من عمره - كان سقراط قد صنع بالفعل لنفسه اسما في الأوساط الفكرية بأثينا، دون أن يصبح مشهورا.
تطور بروتاجوراس في الأوساط الفكرية للمدن التي زارها وجذب إليه الطلاب المستعدين ليدفعوا له أجرا.
يرغب أبقراط، الشاب المتشوق للدراسة على بروتاجوراس، في أن يتعرف بنفسه على سفسطائي أبديرة الشهير، لكن هناك شيئان يعيقانه. أسر لسقراط قائلا: "ذلك لأنني، شخصيا، صغير جدا، ومن جهة أخرى، ما رأيت أو سمعت ببروتاجوراس قط: في المرة الأولى التي أتى فيها إلى هنا، كنت لا أزال مجرد طفل". لهذه الأسباب، طلب من سقراط التحدث إلى بروتاجوراس نيابة عنه.
وصل بروتاجوراس إلى أثينا منذ يومين، وافترض أبقراط أن سقراط لم يره بعد. ويترتب على ذلك أن سقراط قد تعرف بالفعل على بروتاجوراس في إطار زيارته السابقة، أي قبل عشر سنوات، عندما كان سقراط في العشرينيات من عمره.
في الواقع، يعرف سقراط بروتاجوراس جيدا بما يكفي ليعلم أنه يقضي معظم وقته في داخل بيته. وفي نهاية المحاورة أكد بروتاجوراس أن سقراط اكتسب شهرة معينة عندما قال: "(...) وكنت غالبا ما أقول عنك إنك، من بين كل من قابلتهم، كنت الشخص الذي أقدره أكثر، مانحا إياك، بالمقارنة مع من هم في مثل عمرك، إعجابا بلا تحفظ (...)". ذهب بروتاجوراس إلى حد التنبؤ بأن سقراط سيصبح "مشهورا بحكمته".
تقدم لنا محاورات "بروتاجوراس" و"خارميدس" و"لاخيس" صورة عن سقراط خلال المرحلة الأولى من حياته، عندما لم يصبح مشهورا بعد.
في كل من هذه المحاورات، يتفلسف سقراط، وفي كثير من النواحي، يشبه هذا التمرين الفلسفي الممارسات الفلسفية في المرحلتين اللاحقتين. ومع ذلك، هناك فرق جوهري. يساعد هذا الاختلاف على تفسير الأسباب التي جعلت ممارسة سقراط الفلسفية لم تسمح له حتى الآن بأن يصبح مشهورا في أثينا. أكثر من ذلك، فهو (الاختلاف) يوضح السبب وراء عدم الاعتراف بسقراط حتى الآن كمصدر للاضطراب العام من قبل مواطنيه. لنبدأ بأوجه التشابه.
إن الممارسة الفلسفية لسقراط خلال المرحلة الأولى من حياته تشبه في كثير من النواحي تلك التي كانت في المراحل اللاحقة. المواضيع التي تم تناولها خلال المناقشات وشكل الأخيرة متشابهة. في الواقع، تظل موضوعات المناقشة المفضلة هي الفضيلة والقدرة أو المراس على إنتاجها. وأما من حيث الشكل فإن مناقشات هذه المرحلة الأولى تشبه مناقشات اختبار الكاهنة: يتعلق الأمر بإثبات ادعاء الحكمة من قبل السائل وبيان غياب الحكمة عنه.
وهكذا، في محاورة "بروتاجوراس"، يستهدف سقراط الحكمة الظاهرة لسفسطائي أبديرة بالطريقة التالية:
- إذا كنت أفهمك بشكل صحيح، حتى أواصل، إنما عن السياسة تريد أن تتحدث، وتلتزم بتكوين مواطنين صالحين؟
– الأمر كذلك، يا سقراط، وهذا هو بالفعل الالتزام الذي أتعهد به.
في محاورة "خارميدس"، سار على نهج مشابه لذاك الذي سار عليه في محاورة "كريتياس":
– عزيزي كريتياس، قلت له، ليس غريباً إن لم يدرك شاب يافع معنى هذه الكلمات. ومن الطبيعي أيضا أن يسمح لك عمرك ودراستك بسماعها. إذا اعترفت بأن الحكمة هي ما يقوله، وإذا وافقت على أن تأخذ مكانه في المناقشة، فسيكون من اللطيف بالنسبة لي أن أتفحص معك ما إذا كان هذا التعريف صحيحا أم غير صحيح.
– أقبل التعريف، يقول كريتياس، وأحل محل خارميدس.
تم اعتماد هذا النهج أيضا في محاورة "لاخيس":
- ألا ينبغي علينا أولاً أن نكتسب معرفة بالفضيلة؟ لأنه إذا لم يكن لدينا أي فكرة عن ماهية الفضيلة، فكيف يمكننا أن ننصح أي شخص بأفضل طريقة لاكتسابها؟
- سيكون ذلك مستحيلاً، يا سقراط.
- نحن نقول إننا نعرف ما هي الفضيلة؟
– نعم نقول ذلك.
