كتابة التاريخ عند ب.فاينP.Veyne: سرد حكائي ورواية إنسانية "للحقيقة" - محمد أبرقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

- المشكلة الحقيقية الوحيدة في التاريخ هي مشكلة المفاهيم- .ب.فاين.
التاريخ بالتعريف المتواضع عليه، والشائع منه أقرب إلى الحسّ المشترك، هو دراسة أحداث وقعت في الماضي بهدف فهم الحاضر واستشراف المستقبل.
غير أن التعريف المباشر يخفي تعددية التحديد الإبستمولوجي للتاريخ، والمعرفة بموضوعه، وبأدوات إنتاجها، وهو ما قد يفسر تنوع التيارات والمدارس التاريخية، وتباين منطلقاتها النظرية، ومناهجها، ومقارباتها، وغاياتها، بل منها ما يطرح السؤال حول مشروعية الاعتراف بحقل فكري يستحق نعته ب "علم التاريخ" .
يعتبر المفكر بول فاينPaul Veyne أحد أبرز الباحثين الذين انشغلوا بمثل ذلك السؤال، وإذا كان لا يخفي إعجابه بإسهام مدرسة الحوليات وإضافاتها الجريئة، فإنه يرى في التاريخ نوعا من السرد الأدبي الذي يحاكي الكتابة الروائية، وواحدا من الانتاجات الفكرية غير المؤذية التي أبدعتها كيمياء العقل.

أصدر بول فاين مؤلفه الذائع الصيتComment on écrit l’Histoire سنة 1971،وجاءت طبعته الثانية سنة 1979 عن دار النشر الفرنسية Seuil،وإذا كنّا نسلّم بانتشار أفكاره والاطلاع على المؤلف في لغته الأصلية في صفوف الجامعيين والباحثين والطلبة، فقد جاءت ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية سنة 2021 من طرف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات لتمنح ذلك المؤلّف مزيدا من الانتشار داخل الأوساط الأكاديمية العربية ،وفي صفوف عموم المهتمين من القرّاء الذين لهم شغف المعرفة التاريخية ومباحثها .
الكتاب في طبعة أنيقة من الحجم الكبير، بعدد صفحات536 ،جاءت محتوياته ضمن ثلاثة أقسام رئيسية، الأول منها تحت عنوان موضوع التاريخ، تناوله الباحث في خمسة فصول، القسم الثاني تحت عنوان الفهم، وفيه أربعة فصول ،وأخيرا القسم الثالث معنونا بتقدم التاريخ، وضمنه ثلاثة فصول مع نص حول الثورة التي أحدثها فوكو في التاريخ .
نقدم في هذا المقال المقتضب خلاصة تركيبية عامة لأبرز مضامين وأفكار القسم الأول من الكتاب على أمل العودة إلى باقي أقسامه في مناسبة أخرى .
يعلن الباحث بول فاين بأن كتابة التاريخ نشاط فكري، لكنها ليست معرفة كباقي المعارف وإن تشكّلت ضمنها علاقة بين الإنسان والتاريخ فيها كثير من الانشغال، والانبهار، والاهتمام، والمودّة ،وسؤال "هل التاريخ علم؟" يستدعي التعاون المفتوح بين الباحثين جميعا إذ الجواب عنه ليس حكرا وواجبا على المؤرخ دون غيره .
في المدخل، ينحو بول فاين إلى استفزاز نظري فيه دعوة مضمرة لمواصلة قراءة النص وفهم منطلقات صاحبه وتصوراته النظرية حول المعرفة التاريخية، حيث علم التاريخ لا يعدو كونه "قصة حقيقية" والإجابة عن السؤال حولها لم تتغير منذ أزيد من ألفي سنة .
إنه قصة حقيقية، لأن التاريخ سجّل لأحداث وقعت، والفاعل فيها هو الإنسان، وكل ما يعرضه من حقائق ليست سوى صنفا من الانحياز الذي يختاره المؤرخ ،وما يقوم به من عمليات فكرية لفهم الظواهر الإنسانية ليست هي نفسها تلك العمليات التي يلجأ إليها الباحث في الطبيعيات وظواهرها المتكررة.
