الخطاب ، و فصل الخطاب ـ د. محمد الصفاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

philo-abstractإن غاية الإنسان و هدفه منذ القدم و إلى غاية اليوم تكمن في البحث عن التوازن،الذي يضمن له الوجود المتوازن في الحياة على المستويين:
- النفسي.
-والاجتماعي.
و لعله هدف نبيل،و مقصدية مشروعة،ناضل من اجلها الإنسان،مسخرا بذلك طاقاته و قدراته الفكرية لتحقيق ذلك.و منذ ذلك الحين، و الفكر البشري في صراع مرير، للسيطرة على ظاهرتين وجوديتين اثنتين،هما:
1-الحيرة النفسية.
2-القلق الاجتماعي.
و الجدير بالذكر في هذا السياق ان الإنسان حينما كان يعيش بفطرته خارج النسق المنظم ،المحكوم بالقوانين المنظمة للحياة، لم يفلح ،و لم يستطع الاهتداء إلى السبيل القويم، القادر على تخليصه من الحيرة النفسية و انتشاله من القلق الاجتماعي،اللذين افترساه و أنهكاه، فخر صريعا ،مستسلما ،فطريا، لزمن الفطرة.لكن حينما تطور الإنسان فكريا و اجتماعيا،بفضل ما بناه من اطر فكرية و اجتماعية أخرجته من حياة تحكمها الفطرة ،و العفوية ،و الصدفة ،إلى الحياة المدنية ،المحكومة بالقوانين،باعتبارها الأسس و الأطر التي قامت عليها أركان الحياة المدنية.و يعد الخطاب ،الإطار الفكري،أو الوعاء النظري الذي يعبر عن رؤية فكرية واضحة حول:


- الكون.
- الحياة.
- الانسان.
هدفها المعالجة،و التفسير، المبنيين على التأمل، و التفكير، و تحكيم العقل ،المستند إلى منهج علمي ما، يزكي شرعية هذه الرؤية،و يقوي موقف و رأي أصحابها.و بما أن الكون هو العالم المحتضن للإنسان كان لزاما على الفكر عبر آليتي البحث و الاجتهاد ،أن يجد خطابا قويا ،يهتم بقضايا الكون و يسهر على تتبع الأحداث،و قراءة الظواهر، لاستنباط القوانين المفسرة ،و صياغة الضوابط المعالجة.و بفضل تواتر الاجتهادات الفكرية المتراكمة على مستوى التجارب و الخبرات ،صيغ الخطاب العلمي الدقيق الصارم الذي اخضع ظواهر العالم الحسي للملاحظة و التجربة ،تتم على إثرهما السيطرة عليه.و تمثلت تلكم السيطرة في مظاهر التطور الحضاري المندرج من الأدنى( التخلف)إلى المتوسط (الآلة البخارية) إلى الأعلى(الآلة الكهربائية) فالأعلى(المستوى التكنولوجي الرقمي)---التحضر.
و إذا كان الخطاب العلمي هو الخطاب المناسب لقراءة صفحات الكون و إخضاعه و تدليله للإنسان.فقد تم تسخير جملة من الخطابات لقراءة الإنسان و فهمه أولا،و السهر على تنظيم حياته ثانيا.و من ضمن الخطابات :
1-الخطاب الفلسفي:و يعد الأس و الأهم لماله من علاقة صميمية بالانسان ،إذ انصبت جهود الفلاسفة في المرحلة الأولى على معرفة حقيقة الإنسان كذات يكتنفها الغموض،و تنطوي على أسرار،صيغت في أسئلة وجودية كبرى من قبيل:
-ما الإنسان؟
-لماذا يختلف الإنسان عن باقي الكائنات الحية؟
-ما السر في ذلك؟
-لماذا يموت الإنسان؟
-ما الحياة؟
-ما الموت؟
-ما قيمة الحياة المحكومة بالموت؟
