الأثر الفني إنشاء وإنجازا - .ميكال دوفرين - ترجمة وتعريب: أ.د.حبيب مونسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسعلى الأثر الفني أن يقدم ذاته للإدراك! ويجب إنجازه لينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. ويتحتم على الإنجاز – على الأقل – بالنسبة لبعض الآثار التي تقوم على الرموز في انتظار من يفعلها. عندها يمكننا أن نتحدث عن وجود افتراضي ، حتى وإن كان الأثر منتهيا لا يضيف إليه الإجراء شيئا على إلى مقصد المؤلف. وضرورة التحقيق – مثلما يقول لنا "إنغاردن" "INGARDEN" يفرضها علينا الأدب المسرحي مثلا. فعندما أقول مسرحية أشعر أن ثمة شيء ناقص أحاول إتمامه، وأنا أفكر – في شيء من الغموض ، وحسب معرفتي بالمسرح-  في الإخراج و المواقف، والنبرات. وكأن ما أفعله إنجاز خيالي ، بيد أنه يبعث الحياة في النص، ويضيء عتمته. فكلمة تأخذ معناها لأنها تنفلت مثل الاعتراف، وأخرى لأنها تنفجر، ومشهد يغدو دراميا فقط للوجود المحتشم لشخصية ملكية صامتة، وعبارة " كم استثقل هذه الزينات، وهذا الحجاب الفضفاض‍‍" تستدعي حركة نوعية، أو زيا خاصا.فإذا كان المؤلف في بعض الأحايين قد عمد إلى تسجيل إشارات تخص الديكور ، أو اللعب، فذلك لأجل القارئ أولا حتى يثير خياله في الحدود التي يسمح الكتاب فيها بمضاعفة المشرح المشاهد للمسرح المقروء.( 1) وفي واقع الأمر ، يكون جهد التخييل الذي أسديه للنص، حين يعترض إدراكي المباشر خط الكلمات، في خدمة الحكم، دون الإدراك. لأنني عندما أنجز المسرحية وفق قدراتي الخاصة، فإنني أسعى قبل كل شيء إلى الفهم، إلى الاكتشاف، أو إلى مناقشة المعنى. إنها حقيقة القراءة‍‍. ففي غياب الوجود الحسي الذي يتحول الأثر بموجبه إلى موضوع جمالي ، يقوم الأثر  مادة للتفكير ببنيته ودلالته. بيد أنني في المسرح أتلقى السحر، أما في القراءة فإنني ببرودة أتدرب على ذكاء النص، والاستفادة الحسنة منه.ومن ثم تقدير الأثر . إنه التقدير الوحيد الذي تنتظره المسرحيات التي لم يتسنى لها حظ الوقوف على الخشبة .. وعندما لا أقف منها موقفا إستيطيقيا ، فإن الأثر لم يتحقق عندي موضوعا جماليا. (2) وذلك الاكتشاف يحققه الإنجاز الفعلي للمسرحية. وقبل البحث عن التغيير الذي يحمله الإنجاز لأصول الأثر ، لنرى كيف تفرض بعض الفنون إجراءها الخاص الذي يميزها عن غيرها .
1 - الفنون التي يكون فيها المنجز غير المؤلف:
       إن الفنون التي تقتضي إنجازا، هي تلك الفنون التي يكون فيها إجراؤها مرحلة منفصلة عن إبداعها. وقد نسمي العرض الأول للمسرحية إبداعا، حتى وإن كان الممثل غير المؤلف، يحقق فيها لذاته نعت الفنان. ومن دون شك يظهر الفرق شاسعا بين الإنجاز والإبداع في العلاقة بين المهندس المعماري والمقاول. وبدرجة أقل أقل بين مصمم الرقصة والراقص. لأن فن "الباليه""BALLET" هو الفن الذي لا وجود له في غياب المنجِز، لأنه يفتقر إلى نظام من الرموز المحددة، وتتعين قيمته من قيمة المنجز وحده. وبغض النظر عن المهندس المعماري، فإن ادعى الممثل والعازف والراقص نعت الفنان، فلإحساسهم جميعا بضرورتهم للفن... كيف ذلك؟
مثلما يرى "هيغل"HEGEL"فإن الفكرة تمر عبر الطبيعة. وهنا يمر الموضوع الجمالي عبر الإنسان، ويصير الإنسان مادة.. مادة نفسية، أكثر طواعية وأقل تمردا، ثم تختفي كلما كف الإنسان عن التمثيل. فإذا كانت مادة الأثر هي المحسوس، فإنه يتوجب على المحسوس أن يكون من إنتاج الإنسان، مثلما تكون الأصوات نتاج العازف، أو أن يكون المحسوس جسد الإنسان عندما يتجلى للرؤية، مثلما هي عادات الراقص ومن قبل الممثل.