في هذه المحاورات الثلاثة، تؤدي مناقشات سقراط إلى إظهار جهل محاوريه. وهكذا يظهر مثل هذا العرض في نهاية محاورة "بروتاجوراس" :
- ليكن؛ ولكن فقط بعد طرح سؤال آخر عليك: هل مازلت تعتقد، كما في البداية، أن هناك رجالا شديدي الجهل ومع ذلك هم شجعان جدا؟
- تريد يا سقراط، كما يقول، أن تتباهى بانتصارك عن طريق إجباري على الإجابة بنفسي. حسنا، سأمنحك هذه المتعة، وأعلن أن ذلك يبدو لي غير محتمل بعد كل ما عرفناه للتو.
- "إذا طرحت عليك كل هذه الأسئلة، أقول، فهذا فقط لمعرفة ما هي الفضيلة، ومما يتكون هذا الشيء المسمى بالفضيلة. أنا متأكد من أنه بمجرد الجواب على هذا السؤال، سيكون من السهل توضيح السؤال الذي أثار مثل هذه الخطابات الطويلة بيننا (...).
في محاورة "خارميدس"، يصبح إثبات جهل كريتياس واضحا للشخصية التي تحمل اسمه في المحاورة:
عندها أجاب خارميدس: قسما بزيوس، لا أعلم يا سقراط هل أنا حكيم أم لا. كيف أمتلك ما أنت عاجز عن تحديده، إذا صدقتك؟"
في محاورة "لاخيس"، يعترف نيسياس في هذه الأثناء بجهله، وكذلك بجهل لاخيس:
نيسياس: (...) لا يهمك، في ما يبدو، أن تتجاهل معي شيئا يجب أن يعرفه كل رجل يعتقد أنه يتمتع ببعض المزايا.
خلال المرحلة الأولى من حياته الفلسفية، لم يكن سقراط مكروها من قبل أولئك الذين يحضرون المناقشات التي كان يقودها، على رغم الإزعاج الذي يسببه للأشخاص الذين يستجوبهم. في محاورة "بروتاجوراس"، مثلا، امتدح سفسطائي أبديرة العظيم، على الرغم من استيائه من حلول سقراط محله، "حماسته وطريقته في إدارة الخطابات" واعترف بالإعجاب الذي يشعر به تجاه الأخير. في محاورة "خارميدس"، بعد أن عرفه سقراط بجهله، تغاضى كريتياس عن رغبة خارميدس الشاب في الارتباط بسقراط. في محاورة "لاخيس"، طالما أن لاخيس ونيسياس يقبلان بأنهما ليسا مستشارين جيدين، وحتى لو دحضهما سقراط، فإنهما يعتبران الأخير أفضل معلم لتعليم الشباب.
لماذا لا يكون سقراط مكروها من قبل الأشخاص الذين يحضرون مناقشاته؟ في رأيي، السبب في ذلك هو أن سقراط يتصرف بطريقة مناسبة اجتماعيا. على وجه الخصوص، على الرغم من الاستجواب الحاد الذي يُخضع له محاوريه، فإن سقراط يحترم الأعراف الاجتماعية الخاصة بالمكان الذي تجري فيه المحادثات وبالأشخاص الذين يستجوبهم.
في محاورة "بروتاجوراس"، يسافر سقراط إلى المجال الخاص لكالياس لاستجواب بروتاجوراس، وهو شخصية عامة. إنه لا يذهب إلى هناك لاختبار الكاهنة، بل ليعرض مساعدته على أبقراط، الشاب الذي يرغب في أن يتحسن. بروتاجوراس، وهو مدرس محترف جاء إلى أثينا للترويج لأعماله، يدعو الناس للحضور ورؤيته والتحدث معه، كما يفعل سقراط. باختصار، لا يوجد شيء غير مناسب في الطريقة التي قرر بها سقراط المشاركة في المحادثة مع بروتاجوراس.
في محاورة "خارميدس" يذهب سقراط إلى قصر تورياس، مكانه المفضل للتحدث مع أصدقائه. ورغم أنه انتهى به الأمر إلى دحض كريتياس، إلا أنه لم يذهب إلى ساحة الرياضة لاستجوابه ودحضه. على العكس من ذلك، فإن شيريفون هو الذي دعا سقراط للجلوس إلى جانب كريتياس. تتعلق اهتمامات سقراط بالأسئلة التالية: «ماذا حدث للفلسفة؟ هل تميز أحد من الشباب بالعلم أو بالجمال أو بأحدهما؟. ثم تحدث معه كريتياس عن خارميدس، ابن عمه الشاب. مع هذا الشاب – الذي ليس شخصية عامة – يرغب سقراط في التحدث. ولكن في إطار مثل هذه المقابلة، يجب اتباع قواعد اجتماعية معينة، وسقراط ليس استثناءً. على نحو خاص، قد يكون من غير المناسب أن يتعرف رجل أكبر سنا على رجل أصغر منه سنا ويتحدث معه في مثل هذا السياق. ومع ذلك، حتى لو كان خارميدس أصغر سنا، فإن "محادثة من هذا النوع ليست في غير محلها" في حضور كريتياس: باعتباره ابن عم أكبر لخارميدس، فإن كريتياس هو أيضا بمثابة ولي لهذا الأخير الأخير.
