هامش تقديمي:
لن ننكب في هذا المنجز التحليلي على دراسة مقومات الشعر الخنسائي، تاركين هذا الغرض إلى ذوي الإحساس الجمالي المرهف، بقدر ما سنلتمس من التحليل النفسي - كفن التأويل – شفاعة تكليم المكبوت الأنثوي، في مساعي الكشف من داخل قطاع الحرفيات في اللاوعي الثقافي العربي، عن مركبات العقد النفسية في شخصية الخنساء شاعرة الجاهلية والإسلام، والتي نلحظ سواء في حياتها أو إبداعها جهدا كادحا لمحاربة رغبة التدمير الذاتي ومازوشية الطبع، مع أقل ما يمكن استجلاءه من تصريف للنزوات (الغرائز) الشبقية. مما ألحّ علينا استدراج النّتاج الشعري للخنساء إلى معاينته معاينة تحليلية نفسية كمرآة للوجدان، للجسد، للمتخيل، للاشعوري. ومن ناحية أخرى نروم الوقوف على منابع الهوام الذي وجد مكتنهه مرة أخرى في الكلام، سواء أكان هذا الكلام منطوقا أم مرموزا في فضاءات متمايزة من الجسد، مع محاولة الإجابة عن أسئلة محيّرة وغير مطروحة من قبل تحوم حول تلك الجوانب الظّلية في شخصية الخنساء.

 "إن الشعراء و الروائيين هم أعز حلفائنا وينبغي أن نقدر شهادتهم أحسن تقدير،لأنهم يعرفون أشياء بين السماء والأرض لم تتمكن بعد حكمتنا المدرسية من الحلم بها، فهم في معرفة النفس شيوخنا، نحن الناس العاديون، لأنهم يرّتوون من منابع لم يتمكن العلم بعد من بلوغها " .      
 سيغموند فرويد

نبتغي من خلال هذه المقالة المنجزة تبيان أوجه الرباط الوشيج الذي يجمع الشعر بالتحليل النفسي، فكلاهما يجيد قراءة رسائل الآخر، من مدخل اللغة طبعا يتيسر هذا اللقاء و التجاذب. بل لن نجد في الأمر أدنى غرابة، ما دام التحليل النفسي قد وهب نفسه منذ بزوغه لقراءة لغة الأعراض، من خلال عمله المضني على تشفير نظام الترميز الذي يتشكل أو يتبنين ضمنه الخطاب / الكلام، وجعل هذا الملفوظ قابلا للفهم، للتعقل، بعد أن كان منفلتا من دائرة المعنى والدلالة، ومحجورا عليه من قبل المكبوت، الملفوف هو الآخر في لسان اللاوعي المقفول والمغلوق. وعلى رأس هذه الخطابات / النصوص التي يعمد التحليل النفسي إلى تحطيم أقفالها والغوص في سراديبها يتواجد خطاب الشاعر، الذي يبقى كلاما ليس كأي كلام. أي ذلك الكلام الذي يأتي من دون أن يأخذ موعدا مع زائره. تماما مثل العرض symptôme، يطفو على السطح دون سابق إنذار، مع حرصه على التقنع والتضليل والالتفاف الماحي للأثر، للعلامة الهادية إلى تثبيت الدّال ضمن حقل المعنى.

في سياق الحديث عن التحديات الراهنة التي بات الإنسان المغربي يرزح تحت وطأتها وما تخلفه من تداعيات مباشرة غير مرغوب فيها، تعمل على خلخلة التوجهات العامة، وتمس في جوهر الاستراتيجيات المتبعة على مستوى السياسات العامة، لا بد أن ننطلق من موقف مفاده أن من يدعي أن الواقع المعيش مزدهر، وبأن الشعب يثني وينعم بالأمن والاستقرار في كنف بلد الاستثناءات، أدعوه معي إلى تجاوز المنظور الاقتصادي والاجتماعي الظاهر، ليكتشف ما هو خفي يعتلي نفسية الإنسان المقهور كما وصفه مصطفى حجازي. فالأكيد أنه ومن يشاركه هذا الادعاء لم يستطيعوا الغوص في وجدان الشعب المقهور لكي يتلمس بذور التمرد التي تنمو في أحشائه ببطء وبصمت، لكن بشكل أكيد وحتمي. وبذلك يكبر وتكبر معه أحاسيس وأساليب التمرد والانتقام من واقعه المتردي بدءا بما هو خفي ورمزي (كسل، تخريب، غش..). فرغم أنه يبدي مهادنة ورضوخا ظاهريا، إلى أنه يخفي ويكبت ربما بشكل لاواعي ملامح العداء ضد المتسلطين والمسؤولين بدءا بأقربهم له. إنه يحس بداخله أن خطابهم هو أبدا كذب ونفاق ووعود معسولة، وتضليل تحت شعار غايات نبيلة قوامها الإصلاح والنماء والمستقبل الأفضل... يعي تماما أنها هراء اعتاد عليه وتواطأ معه، وهو بدوره يخادع ويضلل نفسه عندما يدعي الولاء ويتظاهر بالتبعية. إنه بذلك يتمسك بشدة بالمظاهر التي تشكل سترا واقيا لبؤسه الداخلي.

