الدولة الاسلامية في خطاب البنّا: مفارقات المفهوم - د.عبدالإله بلقزيز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسليس الانتقال والتأرجح بين مربع الفكرة الدينية عن الدولة، ومربع الفكرة المدنية الحديثة عنها، خاصية وَسَمَتْ مقالة القرضاوي حصراً، من دون سائر المثقفين الإسلاميين المعاصرين، بل هي من ميراث حسن البنّا الذي أتقن ممارستها على نحوٍ من الكفاءة لم يضارِعهُ فيه أحد. والحق أن القارئ في نصوص مؤسس حركة (الإخوان المسلمين)، لا يجد صعوبة في الوقوف على مفارقة مثيرة تؤسس خطابه حول الدولة: الانفتاح الشديد والانغلاق الشديد! وهي مفارقة تذهب بخطابه إلى أبعد حدود التوتر نتيجة حركة الشد والجذب بين حدي الانفتاح والانغلاق! نعثر عل ذلك ـ بصورة بالغة الوضوح ـ في دفاعه عن الدستور والخيار التمثيلي النيابي، وفي هجومه الحاد على الحزبية والتعددية السياسية!
1ـ الدولة والدستور:
يعرف سائر الذين قرأوا نصوصه الفكرية، أو اطلعوا على مواقفه السياسية، أن حسن البنّا كان إيجابياً تجاه مسألة الدستور والخيار السياسي النيابي، وأنه دفع بحركة (الإخوان المسلمين) إلى المشاركة السياسية في الحياة العامة بعيداً عن أفكار وخيارات العنف، وخاصة قبل تأسيس (التنظيم الخاص)، الذي أصبح كتيبة صدام موازية للتنظيم الجماهيري الضخم والواسع. غير أن موقفه الإيجابي ذاك، كان في جملة ما يعتقد أنه من صميم الاسلام، أي أن الدستور والتمثيل النيابي ليسا أفكاراً برّانية عن عقيدة الاسلام وشريعته؛ بل هما من تعاليمه حتى وإن بَدا وكأن المسلمين يستقونهما من الغرب؛ ذلك أن نُظُم الاسلام ـ في ما رأى ـ هي (أكمل وأنفع ما عرف الناس من النظم حديثاً أو قديماً). حتى حينما كان يدافع عن مبدأ المواطنة ـ وهو مبدأ حديث في الفكر السياسي ـ كان يفعل ذلك من داخل مرجعيته الدينية مجادلاً من (يظن .. أن التمسك بالاسلام وجعله أساساً لنظام الحياة ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة، وينافي الوحدة بين عناصر الأمة) مبيّنا أن (الحق غير ذلك تماماً). ومن المثير ـ هنا ـ أن البنّا لا يستعمل عبارات مثل (أهل الذمة)، في هذا السياق، ولا يحيل على تجربة (نظام الملل) العثماني في معالجة مسألة الأقليات غير المسلمة، بل ينصرف إلى بناء موقفه لصالح وحدة الوطن والمجتمع من خلال الاعتبار بجملة من الآيات القرآنية التي تشدد على أخوة المؤمنين ووحدتهم، منتهياً إلى الاستنتاج أن (هذا الاسلام الذي بني على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سبباً في تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نصّ مدني فقط).

في حديث البنّا عن الدستور، ينبغي التمييز بين موقفين فيه ومنه: بين موقف إيجابي منفتح من الدستور عموماً، كوثيقة وكعلاقة سياسية، وبين موقفه من الدستور المصري، الذي كان موقفاً نقدياً، وكان يبدو عليه الكثير من التحفظ، وإن لم يذهب به التحفظ إلى حدود رفضه. يقول البنّا مخاطباً (الإخوان): ( .. إن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسؤولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات، هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الاسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم. ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الاسلام، وهم لا يعدلون به نظاماً آخر).