فالتاريخ الجيولوجي مثلا له "هالةaura" تحيطه تختلف كثيرا عن الأحداث التي يسردها التاريخ بأحداثه الإنسانية، فلهذا الأخير غائية بشرية تحكمه، والهدف فيه التجربة المعيشية للإنسان لا الحَكي نفسه .
ولأن التاريخ سرد لأحداث، ولما ينتج عنها، فهو لا يمنحها الحياة من جديد، بل يذهب نحو قدر من الفرز كما تفعل الرواية، وصوب أسلوب من التوليف الذي يأتي بصيغة المتكلم أو الغائب ويقود إلى اكتشاف حدود لم تكن معروفة سابقا .
تلك الحدود، يعرضها بول فاين في المسافة مع الحدث، ودرجة ثم مستوى، وكيفية فهمه ،وهو فهمٌ لا يكتمل أبدا لأنه يظل فهما جانبيا تحكمه وثائق وآثار متوفرة ،فيصير التاريخ معرفة تتأسس انطلاقا من وثائق. غير أن السرد يتموضع خلف تلك الوثائق باعتباره "علم المكانية والزمانية للقصة" وليس فعل محاكاة، سردٌ يأتي في قالب أدبي يمنح النص الروائي، وحبكتَه، روحَه .
في علم التاريخ يكون الاهتمام بأحداث تأخذ صفتها بالنسبة للإنسان وذاكرته، إذ لا وجود لحدث في حد ذاته، وكل ما يحمله السرد لا يتخلص من مفارقات الحقائق الأولية والوقائع الفعلية، ومن موضوعات ذات خلفيات قيمية تتباين من مؤرخ إلى آخر، فالمؤرخ الذي يدعونا لقراءة كتابة حول الحضارة الرومانية يفعل ذلك من زاوية محددة، ولا شيء يمنع من البحث والكتابة عن حضارة لا تشغل باله كالحضارة الصينية مثلا، وما يميز مهنة المؤرخ ،وجهده، حقا هو تلك "الدهشة أمام ما هو مُسَلّمٌ به" لأن "الحدث هو كل ما ليس مسلّما به" ويتمتع بنوع من الفرادَة .
يفسر بول فاين تفرّد الأحداث بحقيقة حصولها في الزمن والمكان، وليس مردّه اختلافها في التفصيل والماهية ،وروح المؤرخ تبقى هي روح القارئ لأحداث متنوعة تثير اهتمامه، ويفكر فيها بما يراه مفيدا بالنسبة له . فَرَادَةُ الأحداث هي ما يجعل كل واقعة تاريخية واقعة مفردة أيضا، ولا شيء يمنع شرحها وتفسيرها وإن كانت الواقعة "ما لن نراه مرتين". فالوقائع تأتي ضمن مسارات تنسج التاريخ، والعلم يأتي ليفسر تلك المسارات، لكن ينبغي التمييز بين ما يمكن تفسيره علميا (تاريخ الكون الطبيعي) وما يمكن بالكاد تفسيره (تاريخ الإنسان) .
إذا كان التاريخ مثل الرواية حينما يسرد، فهو يأتي نسيجا حكائيا، مع ذلك يختلف عن الرواية في كونه رواية حقيقية لأحداث وقعت فعلا وليس أحداثا محتمَلة، وحتى تستحق واقعة ما وصفها بواقعة تاريخية ينبغي أن تكون قد حدثت حقا، والتحقق من ذلك يفتح باب النقد التاريخي، لأن "الوثيقة تخبرنا عن الحدث، فهل يمكننا الوثوق فيها؟" .