-فما هو إذن قانون المنجِز؟
        إنه مثل العبد- حسب أرسطو- إرادته ملك يمين سيده. وإرادة المنجِز ملك يمين الأثر. إنه مسكون، محروم، طيع لنِيَّة خارجية. إننا نعلم كيف طور "سارتر" "SARTRE" التناقض الشهير ل"ديدرو" "DIDEROT" مبينا كيف يستحوذ الوهمي على الكاتب، فيغدو غير واقعي في الشخصية التي يتقمصها. إذ ليس المطلوب القيام ببعض الحركات تحت الطلب، والإذعان لسلسلة من الإيعاز. فليس النص خطاطة نكسوها أقوالا وأفعالا. وإنما المطلوب أن ننفخ فيه الحياة، فيحيا بذاته. فالممثل الذي يبدع – مثلما نقول- دورا من الخلال الحياة التي يبعثها في الأثر، يحق له أن ينعت نفسه فنانا. فالفكرة التي ينطوي عليها الأثر – إذا رغبنا في العودة إلى تعبير "هيغل"- لا تطالب بالترجمة وحسب، وإنما ترغب في الحياة، حتى تكون بحق فكرة. لأن الفكرة التي تظل حبيسة العتمة الداخلية ليست فكرة، قبل أن تثبت جدارتها. وهكذا.. فبواسطة المنجِز، وعبر الإنسان، يتجلى لي الأثر ويخاطبني. الإنسان ذلك الموضوع الدال بامتياز.
       ومن دون شك فالدلالة تأتي من الكلمات التي يتلفظ بها الممثل، أو من الأصوات التي يصدرها العازف. وليس للكلمات من معنى إلا حين الجهر بها. حين تعود اللغة إلى وضعها الأول، وضع الكلام. لأنه يتعذر فصل الكلمة عن المُشكِّلات الجسدية التي ترافقه، والنبر، والإيماءات، وما يسميه "هوسير""HUSSERL"نوعية المظاهر، لا تظهر المحتوى السيكولوجي فقط، وإنما تظهر كذلك المعنى. أو بالأحرى المعنى مشدودا إلى المكون السيكولوجي. وما نقوله ليس مفصولا عما ننوي قوله، والكيفية التي نقوله بها. ولهذا السبب لا يمكن تذوق القصيدة الشعرية تذوقا تاما قراءةً، وإنما يكون التذوق كليا حين الإنشاد. وأكثر من ذلك فيما يخص المسرحية. فمن خلال الصوت تصير اللغة حدثا إنسانيا، يقوم فيه الرمز بدور كامل، كذا الأمر بالنسبة للرموز الموسيقية. ولا يصوِّت الكمان إلا إذا صوت الإنسان ذاته. فالآلة  في يد العازف كالحنجرة في صدر المغني. إنها امتداد لجسده.. وفي الجسد تتم حقيقة التقمص الموسيقي. غير أنه الجسد الذي هذبته الآلة، وخضع للتمرين الطويل، ليتحول بدوره إلى آلة. ذلك ما نشهده بصورة واضحة في قائد الجوقة.. فهو كالمخرج، أو مصمم الرقص، الوسيط
 الضروري بين الأثر والمنجِز.. يأمر .. يوجه الإنجاز.. لأن الأثر يجد وحدته في ذاته.. فيجري منه مجرى الدم.. يسكنه.. ويمكِّنه أخيرا من الظهور بواسطة إيماءاته-حتى وإن كانت حركاته بسيطة في كثير من الأحايين- بنفس الصورة التي يحقق بها الراقص في ذاته الرقصة. وتغدو الموسيقى والرقص لغة دالة، ما دامت مُبلَّغة من طرف الإنسان.