يماهي البنّا ـ هنا ـ بين النظام الليبرالي الحديث وبين نظام الحكم في الاسلام من دون أن يُبدي قليل تردد. ومع أن عبارته (نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم .. إلى الاسلام) قد تفيد أن هذا النظام خارج يُقارِن به داخلاً (هو النظام الاسلامي) إلا أن عبارته الأسبق أن مبادئ الحكم الدستوري (تنطبق كل الانطباق على تعاليم الاسلام) تُسقط الحدود بين ذينك النظامين، فتجعلهما نظاماً واحداً. هكذا ننتهي مع حسن البنا إلى القول إن النظام السياسي في الاسلام: نظام (الدولة الاسلامية)، نظام دستوري.
لكن هذا الانفتاح الإيجابي: المبدئي والنظري، يتحول إلى تحفظ حينما يتعلق الأمر بنص الدستور المصري. فمع أن البنا يرحب كبير ترحيب بوضع دستور للبلاد، لا يتردد في توجيه انتقادات له، وخاصة لما ينطوي عليه ـ في رأيه ـ من إبهام، وللكيفية التي يجري بها تصريفه. نقرأ له في هذا الباب: ( .. إن من نصوص الدستور المصري ما يراه الإخوان المسلمون مبهماً غامضاً يدع مجالاً واسعاً للتأويل والتفسير الذي تمليه الغايات والأهواء، فهي في حاجة إلى وضوح وإلى تحديد وبيان. هذه واحدة، والثانية هي أن طريقة التنفيذ التي يطبق بها الدستور .. ، طريقة أثبتت التجارب فشلها وجنت الأمة منها الأضرار لا المنافع، فهي في حاجة شديدة إلى تحوير وإلى تعديل يحقق المقصود ويفي بالغاية .. ، وحسبنا أن نشير هنا إلى قانون الانتخاب).
لابد من جلاء الغموض في الدستور المصري كي يطابق صورة الدستور المثالي المرتسمة في مخيلة البنا؛ ثم لابد من ترشيد تصريفه حتى يكون التصريف ذاك مطابقاً لجوهره. وفي هذه المسألة بالذات، يكمن جوهر التحفظ: مجافاة القانون ـ أو القوانين ـ لروح الدستور كما في حالة قانون الانتخاب. والواقع أن البنا يدرك جيداً الفارق بين الدستور وبين القانون: فالدستور مبادئ عامة، أما القانون فتنظيم لاجراءات عملية. وعليه، قد يتطابق الدستور ومبادئ الاسلام، وقد ينص في ديباجته على أن الاسلام دين الدولة، كما هو الحال في أكثر الدول العربية والاسلامية، فيما قد لا تعبر القوانين عن هذه الروح، فتأتي مجافية لها. لذلك، لا يقتصر البنا على استهجان هذا الأسلوب من التحايل على الدستور: إقرار مبادئ نظرية ثم نقضها بقوانين إجرائية مجافية، بل يذهب أبعد من مجرد المطالبة بتشذيب القوانين وتكييفها مع المرجعية المبادئية الدستورية: يذهب إلى القول ـ صراحة ـ إن في القرآن من القوانين ما يستكفى به عن وضع واستنباط، وإن قانونه الوحيد هو ما ينبع من أحكامه ومن السنة النبوية..
هل في هذا تناقض؟
قطعاً لا، فيه تماسكٌ منطقي وانسجام مع المقدمات التي صدر عنها؛ فمتى ما اعتبرنا النظام الدستوري والنظام الاسلامي نظاماً واحداً، ساغ القول إن القوانين الموضوعة للتعبير عن مبادئ الدستور لا يمكن إلا أن تكون إسلامية، وإلا فهي لا تعبّر، في شيء، عن روح الدستور وقواعده.