و بعد جهد جهيد، أجيب عن هذه التساؤلات و غيرها، بصيغ مختلفة، تختلف، باختلاف الرؤى و زواياها.و اتفق على حقيقة جوهرية مفادها أن الإنسان ذات مفكرة مبدعة،تحتل المرتية العليا على سلم سائر الأحياء.و ذلك لما تمتلكه من قدرات لا تتوافر لدى غيرها.لينصب عقب ذلك ،في المرحلة الثانية،الاهتمام على البنية الداخلية للإنسان،التي كانت تتجلى و تنكشف تحت عناوين مختلفة أبرزها:الحيرة التي تعد من أهم سماته و خصائصه.لذلك قيل عنه"الإنسان كائن حيران"لكن و رغم الجهود و المحاولات التي بذلها و كرسها الخطاب الفلسفي بنوعيه الكلاسيكي و الحداثي، لاختراق جدر بواطن الإنسان الداخلية و القبض عليها،ظلت غامضة و عصية،و سرا مكنونا ،خاصة في ظل تطور المدنية الحديثة التي تحول في سياقها الإنسان،فغدا كائنا غريب الأطوار،و كأنه وحش مجرد من كل القيم التي أنزلته بالأمس القريب، في أعلى مراتب هرم الأحياء.هذا و إذا كان الخطاب الفلسفي الكلاسيكي قد مجد الإنسان معللا ذلك التكريم بالعقل كملكة للتساؤل ،و التأمل و الإبداع و الشك،و النقد،فان الخطاب الفلسفي الحداثي في عمومه،قد تغيرت نظرته للإنسان ،منزلا إياه من أعلى برجه العاجي إلى أسفله.و اعتبره علة ما يشهده الكون من جرائم،و فساد.منقصا منه،ما دام لم يعد فعالا،و مركزا و قائدا. متسائلا بذلك عن دوره في خضم ما جرى و ما يجري في العالم من حروب تحصد العديد من الأرواح.مما أدى الى نمو حركات فكرية مناهضة له،يشكك روادها في منطقيته،و أهليته،و عقلانيته.فهذا جان جاك، رو سو.ابرز ممثلي الحركة الرومانتيكية،على سبيل المثال،نجده يدافع و بقوة عن المشاعر الطبيعية في مقابل العقل،معتبرا إياها الهادي إلى الطريق الصحيح على المستوى الأخلاقي.كما اعتبر القلب هو الطريق الصحيح أيضا دون غيره إلى معرفة الله.مستبعدا أو مهمشا العقل لكونه مضللا(1).و معلوم في هذا السياق،ان رحلة الفكر الفلسفي قد انشطرت إلى مرحلتين:
1-المرحلة الميتافيزقية .
2-المرحلة الوضعية.
و خلالهما نضج البحث الفلسفي و بسق و تفرع و علا كعبه،و اشتد عوده،و اتى أكله ،بميلاد مدارس فلسفية متعددة ذوات مرجعيات متباينة تحكمها الأفكار المتعارضة المؤسسة لثوابت الصراع الفلسفي المبني على السجال.و في سياق ما راكمه من خبرات فلسفية،و على أسسها و أركانها أقيم مشروعه النظري،يمكن الإقرار بحقيقتين جوهريتين.تتمثل الأولى ،في كون الفكر الفلسفي الكلاسيكي قد افلح إلى حد ما، في تحرير الإنسان من ازمة عقدة الحيرة التي ارتبطت بأسئلة ملحة سيطرت عليه.اذ كانت حيرته تلك تأمل صامت،يرمي من خلاله إلى بلورة موقف يخرجه من الشك إلى اليقين،بخصوص قضايا وجودية كبرى تتعلق:
-بوجود الله .
-ذات الله وصفاته.
-ماهية الله.
-عالم الغيب
-الروح.
-مصير الإنسان بعد الموت.
و ترتبط الثانية بالإخفاق و العجز اللذين واجها الخطاب الفلسفي المعاصرفي التصدي لازمة الإنسان الإنسان المعاصر الذي انتقل نفسيا ووجوديا من طور الحيرة إلى طور الاغتراب.اذ لم يعد الإنسان يعيش الحيرة ذات البعدين التأملي،ألاكتشافي التحريري،التي تبحث من خلالها عن التوازن النفسي حينما تلبى الرغبة النفسية الفكرية المرتبطة بالوصول إلى الحقيقة،بل أضحى يعيش تمزقا نفسيا و اجتماعيا يفصلاه عن ذاته و عن محيطه.
