التراث والفكر الاسلامي : عبد الله العروي أنموذجا ـ إبراهيم أيت إزي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

AbdalaAlirwiتحتل مسألة التراث في الفكر العربي و الإسلامي مكانة هامة لما تقتضيه هذه المسألة الفكرية و المعرفية من أهمية في الفكر والعقل العربي و الإسلامي، و في الواقع الثقافي و القطري، و أخيرا في علاقتها بالآخر الحضاري، و خاصة أمام التحديات الجديدة على العالم العربي و الإسلامي من خلال ظاهرة العولمة و استتباعاتها الثقافية و الحضارية، و هوس المفكرين و المثقفين العرب بذلك.


وفي هذا السياق نحاول الوقوف على أعمال مفكرين تنتظم أعمالهما في أفق تاريخي واحد محدد: الواقع التاريخي المغربي العربي، توجهه إشكالية مركزية كبرى إشكالية التأخر التاريخي، حيث يتجه المشروعان معا لبناء ممكنات ركوب درب الحداثة والتحديث لكن يختلفان في كيفية مواجهة هذه الإشكالية. بيد أنه اختلافات، نعتبرها أسئلة جديدة تدعو إلى المزيد من التفكير في سؤال وظيفة الفكر في التاريخ.
يحتل عبد الله العروي داخل الثقافة العربية مكانة متميزة،اشتهر المفكر بمؤلفاته،و ذاعت مؤلفاته به، من لا يعرف الرجل مفكراً يذكره أديبا، ومن لا يستحضره ناقداً يعرفه مؤرخا كتب العروي، نظر، و ناظر دفاعاً عن مقولة واحدة هي كيفية تجاوز التأخر التاريخي، الذي تزدري تحته الثقافة و الواقع العربيين، و الانخراط ضمن ما يسميه "المتاح للبشرية جمعاء". أي الوعي بالقطيعة مع التراث، لأنها" حصلت و تكرّست" بالفعل. 

المؤلف
ولد الأستاذ والمفكر عبد الله العروي ,في مدينة آزمور ,في نونبر 1933. العروي شخص مقل، غيور جدا على حميميته، لا يتحدث عن سيرته، ماعدا ما كتبه في يومياته » "خواطر الصباح"«، التي يهيمن عليها ، البعد الحميمي، لكنها لا تتحدث إلا عن العروي المثقف، أي العروي منذ نشر كتابه الأساسي » الأيديولوجية العربية المعاصرة« في 1967. و العروي، الطفل والشاب؟ لن يتحدث العروي عن ذلك إلا بالإيحاء في رواياته، خاصة »اليتيم« ، الصادرة في 1978، و »أوراق« الصادرة في 1989. لكن العروي يرفض الخلط بين ادريس و عبد الله العروي، لأن الأول مات، و الثاني ما يزال حيا يرزق. لا شيء إذن في طفولة العروي وشبابه يمكن النفاذ إليه بسهولة، لغيرة الشخص على حميميته كما ذكر، و لانه لا يرى فائدة في الحديث عن طفولته و شبابه.
حتى الجزء المتعلق بفترة المراهقة و الشباب في يومياته، التي بدأ تدوينها منذ 1949 و هو تلميذ بمدينة مراكش، لم ينشره، و اكتفى بتوظيفه عن طريق الإيحاء في روايتي »اليتيم« و »أوراق«.
تفيد القرائن أن العروي بدأ تعليمه و هو في سن السادسة بمسقط رأسه آزمور، أي مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. في تلك السن، أي 1939، افقتد أمه. لقد كان العروي في هذه السنة على موعد مع »التراجيديا« بامتياز، ألهذا السبب هو شغوف بقراءة وليام شكسبير ؟ هو الذي عليه أن يجيب، و قد لا يجيب.