       وحتى يتسنى لنا فهم ما يسديه المنجِز للأثر، يجب علينا أن ندرك أنه على الأثر أن يتطابق مع المنجِز الذي يلتمسه. وما فيه من رشاقة تقاس بمدى فرحة التمثيل. وأحسن بوادر القبول، أن يقول المخرج لنفسه: هذه مسرحية قابلة للتمثيل. عندما يعن له كل مشهد مندمجا مباشرة في موقف على الركح، وكل حوار في هيئة. عندما تتبع المسرحية منطقا جسديا وحركيا.وفي الموسيقى يعطي المنطق الجسدي للفن إيقاعه المتميز. وبقدر ما يكون العازف فرحا مرحا، تكون الموسيقى كذلك. بل ينصاع المؤلف عادة أثناء التأليف إلى جذب جسده، فيحاول تجريب بعض جمله على البيانو. قد يكون جسدا روَّضه التدريب الطويل، وأعطاه عفوية كاملة، تمكنه من الاتحاد الطبيعي بالأثر. بل يتوجب كذلك أن يكون الأثر مبيتا.. مضبوطا.. شريطة أن يختفي العنت تحت ستار السهولة المحسوس.. قد تكون الرياضيات رشيقة إذا كانت القواعد في خدمة التلقائية.. فالأذن تعشق ما يروق للأصابع عزفه. وكيف تكون قيمة الرقصة إذا ضجر الراقص من حركاتها؟ ولم ينفتح جسده على إمكاناته القصوى التي يطيقها؟ هكذا إذن يقوم الإنجاز بإثبات قيمة الأثر.أو –على الأقل- تلك الميزة الأساسية للعب الحر المحسوس الذي
 يسديه المنجِز. وذلك وحده كاف لتحديد مسؤولية المنجِز، فيتحتم عليه الإخلاص للأثر كلما قام بتجليته.
- الإخلاص لماذا؟
       إننا تصطدم منذ الآن بمشكلة قانون الأثر قبل الإنجاز. هذه المشكلة تجد تمثيلها الخاص بالنسبة للمشاهد أو الناقد، أو الممثل، في دائرة: فعندما نترك الموقف الاستيطيقي لتذوق تمثيل الأثر، فإننا نقيس التمثيل انطلاقا من الأثر، لأننا نعرف الأثر استنادا إلى التمثيلات السابقة. بيد أنه يتحتم علينا الاعتراف بحقيقة للأثر، مستقلة عن الإنجاز، أو سابقة عليه. فالمقصود هنا ليس هو معرفة الأثر قبل الإنجاز بقدر التحقق من أن الإنجاز يلبي كيفية الإنجاز التي يرغب فيها الأثر حتى يتجلى موضوعا إستيطيقيا. ولذلك نتحدث هنا عن الحقيقة لا عن الواقعية، فواقع الأثر هو كونه على الهيئة التي هي له. منجزا أو من دون إنجاز. أما حقيقته فهي في ما يرغب الأثر أن يكونه، وما يحققه الأثر بواسطة الإنجاز. إن الموضوع الإستيطيقي هو الموضوع الذي نحيل عليه ضمنيا للحديث عن الأثر، ولتذوق إنجازه. إن وجود الأثر، يكشفه الإنجاز أثناء التحقق. فليس لنا إلا فكرة ناقصة عن الأثر ما دمنا لم نشهد إنجازه، أو على الأقل لم نتمثل ذلك في خلدنا. إننا من خلال إنجاز الأثر نقصد حقيقته. إنها الحقيقة التي توجه حكمنا على الإنجازات السالفة للأثر، وكذلك الإ
 نجاز المشاهد.
       ومن أين لنا بمثل هذه الحقيقة إن لم تكن من الإنجاز نفسه؟ يكتسب تجلي الأثر ضرورة قد يكون معها الإنجاز إما موجها للحكم، وإما مخلا به، حين يفرض علينا صورة نهائية للموضوع الإستيطيقي، كارتباط  "موت الإوز" "la mort du cygne"  في أذهان العامة ب "PAWLOVA"  و"بيتروشكا" "PETROUVCHKA" ب "نيجنسكي" "NIJINSKI" و "كنوك" "KNOCK"  ب  "جوفي" "JOUVET"  و"أوندين" "ONDINE" ب "مادلين أوزيراي" "MADELEINE OZERAY" باعتبارها تقمصات كاملة تنفي غيرها. ويكمن خطر مثل هذه الارتباطات في كونها تستند إلى تقليد لم يعترض عليه أحد من قبل، دون النظر إلى إخلاصها للأثر. حينها تغطي الوجه الحقيقي للأثر، وتشوه الحكم. وأخطر من ذلك – أحيانا- قد تؤثر على غلإبداع الفني في حالة تمثل هذا الأخير الإنجاز المشهور والانضباط وفق خصوصياته.