فغذا غريبا عن ذاته لأنه لا يتوفر على فضيلة الإحساس بها و الانتماء إليها،في ظل انسلاخه عن التفكير العميق،و التأمل الدقيق.كما يبدو غريبا عن محيطه و ذلك بفعل عوامل ذاتية و موضوعية متفاعلة تتغذى شرايين حياتها على ثقافة عصر ذي حضارة معقدة،أصم ضجيجها الأذان،و أعمى سديمها العيون،فخضع أهلوها لسحر الغربة،و صاروا فرائس سهلة للاغتراب.
2-الخطاب الأدبي:يعد الخطاب الأدبي مثل نظيره الفلسفي،خطابا عريقا،لازم الإنسان في حياته،فتطور بتطوره.و استقراء للخطاب الشعري،أب الآداب وأمه و محوره الأساس،يستشف أن بنيته الدلالية تتوزع ما بين:
*المستوى الوصفي التقريري الموضوعي:حيث الانفتاح على العالم الخارجي بكليته،ووصف كل ما يتفاعل معه في الوجود.
*المستوى التعبيري التذويتي:و يرتبط بالذات المتكلمة المنفتحة على نفسها زمن الفرح،تعبيرا عن الانشراح و الانتشاء،و إظهار الأمل في الحياة،و قوة التعلق باشطانها،و الرغبة الملحة و الشديدة في ملاحقة الملذات،واقتناصها قبل فوات الأوان.و المنفتحة عليها أيضا،و المنصتة إليها،زمن الحزن حينما تستبد بها المعاناة،و تضيق أنفاسها فيكون السبيل او الخلاص،عبر ركوب صهوة القوافي التي تحلق به بعيدا للاختلاء بذاتها بين دفء أحضان اللغة المرنة المستوعبة لعذاباتها و المضمدة لجراحاتها،و الاحتماء بحنو و عطف الخيال.
-معاتبة حبيبا على جفائه و هجره.
-أو باكية راثية حاله أو غيره على فجيعة.
-أو شاكية الزمان لجوره و ظلمه.
-أو مستعطفة أخا أو خليلا أو سلطانا ليرق لحاله.
فبين التعبير الموضوعي،و الذاتي،تخندق ،إذن،الخطاب الأدبي،فكانت أفادته للإنسان محتشمة تراوحت بين البساطة و الضعف،و العلة في ذلك، تكمن في وظيفة الأدب عموما،و الشعر خصوصا ،القائمة أساسا على الإمتاع و المؤانسة.هذا و لما سئل روسو فيما إذا كانت الآداب و الفنون قد أفادت البشرية،أجاب و بحجج دامغة،بالنفي قائلا:"إن الثقافة عودت الناس على حاجات غير طبيعية أصبحوا عبيدا لها..."(2)
3-الخطاب التحليلي النفساني:استمد هذا الخطاب وجوده من مدرسة الفكر النفساني التي منحته الشرعية الوجودية فاقتحم باسمها حياة الإنسان،موطنا بذلك وجوده إلى جانب الخطابات التاريخية الأخرى،يحمل هدفا نبيلا،يتمثل في الكشف عن العلل الكامنة وراء معاناة الإنسان،اعتمادا على بنية اللاشعور.و بما أن الإنسان فاقد للتوازن،و يعيش تحت الضربات العنيفة المتتالية الصادرة عن قساوة الحياة الآلية و جبروت الزمان الرقمي،استسلم طوعا و كرها،بكليته لسحر هذا الخطاب أملا أن يتحقق المراد.فانفتح بذلك الخطاب على المخاطب و انفتح المخاطب على الخطاب،و انكشف المخبوء تحت عناوين مرضية مدوية متعددة،من قبيل:
-الاضطرابات العاطفية.
-الاضطرابات السلوكية.
-الاضطرابات النفسية الجسيمة.
الاضطرابات العقلية.
-الفوبيا.
الهستريا،الكآبة،العطاب،الانهيار العصبي الوسواس........
