أذكرُ ذاتَ صباحٍ ربيعيِّ غائمٍ وماطرِ في مطالعِ أيَّار بعيدٍ قبل عشر سنوات كيف سافرت إلى مدينةِ الناصرةِ لشراءِ بضعة دواوين للشاعر السوري الكبير والمُختلفِ عليهِ نزار قبّاني , كان حينها قد رحلَ قبل أيامٍ معدودات , وكنتُ في شوقٍ لأقفَ على ماهيَّةِ وسرِّ هذا الشاعر المثير للجدل والإهتمام والإعجاب , خصوصاً وأنني لم أقرأه تلك القراءة الكافية العميقة الاَّ في نطاقٍ محدود كانت تتيحه مكتبة المدرسةِ أو منهاج التعليم أو الجرائد التي وصلت الى يدي آنذاك .
انتقيتُ أكثر من أهمَّ عشرة دواوين لنزار من بينها ديوانه الأوّل " قالت لي السمراء" الى جانب " الرسم بالكلمات" و"هل تسمعين صراخَ أحزاني " و"قصيدة بلقيس" وغيرها , وحاولت الغوص في شعريَّة واحدٍ من ألمعِ وأغزر وأمهر وأصفى الأصوات في قيثارة الشعر العربي لا في عصره الحديث بل في عصورهِ جميعها .
لا أظنُّ أن رحيل الشاعر كان محفزَّا لي لقراءتهِ وإستكشاف لمعان إبداعهِ الخفيَّ كالمحارِ والظاهرِ كالشمسِ في عليائها . بل الإختلاف عليه من طرف النقاد وكثرة الهمز واللمز فيه ولم يوارى جثمانه الغضُّ الثرى بعد .
رغم قراءاتي الكثيرة للمدرسة الرومانسية الساذجة بأفكارها في النصف الأوَّل من القرن العشرين , التي إنتمى اليها نزار ولم ينتمِ , أقصد أنه إستفادَ منها ولم يسرْ في نهجها , ورغم إعجابهِ بشعر شعرائها الكبار أمثال إلياس ابو شبكة وعلى محمود طه وعمر أبو ريشة , فإنني وجدت لاحقاً أنه مختلفٌ كثيراً في أدقِّ تفاصيلِ كتابتهِ الشعرية حتى عن أكثرهم وأعمقهم رومانسيةً وتجديداً وتمرداً على القديم , إنَّ نزار قباني شيءٌ آخر مختلف ومتغيرٌ ولا يمتُّ الى ما قبلهِ من رؤى شعرية ورؤيةِ الى القصيدة المستقبلية وطريقة تفكير ,وموضوعات فنيَّة , بأية صلة , أنهُ من أعظم أوائل المؤسسينَ لمدرسة الشعر الحديث وأحدُ أولئك الذين حوَّلوا الشعر العربي الى " خبزٍ يوميٍّ " على حد تعبيرهِ , بعدما كسروا التابوهات المقدَّسة تكسيراً يليق بها على أعتاب القصيدة . وبعدما أشعلوا الحرائق في الذائقة العربية العامة الجماهيرية والنخبوية وفي اللغة المتوارثة وثيابها الرثَّة .
لم يُحارَب نزار قباني من جهات ثقافية أو دينية أو سياسية أو إجتماعية إلاَّ لأنَ صدقهُ الفطري الإنساني قد أخذ بفضحِ جهلها وتخلَّفها ومحاولة التمردَّ عليها , كلُّ النقاد الذينَ فتحوا نيرانهم عليهِ كانوا ينتمونَ بوعيهم الى ضلال مرحلة بائدة ولم يروا أبعد من سياج أنفسهم أو ما وراءَ نوافذ أرواحهم , أرادوا للشعر العربي أن يبقى ممثلاً مملَّ الدور , وللمرأة أن تبقى تمثالاً خزفياً جامداً في النصوص والأدبيَّات .