       لقد اقتضت الضرورة واحدا مثل "ليفار""LIFAR" لتليين التصور الضيق للرقص الكلاسيكي، من غير إخلال بالتقاليد. وواحد مثل "فاغنر" "VAGNER"، ومن قبل "بارليوز" "BERLIOZ" حتى يعطي للجوقة سعة جديدة. وواحد مثل "دو بوسيه" "DEBUSSY" ليعيد للبيانو وحداته الثمانية، وللعازف ألفة جديدة بآلته. ولكن لنضع جانبا هذه الحالات الخاصة. ألا يحق لنا أن نقول أن الإنجاز يخترع دائما حقيقة الأثر؟ إنه تأويل.. ومعنى ذلك أنه غير مثبت في الأثر قبل الإنجاز، ما دام الأثر يتحمل تأويلات أخرى ممكنة تتغير بحسب تغير الحقب.
       يحسن بنا أن لا ننزلق في منحدر النسبية الإستيطيقية، فمن دون شك يرتبط فهمنا للأثر بإنجازاته، والتي ترتبط بدورها بواقع تاريخي. و"موليير""MOLIERE" لا يُؤدي الآن مثلما أداه "موليير"نفسه من قبل، ولا يفهم، ولا يتذوق مثلما كان الشأن في أيام "موليير" هناك حياة للأثر عبر التاريخ، يرتبط بتاريخية الثقافة الإستيطيقية. وكل حقبة تفضِّل بعض المواضيع الجمالية على حساب أخرى، أو تتناسها جملة وتفصيلا. كما يرتبط نماء الأثر أو تحجره، غناه وفقره، بقدر الحماسة التي نسديها له، والمعنى الذي نكتشفه فيه. هذه التحولات مرتبطة بإنجازات الأثر المختلفة. ولنا الآن رأي في تاريخية التأويلات المتعددة. ذلك لأنه –في التاريخ- تظهر أو تسعى إلى التحقق أشياء تتجاوز التاريخ، وليس لها حقيقتها في التاريخ. وأكثر من ذلك، فالتاريخ لا يضاء إلا بواسطة ضوء هذه النجوم الثابتة. فإذا أخذنا الكل من حركة التاريخ فلن يكون هناك تاريخ. وفي ضوء هذا الفهم تقوم التقاليد المختلفة للإنجازات بإنشاء التاريخ الذي يسعى بدوره إلى إظهار حقيقة الأثر عبر المحاولات والأخطاء المتكررة. وأنه توجد حقيقة للأثر في حاجة ماسة إلى إلى إنجاز يظهرها، ويصدر ح
 كمها – في ذات الآن- على ذلك الإنجاز.
       قد يحدث، للتأكد من قيمة الإنجاز، أن نعود إلى مقصديات المؤلف. وأكثر من ذلك قد نصدر حكمنا على الإنجاز من دون معرفة سابقة بالمؤلف والأثر. لأن الإنجاز وهو يبرز الأثر يكشف قيمته. فيكون أكثر حساسية لأخطائه من حسناته. فإذا كان الإنجاز حسنا، فسح المجال أمام الأثر ذاته. عندها يتطابق الجوهر والمظهر في تجل واحد. ونكون إزاء الموضوع الجمالي مباشرة. ويترتب على الخطأ تشويش التطابق. وينتابنا إحساس الصوت النشاز الذي يظهر في غير موضعه، فنرجع الخلل المحسوس إلى الإنجاز لا إلى الأثر نفسه. كالاعتدال الذي تشوبه السرعة بينما حركة التمثيل متباطئة، والديكور المزخرف بينما قفزة الراقص العمودية ثقيلة. فينقطع مفعول السحر. ساعتها نعاتب المنجز قبل محاسبة الأثر. مادام التخوُّن يلحق الإنجاز وحده.
