النص الحربـائـي :قراءة موازية ل«قصة حب دكالية» لسعيد عاهد- د. ناصر السوسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

NASSER  الكتابة بالنسبة لسعيد عاهد ضرورة وجودية بمعنيين: فهي ضرورة لتوليد المعنى من جهة، وضرورة لنزع طابع الغرابة عن عالم مدهش يبدو مثل«خشبة مسرح في حاجة إلى توضيب جديد»(ص:3) من جهة ثانية. وبحسبان الكتابة بهاتين الأهميتين القصويتين؛ فإنها بالنتيجة استراتيجية للاحتماء من ضوضاء العالم وجلبته، وكذا من الدناءات الحقيرة التي تتربص بنا، وتتحين فرصة الدبيب إلينا متقصدة تعكير صفو إنسانيتنا؛ أو مبتغية الاعتداء على آدميتنا. وكيف لا وسعيد عاهد شاعر مرهف الإحساس، مسكون بالفن والإبداع حتى النخاع؛ لئلا تقتله رداءة الرعاع؟
 ما أكثر من يتحدث بين ظهرانينا عن الحاضرة التي يقطنها! لكن بالمقابل ما أقل من يتساءل عن المدينة التي تقيم فيه ب «صباحاتها» وفضاءاتها اللامتناهية، وأساطيرها الضاربة في عمق التاريخ، بهندستها، ودروبها وأزقتها، وقاطنيها، وبآثارها، ورياح شطآنها القادمة من الأفق القصي... بكل ما فيها، وبكل ما ينبض فيها...مازاغان«المعدن ذاك وهب طفولتنا القدرة على السباحة بكل اللغات في كل اللغات»(ص:6).