يؤكد بول فاين في مستوى الحديث عن ضرورة النقد التاريخي عند استجلاء الوثائق، على أن التاريخ ليس غرضه التشدد المنهجي وفرض قواعد محددة، بل هدفه البحث عن الحقيقة ورؤية الأحوال الإنسانية في اختلافها وعلى طبيعتها ،وإن جاءت أحيانا المعرفة التاريخية مخيبة للأمل...فالتاريخ "مدينة نزور ما بقي فيها من آثار" لذا تأتي معرفته، التي تزعم لنفسها إعادة تكوين الماضي، مبتورة، ومفصّلة على نموذج الوثائق التاريخية التي نعتبرها حاملة لحقائق الوقائع بينما هي نفسها مبتورة ولا تذكر كل شيء، وتجعلنا جاهلين لأمور كثيرة. إن كان للتاريخ صرامته، فالصرامة تضع نفسها في مرتبة النقد .
في تناوله لمفهوم حقل التاريخ، يرى بول فاين أن نسيج التاريخ غير محدد بالكامل، وبه تقطعات وترددات ولو جاءت وقائعه متسلسلة في السرد، لذلك يعمد المؤرخ إلى سد الثغرات عند بناء التوليف وفي سياق إيقاع يختاره لينتج شكلا من الاتّساق في روايته، لأنه في النهاية لا يمكن للمؤرخ أن يجعل التاريخ "يقول أكثر مما تقوله الوثائق والمصادر" ، فالتاريخ "ليس نسيج قماش"، ومع ذلك يسمح لنفسه بأن يكون، ولوحده، غير مكتملٍ في الواقع.
يحتفظ المؤرخ لنفسه بحرية تقطيع التاريخ حسب ما يراه ملائما بالنسبة له، وتبعا "للنوع التاريخي" الذي يسعى إلى بنائه . فالمؤرخ يحاول أن يميز بين ما ينتمي للتاريخي وما هو ليس بالتاريخي(لماذا يعتبر بيوغرافيا لويس الرابع عشر جزءا من التاريخ، بينما حياة فلاح في مقاطعة فرنسية خلال القرن السابع عشر ليس من التاريخ؟). إن اللاّحدثية في واقع الحال هي الأحداث غير المُرحّب بها لحظة الكتابة التاريخية ،وتبعا للمعايير التي يختارها المؤرخ ولما يعتبره حدثا رئيسيا له تداعيات ونتائج أكبر من غيره (الحرب من اختصاص التاريخ، أما الباقي فيندرج ضمن المتفرقات) بينما في حقيقة الأمر قد يغفل المؤرخ عن معالجة أحداث سياسية أو دبلوماسية أو اجتماعية أو فنية لها مكانتها حينما ننظر إليها بعين فاحصة، وقد تظهر حينها ما أسماه بول فاين ب" الثغرة في الكتابة التاريخية" لدى المؤرخ، والتي يكون سببها موضوعاتيا أو زمنيا أو مجاليا ،مع أنه "من المستحيل أن نقرر إن كانت واقعة ما تاريخية بينما أخرى تستحق النسيان". فهل تتحدد قيمة حدث ما بطبيعته، أم بنتائجه وآثاره ، أم بالمدة، أم بالفاعل فيه؟
يعرض بول فاين لمثال ذلك ،حيث أن "زكاما ألم بلويس الرابع عشر ليس حدثا سياسيا، لكنه يتعلق بالتاريخ الصحي للسكان الفرنسيين" ليخلص إلى أن أهمية الحدث لا تتأتى سوى إذا جاء ضمن سلسلة أحداث وإن لم تكن هرميّة الشكل والبناء بالضرورة ،والسلاسل في وجودها الحقيقي غير محددة العدد، لذلك فالتاريخ بالتعريف الإسميHistoire لا وجود له، بل هناك تواريخ متعددةhistoires ،وهو دائم الانفلات بوصفه كليّةTotalité، وعندما نطرح السؤال "بماذا يجب أن يهتم المؤرخ؟" تصبح اي إجابة مستحيلة ،كما أنه من الوهم رفع صفة الإنسانية عن علم التاريخ وارتباطه بما يحدث في "العالم الأرضي/المعيش" ،مملكة المحتمَل، حيث التبدلات والتغير صيرورة مترابطة .
التاريخ بذلك لا يمثل سوى الإجابات الذاتية المحتملة عن الأسئلة التي نطرحها، وباختيار حرّ، والسّعيُ، عند الكتابة، للتمييز بين التاريخي واللاّتاريخي ليس أمرا سهلاً .