بعد الحرب احتك عبد الله العروي بمراكش لمتابعة دراسته الثانوية، التي استكملها بحصوله على الباكالوريا بالرباط في 1953. احتار عبد الله العروي بين اختيار دراسة الطب، و الآداب، و العلوم السياسية، لكن التلميذ، الآزموري، الذي كان قارئا، مواظبا، لأعمال الفيلسوف نيتشه بين 1949 و 1953 ، اختار دراسة العلوم السياسية، بمعهد زنقة سان كيوم بالدائرة السادسة بباريس. كانت غاية العروي من هذه الدراسة تحضير ولوج المدرسة الوطنية للإدارة ليكون موظفا ساميا. و كما قال العروي، فان حصوله على الإجازة تزامن مع حصول المغرب على استقلاله، و بالتالي سقوط حق المغاربة في ولوج تلك المدرسة باعتبارهم أجانب و عدم وجود اتفاقية تبيح لهم ذلك.اختار العروي مواصلة دراسته العليا بتحضير دبلوم السلك الثالث في التاريخ، الذي ناله سنة 1958، عن دراسة حول التجارة و الملاحة العربية في المحيط الهندي بين القرنين 10 و 14. في سنة 1963 حصل عبد الله العروي على التبريز في الإسلاميات، وفي سنة 1976 قدم أطروحة بعنوان "الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية: 1830-1912" وذلك لنيل دكتوراه الدولة من السوربون. و أصبح أستاذا بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط بعد أن كان مستشارا ثقافيا بالسفارة المغربية بالقاهرة و بعدها بباريس. لم يعتكف العروي في منصب الأستاذ، بل انشغل بالتأليف، و المحاضرة كأستاذ زائر في عدة جامعات فرنسية و أمريكية، و القيام ببعض المهام العمومية.
بدأ عبد الله العروي النشر سنة 1964 تحت اسم مستعار (عبد الله الرافضي) حيث نشر نصا مسرحيا تحت عنوان "رجل الذكرى" بالعدد الأول من مجلة أقلام. يضم إنتاجه الفكري والإبداعي دراسات في النقد الإيديولوجي وفي تاريخ الأفكار والأنظمة ونصوصا روائية. نشر أعماله في مجموعة من المجلات: أقلام (الرباط)، مواقف (بيروت)، دراسات عربية (بيروت)، Les temps modernes، ديوجين (باريس).
وتشكل سنة 1967 علامة فارقة في فكر العروي، وفي الفكر المغربي عموما. خلال تلك السنة، صدر كتاب "الأيديولوجية العربية المعاصرة" بالفرنسية (دار ماسبيرو)، معلنا ولادة المشروع الفكري لعبد الله العروي. (صدرت ترجمته العربية عام 1970عن دار الحقيقة في بيروت). وأصبح اسم عبد الله العروي ، منذئذ، أساسيا في المشهد الفلسفي العربي حيث أدرك المهتمون أن ثمة مشروعا مهما قيد التشكل. تركز مشروع العروي في الانخراط في صلب الواقع العربي، وفي كونه نقدا جذريا للفكر السائد واقتراح فكر بديل يسهم في توجيه الفعل، بغية تحقيق شروط النهوض.
واصل العروي التدريس بكلية الآداب و العلوم الإنسانية، بجامعة محمد الخامس، بالرباط، إلى غاية تقاعده سنة 2000، و هي السنة التي حصل فيها على جائزة كاطالونيا باسبانيا. كما سبق له الحصول على جائزة المغرب للكتاب سنتي 1990 و 1997.
للعروي إذن مسار مهني هادئ:معارضة ذكية، خدمة عمومية فعالة و كفؤة، حياة ثقافية و أكاديمية مليئة بالانجاز. لو كان العروي في الحكم لكان رجل دولة بامتياز.
تتداخل في شخص العروي مجموعة من التخصصات: العروي المؤرخ، العروي المفكر، العروي الروائي، العروي المحلل السياسي، العروي الناقد الأدبي و الفني. لقد تجاوزت مؤلفات العروي 30 مؤلفا.