هكذا هي مازاغان، إنها المبتدأ والمنتهى. بين أحضانها انتمى «القونصو» إلى تيار الحياة، وجرفه مجرى التاريخ الذي شكله شاعرا ثم كاتبا فمناضلا اندغم مع حركية مجتمعه. وفي «لاماركيز»بالذات أدركه شغف الكتابة و«جنونها»اللايقاوم؛ وغلبه الولع اللامحدود بالكلمة وسبكها، واندغم أيضا مع حبك العبارة وشذبها.
وليس ثمة شك في أن جمالية كتابية كهاته هي ما وسم/ يسم الممارسة الأدبية لمبدع هـو سعيد عاهد.
وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا إن «قصة حب دكالية»نص أكثر تقلبا من جلد الحرباء لتعدديته، ولتورياته الملمزة. فالعمل إلى جانب كونه عصيا على التصنيف، فإنه لا يقدم نفسه إلا ليتقنع ويتخفى، ولا يتجلى إلا ليتستر ويتوارى كلمات تندس تحت الكلمات، ممتنع كالدمى الروسية مزيج من النسيان ثم استعادة مدهشة وأخاذة لطبقات الذاكرة.
تتميز «قصة حب دكالية» كذلك بانتظام خاص ومورفولوجية متميزة. نص كثيف بكل المعاني. عابر للغات. تواق إلى الانتقام من لعنة اللغة الواحدة التي «(حجبت) عنا فساحة مجرات اللغات الاخرى»(ص:75) فضيعت على الكاتب، بمعية رفيقه محمد أمسكان، فرصة رائعة لن تعوض، هي «لقاء باريس» مع البروفيسور كليفورد كورتز صاحب مشروع تأويل الثقافات (...)[1].
كما يستمد النص كثافته وقوته من صهيل القريض الشعري، وصوت اللوغوس الصارم، ومن استلهام بعض آليات التحليل النفسي(دولطو)، ومن تشغيل تقنية الملاحظة ذات الأهداف المحددة التي يجيدها محترف السوسيولوجيا (شايلاه أمولاي عبد الله ص:59-64)؛ إلى جانب استثمار وتوظيف وقائع تاريخية موغلة في القدم بغاية تسليط الأضواء على جوانب بعينها من تاريخ منطقة دكالة كتشكل بعض الأنماط السلوكية والغذائية هنالك، أو التطرق لأحداث طرية ما انفكت تداعياتها المختلفة تثقل كاهلنا ووجداننا، كشعب وكجتمع، بقلق السؤال؛ وهي الأحداث التي ترتبط عضويا باستقلال1956، وسطوة المشروع المخزني، وجحيم استتباب الاحتواء القسري برعب الجلاد وساديته الللامحدودة عندما ينتصب سؤال التفتيش أمام صاحب المشروع المضاد(ص:32 وما بعدها).
«قصة حب دكالية» هي أيضا كتابة إثنولوجية تجتهد في التقاط تضاريس مجتمع عبر إعمال النظر؛ ثم من خلال الاستعانة في الوقت ذاته بما يسميه صاحب النص«اللغة الأصل» التي تسهم ، فيما نحسب، في ضمان توازن مجتمع انقسامي segmentaire يطبعه الاصطراع المستدام، والتشظي المسترسل، وتحكمه لعبتا الانصهار والانشطار بين مختلف القسمات والأنصافles moitiés واللفوف(حرب دكالة-عبدة،ص:65- 72)
«اللغة الأصل» التي تتمظهر في المرويات، والحجايات، والوشم الذي يخلد  بالدم ثقافة الإخضاع  والانصياع، كما الذكرى على الجسم الأنثوي،أو ثقافة الرفض، والمواجهة، والممانعة ضد«الخونة ولاد الكروني» الشعار الذي حفر به الروكي بوحمارة أيدي عساكره في المغرب المختفي« Morocco that was »[2]بالإضافة إلى الأمثال،والمأثورات، والإنشادات المتلفعة بطاقات ليبيدية تبطن اللاشعور الجمعي بحيث تروم في جزء كبير منها ممارسة المقاومة بالحيلة داخل مجتمع مخثر بالعقلية القضيبية.
ومن المحتمل أن يكون هذا من بين السببيات الدفينة التي تفسح المجال لبروز دوافع، ومسلكيات تسلطية بهذا القدر أو ذاك، أو استحواذية وصراعية بأشكال وصنوف شتى.
بيد أن مجتمعنا تقليديا كهذا طفق يعرف تغيرات على أكثر من صعيد.  لقد تغير كل شيئ في عالم أمسى متحولا، وئدت الذاكرة، ومسخت الشخصية مسخا جراء القحط الثقافي، وتهالك الفكر أمام«أصفار الحسابات البنكية» إحدى عوامل انتهازية ذوي القربى الإيديولوجية على شاكلة «أوريانا فالا تشي»؛ وخربت الأمكنة، حتى«لاماركيز» التي كانت «رحم القرارات الحاسمة»(ص:55)والكتابة الإبداعية ذات زمان صارت«خشبة، أحيانا، لقتل الوقت وإنتاج الفراغ»(ص:55). كما اختفت الطفولة الجميلة، وتراجعت بعض قيم التعايش لتفسح المجال لثقافة سوداوية، كئيبة مشبعة بقيم الأزمة، والموت، والإحباط، ثقافة رافضة للذات، منكرة لمتعة الحياة، ولنداء الوجود، فأي رعب أكثر من هذا؟ لهذا كتب سعيد عاهد قائلا:«تعايش اللغات وتعددها هذا لا يوازيه إلا تعدد الديانات والثقافات في حاضرة مازاغان. داخل القلعة البرتغالية، وفي ساحة لاتتجاوز مساحتها أمتارا معدودة، يوجد جنبا إلى جنب مسجد وكنيسة ومعبد يهودي»(ص:6)، ولهذا قال أيضا «لم يرم الحجر يوما»(ص:13) ترى هل تغير كل شئ من حولنا أم «ربما نحن من تغير!»؟؟(ص:73) ربما هكذا تساءل سعيد عاهد، ولربما هكذا تكلم.
مجمل القول إن «قصة حب دكالية» تبقى نصا إبداعيا متعددا كما مر معنا؛ وهو ما يحمله لأن يكون محتملا لأكثر من مقاربة منهجية قد ترغمه على المزيد من الانكشاف بالمعنى الهايدغري؛ ولأكثر من قراءة بقصد الاستثارة والحفر في طبقاته الدلالية لإخراج مكنوناته إلى واضحة النهار.

 



[1] - Geertz(Clifford) :1993,the interpretations of cultures, Fontana Press, London.470 Pages.
[2] - Harris(Walter.B) : 1921, Morocco that was, london.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