في محاورة "لاخيس" يشهد سقراط استعراضا عاما للقتال المسلح. ثم يدعو لاخيس سقراط إلى المشاركة في المحادثة التي تهدف إلى تقديم المشورة لوالدين بشأن تعليم ابنهما. لاخيس ونيسياس شخصيتان عامتان، ويستجوبهما سقراط في مكان عام. ومع ذلك، لم يكن سقراط هو من ذهب للتحدث إليهما: بل إن لاخيس ونيسياس هما اللذان دعواه إلى تقديم نصيحته. بعد تلقيه مثل هذه الدعوة، أعلن سقراط: "(…) سأعطيك رأيي قدر الإمكان (…). ولكن أليس من العدل، كوني الأصغر والأقل كفاءة، أن أستمع أولاً للآخرين وأتعلم من خطاباتهم؟" يحترم سقراط بإخلاص الأعراف الاجتماعية، بل ويربطها بـ"الأفعال العادلة". لا يمكن لأحد أن يتهم سقراط بالتدخل هنا في المحادثة.
ومع ذلك، يحدث تغيير مهم عندما يبدأ سقراط باختبار الكاهنة. هذا التغيير هو المسؤول عن الشعور بالكراهية الناجم عن التفنيدات السقراطية. في محاورة "الدفاع"، "بعد تغيير الاتجاه على مضض" لاختبار الكاهنة، يصف سقراط محادثاته بتقسيمها إلى ثلاث مراحل: 1) يذهب إلى شخصية عامة مشهورة بالحكمة؛ 2) يشكك في الأخير ويبين أن حكمته مجرد مظهر. 3) يحاول أن يُظهر لمحاوره أنه ليس حكيماً حقاً. مثل هذا السلوك يغذي الكراهية بين من أجريت معهم المقابلات وأولئك الذين شهدوا الطعن. كما هو موضح في محاورات "بروتاجوراس"، و"خارميدس"، و"لاخيس"،فإن السلوك الذي اعتمده سقراط في المرحلتين الثانية والثالثة لا يختلف بأي حال من الأحوال عن سلوك المرحلة الأولى من حياته الفلسفية. ومع ذلك، هناك عنصر واحد مختلف: لم نعد محاورات سقراط تقتصر على الأماكن والأشخاص المناسبين لمثل هذه المحادثات، ولكنه بدأ في مخاطبة الشخصيات العامة. يفسر هذا التغيير سبب كره الأشخاص الذين يجيبون على أسئلته.
هناك نوع من عدم اللياقة في مخاطبة الشخصيات العامة، وهذا قد يفسر سبب صعود سقراط فجأة إلى الشهرة العامة بعد عدة سنوات من الحياة الفلسفية الخالية من الفضائح. بالنسبة للأثينيين القدماء – كما هو الحال بالنسبة لنا – فإنه من غير اللائق أن نوجه اللوم علنا إلى أحد المارة، خاصة بالطريقة التي وصفها سقراط في مرافعته:
"ماذا! صديقي العزيز، أنت مواطن أثيني، مواطن في مدينة أعظم، وأكثر شهرة من أي مدينة أخرى بعلمها وقوتها، وانت لا تخجل من الاهتمام بثروتك، وزيادتها قدر الإمكان، وكذلك بسمعتك وشرفك؛ لكن في ما يتعلق بعقلك، بالحقيقة، بروحك التي يجب تحسينها باستمرار، فانت لا تقلق بشأن كل ذلك، ولا تفكر فيه! وإذا نازع أحدكم، إذا أكد أنه يتولى الأمر، فلا تظنوا أني سأتركه وأنصرف إلى حال سبيلي؛ لا، سوف أسأله، سوف أختبره، سوف أناقشه بعمق. لذلك، أرى بعض الأشياء التي لا تمت بصلة إلى الفضيلة، وهذا ما يستشف من قوله، وسوف ألومه على إعطاء قيمة قليلة جدا لما يستحق أكثر، وقيمة كبيرة لما يكتسب قيمة أقل".
إن ممارسة الدحض، المقترن بالتهديد بالإذلال العلني المرتبط به، اكسبته شيئا فشيئا شعبية في المجتمع الأثيني. تفسر هذه الممارسة بسهولة الكراهية المفاجئة لبعض المواطنين الأثينيين تجاه سقراط والشهرة التي اكتسبها خلال شتاء سنة 424 ق.م.
لا تختلف الأعراف الاجتماعية المعاصرة في هذا الصدد عن تلك السائدة في أثينا القديمة. على سبيل المثال، كمعلم للفلسفة، أعلم من خلال تجربتي أنه من المناسب، في الفصل التحضيري، إجراء فحص دقيق لمعارف الطلاب، وإذا كانوا لا يعرفون ما يقولون إنهم يعرفونه، فإن لديهم مهاراتهم الخاصة. الجهل معترف به. مثل هذه الممارسة ليست فاضحة. سيقرر العديد من الطلاب الذين يتقدمون لمثل هذا الاختبار دراسة الفلسفة، وسيوافق العديد من أولياء أمور هؤلاء الطلاب على الاختبار. ومع ذلك، سيكون من غير المناسب تماما لمعام الفلسفة أن يتوجه إلى رئيس الجامعة خارج الفصل الدراسي في حدث عام بالطريقة التي وصفها سقراط في المقطع أعلاه.