* * *
يرتبط بالدفاع عن الدستور والنظام الدستوري ـ في نصوص حسن البنّا ـ الدفاع عن النظام التمثيلي النيابي، ارتباط فرع بأصل ومعلول بعلّة. لكنه ارتباط يتغذى ـ أيضاً ـ من حاجة سياسية شديدة، لدى البنا و(الإخوان المسلمين)، إلى إطار للمشاركة السياسية من موقع أعلى: من موقع القرار. وهي حاجة كان يدعو إليها إحجام (الإخوان المسلمين)، طيلة الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، عن نهج سبيل الثورة والعنف، والتزام خط العمل السياسي السلمي، مثلما كانت تدعو إليها معاينة حجم الفوائد أو العوائد السياسية الناجمة عن السعي إلى السلطة من الطريق الانتخابي والنيابي. وهذه حقيقة ليست تستعصي على مَن يدرك مقدار ما كان حسن البنا متشبعاً به من حسّ سياسي واقعي على الرغم من الانطباع الذي كان يخلفه ـ لدى كثيرين ـ كداعية مثالي أو طوباوي!
بخلاف موقفه من أصول الفكرة الدستورية ـ حيث احتسبها إسلامية وليست غربية ـ يعترف بأن أصول النظام النيابي أصول غربية. فهو إذ يقرر أن (من حق الأمة الاسلامية أن تراقب الحاكم أدق مراقبة، وأن تشير عليه بما ترى فيه الخير، وعليه أن يشاورها ويحترم إرادتها..)، لا يكتفي ـ شأن غيره من المفكرين الاسلاميين ـ بحسبان ذلك أمراً في عداد مبدأ الاحتساب (الاسلامي) على الحاكم، بل يذهب إلى القول ـ في إشارة صريحة إلى المصدر الخارجي لهذا المبدأ ـ إن (النظام الاسلامي) في هذا لا يعنيه الأشكال ولا الأسماء متى تحققت هذه القواعد الأساسية التي لا يكون الحكم صالحاً بدونها)، منتهياً إلى اعتراف جهير بأننا (في حياتنا العصرية قد نقلنا من أوروبا هذا النظام النيابي الذي تعيش في ظله حكوماتنا الآن). وهو ـ للأمانة ـ اعتراف جريء لم يَقوَ على مضارعته فيه كثيرون ممن نسبوا أنفسهم وفكرهم إلى حسن البنا من المثقفين الاسلاميين المعاصرين!
وإذ يقرر البنا أنه (ليس في قواعد هذا النظام النيابي ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الاسلام لنظام الحكم)، يميل إلى بيان ذلك من خلال التذكير بـ(تقنيات) إشراك الأمة في الحكم، فيشدد على أن الاسلام (لم يشترط استبانة رأي أفرادها جميعاً في كل نازلة)، وهو المعبر عنه في الاصطلاح الحديث بالاستفتاء العام. ولكنه اكتفى في الأحوال العادية بـ(أهل الحل والعقد). وإذا كانت هذه الإشارة منه لا تستصغر شأن الاستفتاء قَدرَ ما تؤكد على مبدأ التمثيل، فإن ربطه التمثيل بـ(أهل الحل والعقد) يطرح السؤال عن معنى هذه الفئة، وعمّن هُم في جملة مكوناتها.
لا يخفي البنا أن الاسلام لم يقدّم تعريفاً مرجعياً لهؤلاء، (ولم يعيّنهم بأسمائهم ولا بأشخاصهم)، لكنه يغطي هذا الفراغ بالاستئناس بأقوال الفقهاء، فيشاركهم (الاجتهاد) في أن وصفهم (ينطبق على ثلاث فئات هم –هكذا في النص!- :
1 ـ الفقهاء المجتهدون الذين يُعتمد على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام.
2 ـ وأهل الخبرة في الشؤون العامة.
3 ـ ومن لهم قيادة أو رئاسة في الناس .. ، فهؤلاء جميعاً يصحّ أن تشملهم عبارة (أهل الحل والعقد) ).