في إشارة جد معبرة عن وضعية علم النفس وجدل التأسيس الذي رافق وجوده وتاريخه يقول عالم النفس الفرنسي موريس روكلان (سنة 1957)" لو أن علم النفس ظل ذلك الفرع من الفلسفة المخصص ل "النفس" لكان تاريخه يبتدئ مع أوائل آثار الفكر الإنسان  ي. غير أنه لما يمض بعد أكثر من  حوالي مائة سنة على استشفاف إمكانية وجود علم نفس علمي"([1]). وهذه الإمكانية صارت حقيقة بتأكيد مؤرخي علم النفس ، وذلك بالنظر إلى المحطات المؤسسة التي طبعت مسار العلم خلال هذه الفترة الزمنيةالوجيزة، ولاسيما من حيث دور العلماء الرواد الذين كان لهم الأثر الكبير في إرساء وجوده كعلم مستقل([2]). فهذه الوضعية إذن، رغم الحسم في محدداتها ووجهتها على المستوى التنظيمي قياسا إلى نسق العلوم أو على المستوى الإبستمولوجي والفكري ، فإنها لم تخلو من اعتراض على مشروعها من طرف الفلاسفة([3]). هذا بالنسبة للواقع الخاص بعلم النفس ككيان معرفي وكمجال له مكانته ضمن خريطة العلوم ولماله من دور في حياة الأفراد والمجتمعات ([4]) . وحينما يتعلق الأمر بمعاينة وضعه بالنسبة ل "عائلة" العلوم التي ينتسب إليها، أيضا كان هناك نوع  من المد والجزر الذي رافق علم النفس  طوال تاريخه إلى اليوم([5]) سواء من الداخل والمتمثل في الفصل بين المقاربة التجريبية والمقاربة الإكلينيكية([6])، أو من الخارج على مستوى ترتيب روابطه بالعلوم الأخرى نسبة إلى الوجهة الطبيعية Naturalisme أو الوجهة الإنسان  ية Humanisme ([7]).
بشكل عام، إذن، يتبين أن الحال الذي يعكس واقع علم النفس عرف مخاضا متعدد المظاهر  منذ أن قام كخطاب ومعرفة، وهو حال ساهمت في تأطيره وتطويره مجموعة عوامل فكرية واجتماعية وثقافية وتاريخية.

علم النفس ونسق العلوم
    بالاطلاع على مفهوم علم النفس الحديث الذي كانت انطلاقته الفعلية كعلم له كيانه الخاص ضمن منظومة العلوم والمعارف  خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نجد أنه علم عرف عدة تطورات بنيوية ووظيفية ليس فقط على مستوى المهام والموضوع أو على مستوى المنهج  وأشكال الإشغال، وإنما أيضا وأساسا على مستوى مفهوم علم النفس ذاته([8]). وهذه التطورات حصلت بحكم ما يميز علم النفس كعلم يدرس الإنسان   في خصوصيته وذاتيته من جهة، ومن جهة أخرى بفعل الغزارة والتكاثر الهائل للأبحاث التي أفرزها في فترة زمنية قياسية، مما تبين معها وحينها أن مجال هذا العلم يبقى واسع وذلك باتساع وتعدد الظواهر والقضايا ذات الطبيعة السيكولوجية والتي لم تكن فيما قبل موضع مساءلة أو فحص معرفيين. وبالتالي فإن علم النفس بالقياس إلى تاريخه والمطارحات اللإبستمولوجية التي رافقته لم يتوقف في حدود أسئلة الموضوع بالنسبة لما يستهدفه ولكن أيضا هو كموضوع في حد ذاته، أي علم النفس كعلم([9]). لذلك كانت مغامرة التأسيس والبناء العلمي لهذا المجال بالنسبة لعلماء النفس بمثابة مغامرة سيكولوجية تعكس تجربة خاصة ومغايرة إلى حد ما لتلك التجارب المعاشة في الاشتغال بالعلوم الأخرى كالفيزياء والبيولوجيا مثلا([10]).

