يَهودِيُّ السلطان: براديغم تاريخي، وتأسيس استثنائي في سيرورة الوطنية المغربية: قراءات في كتاب يهود السلطان تحت سماء الشيوعية - محمد أبرقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"أغرق نبأ الوفاة المفاجئة للسلطان محمد الخامس الشعب في حالة صمت رهيبة، وأعطت الحِدَاد اليهودي دويّا أكثر عمقا...لم يَعُدِ اليهود المغاربة يتذكرون سوى السلطان الحامِي وقت الشدة، وآلام النّفي، السلطان الذي فرض بالفعل المساواة بين المسلمين واليهود المغاربة... وعبّرت عامة اليهود في كل المدن المغربية عن مشاعرها الروحية دون انتظار أمــر مّا" (R.Assaraf,2009).

بعد الورقة التقديمية العامة التي سبق تخصيصها لكتاب "يهود السلطان تحت سماء الشيوعية" (أنظر نص التقديم المنشور على مجلة أنفاس بتاريخ27 يونيو2023) سياقا، وترجمة، واختيارا للعنوان، ثم نافذة توجيهية قدمها المؤرخ المترجم لكشف حيثيات العمل والكلمات المفاتيح المساعدة على قراءة السردية التاريخية موضوع الكتاب خاصة منها المصطلح "يهودي السلطان" الذي ابتكره المؤرخ "دانييل شروتر"(أنظر الفصل السادس من كتابه يهودي السلطان،المغرب وعالم اليهودِ السِّفَرد،2011،طبعة1) في مباحثه التاريخية حول تاريخ اليهود المغاربة- بعد هذا- نعود لاكتشاف "قصة الشيوعيين المغاربة" وقد صارت خطابا تاريخيا تمتد سرديته ما بين دائرة الزمن القصير الحدثي –البيوغرافي والزمن المتوسط علاقة بتاريخ وطن ونضاله من أجل الاستقلال ثم الزمن الطويل الذي يضع كل أحداث "القصة" في ترابط بتحولات تشمل بلدان الشمال الإفريقي والشرق الأوسط فالمحيط الأوربي والعالمي، وضمن تحقيب ينطلق من بدايات الحقبة الكولونيالية إلى فترات الحربين وما بعدها،نحو العهود الأولى من نشأة الدولة الحديثة، ومخاضاتها العسيرة التي تركت "ندبا خادشا" و"جرحا" لن تنمحي آثاره سوى نهاية الألفية الثانية ومطلع الثالثة.

تبدأ المؤرخة هيكمان نص الحبكة التاريخية، التي استغرقت منها سنوات طويلة ما بين ميلاد الفكرة، وتبلور المشروع، ورعايته حتى يصير أول إنجاز أكاديمي متخصص لها، فترة استمرت من سنة 2009 إلى 2021، بكلمة الاعتراف والامتنان لكل من كان إلى جانبها ومعها في رحلة البحث، سواء بحصر موضوعه أو مجاله، أو بالمساعدة في الاستكشاف الوثائقي، أو مراجعة المسودة قبل تحرير النص النهائي، ولم تتردد المؤرخة في تسمية كل من كان معها في رحلتها تلك داخل الجامعة الأمريكية وخارجها، منهم الأستاذة المشرفة على الأطروحة "سارة أبريفايا ستاين" والمؤرخة الباحثة "جيسيكا مايا مارجلين" وكافة أعضاء الفريق البحثي بجامعة كاليفورنيا، مع الإشارة إلى الجهات المانحة التي دعمت المشروع وساهمت في تمويله يجمع بينها الاهتمام بالدراسات التاريخية ذات الصلة بتاريخ اليهود وذاكرة الطوائف اليهودية .

وقد أفردت المؤرخة هيكمان أيضا اعترافا وتقديرا خاصا للضيافة التي حظيت بها في المغرب وحسن الاستقبال فيه، والتعاون لإنجاز العمل، سواء من قبل مناضل الحزب الشيوعي المغربي (التقدم والاشتراكية لاحقا) لفي شمعون (حتى وفاته) وأسرته، بمقر السكن في الدار البيضاء، أو من قبل كل من سيون أسيدون، وأندري أزولاي، وموريس السرفاتي، ورافائيل بن هروش، ومحمد دلال، والراحل فهد يعتة، ونبيل بن عبد الله(الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية) إضافة إلى المساعدة التي وفرها للباحثة كل من المؤرخ محمد كنبيب، ومدير مؤسسة  أرشيف المغرب المؤرخ جامع بيضا، واحتضان مشروع الترجمة من اللغة الأنجليزية إلى اللغة العربية بمجهودات كل من الأنتروبولوجي عمر بوم، والمؤرخ خالد بن الصغير .

أما الفصل التمهيدي المعنون ب "شيوعيو السلطان" فقد كان أرضية نظرية للانطلاق في بناء الخطاب السردي حول الشخصيات المركزية في البحث باعتبارها "أقلية داخل أقلية" يُوحّدها الانغماس في ممارسة السياسة، والمشاركة في تشابكات حقولها، خلافا لغالبية أعضاء الطائفة اليهودية المغربية التي اختارت الابتعاد عن السياسة وهمومها، وذاك هو موضوع الكتاب الذي تتقاطع فيه إشكاليات وقضايا تاريخية متعددة نورد منها :

- قضية الانتماء وسياسة الهوية الوطنية المغربية وتكوين المواطنة، وموقع اليهود المغاربة في ثناياها.