يشكل مفهوم الحبكة عند بول فاين تحديدا نظريا يفسر به تماسك الرواية التاريخية ونسيجها السردي، وهي ما يربط بين الوقائع في عملية الحكي، طالما أن الوقائع لا وجود لها بشكل منفصل ومعزول (حبّات رمل)،وفي الحبكة يبحث المؤرخ عن انتظام الوقائع بروابط موضوعية، وعن تفسيرها ضمن توليف من الأسباب والمصادفات والغايات. إن الحبكة بمثابة "شريحة من الحياة يقتطعها المؤرخ" وفقا لتقديراته الذاتية، وانتظام عناصرها يكون منطلقه دائما إنسانيا، أرضيا، ومعيشا، وبتفصيلات نسبية، إنها اختيار يحتمي به المؤرخ من تلك الهوة التي تشكلها الأحداث المتناهية في دقتها وصغرها.
ففي كل حدث تاريخي، هناك توليف ضمن سياق هو ما يعطي الحدث نفسه المعنى، وكل وصف له هو فعل انتقائي، يفضي لاختيار موضوع بالتحديد وتبعا للسؤال الذي يطرحه المؤرخ دون سواه من الأسئلة التي تؤدي إلى موضوعات مختلفة . منذ فترة أعلن "هنري مارو": إن كل كتابة للتاريخ في النهاية هي ذاتية . لا يمكن للمؤرخ أن يصف بشكل مطلق الحقل الحدثي بأجمعه، بل سيقف عند مسار من بين مساراته المتعددة والمحتملة، وكلّ واقعة تشكل سببا أساسيا في مسار معين تصير في مسار آخر حدثا عرضيا أوتفصيلا جزئيا، وتظل رؤية الأحداث دائما جزئية لا نهائية .فالأحداث لا توجد متماسكة "كما لو أنها أوتار قيتارة " ولا يمكن النظر إليها كما لو أنها تنتمي لشكل هندسي جميع أضلاعه وزواياه مكشوفة ومرئية من جهة واحدة.
يقدم بول فاين مجموعة من الأمثلة لفهم معنى الحبكات المتعددة، ولكل واحدة منها موضوعيتها ومساراتها التي يمكن للمؤرخ تتبعها من داخل بنية الحقل الحدثي نفسه ،منتقدا بذلك فكرة مخطط الأبعاد الدقيقة ،ومشددا على أن المؤرخ في كتابته إنما يقتطع من الوثائق والشهادات ما يراه حدثا أو يريده أن يكون كذلك ،لأن الرؤية الكاملة (التاريخ الشامل) لمخطط هندسي مركب لا يمكنها التحقق في آن واحد ومن جميع الزوايا والجهات، ولأن الأحداث تأتي في شكل عقد تترابط في علاقاتها .
يبرز بول فاين عند نقده لفكرة المخطط الهندسي الواحد، ولفكرة وجود الأحداث بمثابة كليّات، ما اعتبره أوهاما ثلاثة هي : وهم عمق التاريخ، حيث أن حقيقة التاريخ يتعذر الإمساك بها، ووقائعه بالغة التعقيد بدرجة تعقد المعيش الإنساني، ووهم التاريخ العام، لأن هذا التعبير الاصطلاحي لا يقوم سوى بتجميع تواريخ خاصة داخل الغلاف نفسه، ثم وهم تجدّد الموضوع الذي يعني به المفارقة في الكتابة حول "الأصول" التي ينشأ عنها وبسببها المتن الحكائي للمؤرخ .
إن وصف التاريخ بصفة الذاتي لا يفيد أننا أمام الكتابة الانطباعية، بل أمام اختيار يمنح للوقائع المعنى داخل الحبكة . والمؤرخ عندما يكتشف وقائع ويرويها فإنه لا يخلقها ،بقدر ما أنه يقتطعها، ويستعيدها، بجهد فكري ونظري، من الذاكرة الإنسانية، والمعيش الإنساني، ثم يمنحها التماسك الداخلي في نظام ونسيج الحبكة . في النهاية إن "كتابة تاريخ جيد" تبدو مشروعا صعبا.