وعلى طريقة الإصلاحيين الإسلاميين ـ في القرن التاسع عشر ـ يعقد القران بين (أهل الحل والعقد) وممثلي الأمة في البرلمان حين يكتب: (ولقد رتّب النظام النيابي الحديث طريق الوصول إلى أهل الحل والعقد بما وضع الفقهاء الدستوريون من نظم الانتخاب وطرائقه المختلفة)، مستنتجاً أن الاسلام (لا يأبى هذا التنظيم ما دام يؤدي إلى اختيار أهل الحل والعقد).
لكن مشكلة حسن البنا تكمن، أساساً، في أنه لا يدفع بدفاعه عن النظام النيابي ـ كما الدستور ـ إلى نهايته المنطقية، إذ سرعان ما يشكف عن أن اعترافه بهذا النظام (النيابي) اعتراف مشروط، أي متوقف على توافر شروط لازم له هو خلوُّه من الحزبية، و ـ بلغتنا المعاصرة ـ من التعددية الحزبية! فكيف ـ إذاً ـ نستطيع أن نتخيل نظاماً سياسياً نيابياً ـ قوامه المنافسة الحزبية الانتخابية ـ من دون أحزاب سياسية؟!
وتلك ـ في الحقيقة ـ مشكلة المشاكل في فكر حسن البنا، وفي تصوره السياسي لنظام (الدولة الاسلامية)!
2 ـ التعددية الحزبية أو شبح (الفتنة)!
يقف البناء موقف رفض متشنج من الحزبية عموماً، ومنها في مصر بخاصة! وهو يفعل ذلك على الرغم من أنه يعترف صراحة بأن جماعته (الإخوان المسلمين) جماعة سياسية مَعنِيةً ـ إلى جانب عنايتها بالدين والعقيدة ـ بالدولة والنظام السياسي. وبذلك، يستكثر على غيره ما يبيحه لنفسه، متطوعاً ـ من حيث لم يشأ ـ لتقديم صورة سيئة عنه ـ وعن برنامجه السياسي ـ لخصومه، بل مغامراً بنسف كل ذلك المعمار السياسي الذي شيّده دفاعاً عن الحكم الدستوري والنظام التمثيلي البرلماني!!
وانسجاماً مع منطق دعوته، الناحية منحى سياسياً وسلمياً متدرجاً، يدافع البنا عن الإصلاح والنهج الإصلاحي في العمل السياسي والفكري والتربوي، وفي بناء المجتمع والدولة؛ وفي جملة ما يدافع عنه من (إصلاح) (القضاء على الحزبية وتوجيه قوى الأمة السياسية في وجهة واحدة وصف واحد..). بل هو لا يتردد في دعوة الأحزاب السياسية (المصرية) إلى الالتحاق بصفوف (الإخوان المسلمين) من أجل أن (يتوحدوا تحت لواء القرآن العظيم)، راجياً أن يجيبوا فيكون في ذلك (خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة) وأن (تستطيع الدعوة بهم أن تختصر الوقت والجهود)، متوعداً إياهم عند الرفض بأنهم سوف (يضطرون إلى العمل للدعوة أذناباً وقد كانوا يستطيعون أن يكونوا رؤساء)!. هل هذا من (الإصلاح) في شيء؟ وهل هو اعتدال؟ وما الذي قاد البنا إلى هذا الموقف العدمي، بل والعدواني، من الحزبية والأحزاب؟
ثمة ـ في الواقع ـ أسباب عدة يختلط فيها الوازع السياسي بالعقدي فيتداخلان على نحو يمتنع معه التمييز والفصل. ونكتفي منها ـ على تعددها ـ بسببين: يتعلق أولهما، في اعتقاد البنا، بآثار ونتائج الحزبية في الاجتماع الوطني، ويتعلق ثانيهما بما يعتقد أنه مجافاة من الحزبية لفكرة وحدة الأمة في الاسلام، وتهديد بالفتنة في نظامه:
