جديد الموقع
«إنّ الانسجام هو المطلب الأوّل عند الفيلسوف وهو، مع ذلك، جدّ قليل. والمدارس اليونانيّة القديمة تقدّم عنه أمثلةً أكثر ممّا نجد في عصرنا التّوفيقي، الّذي تُبْتَدع فيه توليفاتٌ سطحيّة وغير نزيهة بين تناقضات أساسيّة، لأنّها تتمتّع بالقبول لدى جمهور يقنع بمعرفة القليل عن كلّ شيء، دون أن يعرف في العمق أيّ شيء..»[1]
«إن وجهتنا الوحيدة هي التحليل «العلمي» لـ«عقل» تشكّل من خلال إنتاجه لثقافة معينة، وبواسطة هذه الثقافة نفسها: الثقافة العربية الإسلامية. وإذا كنا قد وضعنا كلمة «العلمي» بين مزدوجتين، فذلك إقرارا منّا منذ البداية بأن هذا البحث لا يمكن أن يكون علميا بنفس الدرجة من العلمية التي نجدها في البحوث الرياضية أو الفيزيائية. إن الموضوع هنا هو شيء منا، أو نحن شيء منه، فنحن أبينا أم رضينا مندمجون فيه. وكل أملنا هو أن نتمكن، في هذا البحث، من الصدور عن الالتزام الواعي لا عن الاندماج المشيء للفكر المعطل للعقل»[2]
فاتحة:
أشرتُ في الهامش 30 من المقال الأوّل[3]، الّذي ناقشتُ فيه اعتراض العمري في كتابه "البلاغة العربية" على محمد عابد الجابري، إلى أنّ هذا المعترض حاول في مقاله اللّاحق «الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية» المنشور ضمن المؤلَّف الجماعي «محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة» إعادة الجابري إلى "النّظام البياني"، ووعدت بالوقوف عنده. وفي هذا المقال، وفي ما سيليه، سأركّز على مناقشة ما سطّره عن الجابري ابتداءً من الصفحة 104 تحت عنوان: " ثانيا: الجابري من الفلسفة إلى البلاغة"! وقد فضلتُ ألا أتعرّض لما قبل ذلك مما قاله تحت عنوان "أولا: الفلسفة والبلاغة"، ترفّعا عن مناقشة إسفافه في حضرة مفكّر فيلسوف. والنزّاهة تقتضي أن أحمل ما قصد إليه، مما تركتُ مناقشته هنا من كلامه المُمَهّد، على أحسن الوجوه الممكنة. وأبتدئ في هذا المقال بالوقوف عند ما سمّاه بـ "البلاغة في نسق «العقل البياني»، وذلك لارتباط مضمونه بما سبق أن أثاره في كتابه "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها"، وأقف عند ادّعاء عجيب جديد يتمثّل في كون الجابري تحوّل عن عقلانية ديكارت وبداهته إلى البلاغة، وعند ما اعتبره نقطة التحوّل؛ على أن أخصّص لما سمّاه بـ "البلاغة التطبيقية" مقالا ثانيّا؛ وأجعل المقال الثّالث تركيبا للاستنتاجات، ومناقشة لها في ضوء الـ "رّؤيةٍ" الّتي يقول إنّه ينطلق منها، والـ "منهج" الذي يدّعي أنّه يصطنعه.
المقال الأوّل الآتي يدور حول محورين، الأوّل هو اعتراض العمري على الجابري وما رصده لهذا الاعتراض من براهين، والثّاني ادعاؤه " تحول الجابري من الفلسفة إلى البلاغة". وأوضّح، في هذه الفاتحة، أنّ "الاعتراض" و "الادّعاء" وما يستندان عليه، كل ذلك ورد في المقال، موضوعَ المُدارَسَة، منتشرا مختلطا؛ لذا، فإنّ مناقشتَه تقتضي، بالإضافة إلى تلخيصه، ترتيبه وتخليصه من هذيان عظيم. وسأبتدئ من الاعتراض، وأُثَنّي بالوقوف عند دعاوى التّنبّه التّدريجي للجابري وتحوّله، في النّهاية، من الفلسفة إلى البلاغة عند نضجه واكتمال أدواته!
--قراءة الاحزان ... في ليل الدهشة والسكون---
كذا كان عنوان الفصل ما قبل الاخير
من شمس لم تمر على الحقول
حجب القمر نوره و تلاشت النجوم...