       هكذا تستدير الدائرة، ويجد الأثر تمامه في الإنجاز، ولكنه –في ذات الآن- يحكم على الإنجاز الذي يتجلى من خلاله. فالفرض الذي يتحقق – إذا كان الأثر في جوهره فرضا- يظل فرضا بالنسبة للإنجاز، وبعبارة أخرى، فالوجود الفعلي للأثر وجود معياري. وعلى الواقعية أن تُجلي حقيقة تترجم عن نفسها. وتاريخية الإنجازات لا تجعل حقيقة الأثر نسبية، ولا تقلل في شيء ذلك المطلب المتأصل فيها، والذي يفرض دائما إنجازات جديدة. لأن المطهر الضروري للجوهر لا يطابقه كل حين. الأمر الذي يجعل إنجازات مختلفة للأثر الواحد مقبولة ومستحسنة من طرف الجمهور. يقول "م.جويه" "M.GOUHIER" عن الأثر الخالد:» كل إعادة إبداع تبرز لنا صورة فريدة بشكل لا متناه، دون أن يتحول الإبداع.. بل يظل كاملا في كل صورة« ولذلك السبب لا نحمل التاريخ مهمة التفسير والبيان المتدرج. ف "هامليت""HAMLET" "لورنس أوليفر" "LAWRENCE OLIVER" ليس أكثر حقيقة من "هامليت" "جون لوي بارو" "JEAN LOUIS BARRAULT" وليس "هامليت" الإنسان في الصورة التاريخية التي يجعله "شكسبير" يتحدث هو المصدر الذي لا ينضب، لما فيه من الغموض والنقص في كل حركة وكلمة، وإنما الأثر نفسه باعتبا
 ره جملة. ويجوز لنا القول أن حقيقة الأثر هي قبل كل شيء كونها حقيقة. فإذا كنا "عقلا بصفة عامة" مثلما يقول "جاسبرس" "JASPERS" ولم نكن مشاهدين مدركين، وفي استطاعتنا التحليق فوق التاريخ واستشراف كل الحقائق التاريخية للأثر، فإنه يتعذر وجود الحقيقة ذاتها. لأن جوهر الأثر يمحو مظهره. لأنها ستكون حقيقة أزلية وليست موضوعا جماليا.
       إن الأثر مطلب لا متناه!  بيد أنه يتطلب تحقيقا متناهيا. ينجز كل مرة فيقدم لنا الأثر بوضوح وصرامة، وخلو من النشاز، عندما تدعونا كلية الأثر إلى الاحتفال فيه بالموضوع الجمالي. وما نستخلصه من حقيقة الأثر حينها، يكون حقيقة الأثر التي  يفرضها الأثر علينا من جهة، وتفرض نفسها من جهة أخرىثانية.
       وإذا كان  لهذا التعالي من معنى، فهو أولا للمنجِز الذي لا يقوم بذلك إلا متخيلا الأثر وقد أنجز من قبل. ولا يقرأ النص إلا متخيلا أنه قد مُثِّل، أو عليه – على الأقل- إنجاز حقيقته. وحقيقة الأثر بالنسبة له ليست معطى وإنما هي مهمة. والحصيلة الأساسية التي تجنيها من المنجِز هي الطواعية. وذلك ما يُجمع عليه المخرجون المسرحيون. وكذلك رؤساء الجوقة. إلا أنها الطواعية الصعبة ذات الدرجات.. صعبة بالنظر إلى جملة من الأسباب المرتبطة بالأثر من وجه، وبالمنجِز من وجه آخر. لأن مثل هذه الخصال موقوفة على المنجِز: كالمهارة والذكاء. كما أن مشاركته لا تكون مشاركة منجِز فقط، بل مشاركة فنان. وكذا الأمر بالنسبة للرسام الذي يرسم الديكور، والموسيقي الذي يكتب موسيقى المصاحبة، والمخرج السينمائي الذي يشكل النسيج الخلفي ل "كريستوف كولمب" "CHRISTOPHE COLOMB" ل "كلوديل" "CLAUDEL" وأخيرا لأن الأثر، وبالشكل الذي  يخرج فيه من يدي المؤلف، يترك له مجالا واسعا للمبادرة. إن الإنجاز اختراع، والتمثيل إبداع.. ومن هنا يعتقد المنجز أنه الهدف والغاية في حين عليه أن يعتقد أن الأثر هو غايته. وعلى ذلك تترتب بعض أخطاء التمثيل، مح
 ترمة،وملفتة للنظر، حينما تنشأ عن إفراط في الحماس والعجب.
ملاحظة:
        النص جزء من الفصل الثاني "الأثر وإنجازه" من كتاب "فينومينولوجيا التجربة الإستيطيقية" ج1. ل "ميكال دوفرين" "MIKEL DUFRENNE" وقد استغنينا عن الهوامش لطولها وتسهيلا للنشر فقط، أما ثراؤها فأمر أكيد.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