" الكتابةُ انْفتاحُ جُرْحٍ ما " (فرانز كافكا)
مفتتح ..
 "كيف يُعقل أن يكون البلد الذي ينتج أكبر عدد من العلماء والباحثين والحاصلين على جوائز نوبل والمستقطب لأذكياء العالم، هو نفسه الذي ينتج أكبر عدد من المشردين" (نقطة الانحدار ـ ص 51)

جُرحٌ غائرٌ فينا انفتح، نداريه، نستر عيوبه وأخطاره بمساحيق مختلفة الألوان والأشكال والأسماء، جُرحٌ انفتح على مرأى ومسمع من عالمٍ يغضّ الطرف عنه، يتناساه، يحجِبُه بغربال اللامبالاة وعدم الانتباه والاكثرات، جُرحٌ يتقاسمه العالم، مُتقدِّماً كان، أو في مرتبةٍ ثالثة أو أقل، إلا أن الرواية "نقطة الانحدار"(1)، فتحت الجُرح وتلمَّست أسبابه ودوافعه في بلاد الأحلام الوردية والمال والقوة، وأعملتْ فيه مؤلّفتها، الشاعرة والكاتبة فاتحة مرشيد، مِبضع جرّاحٍ عليم بدواخل النفس البشرية وأسرارها وتقلباتها بين الضعف والقوة والكرامة والهوان وهي تعري حقيقتها، " أمريكا لا تقبل المهزومين.. وحدهم الفائزون لهم مكان في هذه القارة. والقروض لا ترحم إنها تلقيك بضربة على مؤخّرتك خارج بيتك أو ما كان بيتك.." (ص 33).

"نقطة الانحدار"، عنوانٌ لرواية أنيقة توصّلتُ بها شاكرا هذه الالتفاتة الطيبة من الأديبة والشاعرة والطبيبة الأستاذة فاتحة مرشيد بتوقيع لطيف..

ماريا ماتيوس كاتبة أوكرانية معاصرة حائزة أرفع الجوائز الأدبية في بلادها، وعلى العديد من الجوائز الدولية. وهي معروفة على نطاق واسع بأسلوبها الأصيل المتفرد، وتقيم حاليا في العاصمة كييف.
ولدت ماريا ماتيوس في 19 ديسمبر/كانون الأول 1959 في إحدى قرى منطقة بوكوفينا، التي تعرضت للغزو والاحتلال من قبل غزاة كثر، تعاقبوا على اضطهاد وإذلال سكانها على مدى عدة قرون، وتقع عبر المنحدرات الفاتنة لجبال كاربات الشرقية – وهي منطقة جميلة متجذرة بعمق في التقاليد والدين والفولكلور، وتشكل حاليا جزءاً من أوكرانيا المستقلة.
تعد رواية « داروسيا الحلوة « التي صدرت في مدينة لفوف عام 2004 واحدة من أفضل الروايات في الأدب الأوكراني الحديث، منذ استقلال أوكرانيا في عام 1991 إثر تفكك الامبراطورية السوفييتية، وتدور أحداثها في قريتين في منطقة بوكوفينا بالقرب من الحدود مع رومانيا، في الفترة الممتدة من الثلاثينيات إلى السبعينيات من القرن العشرين. وتتناول الرواية أحداثاً مروعة، لكنها مكتوبة بلغة شعرية جميلة، ومفعمة بعواطف إنسانية جياشة وقوية، خاصة في الأوقات العصيبة. نص بديع وعميق على عدة مستويات: الفرد، والأسرة والمجتمع والوطن. هذه ملحمة عائلية حقيقية بحبكة مبتكرة وتعرض العديد من القصص، التي تتقاطع وتحكي من خلال الشخصيات والأحداث.

بات من الواضح جدا أن الفلسفة عين العقل على الكون والوجود . وفي هذا ذهب أفلاطون إلى إبعاد الشعراء ، ونفيهم في النسيان والتيه ، فتجاوز بذلك أزمة حادة كادت أن تعصف بمدينته الفاضلة . أ يمكن اعتبار هذا الكائن ، ذي الوجود المتعدد ، يتراوح بين الوجود ونفي الوجود ؟ هل المتخيل يناقض العقل أم يكمل دورته الوجودية ؟ بعبارة أخرى هل الوجود الاعتباري للإنسان قادر على أن يتجاوز الحلم والصورة والأسطورة وكل الرموز والإشارات ؟ هل بالعقل وحده يعيش الإنسان ؟
إن إبعاد المتخيل الرمزي ، الذي شوش على الفكر والعقل معا ، كما يقول ديكارت ، خلق من إبداع الصور والرموز والإشارات عالما من الغموض والإبهام ؛ ليظل الهوس قائما على مستوى استكمال الإنسان إنسانيته و آدميته . في هذا المنحى ، الشائك ، تنطلق المخيلة المجنحة إلى عوالم الحس والصور والتخييل ، حيث انفلتت ـ أي المخيلة ـ من عقال العقل ؛ لتجد نفسها تتمرغ في التصوير البلاغي . بالموازاة مع ذلك ، ومنذ الخليقة الأولى ، تحتل الصورة المتخيل الإنساني ، فهي تسير في تواز مع العقل والفكر ، فعندما أراد إبليس أن يغوي آدم ، ويطرده الله من الجنة ، صوره على شكل ملك ، وبه اتسعت دائرة الرؤية والتخييل والحلم .