مع ومضة القدر....وشهقة المكتوب
لم تعثر الاحلام على دليل
يقودها نحو اسرة مفعمة بالارق
تتوسل الليل الفحمي امنية
غير مبتورة
تنير عتمة مساء قدد الدمع عيونه
حتى صارت التناهيد
لا يمكن اختصار منزلة السّؤال في كونه شكلاً وحيداً ومستقلاًّ من أشكال الخطاب الأدبي في مدوّنة التوحيدي، فهو يخترقُ أكثر من شكل فنجده في التّناظر كما في المنافرة وقد يكون أيضاً مُنطلقاً للرّواية والتّذاكر وغيرها. وليس المقصود هنا بالسّؤال مجرّد السّؤال العاديّ ذي البُعد التّواصلي بالأساس وإنّما السّؤال المُولّد للتّفكير ذي البعد التبصّري، فهو آليّة تفكير وأكثر منه مجرّد أداة تواصل وتبليغ، وهو الحامل لمُشكل معرفي قد يتجاوز الاستخبار ولا يتطلّب بالضّرورة إجابة مُحدّدة أو إجابة واحدة. هو تقريباً شبيه بالسّؤال التّوليدي* بالمعنى السّقراطي أي في معنى المُساءلة المستمرّة لتوليد المعارف والوصول إلى نتيجة مفادها أنّه لا توجد إجابة نهائيّة. وفي الكتاب الثامن من "المواضع " لأرسطو والمُخصّص لـ"ممارسة المُحادثة الجدليّة "نجدُ تنظيراً مخصوصاً بمنطق الأسئلة وتمشّياتها باعتبارها آليّة ضروريّة تسبق الفهم وإطلاق الأحكام وسمّاه "علم السّؤال*" وهو علمٌ واصفٌ للطّرق والآليات التي تُطرحُ بها الأسئلة على المُحاور.
ولا يخفى أيضاً أهميّة السّؤال بالنّسبة للمفكّرين والفلاسفة ما بعد أرسطو، فـ"كارل يسبرز" مثلاً اعتبر الأسئلة أهمّ من الأجوبة في عمليّة التّفلسف، دون اعتبار طبعاً أنّ كلّ إجابة مفترضة تتحوّل بدورها إلى سؤالٍ فلسفيّ جديد، ومنه يُستنتج أنّ السّؤال الحامل لمشكل معرفي، بالقدر الذي يبعثُ فينا الدّهشة والتّفكير، يظلّ حاملاً في نفس الوقت لقوّته وحيويّته ومُتأبّياً عن الانغلاق والفناء في الإجابة. "والقُدرة على السّؤال تعني القُدرة على الانتظار ولو كان ذلك مدى الحياة كلّها"([1]) على حدّ عبارة هايدغر، ويقصد بذلك أنّ السّؤال الأصيل يظلّ متجذّراً في الجواب إلى ما لانهاية وهو ما يؤكّده في سياقٍ آخر مشابه قائلاً: "كلّما زاد اقترابنا من الخطر تبدأ الطّرق إلى المُنقذ تلمعُ بجلاء أكبر، ونُصبحُ أكثر تساؤلاً، ذلك أنّ التّساؤل هو قمّة التّفكير"([2]). ويذهبُ "موريس ميرلوبونتي" بعيداً في تناول فلسفة السّؤال بأن يمنحه بُعداً أنطولوجيّاً، أي أنّ الوجودَ الإنساني في حدّ ذاته سؤالٌ ومنذ أوّل سؤال يبدأ الإنسان في تخطّي عتبة الحيوانيّة ففي "المرئي واللاّمرئي" يقول: "إنّ الأسئلة مُحايثة لوجودنا، لتاريخنا، فهي تولد بداخلها، وتموت بداخلها كلّما حصلتْ إجابةٌ ما، وفي غالب الأحيان فإنّها تتحوّل بداخلنا"([3]).فكأنّما الأسئلة لا تموت باعتبارها جوهر الإنسان، وحتّى الإجابات لا تُنهي المساءلة بل تظلّ مستكنّة فيها، فهي في النهاية أسئلة مُقنّعة وإن ظهرتْ بمظهر الإجابات.
