ظاهرة الحنين في شعر ابن خاتمة الأندلسي - د. عبدالرحيم الخلادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstract-cubeمقدمة:
كان الإنسان الأندلسي شديد التعلق بوطنه، مدافعا عنه ومتعصبا له، لما حققه له من أسباب السعادة ورغد العيش، جعلته يتمثله جنة الخلد كما ورد على لسان ابن خفاجة. فقد عاش الأندلسي في بيئة طبيعية جميلة ورائعة، بكثرة أنهارها وأشجارها ووفرة ثمارها؛ وحقق انتعاشا اقتصاديا انطلاقا من القرن الثالث الهجري، وقدرا غير ضئيل من الاستقرار السياسي خلال القرنين الثالث والرابع... لتظل الأندلس في نظر أهلها جنة لا شبيه لها، إذا فارقها أهلها أحسوا بالاغتراب وشدة الحنين إليها لأنهم يفارقون أجمل ما في الدنيا من رياض وظباء ومجالس غناء وأنس وشراب...
تجليات الظاهرة:
بمرور القرون، بدأ الأندلسي يتأكد أن جنته هذه ما هي إلا واحدة من جنان الدنيا الفانية، وهو يراها تتقلص يوما بعد يوم، وبالأخص في مرحلة ما بعد هزيمة العقاب سنة 609هـ... فعاوده حنين مزدوج قوي: حنين إلى أيام اللذة والمتعة في جنان جزيرته المقدسة، وحنين إلى الحجاز، منطلقه ومنطلق الرسالة التي أوصلته إلى هذه البلاد القصية، "فكأننا نتصور الأندلس في مراحلها الأولى، وقد استغرقها زمن اللهو والطرب والحضارة الباذخة، ثم جاء زمن الندم والتوسل والحنين إلى الديار المقدسة، كأن تلك المراحل الأولى كانت شبابا وهذه الأخيرة شيبا" (1).
لقد برز الحنين كتيمة من أقوى تيمات الشعر الأندلسي التي تستحق التوقف، أما اختيارنا لابن خاتمة فهو محاولة لتتبع الظاهرة خلال القرن الثامن الهجري، على بعد قرن من نهاية الأندلس، حيث تقلصت رقعة الدولة في حدود ما عرف باسم مملكة غرناطة، التي واجهت الأعداء من جهات شتى، وكثرت فيها القلاقل السياسية... لكنها عرفت ازدهارا ثقافيا واسعا، إذ يكفينا أن نذكر أن هذا القرن هو عصر ابن الخطيب وابن خلدون وابن جزي وغيرهم كثير. أما الشاعر ابن خاتمة الأنصاري، فقد كان مقربا من البلاط الغرناطي، لكنه –حسب الباحثة الإسبانية خيبرت صوليداد- لم يأخذ بأدنى حظ من السياسة في تلك الأيام(2)، وقد عاش بين سنتي 770 و770هـ، وعرف في المصادر التاريخية والأدبية بأنه شاعر وناثر ومؤرخ ورياضي وطبيب وكاتب ومقرئ؛ خلف العديد من المؤلفات النثرية إضافة إلى ديوان شعري ضم أربعة أقسام (المدح الإلهي والثناء- النسيب والغزل- الملح والفكاهات- الوصايا والحكم).

إن المتأمل في أشعار ابن خاتمة –ودون الحديث عن خصائصها الفنية- يجدها انعكاسا لنفسية مضطربة غير مستقرة على حال، ولأفكار متضاربة وأحيانا متناقضة، فهي انعكاس لصراع داخلي عميق بين مطالب مادية تلحها عليه نفسه وهواه وحاجته إلى الملذات، ومطالب روحية تفرضها عليه عقيدته، في وقت يحس فيه باقتراب النهاية، نهاية الملذات، بل نهاية الوجود بتلك الأرض-الجنة. ولربما هي حاجات روحية فقط صورها في أشكال متعددة، ملبسا إياها أثوابا من المطالب المادية من غزل ولهو وشرب، متغربا في لغته وصوره متقمصا التجربة الصوفية.