anfasse11044 إن هذا المقــال المعنـون بـ » التأسيس المــادي الجدلي للتحليــل النفسي  لدى فيلهلم رايش «  سيضع على عاتقه توضيح الفهم الرايشي الماركسي بالأسـاس للتحليـل النفسي،  مسترشدين في ذلك بمؤلف رايش الرئيسي "المادية الجدلية و التحليل النفسي"، هذا الفهـم الذي لا نعتبـره محـاولة توفيقية بل محـاولة لفهم التحليل النفسي على ضوء قراءة علميـة/موضوعية وهذا ما سيتم توضيحه لاحقا، هاته القراءة التي صبت مجهودها على نقد العنـاصر المثالية من داخل التحليل النفسي، كما صبت مجهـودها على نقد الفهم المـادي المبتذل للتحليل النفسي و الناتج بالأساس عن الدوغمائية و الجمود الستاليني الذي لا صلة له بالماركسية.
    إن محاولة دراسة التحليل النفسي على ضوء المنهج المادي-الجدلي لم يقتصر على فيلهلم رايش بل على مفكرين ماركسيين آخرين كـ"هربرت ماركيوز، رايموت رايش، جورج بوليتزر..."، إلا أن تطرقنا لفيلهلم رايش دون غيره كان ناتجا عن تطرقه لمجموعة من النقاط التي لم يول لها المفكرون الماركسيون الآخرون القدر الكافي من المعالجة كـ"الجدل فيما هو نفسي" على سبيل المثال، قس على ذلك النتائج المعرفية المذهلة التي أفرزها رايش بمنهجه المادي الجدلي، وهذا لا يعني بتاتا نفي جدة و مجهود الباحثين الآخرين، و هو ما أكدنا عليه في الفصل السابق.
    كمـا سيتخذ هذا الفصل مجموعة من الإشكالات كمضيء منهجي في مقاربته، وهي إشكالات سبق و أن طرحها رايش نفسه في أعماله، و لكن الدور المعرفي الذي ستلعبه في هذا البحث مختلف نسبيا عن الدور الذي لعبته لدى رايش، بالتالي فإن الإشكالات ستكون من طينة هل هناك أية روابط ما بين النظرية الماركسية و النظرية الفرويدية و هل محـاولة رايش لإنشاء علم نفس ماركسي هو محـاولة توفيقية باءت بالفشل ما بين الماركسية و التحليل النفسي؟ 
مما يجعـلنا نقوم بتتويج هذين الإشكـالين بإشكـال مركزي هو هل الماركسية تتنافى و التحليل النفسي؟
    إنه لمن المعلوم بالطبع بأن العلم مـادي/موضوعي بالضرورة، و أي نتـائج يقدمها لنا هي نتـائج تجذ جذورها في الواقع و مستقلة عنا تمام الاستقلال، ليس بمعنى أنها لا تؤثر فينا و لكن بمعنى أن لها وجود موضوعي. لذا فإن نقطة انطلاق فيلهلم رايش ستكون مع الدفاع عن الأرضية المـادية التي قام عليها التحليل النفسي بغية الكشف عن بعض المقاربات المثالية التي تريد تقديم فهم مغلوط له، قس على ذلك الفهم المادي المبتذل ذو النزعة الميكانيكية للتحليـل النفسي.

anfasse04044يميز إمبرطو ايكو في "تمكن بارط"، بين صنفين من المعلمين، دون تقصد صياغة مراتبية Hiérarchie اختزالية. فثمة صنف يبتدع النماذج النظرية أو التجريبية لتشغيلها بالاسترشاد بقواعد الملاءمة Pertinence، وإخضاع الجهاز النظري لاختبار قابلية التطبيق Applicabilité ولقابلية الكمال Perfectibilité. ويقدم كغرار لهذا الصنف: شومسكي وغريماص. أما بالنسبة للصنف الآخر، فإنه "يعمل ليعطي حياته ونشاطه كنموذج"(1)، بدون أي هوس بتقنين النظرية وتنميط المقاربة؛ مما يضع المتأمل في مسار هذا الصنف، في موقف هرطوقي Hérétique بالضرورة(2).
وينتمي بارط بالتأكيد إلى هذا الصنف، لأنه حسب إيكو، شدد على نجاعة الممارسة الكتابية كمدخل خصب لولوج المعرفة، بعيدا عن كل رسم تخطيطي مجرد Diagramme abstrait، وعن إقصاء النبوغ الشخصي ونبذ المنحى الاقتدائي. وبمعنى آخر، إنه يحتفل بالذاتية ولا يغيبها لصالح غيرية تسمى موضوعية! الشيء الذي تولد عنه مروره على نحو كلبي cynique أمام واجهات المذهبيات والمرجعيات النظرية والترسانات المعرفية. والواقع أن زئبقية بارط ولغزيته ومعاندته للتصنيف على حد تعبير اديث كيروزيل ترجع إلى ذلك المسلك الوجودي والأنطلوجي بالذات. وليس من المستبعد أن يفسر هذا المسلك تأويل تودوروف للمتن البارطي كمتن يتاخم الرومانسية ويتماس معها نقدا ونظرية.
بارط إذن، رحال Nomade على شاكلة دولوز، إنه لا يرضخ لأي وطن معرفي، ولا لاقتضاءات نسقية تطابقية أيقونية. وهذا ما وقف عنده جون أبديك John Updike حين قال: "انتقل [بارط] من الوجودية والماركسية إلى "التحليل النفسي للماهيات"، وإلى النظريات اللسانية لفرديناند دوسوسير، ومؤخرا التحق بالأناسة "الجديدة" لكلود ليفي ستروس"(4). إلا أن بارط لم يكتف بهذه التحولات فقط، بل زحزح ممارسته الكتابية إلى مواقع إبداعية متجذرة في قيعان الاختلاف، وفي العمقين الكتابيين لنيتشه وباطاي تحديدا؛ حيث تتشظى الذات ويتقوض منطق الهوية لتستأثر الجينالوجيا بالحفر والتأويل، والاستعارة بالكتابة وعملية إيجاد المعاني (بصيغة الجمع لا المفرد) وتسميتها بفعل القراءة"(5).