أظنُّ أنَّ أعظم ما في نزار قباني صدقهُ الذي يجعلك لا ترى في سهولة كتابتهِ الشعرية وقرب المجاز والصور والمعاني من المُتخيَّل أيَّ نقصانٍ أو مذمةً شعرية , بل ترى إجتياحاً طاغياً نبيلاً لذائقة جماهيرية إستعبدتها زمناً ليسَ قصيراً كليشيهات فارغة من أيِّ مضمون حيٍّ , جديد , وطازج , يلمسُ قضايا تهمُّ الإنسان المعاصر في القرن العشرين , ولا يستوحي ويستلهم الماضي بالضرورة .
عشقَ نزار سوريا عشقاً أسطورياً وتغزلَّ بها وأحبَّ مدينتهُ الأم بإمتيازٍ قلَّ نظيره , رغم طوافه في كلِّ أرجاء الدنيا بقيَ خيطٌ واحدٌ من اللازورد , من الضوء , من المخملِ الشاميِّ , من الدانتيل الدمشقيّْ يشدُّهُ إليها , وإلى أزهارها وشوارعها وحاراتها وروائحها وطيورها . حتى أنه لم يستطيع التفلَّت من الحنين الشديد الممضِّ الى الكتابة عنها كما يكتب عن إمرأة أو حبيبةٍ في شعرهِ , لقد ملكت حواسه وملأتها بالعطر النفَّاذ , أسمعهُ يخاطب شقيقه صباح القباني في تقديمهِ لكراسة معرض رسومهِ وتأمَّل كيف كان وطنه بالنسبة لهُ لوحةً فريدةً تضمُّ كلَّ فنون الرسم والتجريد , وتحوي جميع العناصر التي خلعَ عليها صفة السحر , يقول:
"عندما نثر صباح قباني مئات الصور التي رسمها لبلادي أمامي لأكتب عناوينها، شعرت أن جميع اشجار التين، والحور، والصفصاف، والزيتون، والورد البلدي تنبت في راحة يدي.. وان الخراف الربيعية تترك بعضا من صوفها الأبيض على أصابعي.
صارت يدي ـ وهي تقلب الصور ـ يداً أخرى: عليها يسقط المطر، وتكبر سنابل القمح، ويسرح الرعيان، ويدبك الراقصون، ويغني الحصادون، وتملأ القرويات من ينابيعها الجرار، وتتناثر عليها مضارب البدو، وإيقاعات المهباج، وعبق القهوة العربية الطيبة.
صارت يدي مسرحاً تمتزج فوقه الألوان، والأصوات، والأهازيج، وتذوب كلها في نشيد واحد.. هو نشيد الأرض.
صارت يدي ـ والشكر لصباح ـ مرعى جَمَال.
وكما أخصبت يدي، وهي تتنزه مع صباح على طرقات بلادنا الجميلة التي نعرفها ولا نعرفها، ستخصب أيديكم، فصباح قباني يضع الوطن في راحة يدنا كما توضع التفاحة في يد طفل يرى التفاح للمرة الأولى.
سورية، تفاحة شهية، سكرية الرحيق، لكن أكثرنا مع الأسف لم يجرب أن يصل الى منابع النكهة والحلاوة في داخلها.
سورية، عند أكثرنا تفاحة ذهنية، تفاحة من المجردات، والخرائط، والأناشيد المدرسية.
لكن الوطن، ليصبح وطناً حقيقياً، لابد أن يخرج من نطاق التجريد ليكون وطناً نراه، ونشمه، ونلمسه بالأصابع. فلا وطن خارج نطاق الحواس الخمس.
وصباح قباني حاول بمعرضه الصغير أن يُخرج التفاحة الجميلة من دهاليز الذهن وأقبيته.. ويضعها بكل ملاستها واستدارتها في تجويف يدنا.
صور صباح الجميلة أهدتنا وطننا الجميل.. مرة ثانية".
نزار قباني
منذُ زمن وفكرة الكتابة عن نزار تلحُّ عليَّ ولكن ماذا أكتب عن شاعر ربمَّا لم يكتب عن أيَّ شاعر عربي آخر مقدار ما كُتبَ عنه ؟ في مقالات وشهادات وحوارات وكتب نقدية وأدبية ورسائل جامعية وغيرها .
