الضحك ـ ذ.حميد بن خيبش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Abstrait 1808لماذا نضحك ؟
ومن أين يستمد الإنسان قدرته على مواصلة الضحك في عالم تتزايد فيه الضغوط وبواعث الاكتئاب؟
هل يمكن لهذا التعبير الإنساني البسيط , و الذي يسبق كل مفردات اللغة أن يستثير الاهتمام و يكون مناط تساؤل و بحث ؟
إنه مجرد متعة , هكذا يتبادر للذهن لأول وهلة , أو رد فعل طبيعي إزاء موقف يتسم بالغرابة أو الخلل في التصرف المنطقي السليم ! لكن البحث حول ماهيته يكشف لنا قدم الانشغال الفلسفي بظاهرة يعدها فرويد " أرقى الإنجازات النفسية للإنسان" !


خلص أفلاطون بعد دراسته للضحك , وهي الأولى من نوعها , إلى أنه لا يليق بمواطني جمهوريته الفاضلة لقدرته على إفساد الوضع القائم , وحؤوله دون التحكم في انفعالات الناس كشرط لاستقرار الجمهورية ! فهو يدفع بهم إلى الابتذال و الطيش , و إلغاء الحواجز التي نصبها أفلاطون بكل صرامة بين العامة وذوي المقام الرفيع !
أما أرسطو فكان تقديره للضحك أقرب للاعتدال , حيث لم ينكر بعده الجمالي لكنه اعترض على الخروج به عن حدود اللياقة لما يلحقه بالآخرين من ألم .ودعا في المقابل إلى توظيف الكوميديا كإطار تتحقق من خلاله متعة الضحك و تطهير الانفعالات .
وفي العصر الوسيط الذي شهد احتكاك المسلمين بالعقلية الفلسفية اليونانية بفضل حركة الترجمة , برز اسم الجاحظ كأهم مفكر عربي انشغل باستكمال البحث حول ماهية الضحك , و النظر في دواعي صدوره عن الإنسان . وخلافا لما ذهب إليه فلاسفة اليونان , فإن الضحك عند الجاحظ خير كله ! وهبة ربانية مودعة في أصل طبعه و تركيبه .كيف لا وهو " أول خير يظهر من الصبي , إذ به تطيب نفسه , وعليه ينبت شحمه , و يكثر دمه الذي هو علة سروره ومادة قوته "(1) ؟! .
و لايتوانى الجاحظ عن حشد الأدلة التي تبطل ما شاع قبله من ربط الضحك بالقبح , فيُثبت الصلة بينه وبين الجمال , ويعتبر كونه فعلا منسوبا إلى الله في النص القرآني دليلا على سمو هذا التعبير الإنساني . لأن الله تعالى لا يُضيف إلى نفسه إلا ماكان خيرا وجميلا .
ورغم تزايد الاهتمام بالضحك في العصر الحديث ,خصوصا بعد نشأة علم النفس وعلم الجمال , إلا أننا نلحظ ندرة الدراسات الكاملة التي تعكس رؤية منهجية لهذا الميكانيزم الغريزي باعتباره مطلبا حيويا للتحرر من الضغط المجتمعي .ويبقى كتاب "الضحك" لهنري برغسون أهم دراسة في هذا الباب , خاصة وأنه قارب المسألة من زاوية أخلاقية ترى في الضحك تقويما للسلوك الاجتماعي: " إن المُضحك يعبر إذن عن نقص فردي أو جماعي يستدعي التصحيح المباشر . إن الضحك هو هذا التصحيح بالذات. الضحك هو نوع من الحركة الاجتماعية يبرز أو يقمع نوعا من السهو الخصوصي عن الأشخاص وفي الأحداث " (2) . ويقرر في موضع آخر " إن المجتمع يرفع فوق رأس كل فرد , إن لم يكن سوط الإصلاح , فعلى الأقل احتمال الإهانة التي وإن كانت خفيفة , فإنها تبقى مرهوبة .تلك هي وظيفة الضحك. فالضحك , وهو دائما مشين بالنسبة إلى الشخص المضحوك منه , هو حقا نوع من التوبيخ الاجتماعي " (3) .
اعترض باختين على موقف برغسون هذا لأنه برأيه يقف عند حدود الدور السلبي للضحك , ويحصر وظيفته في صيانة التقاليد الاجتماعية .لكن الحقيقة أن ما سعى إليه برغسون هو الكشف عن التماهي الحاد بينه و بين الألم , وهو ما يؤكده الدكتور علي مقلد في قوله "إن هنري برغسون حين يكتب عن الضحك إنما يفعل ذلك بعقل المفكر الحزين الذي يرى أن ساعة الأنس ليست خالية من نكهة مرارة تفرضها تراجيدية الحياة.ويتساوى في الشعور بهذه المرارة الفيلسوف و اللامبالي من الناس, المُمثل و المشاهد" (4) .
يزج بنا الاختلاف حول ماهية الضحك في خضم إشكال آخر لا يقل جاذبية وهو : ماالذي يستثير فينا الضحك ؟ و هل يصح أن تكون كل المضحكات موضوعا للضحك ؟
إن النقائص الأخلاقية و الجسمية, ومظاهر الغباء وسوء الحظ , واللعب بالمفردات كلها مولدات للضحك . لكنها مرتبطة في الغالب بسبب واحد هو: الاطمئنان لكمال الذات وسلامتها إزاء ما يتبدى لها من نقص أو غرابة في سلوك الآخر. وهنا يفرض التجاذب بين الجمالي و الأخلاقي تحديد المُضحكات التي من شأنها تحقيق الشعور بالغبطة دون إثارة حساسية أخلاقية أو عرقية !
وإذا كانت البحوث التي أجريت حول فوائد الضحك منذ جيمس سلي ( 1932-1842) حتى اليوم تؤكد على دوره في التخفيف من الضغوط النفسية و الأمراض البدنية , إلا أن تأثيره على النسيج المجتمعي ليس بالهين كما يُتصور, خصوصا في ظل توجيه إعلامي يبتذل ممارسة الضحك , ويدفع بالأنماط الفكاهية للعبث بالحياة الاجتماعية , وتعزيز الميل إلى التسليم بماهو قائم !
نعم , إنه ترياق نُواجه به مظاهر الاكتئاب اليومية , وانتقام خفي لما يُنتزع منا من حقوق ومكتسبات .لكن ما تتطلبه الحياة من انتباه دائم يدفعنا للتمسك بنكهته الإنسانية في عالم لا يكف عن المتاجرة بأرقى الإنجازات النفسية للإنسان !

 

(1) : الجاحظ .البخلاء. تحقيق طه الحاجري .دار المعارف القاهرة .ط4 1991. ص 6
(2) : هنري برغسون . الضحك .ترجمة د.علي مقلد .المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع .بيروت ط1. 1987 .ص 61
(3) : المرجع نفسه .ص 91
(4) : المرجع نفسه .ص5

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