Anfasse20022يرى فرويد أن اللذة الجنسية لا ترتبط بالبلوغ فقط، بل هي سابقة عليه. ترتبط بمرحلة الطفولة وكل اختزال للجنس في الممارسة الجنسية الميكانيكية أمر خاطئ ولا يتجاوز المعنى الدارج للجنس كما هو الأمر مع العامة وجهلة القوم. إن الجنسية توجد عند الطفل منذ ولادته، والمصدر الرئيسي للذة الجنسية عند الطفل كما يرى فرويد "هو تنبيه بعض أجزاء الجسم البالغة الحساسية، خلا الأعضاء التناسلية، ومنها: الفم، الشرج، الاحليل، وكذلك البشرة ومساحات أخرى, وهذا الطور الأول من الحياة الجنسية الطفلية، الذي يتلذذ فيه الفرد بواسطة جسمه بالذات ولا يكون بحاجة إلى أي وسيط، نسميه، بموجب المصطلح الذي نحثه هافلوك إليس Ellis، طور الإيروسية الذاتية autoérotisme. أما تلك الأجزاء من الجسم المهيئة لتوفير اللذة الجنسية فنسميها بالمناطق الشهوية Zones Érogènes. ولنا في المص عند الأطفال الصغار مثال جيد على الإشباع الإيروسي الذاتي الذي تؤمنه منطقة شهوية ما"1. هذه الغرائز الجنسية الطفلية تنقسم حسب فرويد "إلى مجموعتين اثنتين واحدتهما معاكسة للأخرى، والأولى ايجابية والثانية سلبية، وفي طليعتها الغرائز التالية: لذة الإيلام (السادية) ونقيضها السلبي (المازوخية وقد تترجم بالمازوشية)".2

anfasse05027إذا تحدثنا عن الدولة المغربية، فإن هناك فئة اجتماعية لربما لا تعتبر نفسها مغربية بقدر ما هي فرنسية أو كتوضيح أدق، فرنسيون بنكهة مغربية. طبعا سنفهم أكثر إذا عدنا لهيغل واستدعينا معه فوكوياما حينما يقوم هذا الأخير بناءً على مشروع الأول بتعريف التاريخ الإنساني انطلاقا من سعي الناس لفرض الاحترام الذاتي، من ضمن ذلك يرى فوكوياما أن من شروط هذا الاحترام عند البعض هو "اللامساواة"، حتى يظلوا أفضل من غيرهم. هنا تحقق اللغة الفرنسية للفئة ـ التي نطوقها بالحديث هنا ـ ذلك عن طريق جعلهم شبيهين بالفرنسيين، طالما أن هناك بأعماق العقل المغربي، صدمة كامنة عن تفوق الفرنسي ـ والثقافة الفرنسية إجمالا ـ منذ ما قبل الاستقلال، ومحاولة التأقلم الصدموي (المرضي) مع ذلك بمرحلة ما بعد الاستعمار.

لا أود الخوض في الحديث الممل، عن الأفق الذي يفتحه إتقان اللغة الفرنسية بالمغرب ـ خاصة بالنسبة لفئة الشباب ـ والعنصرية المموَّهة تجاه من لا يجيدون التحدث بالفرنسية ببعض المؤسسات والمراكز بالدولة، إضافة للاحترام الروحاني لكل ما يمت لثقافة جون جاك الروسو السوداوي بصلة !