و أمام هذه المعطيات المرضية الوليدة المرتبطة بالباطن النفسي للإنسان التي نالت منه نيلا فأفقدته توازنه النفسي و الاجتماعي،و غدا تحت تأثيرها و قوتها و قهرها سريع الاستجابة للأصوات المريضة الجانحة،المنحرفة المدمرة.جند الخطاب قدراته و طاقاته للحفر و الغوص بعيدا في ذاكرة و تاريخ هذه الأمراض،مسابرا أغوارها ،محددا لها الأسباب و العلل، تبعا لرؤيته و فلسفته و ثقافته الخاصة.لكن السؤال هلا ستطاع هذا الخطاب و غيره من الخطابات الوضعية شفاء ما في الصدور،و تحقيق السعادة(اللذة،الوهم) الطوباوية التي سوقت لها،وناضلت من اجل تحقيقها؟و هل استطاعت ان تحقق الأحلام و الانتظارات السجينة ما وراء أسوار المدينة الفاضلة؟
استنادا إلى الواقع و الوقائع يمكن الجزم ان هذه الخطابات بدهائها و ذكائها و خيالها و تأملها و سلاستها لم تنجح بالكيفية المطلوبة و المنتظرة في تحقيق الأهداف التي التزمت بالنضال من اجلها و السبب بسيط،وذلك لأنها خطابات من صنع البشر،ووضعه.ما دام البشر عاجزا و قاصرا تفكيرا و سلوكا،طبيعي إن تتسم منجزاته بالعجز و القصور.فالخطاب الفلسفي قاصر،و يتجلى عجزه في عدم قدرته على تخليص الإنسان كليا،قديما من حيرته و الإجابة عن تساؤلاته.وحديثا من غربته و اغترابه ،وما يسكن فكره ووجدانه من أوهام و هموم وجودية عصفت به نحوالتيه،فلسفة العصر المعاصرة.كما ان الخطاب الأدبي بدوره قاصر، لان وظيفته الجوهرية لا تتجاوز الإمتاع و المؤانسة.هذا و يلاحق العجز أيضا الخطاب السياسي الذي ظل مشروعه النظري ناقصا على المستوى التطبيقي فيما يتعلق بالحرية و الديموقراطية،و حقوق الإنسان،و العدالة الاجتماعية،و تطبيق القانون،و العمل بمبدأ المساواة و الغريب حقاأن الاستقرار السياسي و الاجتماعي اللذين نا ضل من اجلهما الفكر السياسي قد عصفت به نظريا بعض الشطحات الفكريه الصادرة عن الفكر الرومانتيكي الذي عرف عن رواده تفضيل العيش في خطر. مما دفعهم الى البحث عن المغامرات بدلا من السعي الى الامان ، واحتقروا الراحة والسلامة على اساس انهما تحطان من قدر الانسان وراوا ان الحياة المعرضة للخطر هي الاسمى(3) إنه خطاب مضاد مشوش يؤسس لنظرية الفوضى ومنطق العبث والانفلات. كما تلاحق الخيبة أيضا الخطاب النفساني الذي لم يستطع ان يحرر الإنسان ويخلص المجتمع من زحف الأمراض المكتشفة التي حصدت و تحصد النفوس و تجلدها بسياط الضغوط و المعاناة.وذلك رغم الثورة الطبية النفسانية المعاصرة التي وقفت عاجزة أمام قوة و شدة زحف هذه الأمراض. و على هذا الأساس،تحقق وقعا وواقعا فشل هذه الخطابات بعد أن استنفدت قوتها و حيلها و أغراضها و شاخ مشروعها النظري.لان قوة
-القلق الاجتماعي
-و الاضطراب النفسي
أقوى و اعتنى من قوة الخطاب، و سلطته.لكن ايجوز اعتبار العجز قاعدة تحكم كل أجناس الخطاب؟
الجواب قطعا بالنفي.لان هناك خطابا يشكل استثناء.انه:
4-الخطاب الديني :إذا كان الخطاب الوضعي بصيغه المختلفة يحكمه العجز،و النسبية،فان الخطاب الديني يتعالى عن العجز،من اجل صفاته ،الكمال ،لأنه رباني علوي،سماوي،ركناه:
-الكتاب:القران:و هو كلام الله المنزل على الرسول،المكتوب في المصاحف،المنقول نقلا متواترا.