يتنزّل مفهوم الفضاء هو الآخر ضمن نسق الأشكال الرّمزيّة، إذْ سيعمل كاسيرر بنفس الطّريقة على نقل الخلاف حول الفضاء من ساحة الهندسة والعلوم الرّياضيّة إلى حقل الثّقافة. فيحُدّ بذلك من انحسار المفهوم في مجال الفيزياء والرّياضيات مُتخطّيا بذلك مقولة الفضاء المطلق عند الذرّيين وفكرة الفضاء الماقبلي في فلسفة كانط. وسيتبنّى كاسيرر وجهة نظر مغايرة ترى الفضاءَ ليس جوهرا ثابتا مطلقا بقدر ما هو مفهوم وظيفيٌّ عَلَقيٌّ ومنطقيٌّ. مثلما تحدّث عن أفضية أخرى يُنشئها الذّهن الإنساني بالتّرميز والتّخطيط وما الفضاء النّظري الرّياضي إلاّ واحد من ممكنات أخرى.
وقبل تفكيك وتفسير متصوّر الفضاء الكاسيرري، لا بدّ من التّذكير بالمتصوّرات السّابقة الكلاسيكيّة انطلاقا من الذرّيين وصولاً إلى كانط ولايبنتز حول الفضاء.
نُشير هنا إلى أنّ نظريّة الفضاء المُطلق، من أقدم النّظريات الكوسمولوجيّة حول الفضاء، وقد قال بها الذرّيون (Les atomistes) قبل سقراط مثل "لوسيب" (Leucippe de Milet) و"ديمقريدس" (Démocrite d’Abdère) و"أبيقور" (Epicure) وغيرهم. وأساس الفكرة أنّ العالم يتكوّن من جُزيئات أو ذرّات غير متناهية والفضاء هو بمثابة الوعاء الحاضن لهذه الأجسام والذرّات. وهو ثَاِبت وسابق بصفة منطقيّة لهذه الأجسام وقابل للبقاء في حال زوال هذه الأجسام. فهو فضاء ضروريّ وأبديّ وغير مخلوق. وفي ضوء هذا التّصوّر بنى فيما بعد أفلاطون نظريّته في الهندسة. ففي "طيماوس"[1] (Timée)، وهو الحوار الأخير من جملة محاوراته يقوم بتركيب العناصر الأساسيّة المُنشئة للكون وهي: الماء والهواء والنّار والتّراب على أربعة أشكال هندسيّة أساسيّة. فيمنحُ الماءَ شكْلَ "العشريني الوجوه" (Icosaèdre) والتّراب شكل المُكعّب والنّار شكل الهَرم والهواء أو الأثير شكل "الاثني عشر وجها" (Dodécaèdre).
ونفس مُتصوّر الفضاء المُطلق هو الّذي سيُكيّف الفيزياء الميكانيكيّة لدى نيوتن. ففي الأصول الرّياضيّة للفلسفة الطّبيعيّة يقول: "الفضاء المُطلق، بطبيعته وبدون علاقة بأيّ شيء خارجيّ، يبقى دائما ثابتًا وهو نفسه"[2]. ثمّ يُميّز في نفس السّياق بين الموضع والفضاء، فالموضِع نسبيٌّ وقابلٌ للإدراك الحسّي من خلال علاقته بالأجسام الّتي تحُلّ فيه، في حين الفضاء المطلق هو مفهومٌ مجرّد لا يمكن الاستدلال عليه إلاّ رياضيّاً. وعادة ما يخلط "الإنسان العادي [الفضاء النّسبيّ أو الموضع] بالفضاء الثّابت"[3] والمطلق. وجوهر الميكانيكا النيوتونيّة يقوم على تحديد الأشياء ضمن المواضع التي تحلّ فيها، أي كلّما حدّدنا شيئًا مّا في موضعٍ ما، نكون قد أنشأنا علاقةً. "فالكتاب موضوعٌ على الكرسيّ وهو بدوره على يسار النّافذة"[4]. فالمَوْضَعَةُ تعني إنشاءَ علاقةٍ مّا، يمكن أن تأخذ مثلاً صفة المسافة (بعيد، قريب) أو الاتجاه (يمين، يسار، أعلى، أسفل، خلف، أمام، إلخ).
كما لا يمكن عزل فكرة الفضاء المطلق واللاّمحدود عن مظانّها الميتافيزيقيّة المتحكّمة في النّسق النيوتني. إذْ هي في النّهاية تعبيرة فيزيائيّة عن فكرة اللانهائيّة الإلهيّة. وسيتوضّح الأمرُ أكثر في كتاب "البصريات"(1706) عندما يستعيرُ للفضاء عبارة "جهاز الاستشعار الإلهي"[5] (Sensorium dei)، أي أنّ الفضاءَ هو الموضعُ الذي من خلاله نتحسّس الوجود الإلهي ومن خلاله أيضًا يتجلّى الفعل الإلهي في تشكيل وتنظيم حركة الكواكب في الكون. فالفضاء هو بمثابة العضو الحسّي الذي من خلاله يكون الإلهُ حاضرًا وحالاًّ في العالم.