إن متعة التاريخ لا تتحقق لدينا إذا ما نحن اتجهنا لقراءته ونحن نبحث عن شيء آخر غير التاريخ نفسه. هكذا يعلن بول فاين معنى الفضول للمعرفة التاريخية والاهتمام بها كنوع من التذوق الذاتي والفضول الشخصي، ويميز بين تلك المعرفة ذات الامتياز في أعين المؤرخين، وبين التاريخ الشعبي المباشر الذي تحمله علامات ورموز المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، وبين هذا وذاك، فإن الاختيار يكون مؤسسا على قواعد قيمية "الإسناد إلى قيم" أو "العُزو إلى القيم" وفق التحديد الذي يضعه ماكس فيبر وهو يميز بين الوجود وسبب المعرفة، عند فهم سبب اختيار موضوعات دون غيرها : الحدث/الواقعة – القيمة، والوثيقة- القيمة، ذلك الاختيار الذي يجعل المؤرخ يسجل أسطرا أو صفحات بعدد معين لحدث دون آخر في نظام الحبكة، ويدفعه بشكل معياري في رؤيته للماضي، يعطي تثمينا واصطفاء لوقائع بعينها، وتفضيلا لخيار على حساب آخر وفق ما أنتجته مثلا الفلسفة الغربية ومذاهبها .
يخلص ب.فاين إلى أن التثمين القصدي بخلفية قيمية يرسم حدودا للتاريخ، بينما التاريخ قيمة في حد ذاته وضمن حدوده، واهتمام المؤرخ دافعه هو ما يثير الاهتمام التاريخي لا ما يثير اهتمام حضارته، والتساؤل عن مدى مشروعية تصديق كل ما حدث، وقيمته النموذجية يجعلنا ننظر إلى التاريخ بصفته عمل فضول محض أكثر من أن يعزى فقط إلى القيم.
إن التاريخ يبحث في الأحداث التي تتصف بكونها أحداث ذات فرادة ،وفيما يشكل خصوصية، سواء خصوصية أفراد كانت لهم أدوار تاريخية ،أو حضارات، مع قاعدة أن كل شيء من العالم المعيش/الإنساني فهو تاريخي ،مادام أن التاريخ يتعلق بالإنسان في انتمائه الجمعي لا بصفته الفردية المعزولة.
يتساءل بول فاين في هذا الباب هل التاريخ علم الوقائع الجماعية والمجتمعات البشرية أم هو علم الإنسان في المجتمع؟ أي مؤرخ يستطيع فصل ما هو فردي عما هو جماعي؟ ويشير إلى أن التاريخ لا يعدو كونه وصفا لما هو خصوصي، ومعيّنٌ بالتحديد، ومفهومٌ ،وداخل حبكة. إنه معرفة الخصوصي المعيّن سواء في الأحداث البشرية أو الطبيعية طالما شكلت حدثا اختلافيا وتثير اهتمام المؤرخ والمجتمع، وكل اختيار في الكتابة عن حدث دون غيره، عن حضارة دون غيرها، يعتمد على حجم التوثيق .
وتتأكد حيادية المؤرخ في اتجاهه لقول الحقيقة، والبحث عنها، وليس في الإعلان عن صدق النيات. مع ذلك، كيف يمكن لكتابة تاريخية التأكيد على حيادية موضوعها بما أن كل حدث هو تاريخي بنفس الدرجة لحدث آخر ،والتقطيع داخل الحقل الحدثي يظل حرية ذاتية للمؤرخ؟
يذهب بول فاين أبعد في بحثه عن ماهية الكتابة التاريخية، ونسبة "علمَويّتِها" حينما يقول أن "الزمن ليس أساسيا إلى التاريخ" بقدر أساسية فردانية الأحداث، فيما يشبه نوعا من الحق في إنكار الزمن في التاريخ، بالنسبة للمؤرخ الذي يكتفي بمفهوم الحبكة (سيرورة مدركة عقليا) ثم ينتقل للتمييز والمقارنة في ملحق حول التاريخ القيمي بين التاريخ المحض/الصّرف والتاريخ الأدبي والفني، وما ينشأ عن ذلك من تضارب بين الأمزجة التاريخية والأمزجة الأدبية .