أنجز العروي المؤرخ مجمل تاريخ المغرب باللغتين العربية(1984-1996) و الفرنسية(1970)، و الأصول الاجتماعية و الثقافية للحركة الوطنية المغربية1830-1912(1977)، و مقاربات تاريخية (1992)، و مفهوم التاريخ(1992)، و الإسلام و التاريخ(2000)، بالإضافة إلى مقالات نشرت في الموسوعة الجامعة و الموسوعة البريطانية و مذكرات من الثرات المغربي. و أنجز العروي المفكر الايديولوجيا العربية المعاصرة (1967)، و العرب و الفكر التاريخي(1973)، و أزمة المثقفين العرب(1974)، و مفهوم الايديولوجيا(1980)، و مفهوم الحرية(1981)، و مفهوم الدولة(1981)، و ثقافتنا في ضوء التاريخ(1983)، و الإسلام و الحداثة(1986)، و مفهوم العقل(1996)، و اسلاموية، ليبرالية، عصرية(1997)، و السنة و الإصلاح(2008),من ديوان السياسة (2009) مونتيسكيو تأملات في تاريخ الرومان (2011) ودين الفطرة لروسو 2012. و أنجز العروي المحلل السياسي و الملاحظ، الجزائر و الصحراء المغربية(1976)، و خواطر الصباح نشرت في ثلاثة أجزاء بين 2001 و 2005، و المغرب و الحسن الثاني(2005).
و أنجز العروي الروائي الغربة(1971)، و اليتيم(1978)، و الفريق(1986)، و اوراق(1989)، و غيلة(1999)، و الآفة(2006).
و ترجم جزءا من "خواطر الصباح" و رواية "أوراق" إلى اللغة الفرنسية(2008).

موقفه من التراث:

ما يثير في أعمال العروي هو كفائته في التركيب النظري التاريخي، المستند إلى قواعد وأصول نظرية محددة، وما يثير أيضا هو شجاعته في بناء الرأي، والجهر به، وتشبته بقيم في النظر والعمل التاريخي، رغم كل الانتكاسات والهزائم والتراجعات التي حصلت في الواقع.
وتكشف متابعة أعماله الأخيرة قدرته على مواصلة التفكير في إشكالية التأخر التاريخي في العالم العربي، وفي رصد مفارقات جديدة تؤكد قيمة أطروحاته. التي اتخذت وجهة نظر يمكن تعيينها فيما يمكن أن نطلق عليه، الدفاع عن الحداثة وتأصيلها، انطلاقا من الدفاع عن الفكر التاريخي والنزعة التاريخانية، أي الدفاع عن مبدأ استيعاب " المتاح للبشرية جمعاء"، باعتباره الخطوة الضرورية لتجاوز التخلف التاريخي. من خلال نقد التيارات السلفية ونزعات التوفيق التلفيقية بمختلف صورها، والدعوة إلى الانخراط الفكري، في تاريخ لم نصنعه، لكننا مطالبون باستيعابه، لنتمكن من غرس وبناء قيم الحداثة الفعلية، بدلا من الاكتفاء بالنسخ المقلد، الذي يجعلنا معاصرين في الظاهر، دون أن يتمكن وعينا وعقلنا، من إدراك المسافات الكبيرة التي تفصلنا عن الحداثة الفعلية.
وفي هذا الإطار يقول إن طوبى الشيخ تتردد على شكل حنين، وطموح المثقف الليبرالي يرد إلى تبعية غير واعية، وهما معا يكرسان استمرار غياب الوعي التاريخي البديل. وفي هذا السياق نعتبر كتابه مفهوم العقل خاتمة المفاهيم محاولة قوية في نقد العقل الاسلامي، تتقاطع فيها إشكالات التأخر بالإصلاح والحداثة، أي من خلال إشكالية العقلانية والتاريخ، الحداثة في التاريخ، ثم موضوع الموقف من التراث، إذ يتضمن دعوة قوية إلى إحداث قطيعة فعلية مع نوع من التعامل التكراري مع التراث.
في جل كتاباته نجده تحوار مع التراث، وخلص بضرورة تفكيكه. لا استعمل كملة تفكيك هنا إتباعا لموضة ثقافية، فهي واردة في الكتاب. أستعملها لأشير فقط إلى أن هذا الكتاب ينطوي على مفهوم عن القطيعة لم يكن الأستاذ العروي ليقبله، وهو أن الانفصال عن التراث ليس عملية تلقائية. كما أنه ليس خصاما وإنما تملكا وإحياء.