هذا المتصوّر لفضاءٍ مطلق لامتناهٍ، وبدون علاقة بأيّ شيء خارجيّ، سيلقى نقدا واعتراضا من قبل الفيلسوف الألماني "ويلهالم لايبنيتز"(Wilhelm Leibniz)، وسيُنقَلُ النّقاش الخلافي في شكل مناظرة بالتّراسل بين لايبنتز ونيوتن جُمعت تحت عنوان "مراسلات لايبنيتز وكلارك"[6]. وفي ضوء هذا النّقاش الخلافي سينحتُ كاسيرر تصوّره الجديد للفضاء المتعدّد.
ولا بدّ من التّذكير أنّ الفضاء النيوتني قائم على خاصيات بديهيّة وهو كذلك الوسيط الذي يؤثّر من خلاله الإلهُ في الأشياء. هذه الفكرة ينقضها "لايبنيتز" انطلاقا من مبدأ تنزيه الإله عن حاجته لوسيط حتّى يؤثّر ويفعل في الكون. فيقول في أحد ردوده: "لا توجد عبارة جديرة بالرّفض في هذا الموضع كتلك التي تمنحُ اللّه إحساسًا أو استشعارا. ويبدو أنّ مثل هذه الفكرة قد تجعلُ من اللّه روح العالم" [7].
وهُنا تأتي جدّةُ الطّرح اللايبنيتزي، فيتصدّى لفكرة الفضاء المطلق ويستبدله بالفضاء المثالي والنّسبيّ. وصفة المثالي (Idéale) تكاد تُرادف معنى التمثّل، أي أنّ الفضاء يتجلّى في طريقة مَوْضَعَتِنَا (Juxtaposition) للأشياء عندما نكتشف العالم، فهو ليس بمعزل عن تمثّلاتنا الذّهنيّة للعالم. والموضعة تُفهم في النّسق اللاّيبنيتزي بوصفها إنشاء علاقات بين الأشياء والأجسام من قبيل الاتّجاه (يمين، يسار، أعلى، أسفل، خلف، أمام،) والمسافة والحجم (بعيد، قريب، عريض، طويل، قصير، إلخ). فالفضاء نسبيٌّ بحُكم علاقته بتمثّلات الذّهن وهو يَعْقِلُ الكونَ. هكذا ينفي "لايبنيتز" صفة الإطلاق والجوهرانيّة عن الفضاء فيقول: "هؤلاء السّادة (نيوتن وتلاميذه) يؤكّدون أنّ الفضاء هو مُعطىً حقيقي ومطلق وهو يؤدّي بهم إلى مزالق جمّة منها أنّ هذا المُعطى يجبُ أن يكون لانهائيّاً وأبديًّا وهو ما حمل البعض على الاعتقاد بأنّه هو اللّه نفسه في صفته وعظمته. غير أنّ هذا المُعطى يحتوي على أجزاء وحدود وبالتّالي لا يمكنه أن يتناسب مع اللّه"[8].
ولو لخّصنا انتقادات لايبنيتز لفكرة الفضاء المطلق النيوتونيّة، لألْفَيْناها قائمةً على مرجعيّتين: أولى منطقيّة تستندُ إلى مبدأ التّطابق (Principe des indiscernables) والذي يقول بأنّه لا يُمكن أن يُوجدَ شيئان منفصلان عن بعضهما البعض ويشتركان في نفس الوقت في نفس الخصائص. وكأنّ لايبنيتز يستعيدُ مبدأً اعتزاليا قديما يقوم على التّنزيه، أي عدم القبول منطقيّاً بمشاركة الزّمان والمكان الإلهَ في صفة الإطلاق واللاّتناهي.
أمّا المرجعيّة الثّانية فميتافيزيقيّة وقاعدتها مبدأ "السبّب الكافي". وبناءً عليه يفترضُ "لايبنيتز" أنّه إذا ما كان الفضاءُ خَوَاءً لامتناهيا ثمّ وضع فيه الإلهُ هذا الكونَ، فليس من المعقول أنّ يكون الإلهُ قد اختار فضاءً من جملة أفضية أخرى ليضع فيها الكون.
