أدوار المدرس و البعدالغائب ! - ذ. حميد بن خيبش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasse.orgأضحى من نافلة القول الحديث عن ازمة بنيوية تنخر المنظومة التربوية لسائر البلدان العربية.فرغم السعي الحثيث لمراجعة المناهج و البرامج الدراسية , وملاءمتها للمستجدات و المتغيرات ,ورغم الاهتمام الواضح بإدماج الوسائط الحديثة في المسار التعليمي/التعلمي,وإرساء مقاربة تواصلية بين المؤسسة المدرسية ومحيطها بغية خلق مناخ تعلمي أفضل إلا أن الوضع لا زال يراوح مكانه !
إن مبادرات الإصلاح ومشاريع التحديث التي طالت السياسات التربوية حرصت على تطوير المناهج و المقررات الدراسية وتجريب الأساليب و الطرائق الحديثة بيد أنها أغفلت مطلبا جوهريا يتمثل في إعادة النظر في ادوار المدرس باعتباره حجر الزاوية في كل إصلاح !
وإذا كان الانفجار المعرفي الذي أحدثته الثورة التكنولوجية قد الغى السلطة المعرفية للمعلم,فإنه بالمقابل ألقى على عاتقه مسؤولية جسيمة تتمثل في " حراسة " منظومة القيم و السعي إلى ترسيخها بشكل يحفظ الهوية و الخصوصية و يحسن مؤشر الانتماء !
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو مدى أهلية المدرس للقيام بهذا الدور الحيوي و الخطير في ظل معيقات و إكراهات عدة نوردها كالآتي :
 * تسارع وتيرة التحولات الاجتماعية و الاقتصادية التي يشهدها العالم وما يصاحبها من تسليع       للقيم , واستهداف للخصوصيات المحلية وللهويات ونظم الأخلاق و المعتقدات.
 
 * خضوع السياسة التربوية في كل بلد عربي للإملاءات الخارجية " توصيات البنك الدولي نموذجا"
    و التي تستهدف بالأساس إعدام الهوية  وضرب مقومات الشخصية العربية و الاسلامية .
 
 * ضعف الإعداد التربوي للمدرس حيث يتم التركيز على البعدين القانوني والديداكتيكي في صياغة    برامج التكوين على حساب البعد الأخلاقي و الإنساني الذي يشكل ملمحا أساسيا من ملامح الفعل   التعليمي .
* هشاشة البيئة المدرسية وضعف بنيات الاستقبال
 * الإكراهات المرتبطة بظروف العمل و تدني مستوى الأجور و انخفاض القدرة الشرائية مما يؤدي    الى استفراغ الجهد في النضالات المطلبية و المعارك النقابية .
 * سلبية الصورة النمطية للمدرس لدى فئات المجتمع ,والتي عملت على تغذيتها وسائل الإعلام و
   العديد من الأعمال الدرامية.

 * تراجع المقروئية و محدودية رواج الكتاب التربوي ...إلخ

هذه الاكراهات ,وغيرها كثير, أسهمت في انحسار أدوار المدرس ,واكتفائه بمهمة تنفيذ التوجيهات الرسمية و القرارات الفوقية ,وعزوفه التام عن المطالبة بحقه في الريادة !