وربما وجب من أجل توضيح ذلك الوقوف عند كلمة نقد الذي لا يعني هنا فضح العيوب ولا إثبات التهافت وإنـما هو أقرب إلى المعنى الكنطي : إنه إثبات حدود الصلاحيـة. نقد التراث هنا حكم على التراث انطلاقـا من مفاهيم غير نابعة من صلبه، فنحن لسنا بصدد وصف تقريري، وإنما موقف انتقادي معياري. هذه المعيارية تطبع سلسلة كتب المفاهيم التي نشرها الأستاذ العروي كلها. فهذه المفاهيم لا تطابق المجتمعات العربية مطابقة كاملة " إذ أننا لو انطلقنا من المجتمعات العربية وحدها، من إنجازاتـها الثقافية الماضيـة والحاضرة لاستحال أن نصل بمحض الاستنباط إلى كمال المفهوم". يستحيـل أن نجد الآن عند الغزالي مفهوم الأدلوجة، أو عند ابن عربي مفهوم الحرية، أو عند ابن خلدون مفهوم التاريخ، أو عند الشاطبي مفهوم الدولة أو عند ابن رشد مفهوم العقل.
عندما يتحدث العروي عن القطيعة فإننا غالباً ما نلمس في نبرة الرجل نوعا من الوثوقية . القطيعة، حل الإعراض عنها موت و انتحار، والقبول بها ولادة و انبعاث. غير أن الحاجة إليها لا تنبع عن إعجاب بالتراث الغربي أو عن صلة به أقوى من التراث العربي الإسلامي كما لا تبرز هذه الدعوة من تقزز أو رفض لهذا التراث.
يعترضنا سؤال ثاني عندما نتحدث عن مفهوم القطيعة داخل متن عبد الله العروي و هو أي نوع من القطيعة يستهجنه الفكر العربي، هل نحن في حاجة إلى قطيعة إبستمولوجية كالتي دعى إليها "أب الأنتلجسيا العربية" في مؤلف " نحن و التراث" قبل 16 سنة من صدور مفهوم العقل ؟ أم إلى نموذج آخر للقطيعة أكثر راديكالية، لا يكتفي بالقطع مع القراءات التراثية للتراث و إنما حتى مع التراث نفسه.
لم يصدر عبد الله العروي موقفه عن فراغ و لا تحدث إلى العرب بغير لسانهم ، فقد كانت الحاجة إلى القطع مع العقل العربي التراثي نابعة مما يعيشه هذا العقل من تناقضات أو لنقل بلغة العروي من مفارقات، تظهر في مطلقية هذا العقل" فالعقل هو ما يعقل العقل ويحده ، و ما يعقل العقل، و يؤسسه كعقل ، هو علم المطلق، الذي هو علم مطلق" إنه علم يتأسس على النص و لا يتجاوزه. و هو بذلك عقل لا تاريخي " يعجز عن عقل الزمان بمعنى التطور و التغير لا بمعنى الظهور بعد الكمون".
الاهتمام بالظاهرة التراثية انطلق من التوظيف السياسي للتراث في معارك الحاضر العربي وعلى مختلف الواجهات. يرصد المؤلف الظاهرة، بهدف دحضها، ونقدها بصورة جذرية. فقد كان وما يزال أكبر دعاة الحداثة السياسية في الفكر العربي المعاصر، لذلك يعتبر صاحب الأطروحة الأكثر جذرية في نقد المنظور الفلسفي، بحكم غربته وغرابته في إطار شروط ومقدمات الأزمنة الحدديثة. لا يقف العروي على تيارات بعينها، يلمح وشير فقط، انطلق من اعتبار محمد عبده يشخص بصورة نموذجية وضع الاختيار السلفي، بمواقفه من الغرب، العلم، والحداثة السياسية. وهو بذلك يعتبر في نظره نموذج المصلح السلفي الذي حاول البحث عن وسيلة للتصالح مع الماضي والحاضر، فقد أدرك محمد عبده، في نهاية القرن الماضي، أن أوربا "النصرانية" تكتسح العالم، وقد تحصن بالذات وبالماضي عند مواجهته لإرادتها في الهيمنة وناظر من اعتبر أنه يمثل ثقافتها... ناظر المغتربين فرح أنطوان، شبلي الشميل...معتبرا أن المنزع التوفيقي، يكفل أكثر من غيره، تحولا في التاريخ، يحفظ للذات ذاتها، ويزينها بقليل أو كثير مما اعتبره مزايا الحداثة الغربية،، وفي هذا الإطار أصدر فتاويه الرامية إلى التقريب بين الذات ومتطلبات العصر.