-السنة:ما صدر عن النبي(ص)غير القران من قول أو فعل أو تقرير،هما جناحا الإسلام الحنيف،الذي بفضل نوره الرباني الساطع اهتدى الناس بهديه إلى الحق المبين.فخرجوا من الظلمات إلى النور،و من الجهل الذي أضل العقول،إلى العلم الذي حررها من الخرافة و أوهام الشرك،إلى بارئها،مدركة ما يتمتع به من قوة خارقة مصدرها الله خالق الإنسان و العالم ما في الجنان، مالك السماوات و الأرض.اذ بفضلها حقق الخطاب الديني مراده،بعد أن تسربت حلاوته إلى شرايين النفوس،و شغاف القلوب،و استقرت قوته و معجزته في العقول.فتغير وجه الحياة
الاجتماعية التي اضحى افرادها متالفين متساكنين،غير متشاكسين،مجتمعين على دين الإسلام،على قلب رجل واحد، بعد ان فرقهم الجهل،و الكفر،متحابون في الله و رسوله.
-الفكرية،بعدان تشبع الفكر بالعقيدة اخذ يفكر في ملكوت الله،ليزداد منه قربا.و التقرب الى الله يتم عبر العبادة.و العبادة،ينبغي ان تكون بالعلم الذي ينبغي أن يبنى على العقيدة الصحيحة.
-السياسية:إذا كانت السياسة قبل الإسلام قد بنيت على فلسفة البقاء للأقوى،و الأقوياء وقتئذ كانوا قلة قليلة،تمكنوا من رقاب الناس و استرهبوهم كما استرهب فرعون أهله،فاتخذوا منهم العبيد يستغلونهم ابشع استغلال.فان السياسة بعد الإسلام في ظل البعثة النبوية و ما بعدها،على عهد الخلفاء الراشدين قد استمدت شرعيتها من القران الكريم الذي ساوى بين الناس ،لاغيا بذلك العبودية ،محولا إياها من عبادة العباد الى عبادة رب العباد.و من السنة النبوية الشريفة المطهرة التي رسخت التعاليم السماوية بين الناس،فأصبحت ملموسة في نظام الحكم الذي استند إلى شرع الله فتحقق العدل بين الناس و اختفى الظلم و هو ما سماه المفكرون"السعادة السياسية"فغدا الناس متساوين في الحقوق كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى كما قال الرسول الكريم(ص).مما اشعر الناس بالطمأنينة و الأمان.فاختفى بذلك
-التنافر الاجتماعي.
-و القلق النفسي.
لكن انقضاء العهد الراشدي الزاهر،ووصول بني امية إلى الحكم أصبحت الخلافة ملكا.و هوتطور أساس رافقه تطور اجتماعي تمثل"في ظهور طبقة ارستقراطية أتاح لها الغنى و الفراغ و الحضارة و الوراثة حياة اجتماعية جديدة على خظ كبير من التحضر و الحرية و الترف..(4)
و لعله تطور افلت بموجبه نجوم قيم كثيرة رسخ أقدامها الخطاب الديني،بين الناس كافة،حتى أصبحت من صميم الحياة.و ظهرت قيم جديدة غذاها الواقع الجديد،و رعاها و احتضنها الخطاب الرسمي و باقي الخطابات المناصرة له.مما أدى إلى ميلاد خطابات مناوئة،فاشتد الصراع.و عم التفكك الاجتماعي.و اتقدت جذوة البغضاء و الشحناء و تطايرت شظاياها في ارجاء البلاد و زواياها فشبت نار الفتنة في الأقطار و الأمصار،فتفاقمت الأمراض الاجتماعية،و ازدهرت العصبية بين الأنام الذين كانوا في الأمس القريب أهل الله،إخوان في الملة و الدين،تتدفق بينهم المحبة كما يتدفق النبع الغزيرفوق ارض سهلة منبسطة لا حواجز فيها و لا سدود.فجردت السيوف من أغمادها،و تحركت الضغائن في النفوس و أطعمت الشهوات بسخاء فتحررت من عقالها.و سالت الدماء في سبيل الوصول إلى غاية دنيوية زهيدة بخسة مجدتها السن الشعراء التي تحررت من نسعاتها لتسيل نظما، بعد أن لاكت و تذوقت حلاوة الجزل و العطاء،نصرة لأهل الفضل و ذويه.و دفاعا عن حق دادت عنه السيوف و النفوس.يقول الدكتور يوسف خليف"و كما كان شعراء القبائل في العصر الجاهلي جنودا مجندين تحت السلاح لنصرة قبائلهم والدفاع عنها وكما كانوايقفون مع فرسانها المقاتلين لحمايتها والذود عن حماها، وقف شعراء الدولة في العصر الاموي إلى جانب الجيوش المقاتلة يدافعون عنها و يؤكدون حقها السياسي أمام شعراء الأحزاب المعارضة.ونجح الأمويون في أن يؤلفوا حولهم حزبا سياسيا يدافع عن نظريتهم و يؤكد حقهم في الخلافة أمام الأحزاب المعارضة و هو ما يصح أن نطلق عليه الحزب الأموي.....(4)
و في سياق الأحداث المتداخلة ذات المشارب المختلفة و المتعددة تراجع دور الخطاب الديني بالتدريج لينزوي بذلك في آماكن مخصوصة: المسجد،الزوايا،مجالس العلم...)لدى شرائح اجتماعية مخصوصة(الزهاد المتصوفة، الأتقياء، الأصفياء، الأولياء من عباد الرحمان....)لصالح الخطاب الوضعي الذي نشطت فعاليته،حاملا بذلك و منذ ذلك الحين مهام الإصلاح و التصحيح،بناء على رؤية تساؤليه طامحة إلى تقديم نمط نقدي جديد من القراءة المتعلقة بالنظر إلى الواقع الاجتماعي و الاقتصادي،و الفكري،و السياسي .