كما أشرت سابقا، يشبه سلوك سقراط إلى حد ما سلوك المستشار الأكاديمي في إحدى الجامعات. من الواضح، في مثل هذا السياق التعليمي، أن ممارسته الخطابية مناسبة تماما مثل ممارسة أستاذ جامعي. لذا، فرغم أنني أحب أن أطرح أسئلة على الطلاب الذين ينتشرون في فصول الجامعة، إلا أنني كنت أشعر، مثل سقراط، بعزوف كبير عن توجيه الأسئلة إلى الأشخاص المهمين في المجال العام لتشجيعهم على الإجابة عن أسئلتي. من السهل أن نفهم لماذا ذكر سقراط في محاورة "الدفاع" وأنه اختار أن يسلك هذا الطريق فقط كملاذ أخير، و"بتردد شديد". احترم سقراط الأعراف الاجتماعية في مناقشاته، ولم يعتمد هذا المسار إلا لمحاولة حل اللغز الذي طرحته الكاهنة.
لماذا استشار شريفون العرافة؟ خلال محاكمته، ادعى سقراط أنه لم يصبح مشهورا إلا بعد أن دفعته الكاهنة إلى تغيير اتجاهه ووضع الشخصيات العامة في المدينة على المحك. السؤال الذي يطرح نفسه على الفور: لماذا سأل شريفون الكاهنة عما إذا كان هناك رجل أكثر حكمة من سقراط؟ تتيح لنا محاورة "بروتاجوراس" الإجابة على هذا السؤال.
بين الفلاسفة (القدماء والمعاصرين)، ظل سقراط مشهورا بدفاعه عن أطروحة المعرفة-الفضيلة. مثل هذا المفهوم، الذي يماثل الفضيلة الإنسانية بشكل من أشكال المعرفة، يختزل الأخلاق إلى مسألة بسيطة تتعلق بالفهم الفكري، دون أن يأخذ في الاعتبار بأي شكل من الأشكال الطابع الشخصي للأفعال البشرية. إن مثل هذه النزعة الفكرية تتعارض مع مفهومنا المعتاد عن الخيارات الأخلاقية. في الواقع، قد يقدم أحد مؤيدي المفهوم الأخلاقي التقليدي الاعتراض التالي على أطروحة المعرفة الفضيلة: "مما لا شك فيه أن مجرد الفهم الفكري لا يكفي لاكتساب الفضيلة! كما يجب على المرء أن يتمتع بقلب طيب، وإرادة كافية، ورغبات مناسبة". وكما يوحي هذا الاعتراض، قد تتعارض معرفة ما يشكل الخير مع رغبات معينة للروح. فضلا عن ذلك، قد تكون هذه المعرفة في بعض الأحيان عاجزة تحت تأثير مثل هذه الرغبات.
باستخدام حجة قوية، يوضح سقراط أن مثل هذا المفهوم المتواضع عليه خاطئ. على العكس من ذلك، كما يوضح في محاورة "بروتاجوراس"، تتفوق معرفة ما يشكل رفاهية الإنسان على جميع العناصر الأخرى عندما تكون موجودة في الروح. منذ أن كان عمره سبعة وثلاثين سنة، أدرك بالفعل أن المعرفة أساسية من وجهة نظر أخلاقية، في حين كان مدركا للنتيجة المتناقضة المرتبطة بهذا المفهوم:
" يبدو ان خطابنا ذاته، عندما يصل إلى نهايته (...) إذا كان بإمكانه التحدث، سيقول لنا: أنتم أناس طيبون، يا سقراط (...) من خلال إظهار أن كل ما هو علم، وأن العدالة، الاعتدال، والشجاعة، هي الوسيلة الأضمن لإظهار أنه يمكن تعليم الفضيلة (...) ".
من خلال التأكيد على هذه النتيجة المتناقضة، يكشف سقراط أنه أكثر حكمة من بروتاجوراس. بالطبع، يؤيد السفسطائي الابديري تأكيد سقراط على أن المعرفة تمتلك قوة مسيطرة عندما تكون موجودة في النفس البشرية. ومع ذلك، أعطى بروتاجوراس موافقته لسقراط فقط من منطلق الفخر المهني البسيط، بعد أن اعترف سابقا بتعليم الفضيلة الإنسانية ("سيكون من العار بالنسبة إلي أكثر من أي شخص آخر أن أرفض رؤية أعظم القوى البشرية في الحكمة والعلم").
من وجهة نظر نظرية، لا يفهم بروتاجوراس موقف سقراط بشكل كامل، ويفشل في ملاحظة أنه يتعارض مع اعتقاده التقليدي الذي بحسبه تختلف الشجاعة عن الحكمة. باختصار، لا يستطيع بروتاجوراس تأكيد تفوقه وإظهار المكانة الاساسية للمعرفة للأشخاص المحيطين به: فهو مجبر على اتباع سقراط بينما يبرهن الأخير عاى ذلك.
ترتكز حجتي أساسًا على الفرضية التالية: من خلال نجاحه في دحض سفسطائي أبديرة، يبدو سقراط أكثر حكمة من بروتاجوراس في نظر شيريفون. وبعبارة أخرى، يمثل تفنيد بروتاغوراس الدافع الذي حدا ب"رفيق" سقراط المجهول إلى التساؤل عما إذا كان حقا أكثر حكمة من "الرجل الأكثر حكمة". الآن، أي معلق يعتبر أن الحجج الفلسفية التي استخدمها سقراط في محاورة "بروتاجوراس" متواضعة - والأهم من ذلك، أي معلق يرى أن أفلاطون قصد صراحة وصفها بهذه الطريقة- لن يكون قادرا على رؤية مثل هذا العنصر المحفز في هذا المقطع. يشكل تايلور مثالاً جيدا على هذا الموقف: وفقا له، شكل بروتاجوراس رأيا إيجابيًا عن سقراط ("لن أتفاجأ إذا حصلت أنت [سقراط] على مرتبة بين أشهر الفلاسفة") خلال زيارته الأولى إلى أثينا، عندما التقى بسقراط، وليس من المحادثة المذكورة في الحوار نفسه. ومع ذلك، لم يحدد تايلور سبب تصرف أفلاطون بهذه الطريقة، أي لماذا كان سيكتفي باستخدام حجج متواضعة فلسفيا على حساب الحجج الأكثر إقناعا؟ مثال آخر على هذا الموقف هو الدفاع عن الأطروحة التي بموجبها، في مخاورة "بروتاجوراس" لم يتمكن سقراط بأي حال من الأحوال من السيطرة على "الرجل الأكثر حكمة".