لحظة محمد عبده جسدت المفارقة الكبرى في التاريخ العربي المعاصر، وعبارة " الاسلام دين العلم والمدنية" التي تقف خلف سجالاته مع فرح أنطوان تشخص أبعاد هذه المفارقة، حيث لم يتمكن محمد عبده من إدراك المسافة المعرفية والتاريخية، الفاصلة بين العقل التراثي وعقلانية الحداثة المعاصرة، كما بلورتها منجزات الغرب الحديث والمعاصر.
يجسد محمد عبده في نظر العروي، الاشكالات التي تطرحها العناية الراهنة بالمسألة التراثية، فما يحصل اليوم في الثقافة العربية المعاصرة، من رجوع إلى الدفاع عن معقولية التراث، مقابل مادية الحضارة الغربية، يمثل انكفاء وتراجعا بعدينا إلى عتبة محمد عبده، ومشروعه في الاصلاح السياسي والعقائدي، فنكون قد عدنا القهقرى وعجزنا عن تجاوز مفارقة محمد عبده.
إن مفارقة هذا الأخير يقول العروي: " ناتجة عن الحصر الذي جعله ينفي الزمان، ويظل وفيا للذهنية الكلامية التقليدية، فقد استنجد بعقل المطلق" وعجز عن تعقل مقتضيات الزمان"، حيث حاول إحياء جوانب من منظومة التراث كوسيلة لمواجهة التحديات الجديدة.
بعد نقد الكلام والمنطق يصوب العروي سهام النقد لمجال العلوم العملية، العمران، الاقتصاد والحرب، كما بلورتها النظرية الخلدونية بكل ما لها وما عليها. وذلك بالعودة لآثار السابقين عليه مثل أرسطو واللاحقين في سياق تاريخ الفكر السياسي، ومنهم ماكيافيلي وبودان ومنتيسكيو وكلازوفيتس.
فابن خلدون حسبه "حصره معنى العقل في التعقل والتعقيل، وحصره هذا هو حصر الجميع، ومن يتولاه اليوم يبقى سجين حدوده، فيتيه في المفارقات".
إن دعوة العروي للقطيعة إذن نابعة من إيمانه بتهافت الدعوات السلفية و لا تاريخيتها ، إنها دعوة تعيش التاريخ بغير عدته تتأسس على ماضوية ترى في الماضي مستقبلا أو ما يطلق عليه الباحث بالماضي- المستقبل الذي هو خاصيتنا الأساسية و "الذي يغير دلالة الزمن المعتادة". لا يدعو العروي إلى القطيعة مع الفكر السلفي فقط، بل سرعان ما يعلن حرب القطيعة على كل فكر انتقائي لأنه فكر مشوه ينتج عنه " تداخل و تشابك و اهتزاز يعجب له كل من تعود على إعطاء التاريخ اتجاها واضحا ثابتا" .
إلا أننا نتسائل لماذا القطع مع التراث ؟ أليست الدعوة إلى القطع مع التراث و الارتماء في أحضان التاريخ الكوني ( الغربي ) باعتباره المخرج الوحيد لأزمة العرب دعوة متهافتة خاصة ومع تنامي الدعوة إلى الاختلاف من لدن الغرب نفسه؟ هل القطع مع التراث كافي لمنح كتابات العروي كل هذه الأهمية ؟ ما هو البديل الذي يقدمه العروي للتحديث؟ و لماذا هذا البديل دون غيره؟ 
لا يخفى على أحد منا أن مفهوم القطيعة ولد وتطور في أحضان الإبيستمولوجيا، وحاول الفكر النقدي العربي تطبيق هذا الفهم على التراث ، فاستعمل العروي مفهوم القطيعة المنهجية و ظن العروي في هذا المفهوم القدرة على تفكيك الإخفاق 
و الركود و العجز الثقافي العربي الذي يحول دونه و الحداثة،و للقفز فوق"حاجز معرفي، حاجز تراكم المعلومات التقليدية"، وإحقاق ما ينعته العروي بطي الصفحة فماذا نعني بالقطيعة المنهجية؟
يعتبر العروي من بين أول المفكرين العرب الذين استدعوا مفهوم القطيعة - إن لم يكن أولهم - في تعاملنا مع ما خلفه أجدادنا و مع ما يعيش معنا منهم . إلى جانب القطيعة استعمل العروي مفاهيم الحسم، طي الصفحة للدلالة على نفس الغرض و الوظيفة ، لقد أراد الرجل من خلال هذه المفاهيم الإعراض عن التراث و تجاوزه إما "لانحلال قاعدته المادية 
أو الاجتماعية أو الفكرية"، لكن هل يمكن القطع مع تراث قطب الرحى فيه العقل، و هل يعني القطع مع التراث القطع مع العقل ؟ لا ينكر العروي بأن تراثنا الفكري يدور كله حول العقل و لا شيء غير العقل ، إلا أن العقل التراثي الذي نتكلم عليه اليوم هو غير العقل الحديث كما تبلور في أوروبا القرن 18.