- مسألة الانتساب للمنظمات اليسارية الجذرية والمشاركة في سياساتها ضمن سياقات معقدة تشمل أحداثا وطنية داخل المغرب فترة الحقبة الاستعمارية وما بعدها.

- قضية الدراسات التاريخية المهتمة بتاريخ الأقليات ومنها الطائفة اليهودية وتأثيرها أو تأثرها بمنعطفات كبرى (الحرب العالمية-الحماية الفرنسية-نظام فيشي- تأسيس إسرائيل-هجرات اليهود-سياسة التجنيس -حركات التحرر الوطني...).

- الاستوغرافيا التاريخية والسّرديات المناهضة للاستعمار ضمن ثنائية الانتماء الطائفي-الديني، والهوية الوطنية، والتموقع ضمن التشكيلة المجتمعية والديمغرافية ما بين صفة "الذميين" والمحميين" ورعايا السلطان الذي يشملهم بعنايته "الحماية السلطانية" التي يزداد الاحتماء بها فترات الأزمات المهددة للطائفة اليهودية المغربية (مرحلة نظام فيشي- الفاشية- مرحلة فرض الحماية وأحداث فاس18و19أبريل1912) والتي قد تتوارى، لحظات الصراع السياسي الحاد الذي خاضته تلك الشخصيات الممثلة للأقلية إلى جانب الحزب الشيوعي المغربي وغيره من المنظمات اليسارية، دون أن تختفي بالكامل من أجل "بناء مغرب مثالي" سيُنظر لتلك الشخصيات بصورة أبطال وطنيين يجسدون التراث اليهودي المغربي ويرمزون لوجه التسامح في الدولة المغربية أمام العالم .

وللبحث في تلك القضايا من "حكاية الأقلية" و"القصة غير المروية" عنها، وضعت المؤرخة لنفسها شبكة أسئلة تتمدد وتتوسع مع أقسام الكتاب وفصوله، منها استكشاف دوافع المغاربة اليهود الذي اختاروا، وبإرادة ووعي سياسي خاص، البقاء في الوطن المغرب، والموقف من تطورات ما قبل الاستقلال وما بعده ، ومن الحروب العربية –الاسرائيلية (1967-1973) ثم خلخلة التحقيب التاريخي التقليدي لتعرف الوقائع الدقيقة للوطنية المغربية والنزعة المثالية التي ميزت تلك الشخصيات، وأخيرا البحث في كيفية تصور المغاربة اليهود لأنفسهم باعتبارهم مواطنين فاعلين في أحداث المغرب المستقل، والفرص التي وفرتها الشيوعية والحزب الشيوعي المغربي، الذي تميز عن باقي الأحزاب السياسية في الوطنية المغربية التقليدية بتعريفه الخاص لمفهوم 'المغربي" ومعنى الانتماء والهوية الوطنية المغربية، للأقلية اليهودية التي انخرطت في ممارسة السياسة، لإيجاد حل للمفارقة المتعلقة بالانتماء السياسي اليهودي في المغرب، ومواجهة محاولات الاقتلاع التي طالتها بفعل الاستعمار والصهيونية وسياقات الحرب الباردة ودور الرابطة اليهودية (منذ القرن19م).

وما بين نوعية الخطاب السردي التاريخي الذي انحازت إليه المؤرخة، والنبش في الهوامش المعقدة على مرحلة زمنية طويلة جدا (من نهاية القرن19 إلى تسعينات القرن العشرين) أثنت المؤرخة على ما وجدته من كرم ضيافة لدى الأسر اليهودية المغربية، والشخصيات المغربية التي التقت بها(ما بين2009و2014) وأشادت بدور المغاربة، دون أي عقد مذهبية أو دينية، في صيانة أماكن الذاكرة والماضي اليهودي المغربي، مستغربة من تحفظ النساء عند حديثهن عن دورهن في مجريات الأحداث وفي التاريخ السياسي للحزب الشيوعي المغربي على الرغم من أهميته الحاسمة، وهو نفس الاندهاش الذي عمّق أسئلة المؤرخة حينما أجابها شمعون ليفي، عند أول لقاء به خريف2009،بأنه "مغربي قبل كل شيء" مما يجعل مصطلح/براديغم "يهوديُّ  السلطان" الذي ابتكره المؤرخ "دانييل شروتر" عميقا في الذاكرة التاريخية المغربية، مجسدا لانتماء خاص، ومعبرا عن مشاركة طائفة المغاربة اليهود في إنتاج التاريخ المغربي برؤية رومانسية مثالية، وبتغذية استثنائية لخطاب وطني يخدم الوطنية المغربية ووحدتها.

يتبع (فصل: الخيارات، الفاشية ومناهضتها في المغرب بين الحربين) .

10يوليوز2023.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