1-شعراء العراق
من الثابت أن الثورة الجزائرية الكبرى (1954/1962) من أكبر وأشرس الثورات التحررية في القرن العشرين ،شغلت كل الأحرار في العالم وساندها ودعمها بالمال والسلاح والتظاهر والموقف السياسي وبالكتابة والسينما والرسم كثير جدا من أعلام القرن وكثير جدا من الشعوب المحبة للحرية الرافضة للاستغلال والهيمنة، وهي بالفعل معركة الإنسان من أجل الحرية والكرامة تحت سماء الوطن وشمسه . وليس بخاف على أحد جرائم الاستعمار وتجاوزاته الكبيرة في حق الإنسان الذي وصمه بكل نقيصة ولفق لخداع العالم رسالة التمدين والتحضير لشعوب العالم الثالث البربرية والهمجية فهي رسالة الأبيض نحو الآخر المختلف لونا وعرقا وانطلت تلك الخدعة على بعض المثقفين فبرروا الاستعمار وزكوه حتى أن فكنور هوجو لما سأل جنرالا فرنسيا عما يحدث في الجزائر رد الجنرال بأن الجيش الفرنسي يسعى لنشر رسالة الحضارة وصدق هوجو الفرية.

ودعنا علما من أعلام الثقافة العربية الخُلَّص الراحل محمد مفتاح، الذي آثر- رغم مكانته العلمية الرصينة وذيوع صيته- العزلة والابتعاد عن الأضواء. فعلاوة على ما تمتع به من حميد الصفات، ومجيد الشيم، وصادق الخلال، وجزيل العطاء، وعظيم الخجل اتسم مساره بواسع الثقافة، ورائع المؤلفات، وفصاحة اللسان، ودقة النظر، وبعد البصر. يصعب أن أستعرض- في صفحات معدودات- صحائفه البيض والناصعة لما خلفه من منجزات ثرَّة وعميقة ووفيرة، كان لها الأثر البليغ على أفواج من الطلبة، والباحثين، والمثقفين العرب بحفزهم على الخوض في الظواهر الأدبية بمناهج ومعارف جديدة (اللسانيات، والسيميائيات، وتحليل الخطاب، والتداولية، والنظرية الكارثية، والذكاء الاصطناعي، والمقاربة النَّسقية الشمولية) سعيا إلى استيعاب محتوياتها وقضاياها، واستكشاف مناطقها الداجية واستقصائها، والتغلغل في تضاريسها العسيرة.

شكل محمد مفتاح- بفضل جليل جهده في التحصيل والتدريس والتأليف- ظاهرة ثقافية إن لم نقل مدرسة أدبية متميزة في الحقل الثقافي العربي بالنظر إلى ما يلي:
أ‌ - إنه مثال المثقف العصامي الذي طور مؤهلاته المعرفية واللغوية بافتراش المَدَر، ورد الضجر، وملازمة الكتاب في البيت والسفر. لم يستوعبه التدريس في التعليم الثانوي، ولم يثنه عن تحدي الصعاب والعوائق لتحقيق جملة من طموحاته إلى أن أصبح أستاذا في جامعة محمد الخامس العريقة اعتبارا من العام 1971. أسهم - منذ التحاقه بكيلة الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط- في تجديد الدرسين البلاغي والنقدي، وتكوين جيل من الطلبة الباحثين وتأطيرهم والإشراف على أطاريحهم، وتنظيم ندوات ولقاءات علمية، وإصدار كتب ومؤلفات ذات الصبغة الشخصية أو الجماعية.

في إطار متابعتنا لجديد الرواية العربية نسافر، بالقارئ إلى المغرب الأقصى حيث صدور الطبعة الأولى لرواية "عائد إلى بيّاضة"؛ باكورة الروائي المغربي محمد خزار الممتدة على مسافة ورقية تناهز 256 صفحة وفق:
- تصورٍ يقوم على التقابل بين الحاضر/ الماضي، هنا المغرب/ هناك فرنسا، الاستعمار البرتغالي لأسفي/ الاستعمار الفرنسي... فتحضر المقارنة بين الأمكنة، بين المآثر، بين الفنانين بين الشخصيات... ويصرح السارد باعتماد المقارنة أسلوبا في بناء متن الرواية يقول مثلا: (قارنت كثيرا بين أسماء عبدت الطريق وفسحتها للبرتغال ليتغلغل في آسفي وأزمور... وأسماء شبيهة لها أدت بإتقان نفس الدور مع المحتل الفرنسي، ولو أن مسافة قرون تفصل بين الاحتلالين)[1] وأمثلة التقابل في الرواية كثيرة ومتنوعة....
- ومبنى سرديٍّ يقوم على تعدد الرواة، كل راوٍ، ينطلق من وصف واقعه وقضايا مجتمعه، ليرتد السرد القهقرى باعتماد الإرجاعيات، ويمتح من التاريخ ويقدم مبنى حكائياً دائريا، يلخص حياة السارد الرئيسي أحمد بوناجي الذي يتنازل في بعض الومضات لرواة آخرين، يضيئون بعض العتمات السردية في تاريخ مدينة آسفي خلال مرحلتي الاستعمار والاستقلال وما بعدهما... وقد يغوص راوٍ في التاريخ العميق للمدينة مستشهدا بأحداث غابرة... هكذا كان بناء الرواية بتدفق سردي ينطلق من مكان محدد (حي بياضة بآسفي) ويمتد جغرافيا إلى فرنسا، ويغوص زمانيا في التاريخ، متجاوزا نمطية السرد الخطي التصاعدي، ويعود السرد في النهاية لنقطة البداية وتكتمل بذلك الدائرة ويكون المبنى الحكائي للرواية دائريا...