يتسم غزل ابن خاتمة بغموض كبير نظرا لوجود ثنائية هامة، هي حنينه إلى الأرض المقدسة وحنينه إلى المرأة... وهذا التفرد في الحالة عبر عنه بنفسه مستعيرا تجربة الهوى العذري:
خليلي والعشاق في الحب أضرب    ولكـنني في لوعتي علم فـرد
نشـدتكما الله اصدقاني هل لمـا    بدا لكما من حالتي في الهوى ند(3)
إذ يؤكد خصوصية تجربته وحالته التي وصل فيها إلى حد عدم القدرة على التمييز بين حب المرأة وحب الديار المقدسة، ثم نجده ينفي أن يكون ضاربا في الهوى بنصيب:
أعاذلتي إن كان لومي على الهوى    فليـس لقلبي فيه أخذ ولا رد(4)
من هنا تطرح عدة تساؤلات حول غزله، هل هو مجرد رموز تتجاوز الشوق إلى المرأة إلى ما هو أبعد، إلى نجد وأرض الجزيرة العربية، أم هو حنين إلى شيئين في نفس الآن؟
بالعودة إلى معني الحنين التي نقلها في أشعاره، يخيل إلينا أنه اختزل مشاغله وأهدافه في هذه الحياة في هدف واحد، هو العودة إلى النبع، للتكفير عن الخطايا والمعاصي، سيرا على نهج "النجديات" كنوع من أنواع الشعر الديني، فهو يتمنى لو يزور نجدا للانتقال إلى عالم روحي لا تساوي فيه المادة شيئا، كرد فعل على الاستغراق في الحياة اللاهية:
أحن إلى نجد إذا ذكـرت نجد    ويعـتاد قلبي من تذكـر وجد(5)
ويصل الحنين  إلى حد الرغبة في تعفير الخد بترابها:
هل أكحل الجفن من ترب به عبق    وأرشف الثغر من إظلاله اللعس
وأبـلغ الخـد من تعـفيره وطرا    شوقا لموطئ نعل طاهر قدسي(3)
وهذا انعكاس لحب صوفي دفين للمكان والإنسان، ل"نجد" والرسول الكريم (ص)، خصوصا وأن الثرى غير الثرى:
هناك الثرى يربي على المسك طيبه    ودوحاته تزري على العنبر الورد(7)
بل هناك قصائد يشير فيها إلى ماضيه وذكرياته في الحجاز رغم أنه لم يغادر بلده قط، كما تأكد في المصادر الأندلسية، ثم يتذكر معاهد اللهو والغناء وديار الأحبة:
ألا هـل لأيام تقـضين بالحمـى    وسبيل لذي وجد تناهى به الجهد(8)
بل استحضر في إحدى القصائد أياما مضت في النعيم، ثم صورها وكأنها مجرد لحظة عابرة، مثلما يتحسر على انقضائها:
لم تكن غير لمـح برق تراءى    أو خيال قرب الصبيحة زارا
آه من ذا البعاد قد ضاق ذرعي    أسأل الله حسبة واصـطبارا(9)
ثم نجده يحول حنينه صوب عاصمة مملكته غرناطة، مخاطبا النسيم  الآتي من جهتها، ليسائله عن أخبارها وأحوال أهلها:
يا نسيما سـرى لأقرب عـهد    بحماهم حدثـني الأخـبارا
كـيف غرناطة ومن حـل فيها    حبذا الساكنون تلك الديـارا
كيف أحباب مهجتي روح روحي    نور عيني الجآذر الأقمارا(10)
وهذا الحنين المزدوج إلى اللذة الممعنة والأيام الماضية وإلى الديار المقدسة، يطالعنا من أول قصيدة في ديوانه:
تروم رضاهم وتأتي المناهيا    أحب وعصيان؟ لقد ظلت لاهيا
تكنيت عبد ثم أكـننت إمرة    أعبد وأمر؟ ما أخالك صـاحيا(11)
فهذا -إذن- نوع من الاغتراب والازدواجية في الإحساس والتمثل، بل "إنها ازدواجية القول/ والفعل، وثنائية الحب/ والعصيان، العبودية/ والإمارة، الرغبة في رضا الله/ وإتيان المعاصي"(12). لذلك نجده يلوم نفسه على تماديها في رغباتها، وبعد استنكار حالته وما هو فيه من شدة الصبابة والتصابي، يجيب سائلته بأنه لا يبكي من شدة الصبابة والوله، ولكن بسبب الذنوب التي اقترفها والدنيا التي اغتر بها... ثم يتوسل خالقه مؤملا النفس بعفوه:
* فتنـت بدنيا جاذبتني أعـنََََتي    فـما لي لا أبكـي لذلك مـاليا؟
* فقد فتح الرحمان أبواب عفوه    لمن راجع الذكرى وأقبل خاشيا
* لعل الـذي الوجـود بجـوده    يعين بحسن اللطف حالي حاليا(13).
خاتمة:
عرف الأندلسيون بجهادهم وصمودهم ومواجهتهم للأعداء في العديد من المحطات المؤلمة، لكن توالي الأزمات والنكبات بعد تساقط العديد من الثغور زاد من ضيق أحوالهم، فكان البكاء من وسائل التعبير عن الرفض، وأحس الأندلسي بالغربة تقتله داخل محيط جغرافي ضيق، يلاحقه فيه العدو باستمرار من جهات عديدة، فراوده حنين شبه غامض إلى الماضي الذي لا يعود، إلى الثغور الضائعة، وأيام الزهو والمتعة في جنان لا حدود لها وأيام آمنة مطمئنة... بل إلى أبعد من ذلك، إلى النبع، إلى مهد الرسالة التي أوصلته إلى الأرض، كشكل من أشكال الاعتراف بالهفوات والتبرير النفسي والتوسل الضمني لتحقيق مطلب مستحيل، هو عودة الزمن إلى الوراء لتصحيح الأخطاء...
د. عبدالرحيم الخلادي -أكادير

الهوامش:
1)      "الغربة والحنين في الشعر الأندلسي"، د.فاطمة طحطح، ص 295 (ط 1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1993).
2)      مقال في "دراسات أندلسية" للطاهر أحمد مكي، ص 110.
3)      "ديوان ابن خاتمة الأنصاري"، ص 54 (بتحقيق محمد رضوان الداية، ط 1972).
4)      "ديوان ابن خاتمة"، ص 55.
5)      ديوانه، ص53.
6)      نفسه، ص 17.
7)      نفسه، ص 44.
8)      نفسه، ص 53.
9)      نفسه، ص 68.
10)  نفسه، 68 -69.
11)  نفسه، ص 11.
12)  "الغربة والحنين في الشعر الأندلسي"، ص 299.
13)  الديوان: على التوالي ص 13 و14 و15.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