نقرأ للبنا في المعنى الأولى: (الإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب السياسية المصرية جميعاً قد وجدت في ظروف خاصة، ولدواع أكثرها شخصي .. ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر). وعليه، فالحزبية ـ في ما يرى ـ لم تكن أكثر من استثمار سياسي لبناء النفوذ الشخصي، ولم تعد لها من وظيفة سوى تعطيل الإنتاج، وإلهاء الناس، وإفساد القيم، وتمزيق النسيج الاجتماعي الموحد بفكرة الأمة والجماعة؛ وهي ـ لذلك ـ لم تعد لها من فائدة ترجى! وفي المعنى الثاني نقرأ له: (يعتقد الإخوان أن هناك فارقاً بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة ـ وهو ما يوجبه الاسلام ـ وبين التعصب للرأي والخروج على الجماعة، والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة وزعزعة سلطان الحكام، وهو ما تستلزمه الحزبية ويأباه الاسلام ويحرمه أشد التحريم). إن الحزبيةـ في هذا المفهوم ـ ليس في جملة الحقوق السياسية للأفراد والجماعات، وليست مظهراً من مظاهر الحق في التعبير الحر، أو في حرية الرأي، بل هي رديف للتعصب، وللعصيان والتمرد على رأي الجماعة، ولزعزعة الاستقرار السياسي. وهي ـ لتلك الأسباب ـ محرّمة دينياً، أو قل إن موقف الرفض لها ليس موقفاً سياسياً فحسب، بل وموقف شرعي أيضاً!
ومع أن حسن البنا يحاول إبراء الذمة من شبهة العداء للحزبية بسبب المنافسة السياسية ـ خاصة مع حزب (الوفد) ـ إلا أن دعوته إلى وجوب حل هذه الأحزاب لم تكن ـ البتة ـ من أجل مصلحة مصر كما أوحى بذلك، بل من أجل إخلاء الساح لحزب وحيد هو حركة (الإخوان المسلمين)، أو لتشكيل إطار سياسي جامع يكون فيه للحركة مركز القيادة! هكذا يضاهي حسن البنا الداعين إلى الحزب الواحد في دعوتهم إلى ذلك (والشيوعيون المصريون كانوا في جملتهم)، ويضع علامة استفهام على كل التأييد والولاء الذي محضه ـ في نصوصه ـ للنظام السياسي الحديث: هذا الذي ليس يقبل انتقائية أو مفاضلة بين مبادئه كما فعل البنا وغيره.
وإذا كان بعض رموز الجيل الثاني ـ المعتدل ـ من مفكري (الإخوان المسلمين) قد حاول تصحيح هذه الصورة عن تراث (الإخوان)، بمراجعة موقف البنا، والدفاع عن التعددية الحزبية، بل ومحاولة تأصيلها من داخل المرجعية الشرعية، فإن في وسعنا ـ مع ذلك ـ أن نفهم سبب ذلك التناقض الصارخ الذي يقوم عليه خطاب البنا حول الدولة، فيدفعه إلى المراوحة بين دفاع قوي عن الدستور والنظام النيابي وبين هجوم أقوى على الحزبية والتعددية السياسية. إن هذا السبب ـ في ما نزعم ـ هو مفهومه للجماعة والأمة: فهذه الجماعة ـ الموحدة بعقيدة الاسلام ـ تستحق دستوراً يكرس مبادئ دينها في الحكم، وقوانين تطابق أحكام شريعتها، ونظاماً تمثيلياً يفرز (أهل الحل والعقد) .. ، فهذه جميعاً وسائط مقبولة لتمكين الجماعة والأمة من نظام حكم يعبر عن ماهيتها كجماعة، بل هي مطلوبة ومرغوبة. لكن ذلك ليس ينطبق على التعددية الحزبية بأي شكل من الأشكال. إذا تركنا جانباً الوازع السياسي، حيث لا مصلحة للبنا في وجود أحزاب سياسية تنافس (الإخوان) في دورهم وتمثيلهم الاجتماعي، فان السبب الرئيس الحامل على ذلك الموقف من الحزبية سبب ديني: الخشية من تصدع وحدة الجماعة، وانقسامها، وغرقها في الفتنة!