     حاولت الرواية العربية أن تجسد الرغبة في دراسة مفهوم الآخر المختلف الذي بدا في هيئة (المستعمر)- مثلما تبدا في هيئة الصديق والزوج والخادم، ولعل من إنجازات الرواية العربية توسيع مفهوم الآخر - فلم يعد مقتصرا على (الغربي)؛ مما جعلها تصوّب النظر نحو "الآخر" الذي تعاشره الأنا العربية، خاصة (الإفريقي والآسيوي...) الذي يشكل جزءا أساسيا من نسيجها الاجتماعي ومؤثرا في حياتها اليومية.

وفي سياق دراسة  هذه الإشكالية التي أغنت الإبداع الروائي، ورسمت أمامه إمكانات جديدة للتعبير، لابد أن نشير إلى أن النقد الروائي بدوره قد واكب هذا الانفتاح، ومهد الطريق أمام مجموعة من النماذج الروائية الجديدة كي تقول كلمتها في موضوع الآخر "المختلف" وإغناء المكتبة العربية، ما جعل الفن الروائي؛ يستطيع عبر إمكاناته السردية والجمالية أن يفضح أوهام الذات وانحرافاتها الفكرية والشعرية، خصوصا حين تسجن الآخرين في انتماءات ضيقة - مذهبية، عرقية...- كما يستطيع -الفن الروائي- الذوبان في أعماق الروح الإنسانية ليبرز قدرتها على تجاوز هذه الانتماءات، والدخول إلى عوالم رحبة تحرر الإنسان من إكراهات تربّى عليها، عندئذ يمكن للمتلقي أن يعايش مكونات أصيلة تجمع وتوحّد بين البشر، فيتحول الاختلاف إلى رحمة فيؤسس لثقافة ينفتح فيها الانسان على أخيه الإنسان ويحترم ما يميزه.

لم تثر رواية مغاربية من الجدل والتحفظ بشأنها والاعتراض ما أثارته رواية (الماضي البسيط) للروائي المغربي الفرانكفوني إدريس الشرايبي (1926/2007) بل وكتب بعض النقاد الغربيين عن الشرايبي المهمش وروايته التي لا تلقى ترحيبا في المغرب والعالم العربي ولا ترجمة واحتفاء من قبل الكتاب والنقاد العرب شأن كتاب آخرين يكتبون بالفرنسية كالطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي مثلا.
فما سبب هذا الاعتراض والضيق إلى حد عدم المبالاة المستمرة إلى اليوم؟
الشرايبي المولود بمدينة الجديدة (مازاغان سابقا )عام 1926 لأب من البورجوازية الصغيرة حيث مكنه وضعه الاجتماعي المترف إلى حد ما من متابعة دراسته الثانوية ونيل البكالوريا ثم السفر إلى فرنسا للدراسة عام 1947 والاستقرار بها حتى وفاته عام 2007.
كتب الشرايبي روايته الإشكالية "الماضي البسيط" عام 1954 في وقت نفت فيه سلطات الحماية الملك محمد الخامس واشتد النضال المغربي مطالبا بالاستقلال وكأن الرواية جاءت في توقيت غير مناسب، فقد نظر إليها على أنها سيرة ذاتية وهاجمها المثقفون والنقاد وعامة من قرأها واتهم كاتبها بالعمالة والخيانة الوطنية والإساءة إلى الوطن ومقدساته وتمجيد المستعمر مما حدا بالكاتب إلى أن يكتب رسالة اعتذار نشرها في الصحافة يعتذر عن سوء الفهم ويعلن عن ولائه للوطن .
فهل كان توقيت نشر الرواية هو وحده الذي أساء إليها وحرمها من الذيوع والترجمة والاحتفاء وكان سببا في مهاجمة كاتبها ومنع نشرها وترجمتها وحصارها الذي لا يزال مستمرا إلى اليوم؟بغض النظر عن الرؤية الفنية والحمولة الأيديولوجية وتقنيات الكتابة الروائية المستخدمة في هذا العمل؟