وفقا لمؤيدي هذا التأويل، لم يكن سقراط ليخرج منتصرا من المناظرة مع بروتاجوراس، بل كان سيتعادل مع سفسطائي أبديرة: بعد أن اعترض في البداية على إمكانية الكفاءة التي يدعيها الأخير، أي القدرة على الكفاءة. لو علمنا الفضيلة، لاضطر سقراط –بسبب موقفه الفكري- إلى التأكيد على إمكانية تعليم الفضيلة؛ أما بالنسبة لبروتاغوراس، الذي ادعى أنه يعلم الفضيلة، فلم يكن بإمكانه إلا أن يتجنب الاعتراف بعقلانية سقراط من خلال إنكار أن الفضيلة هي علم، وبالتالي السماح لسقراط باستنتاج أن الفضيلة لا يمكن تعليمها.
إذا أخذنا فقط، مثل مؤيدي هذا الموقف، في الاعتبار استدلال سقراط في الفقرة 361a-b، يمكننا أن نعتقد بشكل معقول أن النقاش ليس فيه فائز؛ على العكس من ذلك، إذا أخذنا في الاعتبار فقط استدلال بروتاغوراس في الفقرة 360e3-5 (المقتبسة أعلاه)، يمكننا أن نستنتج أن سقراط هو الذي فاز بالنصر. والآن، لحسن الحظ، يمكن حسم المسألة من خلال فحص الحجة نفسها وتحديد من هو الرجل الأكثر حكمة. وهكذا، بعد سماع بروتاجوراس يتحدث، يسأله سقراط سؤالا واحدا: "هل الفضيلة هي كل واحد، والعدل والاعتدال والتقوى هي أجزاء من منه، أم أن هذه الفضائل التي ذكرتها للتو هي مجرد أسماء مختلفة لذات الكل وحده؟"
يجيب بروتاجوراس بأن "الفضيلة واحدة وأن الفضائل التي تسألني عنها هي أجزاؤها”، وهي "مثل أجزاء الوجه بالنسبة للكل”. بعبارة أخرى، يجيب بروتاجوراس بأن أجزاء الفضيلة لا تختلف عن بعضها البعض فحسب، بل تختلف أيضا عن الفضيلة ككل. ثم يدحض سقراط كلام بروتاجوراس: "إذن، الاعتدال والحكمة هما نفس الشيء؟ لقد بدت العدالة والتقوى في البداية قريبتين جدا من أن تكونا نفس الشيء". ورغم أن بروتاجوراس قبل "على مضض اشد مرارة"، فقد اعترف في الواقع بأن تشبيهه المتعلق بأجزاء الوجه لم يكن كافيا: أجزاء الوجه "ليست نفس الشيء". «وكذلك أجزاء الوجه بالنسبة إلى الكل». وبعبارة أخرى، يجيب بروتاجوراس بأن أجزاء الفضيلة لا تختلف عن بعضها البعض فحسب، بل تختلف أيضا عن الفضيلة ككل. ثم يدحض سقراط كلام بروتاجوراس: "إذن، الاعتدال والحكمة هما نفس الشيء؟ لقد بدا لنا في البداية أن العدالة والتقوى قريبتان جدا من أن تكونا نفس الشيء".
لم يبين سقراط بعد صحة الأطروحة التي اقترحها، وهي أن أسماء الفضائل المختلفة – العدل، الاعتدال، التقوى، الحكمة، إلخ.. – هي أسماء مختلفة ترتبط بنفس الشيء. لكن سقراط لا يقدم هذه الأطروحة على أنها صحيحة. من جهة أخرى، إذا تبين أن هذه الأخيرة كاذبة، فلن يتحمل أي عواقب. على عكس بروتاغوراس، لا ينظر سقراط إلى المناقشة على أنها "صراع خطابات”. ودوافعه أكثر حكمة: "(...) لا تنسب إليّ أي دوافع أخرى غير الرغبة في توضيح الأسئلة التي تحرجني شخصيا". بعد استطراد قصير، لم يعد بروتاجوراس يرغب في التوقف عن الإجابة على أسئلة سقراط، لكن المستمعين أقنعوه بخلاف ذلك. ثم يعيد سقراط صياغة الأطروحتين الحاليتين (349a8-c5 هي إعادة صياغة 329c7-d1) ويمنح بروتاجوراس إمكانية تعديل الأطروحة التي سيدافع عنها: "(..) لن أتفاجأ إذا كنت لا تريد أن تضعني في الاختبار بالتحدث معي بهذه الطريقة". بمعنى آخر، يعرض سقراط على بروتاجوراس الفرصة للحفاظ على المظاهر: فهو يقترح أن بروتاجوراس أراد اختباره باستخدام عبارة كاذبة لتحديد ما إذا كان سيكون قادرا على اكتشاف زيف هذه العبارة نفسها. يعدل بروتاجوراس أطروحته: فهو يسلم الآن بأن العدالة، الاعتدال، التقوى والحكمة "قريبة جدا من بعضهما البعض". إنه يرغب الآن في الدفاع فقط عن الفرضية التي بموجبها تكون "الشجاعة، على العكس من ذلك، منفصلة تماما”.