نزار في نظري المتواضع مزيجٌ نادرٌ وفي غاية الروعة للشاعرين الفرنسيين "بودلير " و"بريفيير " في مزجهِ بين النزعة الإباحية الجنسية والعادي اليوميِّ أو الشيء وضدهُ في بساطةٍ غنيةٍ , لا يحقُّ لأيٍّ كان أن ينكرَ فضلهُ على القصيدة العربية وعلى ايقاعاتها وتطوير موضوعاتها وإغناء صوَرها وتجريب أساليبها وتراكيبها , شعرهُ خير من حطمَّ الذهنية الشعريَّة الى حين , لمائيَّة الحياةِ فيه .
نزار ليس شاعر عمقٍ فكريٍّ بل هو شاعرُ عمقٍ عاطفيٍّ وهذا ما أخذه عليه النقاد وعابوهُ . ولكنَّ الحقيقة الحقَّة لا توجبهُ أن يكونَ الاَّ كما يريدُ هو لا كما يريدهُ له الغير , لا أرى في هجومهم عليه أيَّ مبررٍّ وهو إنما أرادَ أن يجعلَ من الشعر طيراً صباحيَّا يحطُّ على نافذةِ معشوقتهِ , حراً من أغلال الفكر والأسئلة الوجودية , فهو من قال ذات يوم " أعتقد أن التغيير الكبير الذي أحدثته، هو إنزال الشعر إلى الشارع العام، وتحويله إلى مادة متفجرة، وحركة عصيان شعبية. لا أحد يستطيع أن يقول لك اليوم إنّه لا يحب الشعر، أو لا يقرأه أو لا يفهمه. فلقد مزجت الشعر السياسي والشعبي في كأس واحدة، وأزلت الكلفة نهائياً بين القصيدة وبين من كتبت من أجلهم. بكلمة واحدة، ألغيت فاكهة الشعر من حياة الناس، وأطعمتهم حنطة الشعر".
وكما يقول الكاتب وائل عبد الفتاح عنهُ " بحث عن لغة مختزلة، كما فعل يوسف إدريس عندما عثر على لغة سرد خارج التطوّر الرتيب لكتابة القصص. بدايتهما كانت تقريباً في وقت واحد. «أرخص ليالي» كتاب يوسف إدريس الأول كان في 1952، قبلها بسنوات قليلة، كانت مجموعة نزار الأولى «قالت لي السمراء» تصدر في بيروت. الاثنان طالعان من نكبة فلسطين وما تلاها من تفكيك لمؤسسات الفن والذوق، ناهيك بالسياسة والسلطة.
ولم يكن جديداً على الشعر العربي الأوصاف الحسية للمرأة، لكن نزار ظهر في فترة استعارت البرجوازية أخلاقها من العصر الفيكتوري، ولم يتمرد شعراؤها على الرومانتيكية الساذجة. كان جواً خاملاً، تقليدياً، وكان طبيعياً أن تكون قصائد تتحدث عن النهد والحلمات والنبيذ والحشيش والأفخاذ... قنبلة في ساحة معبد فرعوني ".
فهمَ نزار عقليَّة الرجل الشرقي وعرفَ كيفَ ينقلُ أقدامهُ في حقل الألغام العربي . وعرفَ جيداً كيفَ يغتنمُ فرص النجاحِ والفتح, في حينَ ضيعَّ الكثير من مجايليهِ الفرص الذهبيَّة الكثيرة , ممَّا أبقى رنينهُ يصلُّ الى ما وراء المجد والزمن بينما تلاشت أصوات شعراء عرب آخرين أتوا قبلهُ وبعدهُ في رياحِ الخمول وكثرة الأسماءْ .
أنا أنتمي الى نزار قباني , أنتمي الى هذه الظاهرة الفريدة والحالة الشعرية الهائلة التي دوَّخت العالم العربي من أقصاه الى أقصاه أكثر من نصف قرن , أنتمي الى قصائده التى تربَّى عليها كلُّ الشعراء العرب الآتين بعده لا أستثني أحداً , إعترفوا بذلك أو أنكروا , ولا أريد له أن يكونَ عميقاً كما أرادوهُ هُمْ ونقادهم , بل أريدهُ ماضياً كالسيفِ وخفيفاً كذاكرة الندى ومؤجلاً كقرنفلِ الصباحْ وحاراً كمطرٍ في نيسانْ .