ينتهي "لايبنيتز" في الأخير إلى أنّ الفضاء هو نظام "المتواجدات المشتركة" أي مجموع العلاقات التي يبنيها الذّهنُ أثناء إدراكه للعالم وموضعة الأشياء فيه. فهو ليس وعاءً سابقا وحاضنا للأشياء، وإنّما هو نظامٌ من العلاقات بين الأشياء. والنّقطة في الفضاء لا تختلف عن عنصر في مجموعة، وهذا ما جعل "لايبنيتز" يرى في الفضاء الإقليدي المسطّح مجرّد مجموعة أو نسق بالمعنى المنطقيّ الرّياضيّ.
وسيستثمر "كاسيرر" مفهوميْ "النّظام" و"العلاقة" في النّقاش الخلافي بين لايبنيتز ونيوتن، لكنّه سيستفيد أيضًا من نقد كانط للوثوقيّة التّجريبيّة لنيونتن والوثوقيّة المثاليّة للايبنيتز. فالأوّل كان محتاجًا للفضاء المطلق الخاوي والسّابق لِيَبْنِيَ عليه كلّ قوانين الفيزياء الميكانيكيّة، والثّاني جعل من الفضاء تمثُّلاً مُجرّدا للعلاقات بين الأشياء. وسيُفرِغُ كانط مفهوم الفضاء من كلّ سمات الإطلاقيّة والمثاليّة ويجعلُ منه ظاهرة ذاتيّة حدسيّة في علاقة بالذّات العارفة. ولنعرضْ قبل ذلك اعتراضات كانط على لايبنيتز قبل تفسير نظريّته بخصوص الفضاء والزّمان.
قبل بلورة نظريّته في المكان والزّمان في "نقد العقل المحض" كتب كانط سنة 1768 نصًّا تناول فيه بالتّحليل الطّبيعة الأنطولوجيّة للمكان، وفيه نقد تعريف لايبنيتز للمكان والزّمان باعتبار الأوّل نظام تواجد (Ordre de coexistence) والثّاني نظام تتابع (Ordre de succession). ولا بدّ من التّذكير هُنا أنّ أُسًّ الجَدل الكانطي اللايبنتزي لا يقوم فقط على الخلاف المفهوميّ، بل يتجاوز ذلك إلى تصوّر المعرفة. وهي نقطة الانطلاق في الخلاف بين الرّجلين. فحسب رؤية لايبنيتز المنطقيّة والمفهوميّة،كلّ القضايا هي تحليليّة، أي أنّ المعرفة لا تنشأ إلاّ في صُلب القضايا التّحليليّة. ماذا يعني ذلك؟ بشيء من التّبسيط يمكن القول أنّ المعرفة كامنة في إحدى العبارتيْن المُكوّنتيْن للقضيّة من قبيل: الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نُقطتيْن. فهذه قضيّة تقدّم لنا معرفة انطلاقا من مكوّناتها الدّاخليّة المُحايثة، أي بناءً على منطقها الكامن في العبارات المكوّنة للقضيّة. ولسنا في حاجة إلى القيام بتجارب وقيس كلّ خطّ مستقيم حتّى نستدلّ على صحّتها. فالمعرفة هنا تحليليّة باعتبارها اكتشاف للمنطق الكامن في المفاهيم الدّاخليّة للقضيّة.
بالنّسبة إلى كانط الموقف مُعاكسٌ تماما، فالمعرفة لا تكون إلاّ تأليفيّة، أي لا توجد في العبارات المكوّنة للقضيّة، بل نحتاج مغادرة المفاهيم الدّاخليّة للقضيّة للاستدلال على صحّتها. وفي مثالنا السّابق لا يمكن التأكّد من صحّة القضيّة التي تقول بأنّ " الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين" إلاّ في ضوء مقارنة خارجيّة تستدعي أوّلا الخروجَ من مفهوم الخطّ المستقيم واستحضار الخطّ المُحدّب مثلا أو الخطّ المنكسر حتّى نُثْبِتَ أنّه الأقصرُ مسافةً بين نقطتين. فلا بدّ أن نتجاوز ونتخطّى ثمّ نعقد ونؤلّف القضيّة مع مقولات أخرى خارجيّة حتّى تحصل المعرفة ونتأكّد من سلامة القضيّة المطروحة.