و انطلاقا من القراءة النقدية الموضوعية للواقع تستشف حقيقتان جوهريتان:
الحقيقة الأولى:نجاح الخطاب الديني و تفوقه في:
*تربية و تكوين المجتمع السوي سياسيا،و أخلاقيا و اقتصاديا و اجتماعيا.
*تكوين الفكر المبدع القوي،السائل ،المتسائل،الناقد
*بناء المدنية الحقة القائمة على المسؤولية الفردية و الجماعية المحروسة بالوعي الأخلاقي و الضمير الوجس.
*خلق و تأسيس ثقافة التسامح المبنية على المثاقفة.
*صنع حضارة امة لها خصوصياتها الفكرية و الثقافية و السياسية و التاريخية و العقدية.
الحقيقة الثانية:إخفاق الخطاب الوضعي في تدبير شؤون الإنسان السياسية و الاجتماعية و الفكرية و الاقتصادية،لكن السؤال الذي يطرح ما هو سبب نجاح الأول ،و إخفاق الثاني؟
يعزى نجاح الأول إلى كونه خطابا ربانيا،يستمد قوته من خالق الكون جل و علا،الذي احاط بكل شيء علما،و يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور.
يقول عز و جل في شأن هذا الخطاب:
"طس تلك آيات القران و كتاب مبين هدى و بشرى للمومنين"(5)
"و انك لتلقى القران من لدن حكيم عليم"(6).
"طس تلك آيات الكتاب المبين"(7)
"قال سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما و من اتبعكما الغالبون"(8).
"و إذا تتلى عليهم قالوا أمنا به انه الحق من ربنا"(9).
ذلك بان الله هو الحق و إن ما تدعون من دونه الباطل و أن الله هو العلي الكبير"(10).
" و لقد ضربنا للناس في هذا القران من كل مثل"(11).
"الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى و رحمة للمحسنين"(12).
"الم تنزيل الكتب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك"(13).
"يس و القران الحكيم انك من المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم"(14).
"و النجم إذا هوى ما ضل صاحبكم و ما غوى و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى".
"الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم."(16)
فالشرعية الربانية و المدد الإلهي هما سر نجاح الخطاب الديني النافع لكل زمان و مكان.و العلة القوية المفسرة لما وصل إليه زمن سيادته و تحكيمه في تدبيرشان البلاد و العباد.ذلك لأنه القول الفصل،الفاصل بين الحق و الباطل يقول عز و جل:
"انه لقول فصل و ما هو بالهزل.""و شددنا ملكه و أتيناه الحكمة و فصل الخطاب"و يعزى فشل الثاني إلى كونه خطابا نسيجه ،زخرف القول غرورا و عبثا يقوم نسيجه على الخطابة ، الجدل السفسطة ،البلاغة ،وما ينتجه من تمثيلات وخيالات واوهام واساطيروتاويلات المفضيةوالجانحة دومانحوامعان الكذب مايجعل الكذب خاصة الخظاب. وذلك لكونه وضعيا،بشريا،قاصرا ،يتجلى قصوره في عدم امتلاك قواعد و ثوابت التصور الحقيقية للإنسان و الوجود و الحياة،أنتجته قوى سياسية و اديولوجية و تاريخية و ثقافية لا تملك قوة و سلطة فصل الخطاب،مرجعيتها"مقطوعة الجذور و قد أتت بالغريب العجيب،فلا قواعد و لا أسس و لا موازين و لا منهج تستند إليه .وظفت أشكال الخطاب و سخرتها لخدمة أفكارها و اديولوجياتها و عقائدها التي ما انزل الله بها من سلطان،كالوجودية و الفرويدية و الماركسية،و غيرها من الأفكار و العقائد الضالة المضلة و الفاسدة.و مع الآسف طبل لها وزمر كثير من أبناء جلدتنا"(17)
و استنادا إلى تحليل شبنغلر فيلسوف التاريخ،الألماني، الذي ارتأى أن المدينة الغربية عاجزة عن حل مشاكل أهلها التي شاع بينهم روح التشاؤم و القلق و استولى على أفئدتهم الخوف و القلق على مصير البشرية في ظل الآلة.ويعزى السبب في نظره الى سيادة النزعة العلمية و انعدام الإنتاج الفلسفي و سيطرة النزعة اللادينية المميزة للمدنية العالمية المؤدية بالعصر و أهله إلى التدهور و الاضمحلال يقوم على مقولتي:
1-الحاضر:و يتمثل في الخطاب العلمي الصارم،و باقي الخطابات الأخرى،التي رغم قوتها و التزامها و منطقيتها لم تنجح في انقاد أهلها من التيه و الظلال.
2-الغائب:و يرتبط بالخطاب الديني و الخطاب الفلسفي.
هذه شهادة في حق المدنية الغربية و أهلها،نتاج الخطاب الراقي الملتزم،التي أخذت و بدون شك سبيلها نحو الاضمحلال و الزوال كما تنبىء بذلك المؤشرات الاجتماعية: (الأمراض النفسية ،الأمراض الاجتماعية:انعدام القيم و الأخلاق..)
و المؤشرات الاقتصادية(الأزمة الاقتصادية الخانقة.....)متى سيكتب الخروج للخطاب الديني من ضيق المسجد إلى رحابة الحياة ليسهر على تدبير شؤونها و تنظيم أحوال أهليها.و كيف لا ،وهو الملائم لفطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها،و لم لا و هو خطاب فصل،نسقه الحكمة النابعة من فيض النور الرباني،الهادي إلى الحق و الدال عليه و السبيل الواضح السوي اللاحب التي لا عوج فيها و لا أمتا،القائد إلى السعادة التي أخطا الطريق إليها الخطاب اللا فصل،و أصابها الخطاب الفصل،بعد ان التزم القوم بأسبابها و حبالها المشدودة إلى حبل الله المتين ومشكاة سيد المرسلين.يقول (ص):"تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك".
حقا و صدقا أنها المحجة القادرة على تحقيق انتظارات الإنسان ،بقول الشاعر وليد الاعظمي
و الله لوعدنا إلى قراننا لم يبق فينا عاطل و فقير
من حيث لا ظلم و لا بغي و لا خمر فكيف يعربد السكير
و الله اعرف بالعباد و شانهم و لكل شيء عنده تقدير
علم هدى نوربه و سياسة لم يأت انجيل بها و زبور(19)
فمتى سيتم التصالح مع الخطاب الفصل لجبر أضرار الخطاب اللافصل ؟
الهوامش
1) عالم المعرفة الفلسفة الحديثة المعاصرة.العدد365.سنة 2009
2) نفسه
3) نفسه
4) في الشعر الأموي دراسة في البيئات،الدكتور يوسف خليف
5) سورة النمل الآيتان 1.2
6) النمل :الآية 6
7) القصص الآية 1
8) القصص الآية 35
9) القصص الآية 53
10)لقمان:الآية 57
12)لقمان:الآيتان 1.2
13)السجدة الآيتان 1.2
15)النجم الآيات 1.2.3
16)الزمر:الآية 23
17)مجلة الرافد دراسات حول الشعر الإسلامي.د.بهجت الحديثة ص:34.العدد 150السنة 2010
18)دعوة الحق:مقال حول الحضارة الحديثة للإنسان الزنايدي العدد.5.6 سنة 1972.ص:113
19)مجلة الرافد.ص:34.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