ومع اعتباره نشاطا فكريا له فائدة ويتمظهر في أشكال أدبية، فالتاريخ، في نظر بول فاين، ليس معرفة كمثيلها من المعارف، ولا يمكن اعتباره فنّا للحياة، وذاك ما يجعل منه ميزة غريبة في مهنة المؤرخ .
فإذا كان الإنسان كائنا تاريخيا ففي الكتابة يصعب الفصل بين الموضوع والذات العارفة، ولا توجد صيغة حتمية في استعادة تلك المعرفة للماضي أمام محدودية ما يمكن للوعي التاريخي، عند تكوّنه، معرفته من ذلك الماضي، معرفة لا توجد قبليا كمعطى فوري، بل تنشأ قصديا في عمليات بناء فكري، وفي علاقة بمكتسَب معين، وفي خضم تلك المعرفة يعود الماضي ويصير حيّا وحاضرا: "لا وجود إلا لما هو محدّد" .وإذا ما بدت تماثلات ظاهرة بين أحداث الماضي والحاضر فأصلها ومبررها هو أنها تؤول إلى كونها أحداث إنسانية على المؤرخ أن يبحث فيها عن الصيرورة والتّغير .
لماذا يهتم الإنسان بماضيه؟ سؤال يستدعيه بول فاين عند تحليله لأهداف المعرفة التاريخية، والتي غالبا ما تقدم نفسها تحت عناوين تثمين الشعور القومي ونزعاته، أو تكون محكومة بتذوق نفسي وإن امتزج أحيانا بنوع من المتعة المريرة (مآسي التاريخ) تذوق قد يصير معه الانتشاء بأحداث الماضي مثل "سكَرات جماعية" . إن فعل التأريخ حدث ثقافي لا يستدعي بالضرورة موقفا من التاريخانية، وولادته تنشأ عن وعي المجموعات البشرية بذاتها ،وبإدراكها لمفهوم التغير والتصور حسب رؤية محددة للزمن (تكراري –دوري-تعاقبي..)وللنماذج النظرية التي تمتح منها قواعدها الفكرية ونظرتها لذاتها وللعالم. إن التاريخ بوصفه سردا متواصلا يصعب ضبط الأسباب المختلفة لولادته لدى الأمم والشعوب، ولا يمكننا التنبؤ بالمسارات التي ظهر في خضمها النوع التاريخي. فقد تكون الكتابة التاريخية انعكاسا لوضع المجموعة البشرية، وإسقاطا لمشروعها، أو انعكاسا لقيمها، ولما تفهمه، ويتجلى لها، على أنه ماض خاص بها.
إننا مضطرون، على الرغم مما قد يثيره معنى البعد الاجتماعي والايديولوجي في كتابة التاريخ، لاستخدامها من أجل الحقيقة، والإجابة عن الأسئلة التي تنظم موضوعاتها، تلك الأسئلة التي تنير البحث في الماضي، والتي تشكل في الآن نفسه روح العصر والحاضر، إذ لا يمكننا النظر إلى الماضي في استقلال تام عن هموم الحاضر، والأهواءُ(حماسة أو شكلا من الندم) التي يشعر بها مُشاهِد التاريخ بفعل "التطهير" الذي يطال الموضوع التاريخي وأحداثه، إنما ترتبط بتجربة معيشة على المستوى الفكري، وفي المثال عن ذلك يقول بول فاين" نستطيع رواية حرب البيلوبونيز بموضوعية تامة، ونكون في الوقت عينه وطنيين متحمسين، ولكن لا نستطيع روايتها على اعتبار أننا وطنيون، لسبب وجيه وهو أن لا علاقة للوطني بهذا السرد(...) وبما أن التاريخ يهتم بما كان، وليس بما ينبغي أن يكون، فهو يبقى غير مبالٍ تماما بمشكلة الأحكام القيمية الرهيبة والأبدية ".

 

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