أنّ لايبنيتز أمام هذا الاعتراض يعتبر أنّنا لم نُغادر البتّة المنطق التّحليلي. لماذا؟ لأنّه يعتبر الخطّ المستقيم هو الحدّ الأدنى أو الحدّ الصّفر للخطّ المُحدّب، أشبه بالسّكون الذي هو الحدّ الصّفر للحركة.
نخلص ممّا سبق إلى أنّ المعرفة عند لايبنيتز اكتشاف وتملّك بوصفها كامنة في المفاهيم، بينما هي عند كانط تجاوز وبناء وتأليف باعتبارها جامعة بين المفهوم وما هو خارج المفهوم. هذا هو أسّ الخلاف الذي سيفيض على بقيّة المسائل ومنها قضيّة "مبدأ التّطابق" اللايبنيتزي الذي عارضه كانط بشدّة. يقول لايبنيتز أنّ كلّ اختلاف هو في النّهايةِ مفهوميٌّ، فإذا اختلف شيئان مثلاً، فلا بُدّ من أن لا يختلفا فقط في العدد والشّكل وغيرهما، وإنّما أيضا في المفهوم. ويكفي تحليل المفهوم حتّى نقف على الاختلاف. بالنّسبة إلى كانط لا يمكن اختزال الاختلاف في المفهوم، وهُنا تأتي جدّة الإضافة الكانطيّة. فعندما ندرك العالم كما يتمثّل لنا، نجدُ صنفين من التّحديدات: تحديدًا مفهوميًّا كأن نقول "الطّائرُ هو الّذي يطير" وتحديدًا ثانيًا زمانيًّا مكانيًّا يجعلُ الشيءَ المُحدّد قائما في الزّمان والمكان أي: الآن وهُنا. بمعنى يملأ مساحة من المكان ويجري في الزّمان، فهو على اليمين أو على اليسار وهو ماثلٌ أمامي أو ورائي وهو يدوم إلى حيّز ما من الزّمن. هذا هو البُعد الثّاني في تحديد الأشياء وضبط اختلافها الذي يُضيفه كانط، وهو البعد الزّمكاني. والمثال الذي يُعارض به كانط لايبنيتز، هو اليَدَانِ، فرغم اشتراكهما في التّسمية والسّمات، إلاّ أنّهما لا يتطابقان بحُكم التّحديد المكاني والزّماني الذي يجعل يدًا واقعة في الجهة اليُمنى والأخرى في اليُسرى.
فحسب كانط نظام الاختلاف أو التّطابق يبقى دائما خارج المفاهيم، لأنّه محكوم باختلافات زمانيّة ومكانيّة. فالمعرفة حصيلة تأليفيّة بين التّحديدات المفهوميّة والتّحديدات الزّماكانيّة. فلا يمكن تصديق القضيّة القائلة بأنّ "الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتيْن"، بدون استحضار إحداثيات مكانيّة وزمانيّة.
نصلُ هُنا إلى نقطة الخلاف التي انطلقنا منها حول مفهوم الزّمان والمكان. وأين تكمن الجدّةُ في الاستدراك الكانطي على لايبنيتز؟ وحتّى نمسك بالمسار الجدلي بينهما لا بدّ من التّذكير بالتّعريف المفهوميّ للمكان والزّمان عند لايبنيتز. والذي يقول فيه أنّ الأوّل هو "نظام تواجدات ممكنة" والثّاني "نظام تتابعات ممكنة". والاعتراض الأوّل لكانط هو في اعتبار المكان نظام تواجدات ممكنة، والحال أنّ التّواجد هو تزامن أي إحلال الأشياء في الفضاء في نفس الحيّز الزمنيّ، وبالتّالي التّواجد هو منوال زمنيّ ولا يمكن أن نُعرّف به المكان أو الفضاء. فالتّواجد يجري هو الآخر في الزّمان. الاعتراض الثّاني، مُنطلقه المناويل الثّلاثة التي يحدّ بها كانط الزّمان وهي: الدّيمومة (ما يدوم)، التّتابع (ما يجري)، والتّزامن (ما يتواجد). وبالتّالي لا يمكن تعريف الزّمان بنظام تتابع، لأنّ التّتابع هو أحد مناويل الزّمن، أي مجرّد بُعد من أبعاده.