يدحض سقراط هذه النسخة الجديدة من الأطروحة عن طريق حجة مبنية على الثقة.
يأخذ معظم الشارحين تقييم بروتاجوراس لهذه الحجة حرفيا، واستنادا إلى الحجة المضادة التالية التي يستخدمها (الحجة القائمة على القوة)، يتفقون معه على أنها مغالطة. ومع ذلك، فإن الاعتراضات التي تثار عادة ضد نوع الحجة التي يستخدمها سقراط ليست مقنعة، والحجة المضادة التي يستخدمها بروتاغوراس مغالطة. مهما يكن من أمر، يتجاهل سقراط انتقادات بروتاجوراس ويختار حجة مبنية على العيش الكريم. تم عرض خلاصة هذه الحجة أعلاه.
يعترف بروتاجوراس بوضوح بأنه هزم. الحجة نفسها، على عكس الكلمات التي قيلت لاحقا، تؤكد أن بروتاجوراس كان على حق في الاعتراف بالهزيمة .
يتمتع بروتاجوراس بسمعة كونه الرجل الأكثر حكمة في كل اليونان. يتم التأكيد على هذه الحقيقة أيضا بمجرد نطق اسم بروتاجوراس. وهكذا، في بداية الحوار، يسأله أحد الأصدقاء المقربين لسقراط: "من أين أتيت يا سقراط؟ أراهن أنك طاردت للتو السيبياديس الوسيم؟". باستخدام استعارة الصيد هاته، يؤكد أفلاطون على سحر السيبياديس الذي لا يقاوم، والذي يعتبر في ذروة جماله أجمل رجل في أثينا. ثم يرد سقراط على صديقه بمقارنة مفاجئة. لقد أدرك أولاً، اعتمادا على مرجعية هوميروس، أن السيبياديس فتى يافع. ثم يؤكد أنه رغم أنه وجد نفسه في حضرة السيبياديس، إلا أنه نسي الأخير تماما، لأن انتباهه كان مفتونا بفرد "أكثر جمالًا". يتفاجأ صديق سقراط: "على أية حال، أعتقد أنك لا تستطيع أن تقابل شخصا في أثينا أكثر وسامة منه [السيبياديس]؟" يتكشف المشهد بأكمله حتى نهايته المفاجئة: بالنسبة لسقراط، الحكمة الأعظم أجمل من الجمال الجسدي. لقد التقى سقراط "بأعلم الرجال اليوم، إذا كنت تدرك أنه لا يوجد عالم يمكنه منافسة بروتاجوراس؟".
صديق سقراط لا يشكك بأي حال من الأحوال في صيغة التفضيل المستخدمة لوصف بروتاجوراس. ومع ذلك، بحلول نهاية الحوار، سرعان ما أصبح من الواضح أن سقراط أكثر حكمة من بروتاجوراس. لذلك يحدد هذا الحوار الأسباب التي دفعت شيريفون إلى سؤال بيثيا (الكاهنة) عما إذا كان هناك رجل أكثر حكمة من سقراط. ولكن هل كان شيريفون على علم بالمناقشة التي دارت بين سقراط وبروتاجوراس؟
في رأيي أن "الصديق المقرب" الذي روى له سقراط مناقشته مع بروتاغوراس ليس سوى شيريفون. يضع أفلاطون عدة أدلة في الإطار السردي لحواره حتى نتمكن من القيام بمثل هذا التخمين. وهكذا، بحلول التاريخ الدرامي لبروتاجوراس، يخبرنا أفلاطون أن سقراط على وشك الانخراط في الجيش الأثيني لمدة ثلاث سنوات. في مقدمة محاورة "خارميدس"، يخبرنا أفلاطون أيضا أن شيريفون كان صديق سقراط الأكثر حماسا في وقت انخراطه. أخيرا، في محاورة "الدفاع"، عندما روى سقراط حادثة استشارة تشيريفون للكاهنة، وصف الأخير بأنه "صديق الطفولة" مستخدما نفس الكلمة المستخدمة لتقديم المحاور المجهول لسقراط في محاورة "بروتاجوراس".
الصديق المقرب الذي تحدث معه سقراط في بداية محاورة "بروتاجوراس" لا ينكر حقيقة أن بروتاجوراس هو أحكم رجل في العالم. الآن، بعد الاستماع إلى رواية سقراط، سيكون لدى هذا الصديق سبب وجيه للتساؤل عما إذا كان هناك رجل أكثر حكمة من سقراط. وبما أن أفلاطون عادة ما يسمي الشخصيات في حواراته، فهو بلا شك ينوي أن يشكل لغزا لنا هنا بعدم تسمية هذا الصديق. الحل الأكثر أناقة للغز هو هذا: شيريفون هو المحاور المجهول لسقراط في بروتاجوراس .