ومن دون أن يسيء المرء الظن بحسن البنا، وحساباته السياسية، من ممايزته بين المسألة الدستورية والنيابية وبين مسألة التعددية السياسية، يمكن القطع بأن ما فعله من فصل بينهما هو عينه ما سوف يحصل بعده في تجربة ممارسة السلطة ـ من قبل النخب العربية والاسلامية الحاكمة ـ وخاصة منذ مطلع النصف الثاني من هذا القرن. فقد تأكد ـ بقوة الأمر الواقع أن هذه النخب تستطيع أن تقبل بوضع دستور للبلاد (ودستور مثالي أحياناً)؛ وأن تُقِر النظام البرلماني، وتضع قانون انتخابات، وتجري عمليات اقتراع على (ممثلي) الشعب أو الأمة .. الخ، في الوقت نفسه الذي تمنع فيه الأحزاب من الوجود!
لم يكن حسن البنا مجرد شيخ يفقه في شؤون العقيدة والشريعة، ويملك الجرأة في التعبير عما يراه موقفاً شرعياً في أمور السياسة والرياسة .. ، كان إلى جانب ذلك داعية سياسياً على قدر كبير من الحنكة والدهاء، وعلى قَدرٍ كبير من التشبع بالواقعية السياسية، بل وبالنزعة البراغماتية. ولقد ساعده ذلك على أن ينتج أكثر المقالات السياسية تأثيراً في الجمهور، خلال هذا القرن، وأن يؤسس إحدى أضخم الحركات السياسية جماهيرية في العالم الاسلامي المعاصر حركة (الإخوان المسلمين). وكما امتد نفوذ أفكاره ففاض عن حدود مصر، وطال معظم البلاد العربية والاسلامية، كذلك كان حال حركته السياسية، التي خرجت من نطاقها الوطني المصري، لتصبح تنظيماً قومياً وعالمياً. ولعمري إن ذلك يشهد أبلغ الشهادة لكفاءته في بناء قِرانٍ نادر بين الدنيوي والمقدّس لم يُفلِح في مضارعته فيه أحد من القدماء والمحدثين!.
إن موضوعة الدولة الاسلامية ـ في فكر البنا ـ وحدها دليل على ذلك الذي نوهنا به: لقد أخَذَها عن رشيد رضا بعد تعديلٍ (تحولت فيه من خلافة: ممتنعة وطوباوية، إلى دولة إسلامية: ممكنة وواقعية)؛ لكنه إذ رأى فيها نداء الشرع، والواجب، لم يَتَعامَ عن السياسة والممكن، بل طَفَق يبحث لهذه الدولة عما يسوّغ لها أمرها في مجتمع غزته الحداثة السياسية والثقافية بعد غزو الاستعمار له. لذلك، لم يجد ضالته سوى في بعض موضوعات الإصلاحيين الإسلاميين قبله بربع قرن. نعم، لم يذهب بعيداً في الطريق الذي سلكوه، لكنه ـ قطعاً ـ قطع منه شوطاً، فانتهل منه ثمراتٍ ينعت في نصّه فكرةً دستورية وديمقراطية نيابية.
هل معنى ذلك أن (الدولة الاسلامية) ـ عند البنا ـ ترادف معنى الدولة الوطنية عند الإصلاحيين؟.
لا، إنها دولة دستورية، تأخذ بنظام التمثيل النيابي غير أن مصدر السلطة فيها هو الشريعة الاسلامية. إنها دولة الشريعة، ما دامت الشريعة هي (دستور) المسلمين في تنظيم اجتماعهم المدني واجتماعهم السياسي.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