   * البعد الأخلاقي .. غائب أم مغيب ؟
تكشف إسهامات العلماء المسلمين الأوائل عن وعي ملفت  بأدوار المدرس ,واهتمام كبير بقضية تكوينه ,وحرص أكبر على توافر مواصفات محددة بدقة فيمن يود التصدي لمهمة التعليم . يقول الدكتور سعيد إسماعيل علي :" و المعلم ليس مجرد (خازن علم) يغترف منه التلاميذ معارف ومعلومات , ولكنه نموذج وقدوة , ومن هنا فإن التكوين الأخلاقي و التدين لا بد أن يسبقا كافة جوانب عملية التكوين التربوي للمعلم ,ولعل هذا ما يفسر لنا اهتمام علماء التربية الفقهاء بهذين الجانبين بصفة خاصة ... ولأن المعلم " أمين " على ما يحمله من علم كان لا بد له من صيانته بأن يحافظ على كرامته ووقاره , ولا يبتذل نفسه ويترخص فيها , فذلك من شأنه أن يحفظ هيبته و مكانته بين الناس ..." (1) 
  هكذا إذن انبرت ثلة من المفكرين المسلمين   لاستلهام مواصفات وادوار المدرس من خلال جرد نصوص القرآن و السنة التي تناولت فضيلة نشر العلم وتعليمه و الثواب الالهي الذي سيحصله "معلمو الناس الخير" ولعل من أبرزهم : "القابسي و ابن جماعة و ابن عبد البر و ابن سحنون ..."
ورغم أن المتأخرين منهم سعوا لانتهاج نهج مغاير وتأسيس نظرية تربوية تتخطى حاجز الأخلاقي و الوعظي إلا أن جل أفكارهم كانت تدور في فلك هذا البعد النبيل !
فقد سعى ابن خلدون مثلا إلى إرساء نظرية تربوية تقوم على مبدأي التفكر و التحقق و تحصيل الملكات النافعة و ذلك من خلال المزواجة بين "علوم المعاد" و "علوم المعاش" مما يؤهل الموقف التعليمي لأن يشكل البداية الطبيعية للعمران البشري , غير أنه ألح وبشكل كبير على ضرورة توافر  " السند الصالح" , يقول الدكتور عبد الأمير شمس الدين : " لقد افترض ابن خلدون أن التعليم صناعة , نجاحها و فشلها مرتبطان بالقائمين بها وأن المعلمين هم سند هذه الصناعة, لذا لا بد من أن تتوفر فيهم شروط و آداب وقوانين " (2)
وحديث ابن خلدون عن " السند الصالح" يكشف أهمية البعد الأخلاقي الذي بدونه تفقد الممارسة التربوية أهم سماتها .
غير أن أولى إرهاصات الخلل ستبدأ مع نشأة النظام التعليمي الحديث في القرن التاسع عشر و الذي انبنى على ثلاث مستويات وهي : تعليم أدبي- تعليمي علمي – تعليم ديني .مما أحدث ارتباكا واضحا في الفكر التربوي , بل حتى في العقل الجمعي . يقول الدكتور عبد العزيز التويجري " وقد تسبب هذا التقسيم في إحداث خلل خطير في الفكر التربوي ,وانشطار في العقل ,وفي التصور , وفي الرؤية, وانفصام في الشخصية العامة للفرد و للمجتمع , بحيث استقر في العقل الجماعي ,ولدى الرأي العام أن هذه الازدواجية هي من صميم النظام التعليمي الذي يتعين على الدولة العصرية انتهاجه و العمل بمقتضياته .
وهذه الازدواجية تتعارض – تعارضا تاما- مع طبيعة العقل العربي الاسلامي,ومع جوهر الحضارة العربية الاسلامية , بل مع منطق العلم ذاته,ومع طبائع الأشياء ,وهي إحدى المعضلات التربوية و المشكلات  التعليمية التي تضعف القدرات ,وتشتت الجهود,وتعرقل النمو الطبيعي للعملية التربوية برمتها وتأتي خطورة هذه الازدواجية من أنها ترسّخ في الذهنية العامة، استحالةَ الجمع بين المستويات الثلاثة من التعليم ، ضمن سياق واحد، تَتَوافَرُ لهُ عناصر التكامل والتوازن والتناغم والانسجام. وهو النمط الذي تميّزت به الحضارة الإسلامية في جميع عصورها.
لقد استقر هذا النظام التعليمي في الوطن العربي والعالم الإسلامي وعمَّ وانتشر، مما يجعل الخلل الذي نعده من الأسباب الرئيسية لضعف مردودية التعليم مستمرا في العملية التعليمية على وجه الإجمال ,وهو الأمر الذي يتجسم في هذا الاهتزاز الذي يؤدي في حالات كثيرة إلى نوع من التصدع في الشخصية و الذي يترتب عليه انفصام مريع و انشطار خطير يتسببان في إضعاف بناء الأمة معرفيا وحضاريا " (3)
لكن الأدهى مما ذُكر هو سعي بعض الأنظمة التربوية نحو سد الثغرة وملء الفجوة بمنظومة قيم مستوردة , أو مهربة ان اقتضى الحال, وإلزام  الفاعلين التربويين بإكسابها للنشء " القيم الكونية , القيم الإنسانية , السلوك المدني ... إلخ" بالرغم من أن مرجعياتها الفكرية تصادم الشخصية العربية الاسلامية ,وتعمق حالة التشرذم التي تعيشها مجتمعاتنا وتعصف بما تبقى من ملامح و سمات خاصة !
مما يؤكد افتقاد أنظمتنا التعليمية لفلسفة تربوية واضحة المعالم , و  يرسخ المقولة السائدة بأن الأزمة أزمة نخبة و ليست أزمة أمة !
إن التربية عنصر فعال في تطوير المجتمع لكنها كذلك أهم عنصر للحفاظ على القيم السائدة وعلى توازن القوى بين المتغير والثابت , ولن يتأتى لها ذلك في غياب "سند صالح" يدافع عن حقه في الريادة , و ينحت أدواره من البعد الأخلاقي  في المقام الأول .


      الإحالات :

    (1)   :   د. سعيد إسماعيل علي , اتجاهات الفكر التربوي الإسلامي , ص : 82
      (2)   :    د. عبد الأمير شمس الدين , الفكر التربوي عند ابن خلدون و ابن الأزرق , ص: 75
      (3)  :   د. عبد العزيز بن عثمان التويجري , التعليم العربي : الواقع و المستقبل.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