في محاورة "الدفاع"، يخبرنا أفلاطون بأن شريفون كان "شخصية عاطفية في كل ما يقوم به". لذلك فمن المحتمل جدا أنه استشار العرافة فورا بعد أن أخبره سقراط بمحادثته مع بروتاجوراس.
من الممكن أن تكون رحلة شيريفون من أثينا إلى دلفي قد تمت في ربيع أو صيف 432 ق. م.. في نفس الوقت تقريبا، غادر سقراط أثينا مع الجيش الأثيني. وعلى الرغم من أن الشك لا يزال قائما، إلا أن تاريخ اليونان القديمة المتعلق بالحروب والأوبئة يدعم هذا التأريخ. وهكذا، في عام 432 ق. م.، لم تكن أثينا قد دخلت في حرب مع إسبرطة منذ أن بدأت الحرب البيلوبونيسية في عام 431 ق. م.. وفي عام 430 ق. م.، خسر الأثينيون، المزدحمون داخل أسوار مدينتهم، ما بين ربع وثلث سكانهم بسبب الطاعون الذي عاد عام 429 ق. م..
بعد سماع جواب الكاهنة، أراد شيريفون المتهور بلا شك إبلاغ صديقه في أقرب وقت ممكن. مكث سقراط ثلاث سنوات في بوتيديا مع الجيش الأثيني. ونظرا لأن بوتيداي بعيدة عن أثينا، فمن المحتمل أن سقراط لم يكن قادرا على العودة إلى أثينا في الشتاء بفضل أي شكل من أشكال الإجازة. ومع ذلك، فإن إرسال رسائل من أثينا إلى القوات المنتشرة في بوتيديا كان ممكنًا بلا شك. ولذلك فمن المحتمل أن سقراط كان على علم بجواب الكاهنة أثناء الانتشار العسكري لبوتيديا.
مثل هذا التأريخ هو بالطبع تخمين، لكنه لا يزال يسمح لنا بشرح عدد أكبر من عناصر قصة أفلاطون مقارنة بالتواريخ المنافسة. أولًا، كان سقراط قد حاول دون جدوى حل اللغز البيثي على مدى سبع سنوات تقريبا. يتفق هذا التسلسل الزمني مع ما يخبرنا به في محاورة "الدفاع": لقد ظل مذهولًا من كاهنة دلفي "لفترة طويلة جدًا". ولم يبدأ إلا في نهاية عام 424 ق. م. في الاقتراب من مختلف الشخصيات العامة في مدينته واستجوابهم.
ثانيا، هذا التاريخ من شأنه أن يجعل من الممكن شرح حادثة مذهلة في حياة سقراط أثناء المشاركة في حرب بوتيدايا. في محاورة "المأدبة"، يقدم السيبياديس الرواية التالية:
"بدأ يتأمل، وظل واقفاً هناك منذ الصباح الباكر، يطارد فكرة ما. وبما أن اي يتقدم لم يتحقق، لم يرد أن يستسلم وبقي واقفاً، وهو يبحث. حلت الظهيرة بالفعل. لاحظ الرجال حاله واندهشوا، وقالوا فيما بينهم إن سقراط كان مستيقظا منذ الفجر وهو يفكر. أخيرا، عندما جاء المساء، حمل بعض الأيونيين أسرة معسكرهم إلى الخارج، بعد تناول العشاء، لأنه الوقت كان صيفًا، وناموا في الجو البارد وهم يراقبون سقراط، ليروا ما إذا كان سيقضي الليل مستيقظا. وبقي قائما حتى بزوغ الفجر وطلوع الشمس. ثم انصرف بعد أن وجه صلاته إلى الشمس.
ربما كان أفلاطون يعلم، عند كتابته هذه الكلمات، أنه سيكون من المستحيل على قرائه ألا يتساءلوا عن أسباب مشكلة سقراط. مما لا شك فيه أن أفلاطون أراد أن يقدم لنا لغزا بهذه الكلمات، والحل الأمثل لذلك يظل مرتبطا بـكاهنة دلفي: لقد تم إعلام سقراط بكلمات البيثيا وكان يفكر فيها دون جدوى.
أخيرا، يساعد مثل هذا التاريخ في تفسير سبب تبني سقراط سلوكا مختلفا بين محاورتي "بروتاجوراس" و"خارميدس". وهكذا، فيمحاورة "بروتاجوراس" - خلال الفترة التي سبقت نشر الجيش الأثيني لمدة ثلاث سنوات في بوتيديا - على الرغم من أنه يعترف كما هو الحال دائما بافتقاره إلى الخبرة في ما يتعلق بالفضيلة، إلا أن سقراط أظهر ثقة مذهلة بالنفس: فهو يدعي أنه مستعد لانة"يظهر للرجال" أن المعرفة ضرورية. ومن ناحية أخرى، في محاورة خاارميدس يتبنى سقراط موقفا أقل ثقة وأكثر نكارانا للذات: في هذا الحوار أكثر من أي حوار آخر، يبذل سقراط كل ما في وسعه للتأكيد على جهله، حتى أنه ذهب إلى حد القول إنه يجهل كيفية إجراء بحث حول الفضيلة ("أحمق، غير قادر على العثور على أي شيء عن طريق التفكير". تعرض محاورة "خارميدس" المحادثة الأولى لسقراط عند عودته من بوتيدايا بعد غياب دام ثلاث سنوات. من خلال عرض الشخصيات، يولي أفلاطون اهتماما كبيرا ليبين لنا كيف فاجأ سقراط شيريفون وأصدقاءه الآخرين بالذهاب إلى مكان اجتماعهم المفضل - حيث كان الأخير يخشى أن يكون قد قُتل في المعركة الدامية التي أنهت الحملة العسكرية. ومع ذلك، فنحن نعلم أن كاهنة دلفي أثارت لدى سقراط وعيا مهما بجهله ("أنا مدرك، من جهتي، أنني لم أتعلم قليلا ولا كثيرا".