إن العقل، عقل المطلق هو أصل الإحباط الذي تعيشه المجتمعات العربية منذ مدة، خلف بالأمس الاستعمار و يقودنا اليوم نحو التبعية. إنه عقل ثيولوجي كلامي يبحث عن المطلقات و لا يهتم بالواقعات. لذلك فإن العروي يائس من إمكانية توليد مفهوم التحديث من داخل التراث سواء تعلق الأمر بالفكر أو بالتاريخ، إذ كما يستحيل أن نجد مفهوم الأدلوجة مكتملاً عند الغزالي أو الدولة عند الشاطبي، يكون من الغلط البين الكلام عن الحرية في المجتمع الجاهلي أو الإدارة عند الآدارسة ....، إن أنسب حل يرى العروي يمكن أن نتعامل به مع التراث هو القطع معه، فالأمر أولا مسألة منهج و هي ليست مسألة هينة أو شكلية " مسألة مراجع و إحالات و نقاش أراء بكيفية منتظمة ".
إن إشكالية العروي لا تكمن في التراث ذاته و إنما مع الكائنات التراثية كذلك أو ما يسميه العروي بأعداء الحداثة ذلك الفريق الذي يدعو إلى رفض الحداثة باعتبارها لعنة ارتبطت بالاستعمار و الحرب. antimoderne
إن دعوة العروي للقطيعة مع التراث لم تكن دعوة أدلوجية محضة بل إنها دعوة علمية استقى خلالها الرجل مفاهيم ومناهج و أدوات معرفية تمثلت بالخصوص في استعماله للمنهجين التكويني و التفكيكي للمقولات و الذهنيات التراثية سواء المعاصرة منها ممثلة في محمد عبده صاحب أكبر مفارقة عاشها و يعيشها العقل العربي مفارقة بين عقل المطلق و عقل الواقع ، بين عدته المعرفية وواقعه الاجتماعي. و القديمة مع العلامة ابن خلدون.
لا يكتفي داعية التاريخانية في العالم العربي إلى تبرير الحاجة إلى القطيعة بل سرعان ما يطرح بديله التحديثي. و هذا ما يعني أن الرجل لم يكتفي بعملية الهدم و التقويض، و إنما تجاوز الأمر للبناء، لم يقتصر على فضح عوالم النقص و القصور في العقل العربي. و لم ينتهي فقط إلى عجزه أو سحب صفة الخلق عنه، إذا لطالما ساهم هذا العقل في إثراء الفكر الإنساني. لقد ساهم الفكر الإسلامي في العصر الوسيط في نقل الإرث اليوناني إلى غير العرب، و نظر فيه شرحاً و تفصيلاً. و اليوم و هو يعيش حالة الركود و سيادة اللامعقول فيه ألا يحق له أن يغترف مما هو متاح للفكر الإنساني اليوم.
وبذلك يدعو للتعلق بـ "التاريخانية"، أي بمسار تاريخ العالم. إذ قدم العروي في هذا الكتاب اجتهادات ذات قيمة عالية عند نقده السلفية والاختيار السلفي، وإبراز محدودية أفقها السياسي اللاتاريخي .
وبذلك كان مشروع العروي متميزا ومتفردا، بحيث خلخل نمطية الجدل الإيديولوجي السائد في الوطن الإسلامي و لمدة قرون طويلة.
