حدود النزعة التكذيبية في الابستمولوجيا ـ مصطفى قشوح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Abstract-Scienceينطلق التكذيبي من مسلمة أساسية ،إن النظرية تقود الملاحظة عبر فرضيات ،ويتم تعديل هذه الفرضيات كلما تبين أنها غير صالحة ، أو يتم تكذيبها ، فقابلية التكذيب كتفسير استنباطي للنظرية العلمية يقوم بالأساس على بناء فرضي قادر على تفسير مجموعة من ظواهر العالم،قبل أن استمر في شرح دور الفرضيات في تقدم المعرفة العلمية ، سأشرح هذا الذي نسميه قابلية التكذيب .
الفرضية قابلية تكذيب الفرضية
1 يوم الخميس، الجو حار --يمكن ان يكون الجو حار في أحد أيام الخميس
2 كل الأجسام تتمدد بالحرارة يمكن أن لا تتمدد بعض الأجسام بفعل الحرارة ، و يمكن أن نشير إلى أن الماء لا يتمدد بفعل الحرارة
3 الأمي هو غير المتعلم --هذه الفرضية لا يمكن تكديب ، لأنها في كل الأحوال صادقة
4 الله موجود --هذه الفرضية فرضية ميتافيزيقية لا تدخل في مجال العالم بالتالي يجب استبعادها

تكون فرضية ما قابلة للتكذيب إذا سمح المنطق بوجود واقعة أو سلسلة من الوقائع تكذب هذه الفرضية .
يميز كارل بوبر بين نوعين من العبارات، عبارات ذات قابلية للتكذيب(1)،(2)، و عبارات ليست لها قابلية للتكذيب(3)،(4) ، فالعبارات الأولى هي العبارات العلمية ، أما العبارات الثانية فهي إما عبارات ميتافيزيقية--فمثلا عبارة الله موجود عبارة لا يمكن أن نبرهن على صدقها أو كذبها ، لهذا يجب أن نستبعدها من مجال المعرفة العلمية--أو عبارات تحليلية – قضايا تحصيل حاصل التي تجعل المعرفة العلمية في إطار تحليلية جامدة فقضية الماء هوh2o هي قضية لا يمكن تكذيبها ، فهي في كل الأحوال صادقة سواء أثبتناها أو نفيناها--.
كل عبارة علمية يجب أن تخضع لمعيار قابلية التكذيب، و كل عبارة لا تخضع لهذا المعيار يجب استبعادها، و كلما كانت النظرية دقيقة وواضحة وعامة كلما كانت قابلة للتكذيب.
فقوانين كبلر التي تفسر النظام الشمسي انطلاقا من نظرية الحركة هي أقل تكذيبية من نظرية نيوتن التي تحاول تفسير المنظومة الشمسية انطلاقا من نظرية الحركة و الجاذبية، فنظرية نيوتن كانت قادرة على مواجهات تكذيبيات نظرية كبلر فكانت أفضل منها.