يفسر رد الفعل هذا التغير في سلوك سقراط بين الفترة التي سبقت مغادرته إلى بوتيديا والفترة التي تلت عودته. على الرغم من أنه كان حريصا على التأكيد على جهله لشيريفون وأولئك المشاركين في المحادثة، إلا أن سقراط كان مهتما أكثر بإظهار جهله لكاهنة دلفي.
ومن ثم كان من الممكن أن يكون سقراط على علم برد فعل الكاهنة خلال حملة بوتيديا. يمنح هذا التاريخ سقراط وقتا كافيا للتفكير في معنى كلمات بيثيا. كما يسمح لنا بتفسير الحادثة المذهلة التي رواها السيبياديس في محاورة "المأدبة"، عندما بقي سقراط لساعات طويلة يتأمل في موضوع غير معروف. وأخيرا، تشرح سبب تركيز سقراط كثيرًا على جهله بعد حملة بوتيديا.
خاتمة
حوارات أفلاطون مليئة بالحجج الفلسفية والعناصر الدرامية، والكثير منها يحتاج إلى شرح. كجزء من هذه المقالة، ركزت اهتمامي على بعض العناصر الدرامية المحددة وقدمت فرضيات تجعل من الممكن شرح وتأريخ المراحل الثلاث للحياة الفلسفية لسقراط. وهكذا، في حوالي عام 433 ق. م.، عندما كان عمره 36 عاما، أخبر سقراط صديقه شيريفون عن المحادثة التي أجراها مع بروتاغوراس. تدفع هذه القصة شيريفون إلى التساؤل عما إذا كان هناك أي شخص أكثر حكمة من سقراط. متهورا في مزاجه، ذهب شيريفون على الفور إلى دلفي وسأل الكاهنة إذا كان هناك رجل أكثر حكمة من سقراط. استشار شيريفون العرافة في موعد لا يتجاوز ربيع أو صيف 432 ق. م.
علم سقراط بإجابة الكاهن خلال السنوات الثلاث التي قضاها في مهمته العسكرية، بين عامي 432 ق. م. و429 ق. م، فظهر له جواب الكاهنة بمثابة لغز لم يتمكن من حله، وهذا رغم أنه فكر فيه طيلة ساعات، كما تذكر شخصية السيبياديس. أثناء اضطراره للاستجابة لحالات الطوارئ العسكرية، فكر سقراط طويلا ومليا في جواب البيثيا، أي حتى عودته إلى أثينا عام 424 ق. م.. ورغم أن مناقشاته الفلسفية لم تكن مشهورة في ذلك الوقت – أصدقاء عائلته الذين يأتون من نفس المدينة لا علم لهم بنشاطه الفلسفي - اكتسب سقراط على حين غرة شهرة خلال شتاء عام 424 ق. م.، عندما قرر الاقتراب علنا من الأشخاص المهمين في مدينته لاستجوابهم.
استجوب سقراط مواطنيه على انفراد لمدة عشرين عاما تقريبا دون أن يصبح مشهورا. وبالتالي فإن حقيقة استجواب المرء لمواطنيه ليست موضوع ازدراء أو فضيحة في مدينته. ومع ذلك، فإن الاقتراب علنا من المواطنين للاستجواب هو أمر فاضح وغير مناسب من وجهة نظر اجتماعية.
سقراط غير مستعد لانتهاك قواعد اللياقة، ولكن ليس لديه خيار سوى إنجاز مهمته وإثبات كلمة الله التي تفيد أنه لا يوجد رجل أكثر حكمة منه.
وبعد بضعة أشهر، جعله سلوكه غير اللائق مشهورا جدا في أثينا لدرجة أن كاتبا مثل أريستوفانيس قدم عنه مسرحية كوميدية ستُعرض عدة مرات في المدينة. حتى بعد حل لغز بيثيا، جعل سقراط من واجبه الديني استجواب مواطنيه علنا، حتى محاكمته وإعدامه في سن السبعين. ومع ذلك، كما تخبرنا مرافعته خلال هذه المرحلة الثالثة من حياته، لم يعد سقراط يختار محاوريه بدقة، بل يكتفي بهذا السؤال: "من منكم سأقابله". خلال هذه المرحلة الأخيرة، لم يعد لدى سقراط هدف حل اللغز الذي طرحته كاهنة دلفي لأنه نجح بالفعل في القيام بذلك. خلال هذه المرحلة النهائية، وضع سقراط لنفسه هدف "خدمة الإله من خلال إظهار جهل الناس"، باختصار، من خلال تحويل مواطنيه إلى الفلسفة وإظهار أنها يجب أن تمثل أولويتهم المطلقة في الحياة.
الرابط: https://journals.openedition.org/philosant/3663

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