لندفع بالتّحليل قليلاً، ونضع لايبنيتز في سياق التّصوّر الكلاسيكي للزّمان والمكان. فنظام التّتابع ونظام التّواجد يقتضيان بالضّرورة تصوّرَ الزّمان والمكان كجوهرٍ أو ماهيةٍ، أي أنّ النّظامَ المكانيَّ لا معنى له بدون الأشياء التي تملأ المكانَ، فهو في النّهاية ماهيةٌ. وفي هذه النقطة المفصليّة يأتي المنعطف الكانطي الذي يُحوّل الزّمان والمكان من ماهية أو جوهر إلى شكلٍ. المكان هو شكلٌ وليس ماهيةً. ماذا يعني ذلك؟ هو الشّكل الذي يأتينا من خلاله كلّ ما هو خارجٌ عنّا. الشّكل الذي من خلاله نتملّك العالم الخارجيّ. يعني ببساطة، بدون مكان لا يمكن الحديث عن خارجٍ. أمّا الزّمان فهو شكل الدّاخل، أي الطّريقة التي يكون بها الشّيءُ داخِلَ نفسه. وإذا كانت الأشياءُ كائنةً في الزّمان، فإنّ ذلك يعني أنّ لها داخليّةً.
وفي ضوء مقولتيْ المكان والزّمان، يُحدّد كانط مفهوم الظّاهرة التي يشحنها بدلالة تأويليّة مخصوصة. فالظّاهرة بالنسبة إليه ليست التي تحجُبُ ماهيةً أو جوهرا. وليست أيضًا مجرّد الظّهور المحسوس بالمعنى البسيط والسّاذج، وإنّما الظّاهرة هي كلّ ما يبرز في الزّمان والمكان ويمنحها شكلاً أو معنى أو لنقُل سِمةً وعلامةً بالمعنى "البيرسي". وبناءً على هذا المُتصوّر لم يعُد يُنظر إلى الظّاهرة في علاقتها بالماهية أو بالجوهر وإنّما في علاقتها بالشّروط الزّمكانية أو بالمعنى المَمْنُوحِ لها. هكذا تَرَكَ مفهومُ الماهية مكانَه لمفهوم المعنى والدّلالة أو الشّروط. وخلف ستار الظّاهرة لا يوجدُ شيءٌ لنراه غير المعنى والدّلالة التي يصبغها التمثّل الذّهني على الأشياء في الكون.
إلاّ أنّ السّؤال الذي يطرح نفسه ضمن هذا السّياق، ماذا يعني كانط بمفهوم الشّكل المنسوب للزّمان والمكان؟ وأيّ فرق بينه وبين الزّمان والمكان كمفهوم لدى لايبنيتز؟ هُنا لابدّ أيضا من استحضار المفاهيم الأساسيّة التي نحتت التّصوّر الكانطي للأشياء، فالجدّة والتّجاوز في التّفكير الفلسفي تنهضُ بدرجة أولى على ابتكار شبكة مفاهيم جديدة نقتصر منها على مفهوميْ: الماقبلي (L’apriori) والمتعالي (Le transcendantal). وللأمانة فإنّ الماقبلي والمابعدي (L’apostériori) مفهومان قديمان غير أنّ كانط غيّر المعنى. وإذا أخذنا الماقبليَّ في معنى ما هو مستقلٌّ عن التّجربة وحاصلٌ بالبديهة والعَقْلِ بصفة مُسْبَقة عن كلّ إدارك أو تجريب، فالسّؤال يكون: هل ثمّة معارف حاصلة بصفة ماقبليّة وبشكل مستقلّ عن التّجربة؟ وفي ضوء السّؤال سيكون الوجودُ مُعطًى ثانويًّا بالنّظر إلى الماقبليّ الأوّل.