* التقدم في العلم من منظور تكذيبي
فالتاريخ التكذيبي للنظريات يعلمنا أن النظرية العلمية الصلبة هي نظرية قادرة على مواجهات تكذيبات النظرية السابقة عنها ، وأي نظرية يتم تكذيبيها يجب استبعادها ، مضمون المشروع العلمي عند التكذيبي هو طرح فرضيات ذات قدر كبير من قابلية للتكذيب ،إن طرح فرضية تفسيرية حول ظاهرة ما ، يتم عبر تجاوز أخطاء الفرضية السابقة ،وهنا يدعونا كارل بوبر—أنظر كارل بوبر منطق الكشف العلمي ص 342— إلى استخلاص العبر و الدروس من أخطائنا، ويجب أن نتعلم أن العلم يتقدم عن المحاولات و الأخطاء.
ينظر صاحب النزعة التكذيبية إلى تقدم العلم من هذه الزاوية ، فالعلم يبدأ بمشاكل ذات علاقة بتفسير سلوك بعض جوانب العالم أو الكون ، بعد ذلك يحاول العالم تقديم افتراضات ابتدائية يتم اختبارها ، ويحتفظ بالفرضيات التي صمدت في الاختبارات السابقة من أجل تعريضها من جديد لاختبارات صارمة، من أجل تكذيب هذه الفرضية إذا نجح هذا أمر سيظهر لنا مشكل جديد يؤمل فيه أن يكون بعيد عن المشكل الأصل ،وتظهر لنا فرضية جديدة تحاول أن تفسر هذا المشكل ، ويتلوها مجموعة من اختبارات و امتحانات تحاول أن تمحص و تكذب هذه الفرضية الجديدة ، وكلما كانت هذه الفرضية قادرة على الصمود، كلما كانت النظرية العلمية قادرة على تقديم أكبر عدد من التفسيرات الممكنة للظاهرة ، و لا نحكم صحة نظرية ما إلا بمقدار تفوقها على سابقتها .
يمكن أن نقدم مثال في تاريخ الفيزياء حول هذه القضية من أرسطو حتى أينشتاين :
لقد نجحت الفيزياء الأرسطية في تفسير مجموعة من الظواهر ، على رأسها ظاهرة سقوط الأجسام انطلاقا من مبدأ الثقل و الخفة – فالأجسام الثقيلة تسقط إلى الأسفل "الماء والتراب" و الأجسام الخفيفة تصعد نحو الأعلى " الهواء و النار" –غير أن النظرية الأرسطية كذبت في كثير من أحيان

فالأحجار التي تلقى من أعلى السفينة تسقط عموديا على الصارية و ليس بعيدة عنه كما اعتقد أرسطو، بجانب فرضية الصارية التي كذبت كما رأينا ،كذبت معظم فرضية أرسطو و خصوصا مع غاليلي الذي أعلن موت الفيزياء الأرسطية بشكل مطلق .ولما جاءت الفيزياء النيوتونية --عندما نتكلم عن الفيزياء النيوتونية يجب أن نستحضر الدور الذي لعبه كل غاليلي و كبلر و براهي في نشأة هذه الفيزياء ــ
تمكنت من تفسير كل الظواهر التي عجزت الفيزياء الأرسطية على تفسيرها ، وذلك انطلاقا من فرضيات جديدة ذات قابلية أكثر للتكذيب ، مثلا فرضية المد و الجزر و علاقته بالجاذبية، أي تغير قوة الجاذبية تبعا لارتفاع المياه على سطح البحر ، كما ساعدت النظرية النيوتونية على اكتشاف كواكب جديدة و على رأسها كوكب نبتون ، مما أعطى للنظرية قدرة كبيرة على التنبؤ و التفسير ، بالإضافة إلى صمود هذه النظرية أمام أعتا الاختبارات التي كانت تحاول تكذيبها بشكل أو بآخر ، و لكن تاريخ العلم يعلمنا انه لا وجود لنظرية مطلقة في الفيزياء ، فكل نظرية مها كانت قادرة على تفسير عدد كبير من الظواهر فهي نظرية قابلة للإزاحة ، فهذا منطق تطور العلوم .
مع نهاية القرن 19 و بداية القرن 20 واجهت النظرية النيوتونية مشاكل جديدة لم تقدر على تقديم فرضيات تفسيرية ، لأن النسق النيوتوني لم يقدر على تفسير مدار كوكب عطارد ، و الكتلة المتغيرة للاليكترونات شديدة السرعة، كل هذه المشاكل تطلبت البحث عن فرضيات جديدة تمثل شرط التقدم داخل المعرفة العلمية ، ولقد رفع أينشتاين شعار هذا التحدي ، واستطاع في النظرية النسبية الخاصة تفسير الكتلة المتغيرة للاليكترونات عبر معادلة تساوي الكتلة –الطاقة  E=MC²
حيث( E الطاقة، M كثلة الجسيم "إليكترون مثلا ", C سرعة الضوء)
أما النسبية العامة و التي تمثل ثورة حقيقة في الفيزياء ، و التي استطاعت تفسير مجموعة من الظواهر مثل خصوصية مدار الكواكب و طبيعة النجوم النيتروجينية، و كذلك تنبأت بوجود ما يسمى BLACK HOLLES أو الثقوب السوداء .
كما استطاع اينشتاين انطلاق من النظرية النسبية أن يقدم لنا نظرية جديدة في الزمان، في الواقع لقد فشلت كل المحاولات التكذيبية التي كانت ترمي إلى تكذيب النظرية النسبية ، و لا زال تكذيب النظرية الأينشتاينية يمثل رهانا كبيرا للفيزيائيين المعاصرين.
يعتبر التكذيبي أن تقدم العلم ناتج عن تزايد قابلية الدحض لهذه النظرية أو تلك ،يجب على النظرية العلمية – إذا ما أردت أن تستمر على الساحة العلمية—أن تعدل من فروضها باستمرار من أجل مواكبة تطورات الواقع ، وتلعب الفرضيات الجريئة دور فعالا في تطور العلم أكثر من الفرضيات الحذرة و التي تحاول أن تتحفظ على نظرية علمية.
يجب أن نفهم مفهوم الجرأة-- الذي نعتبره عنصر ثوريا في المعرفة العلمية -- كمفهوم نسبي لأن الفرض الذي نعتبره جريئا في نظرية نيوتن قد يكون فرضا حذرا عند أينشتاين ،تاريخ العلم كما يفهمه التكذيبي قائم على التكذيب الفروض الحذرة وتعويضها بفروض جريئة يكون لها طابع تفسيري أقوى من سابقتها ،من هنا يتم إثبات نظرية إلى حين تكذيبها .