وهو أي العروي دشن مشروعه من خلال مجموعة من المعطيات المميزة له كمنظر وكباحث في الفكر التاريخي والإسلامي. ومن تلك "الكلمات- المفتاح" في فكره نجد:
الحسم
مسألة"الحسم" التي يطالب بها الدول الإسلامية في الشجاعة واختيار مسار من المسارات المحددة ودون تردد للانخراط في صناعة التاريخ أو على الأقل الاستفادة منه والسير في ركبه وليس خارجه ...
المتاح للبشرية
كما نجد من أهم تعابيره عن التاريخانية ومضمونها بعبارة"المتاح للبشرية جمعاء" أو بمعنى آخر أن الإنسان يتحرك ويبدع وينتج وفق الظروف الحتمية المتاحة له وليس خارجها ..
مسار تاريخي عالمي
وفي موقفه من الموروث الثقافي يظهر جليا دعوته إلى الدفاع عن "واحدية التاريخ البشري". بما لا يدعوا مجالا للشك على أن التاريخ العالمي عند العروي هو خط واحد يتقاسمه جميع العالم تداولا وتكاملا. فالعروي يرسم خطا تاريخيا تنتظم عليه حضارات العالم كلها، ويظهر ذلك في عملية التحقيب. لكن السؤال المطروح بالنسبة للعالم الإسلامي، هو هل يمكن الحسم مع التراث والموروث كما فعلت الشعوب الأخرى دون مشاكل؟ لأنه لا يمكن نسيان وتجاوز فكرة أن الحضارة الإسلامية انبنت على الدين على الإسلام كدين للإنسان والدولة والحضارة والمستقبل ...
التاريخ المقارن
كما ينادي العروي في أكثر من مرة في كتاباته ولقاءاته الحوارية على أهمية التاريخ المقارن، والذي يظهر عند العروي كواحد من المفاتيح المهمة لقراءة التاريخ واستيعابه .
الماركسية
الماركسية عند العروي حاجة ضرورية للأمة العربية، وهي ماركسية معتمدة على أساس المنفعة. وهذا يظهر حتى في تسمية ماركس عند العروي بحيث يسميه "ماركس النافع"( عبد الله العروي، التحديث والديمقراطية (حوار)، مجلة آفاق، 1992). وهو ما يبين ميل العروي إلى النزعة "البراغماتية" باعترافه هو(عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة). ويجب هنا أن نفهم جيدا من أن الكلام هنا محصور في تبني "الماركسية" على المستوى الإيديولوجي". ذلك أن "الماركسية" التي دعا إليها في كتابه "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"، والتي وصفها بـ"الموضوعية" ما هي إلا "ماركسية" تتلون بأوضاع الأمة العربية. على أنه يمكن أن نحدد دلالة "الفكر التاريخي" فنقول حسب العروي: إن "الفكر التاريخي" هو ضرورة ملحة وقتية عملية. وبالنسبة للفكر التاريخي فالعروي ينفي وجود حقائق مطلقة، وإنما يقول إن الحقائق لا يمكن فصلها عن ظروفها الإنسانية والبشرية. إن الحقيقة المطلقة "من المفاهيم التي ينبذها العروي في المجال الفكري، وتبعا لهذا ترفض "التاريخانية" ما يسمى باسم "لاهوت التاريخ" لأنه يفسر كل شيء بالمطلق، يقول العروي: إذا كان كل حادث يقع بمشيئة الله، ما فائدة سرد الحوادث؟(عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ). في حين أن عملية فهم التاريخ والسياسة مرتبطة بقدر من "العلمانية". وإذا كان "التأخر التاريخي" معناه أن البلدان العربية "مسبوقة في الميدان الفكري والاجتماعي والعلمي والثقافي"، فإن هذا "التأخر" ليست له صفة "الإطلاقية" و"القدرية"، بل هو قضية "نسبية" لا يمكن معاينتها وإقرارها إلا إذا قسنا مجتمعنا بمجتمع آخر . 
الإنسان صانع التاريخ
كما يؤكد العروي على مسؤولية الأفراد"بمعنى أن الإنسان هو صانع التاريخ"؛ مع التأكيد على "صيرورة الحقيقة، إيجابية الحدث التاريخي، وتسلسل الأحداث"، لكن هذا لا يعني أن الإنسان يمكن أن يصنع تاريخه الخاص به داخل إطار التاريخ العام بل دائما داخل "المتاح للبشرية جمعاء . 
