مدرسة الرعاية والعَطف: ماذا لو صارت الرعاية سلطة تربوية وبيداغوجية داخل الفصول الدراسية؟ - محمد أبرقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"إن العلاقة مع المتعلمين أو الطلبة توصِلُنا إلى حدود قدرتنا، بل إنها قد تتجاوزنا، وقد ترهقنا، وتنهك قِوانا، لأنها ذات أبعاد مركّبة" عبد الجليل أميم (مدخل إلى البيداغوجيا.ج.2، 2019، ص.167).
تصاعُدُ مؤشرات الارتباك في العلاقات البيداغوجية، وتردد أنواع من التوتر الذي يأتي لينشر غيوم القلق بمناخ المؤسسات التعليمية خاصة منها بسلك الثانوي، والذي قد يتجلى في أشكال من العنف الرمزي والمادي بين مكونات المجتمع المدرسي، هل له أن يبرر دعاوى غرس قيم التعاطف والرعاية، وتحويل لحظات التوتر إلى مناسبات للتساؤل عن أسبابها الظاهرة أو المستترة، وإلى فرص لتأثيث مساحات القرب والإنصات، ومعها تأمين أهداف المؤسسة التعليمية ومشاريعها، وبخاصة منها استدامة التعلم وغاياته التكوينية؟.
يبدو أن إرساء سلطة بيداغوجية للمدرس-ة في علاقته بجماعة المتعلمين-ات، مبنية على نوع مميز من الرعاية والاحتضان بمعناه التربوي، قد صار ضرورة يجب إدماجها في قواعد اشتغال مؤسسات التربية والتعليم، بهدف تحقيق نوع من المصالحةréconciliation بين التلاميذ والمدرسة، وهو أمر أضحى ملحا في أنظمة التربية بعدد من الدول الغربية.
أكدت وثيقة في قانون الوزير "ليونيل جوسبان" سنة 1989(صدر يوم10يوليوز1989) في مذكرة موجهة لقطاع التعليم على "جعل التلميذ في مركز النظام التربوي"، وكان رد الفعل عليها واسعا لدى عدد كبير من المدرسين، ومن أصحاب القرار في مجال التعليم، بينما كانت الفكرة منذ فترات طويلة تتردد عند رواد البيداغوجيا وفي نصوص التربية الجديدة، هو ما جعلها تتقدم وتترسخ بالتدريج.