*حدود النزعة التكذيبية
العيب في أطروحات التكذيبيين هو أن أطروحاتهم تتوقف على نظرية معينة مما يعرضها للخطأ ،ويمكن أن نشير إلى الاستدلال المنطقي الذي يقيم عليه التكذيبيين أطروحاتهم : " إذا توفرنا على منطوقات annonces صادقة من الملاحظة ، فإننا نستطع منها أن نستنتج كذب بعض المنطوقات الشمولية ، و لكننا لا نستطيع بأي شكل أن نستنتج منها صدق أي منطوق شمولي "
هذا الاستدلال لا مجال للطعن فيه ، لكن مشكلة الاستدلال هو أنه قائمة على فرضية مسبقة"وجود منطوقات الملاحظة" ومن الممكن أن تكون فرضية خاطئة .
فلا يمكن أن تكذب النظريات بكيفية مقنعة ، لأن منطوقات الملاحظة التي تشكل قاعدة للتكذيب يمكن أن تظهر نفسها خاطئة في ضوء التطورات اللاحقة، هذا الأمر جعل الأن شالمرز يصف النزعة التكذيبية بالنزعة الفاسدة تاريخيا ، فهناك واقعة تاريخية أحرجت التكذيبين ؛ فلو أن العلماء انخرطوا انخراطا تام في مبادئهم الميتودولوجية ، لما أمكن للنظريات أن تكون أصدق أمثلة على النظريات العلمية أن تنمو وتكتمل لأنه حينئذ ، سوف تكذب في اللحظة الأولى ، مثلا بالنسبة لأي نظرية كلاسيكية –نيوتن مثلا—في لحظة صياغتها يتم قبول بوجه عام فرضيات متناقضة مع النظرية ، إلا أن هذه النظرية لم تكذب و استمرت ،ونفس الأمر وقع مع اينشتاين حينما زعم خاليتنكوف فساد النسبية انطلاقا من بعض الملاحظات المزيفة.
الاحالة
Alan Chalmers, Qu'est-ce que la science ? : Popper, Kuhn, Lakatos, Feyerabend, Le Livre de Poche, coll. « Biblio essais », Paris, 1987
2 كارل بوبر ،منطق الكشف العلمي ، ترجمة وتحقيق ماهر عبد القادر محمود علي 2007

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