وهو ما يبين أن لمفهوم"التاريخانية" معنى خاصا عند العروي بحيث يقول: "أما في ما يخصني، فلمفهوم "التاريخانية" معنى مختلف ومغاير، لأسباب كلها تعود إلى تباين موقعي ومواضعي، وبما أن "التاريخانية" حَدَتْ بفلاسفة الغرب إلى الإنكباب على تاريخ مجتمعاتهم وحضارتهم، فإنها عندي دليل يُحيلني على مجتمعي وتاريخه، ولو اكتفيت بالتموضع في "التاريخانية" كفلسفة أو ككتلة أفكار، لكنت مجرد داعية شأن "البرجسونيين" أو "السارتريين" العرب"( سالم حميش، "معهم حيث هم"، بيت الحكمة، الدار البيضاء،1988). هذا ويمكن أن نحدد التاريخانية بالإيجاب، فنقول: من مسلمات "التاريخانية" أنها تقول إن: "الإنسان كائن تاريخي". وطريقنا الحق والقويم إلى التخطي والتجاوز - يقول العروي - لا يمر إلا عبر الاستيعاب وآلام الولادة . ومن تم فإن: "التاريخانية ليست شيئا سوى قبول منطق العالم الحديث، الذي هو منطق أوروبا الغربية من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر"( عبد الله العروي: عن التخلف والتأخر التاريخي، مجلة بيت الحكمة، السنة الأولى، العدد الأول، أبريل، 1986.
التاريخانية فكر وتصور واقعي
و نجده يتهم العرب أنهم لا ينظرون إلى الأشياء في إطارها التاريخي، وبأنهم يتعاملون مع القضايا المطروحة بطريقة لا تاريخية. ويضرب مثلا بالقضية الفلسطينية حيث كان العرب والفلسطينيون يقولون أنها قضية حق، في حين أن الحق لا دخل للتاريخ فيه. متعاملين مع القضية كالتالي: إما أنك مع الحق أو أنت مع الباطل، ويتعين اتخاذ موقف حالا! مشيرا في النهاية إلى نجاعة المعاملة التاريخية الواقعية العصرية مع المشاكل العالقة بدل الأنماط التقليدية التي يسميها بالحقانية والتقليدية والمجردة والفلسفية بل الكلامية والثرثارة  .
العروي والعيش داخل التاريخ
وعلى المستوى العملي فإن "التركيب التاريخي" الذي مارسه العروي لمدة عقود من الزمن، وانتماءه إلى الحزب الاشتراكي، واتحاد كتاب المغرب، والمساهمة في المجلات والصحف، ثم التجربة الانتخابية في السبعينات، كلها تدل على المشاركة السياسية والفكرية والتاريخية في رسم التاريخ والتأثير في مساره، كما هي التاريخانية التي يدعو إليها .
ويمكن أن نقول إجمالا، إن التاريخانية كما يشرحها العروي تعتمد على أربعة مبادئ هي تباعا :
- ثبوت قوانين التطور التاريخي ( حتمية المراحل).
- وحدة الخط التاريخي ( الماضي نحو المستقبل)
- إمكانية اقتباس الثقافة ( وحدة الجنس)
- ايجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمن)( عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي).
عود على بدئ يبقى التراث و المخزون النفسي و الاجتماعي للمجتمعات العربية و الإسلامية محل تساءل بين فترة تاريخية وأخرى و بين عصر و واقع و آخر،إن هذا المخزون و هذه المرجعية تبقى محل توظيف و استعمال سواء من طرف النخب أو الإيديولوجيات و الساسة، كما يتم استخدام هذا المخزون على مستوى الأفراد و الجماعات و العائلات، كل حسب ظروفه ومصلحته، و لكن مهما كان الأمر فإن هذه المسألة أو غيرها وجب أن نأخذ في شأنها مسافات معرفية و تحليلية و عملية لكي لا تبقى ضاغطة و مكبلة للأفراد و الجماعات و المجتمعات، فهو رأسمال رمزي بتعبير بيار بورديو يتغير و يتحرك حسب الزمان والمكان و الأهداف و الإنتظارات المتنوعة و المختلفة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