وفي موسم 2013، دعا قانون "بيونPeillon" (08يوليوز2013) إلى جعل مؤسسات التعليم "مدارسَ للرعاية والعناية"، ثم جاءت مرحلة الوزير "ج.ميشال بلانكي" خلال السنوات الأخيرة، وعبر مجموعة من المذكرات الوزارية، وصفحات الوزارة، كانت فيها الدعوة لإرساء مدرسة الأمان، والعناية، ومتعة التعلم.
هل يتعلق الأمر إذن بميلاد ثورة كوبرنيكية داخل المدرسة الفرنسية؟
للإجابة عن السؤال، ينبغي الرجوع إلى الأسس التي قامت عليها المدرسة عهد "جول فيري" نهاية القرن19، والتي ظلت تعتبر الرائدة في توجيه مدرسة الجمهورية الفرنسية.
لقد كانت أهداف الرواد المؤسسين مختلفة بالفعل عن مثيلاتها لدى أصحاب القرار اليوم : كان الأمر يتعلق بانتزاع الأطفال من تأثيرات الانتماءات الجهوية بالمقاطعات، ومن تباين ظروفهم العائلية، وتربيتهم على أن يصيروا مواطنين صالحين في جمهورية ناشئة لا تزال في بدياتها وهشاشتها.
ولأجل ذلك، كان القرار يقضي باختيار نوع من التعليم مبني على الفلسفة العقلانية، وعلى سلطة المربين والأساتذة، وهم المالكون للمعارف الأكاديمية.
ومن ذلك، جاءت طرق التربية صارمة، ولم تكن تستبعد، وإلى غاية النصف الثاني من القرن العشرين، المضايقات الأكثر تشددا، واللجوء للعقاب البدني أو المهين للكرامة، فقد كانت بمثابة "بيداغوجيا حالكة" تترك المشاعر والمواقف السيكولوجية على مسافة من تقاليد عملها.
وعلى الرغم من تغير الأزمنة، فقد استمرت المدرسة الفرنسية في الاشتغال تبعا لمبدأ يُعلي من مكانة الاستحقاق في منأى عن كل اعتبارات إنْسِيَّةٍ.
صدمة نتائج الروائز الدولية لتقييم حصيلة التلاميذ ومكتسباتهم.
لقد كانت أولى الصدمات الحقيقية، رغم مساءلة الوضع السالف، مع ظهور نتائج التقييمات الدولية خاصة مطلع القرن21. فمنذ سنة 2000، بدأت تقييمات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية المعروفة اختصارا بPISA في قياس كفايات التلاميذ، والإعلان عن نتائجها في تقارير تصدرها بشكل منتظم، وتشمل لائحة من الدول عددها في ازدياد ملحوظ.
فكانت فرنسا، التي طالما تباهت أمام بلدان يرغبون في الاقتداء بها، بنظامها المدرسي الذي يمجد الاستحقاق والتميز، تتدحرج في ترتيبها ونتائجها.
والإضافة إلى نتائجها المتوسطة في مجال المعارف ذات الصلة بالمواد الدراسية، سنكتشف نوعا من الكينونة القلِقة لدى شباب فرنسا في علاقتهم بالمؤسسات التعليمية.
ولأنها احتلت المرتبة 26 من بين 28 دولة شملتها الدراسة في ميدان العدالة الاجتماعية، فإن فرنسا تحتضن أقوى معدل من القلق والتوتر لدى التلاميذ، ومعه تسجل أدنى المعدلات في مجال التحفيز الدراسي، وفي الشعور بالطمأنينة بين فئة التلاميذ المراهقين (2018).
يجد كل ذلك جذوره في التحولات الاجتماعية الكبرى التي عرفتها البلاد منذ 1970.
فمن بين تلك التحولات الأكثر دلالة نذكر دمقرطة الولوج للتعليم، والتي منحت الفرصة لجمهور عريض-عدم تجانسه في ازدياد- للحصول على مقعد بالمدرسة والجامعة، وهو بعيد جدا عن ثقافة "الوَرَثَة" (كما يعرفهم بورديو) وغالبا ما يكون أفراده في مواجهة الفشل بسبب أصولهم الاجتماعية.
يأتي بعده عنصر آخر ضمن عناصر الاضطراب، ويتعلق بوضعية الطفل الذي صار يتمتع بحقوق يضمنها له المجتمع والقانون، وهو أيضا "هِبَة ثمينة" بالنسبة للأسر التي ترغب في النجاح والتألق.
لقد صار الشباب يطالب بمكانة جديدة في المدرسة، حيث يودّ أن يتم الإنصات إليه، واحترامه، ثم الاعتراف به، وبما يميز كل فرد في شخصيته المستقلة.
إنهم يطالبون بالحق في التعبير عن أذواقهم، وعن اختياراتهم داخل مدرسة منفتحة على العالم.
تؤكد، ومنذ أكثر من خمسين سنة خلت، أبحاث علم النفس المعرفي، وحديثا أبحاث العلوم العصبية، على دور الرغبة والفضول المعرفي، في خلق الرغبة الذاتية لدى الفرد في التعلم.
وبالنسبة للمختصين في العلوم العصبية والنفسية أمثال "أنطونيو وأنا داماسيو" فإن الفضول المعرفي والرغبة في التعلم، هما، كما الخوف والمعاناة، ينتجان إيقاعات "الموسيقى الداخلية" في سيكولوجيا الأفراد.
ولا يمكننا أن نضع جردا للأبحاث التي تبين أثر المشاعر الإيجابية على تيسير التعلمات وتحققها، بينما القلق بتذمر، وكذا العنف، يعتبران عاملين يقفان كحواجز ضد الإقبال على التعلم والمشاركة فيه، ويمكنهما إثارة استراتيجيات مضادة ومانعة للتعلم.
لهذا، وحسب ما يورده الباحث في علم النفس-العصبي "ستانيسلاس ديهاين S.Dehaene" ورئيس المجلس العلمي للتربية الوطنية، فهناك" حاجة مستعجلة لتنمية الرغبة في "مدرسة
الإنصات والعطف".
في ظل ذلك السياق، كيف يمكن لأسلوب سلطة متصلب وغير مبال، كما كان عليه الحال في نظامنا التربوي الفرنسي لفترة طويلة، أن يبقى مستمرا ؟
كثير من المدرسين اليوم يبذلون الجهد لإقرار سلطة بيداغوجية قائمة على العناية والاهتمام، وهي التي تفرض جهودا إضافية واستماتة، مع احترام الشخصية المستقلة لكل تلميذ-ة ومساره المتميز.
إننا نرى التجديد ينمو حولنا من كل جهة، وفي مختلف المستويات الدراسية، ومنه مواكبة مشاريع التلاميذ، واعتماد بيداغوجيا فارقية تأخذ بعين الاعتبار إيقاعات، ومتطلبات، وسيكولوجيا مشاعر كل تلميذ وتلميذة، ومعها أشكال تقويم تكوينية-إخبارية جديدة أكثر منها تقويمات جزائية.
إن عددا متزايدا من أطر التربية يتلقون ما يفيدهم، ويُعينهم على تنزيل تلك البيداغوجيا، وهي ضمن الاختيارات الحالية لنظام التربية، كما تم إنشاء مرصد يهتم بالمناخ التربوي في المدرسة، مدرسة الحياة والشعور بالأمان(المرصد جاء بمبادرة من فريق باحثين وأعضاء في أطر وزارة التربية).
وقد تجد تلك المبادرات الجديدة ما يعترضها من مقاومات، حيث أن بعض المدرسين يتحفظون عليها وأحيانا يشجبونها، ويعتبرونها نوعا من التربية المُتساهِلة، كما أن كثيرين ضمنهم، وهو الأهم، تلقوا تكوينا يتمحور حول المضامين بمدخل المواد الدراسية، ويعتقدون بأن المشاعر لا مكان لها في المدرسة.

صحيح أيضا أن مشروع التربية القائمة على العطف، والرعاية، والاهتمام، يمثل ثورة في طرق التدريس وأساليبه، هذه الأخيرة يتطلب تحويلها انخراطا للجسم التربوي ولأطر هيأة التدريس، وعدم الوقوف عند طرق وأساليب التدريس السابقة، حيث المدرس، وبقوة السلطة التربوية التقليدية، يكتفي بالطريقة الاستعراضية وهو يقدم دروسه، وبمعاقبة التلاميذ الذين لم يتمكنوا من حفظها و"هضمها !" !كما يرغب هو في ذلك.
معطيات وملاحظات واستنتاجات متعددة سيكون على وزارة التربية والتعليم أن تضعها مستقبلا في مخططاتها التربوية وبعناية... !.
المقال الأصلي– (بتصرف)-

« La bienveillance peut-elle faire autorité? »
Sciences Humaines-N351.octobre2022.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