والإجابة الكانطيّة الأولى عن هذا السّؤال تأتي في شكل حدٍّ بالوصف، فالماقبليُّ ليس فقط ما هو مستقلّ عن التّجربة، بل هو الحتميُّ والكونيُّ. ماذا يعني ذلك؟ لنأخذ مثالاً يقول: "إنّ كلّ الأجسام تسقُط حتما على الأرض بنفس السّرعة". هذا قانون فيزيائي لا يمكن الشّك في صحّته، غير أنّه ليس في وسع التّجربة وحدها أن تثبت صحّته لأنّه لا يمكن إجراء التّجربة على كلّ الأجسام الموجودة في الكون حتّى نتأكّد من ذلك. بمعنى أنّ التّجربة لا تُغطّي إلاّ عددًا قليلاً من الأجسام، بناءً على فرضية وجود أجسام تسقط بسرعة مختلفة عن البقيّة التي شملتها التّجربة. فالتّجربة لا تشمل إلاّ ما هو جُزئيٌّ وطارئٌ. والسّؤال في هذا السّياق: من أين أتتْ عبارة "حتما"؟ قياسا على عبارات أخرى مثل "كلّما"، "دائما"، بـ"الضّرورة"، وغيرها. هُنا تأتي جدّة الإضافة الكانطيّة في إدخال مفهوم المقولات (Les catégories) الماقبليّة، وهي عبارة عن صفات أو تعريفات تُقال وتنطبق على كلّ الأشياء في الكون ولا تحتاج إلى تجربة للاستدلال عليها كأَنْ نقول: "لكلّ شيء سببٌ ما". فالمقولات هي الأشكال الماقبليّة للوعي الخالص بالكون والأشياء. غير أنّه هُنا لا يجب أن تُفهمَ المقولات بوصفها معارف أوليّة مجرّدة بشكل خالص. فهي لا تنشأ وتتطوّر في الذّهن بمعزل عن المُدركات الحسيّة. لأنّه بفضل المقولات يمكن للذّهن البشريّ أن يقوم بتأليف المختلف وتنظيم فوضى الأشياء المُدركة في الكون وهو ما يُسمّى "مَقْوَلَة" العالم. وكأنّ كانط يقول لنا أنّه خارج المَقْوَلة التي يقوم بها الذّهن وهو يَعِي العالمَ، لا يوجد إلاّ سديمٌ من الفوضى، وليس لنا من سبيل للسّيطرة على الفوضى إلاّ عبر عمليّة المَقْوَلَة. ماذا يعني ذلك أيضاً؟ يعني أنّ العالمَ المُدرَكَ يأتينا في شكل معارف ومعلومات مُهيكلة ومُنمّطة، وممقولة، وليس في شكل معلومات مشتّتة ومفاجئة. ويوعز كانط هذا الأمر إلى "المنطق المتعالي" (La logique transcendantale) الذي يسبق "المنطق العامّ"، فهو يُشبه إلى حدّ ما "البرنامج الأدنوي" التّشومسكي والذي يُحاكي تقريبا برنامج المُدخَلات والمخرجات الأساسيّة للنّظام الحاسوبي (Bios). فلا يُمكن تحميل أيّ نظام تشغيل بدون البرنامج القاعدي الأساسي.
ويُقسّم كانط المقولات تقسيما ثلاثيّا إلى أربع عائلات[9] كما هو موضّح في الجدول التالي:
مقولات الكمّ |
مقولات النّوع |
مقولات العلاقة |
مقولات الجهة |
الوِحْدَة |
الإثبات |
الجوهر والعرض (ماهوي/عرضي) |
ممكن/ممتنع |
التّعدّد |
النّفي |
السببيّة والتّبعيّة (سبب/نتيجة) |
موجود/منعدم |
الإجمال |
المحدوديّة |
الاشتراك (التفاعلية بين الباثّ والمتقبّل) |
الوجوب/ الجَواز (واجب/جائز) |
وبالعودة إلى ما انطلقنا منه، جديرٌ بنا أن نتساءل: هل الزّمان والمكان في النّسق الكانطي هُما من جنس المقولات أم لا؟ وإذا سلّمنا بأنّهما يشتركان مع المقولات في خاصيّة الماقبليّة ولكنّهما يختلفان عنها في نفس الوقت، يكون السّؤال المنطقيّ: لماذا ميّزهما كانط عن المقولات؟ أو لماذا لم يعتبرهما من ضمن المقولات؟
يمكن النّظر إلى المسألة من زاويتيْن: الأولى في علاقة بتكامل النّسق النّظري الكانطي، إذْ لو جعل الزّمان والمكان من جنس المقولات، لسقط في نفس التّجريد النّظري والمفهومي والذي عابه على "لايبنيتز". ثمّة إذًا نوعان من الماقبليات: المقولات والزّمان والمكان. ولكنّ ما هو وجه الاختلاف بينهما؟
تأتي هُنا الإضافة الفارقة لكانط: فإذا كانت المقولات مفاهيم متولّدة عن التمثّلات الذّهنيّة الماقبليّة للكون والأشياء، فإنّ الزّمان والمكان هُما شرط ظهور الأشياء وحدسها، بناءً على أنّ هذه الأشياء لا تكون أشياء إلاّ بما هي واقعة في إحداثيات المكان والزّمان. فالزّمان والمكان يتعلّقان بشكل تمظهر الأشياء، في حين المقولات ترتبط بمنوال تمثّل هذا الظّهور. من خلال هذا التّصوّر يمكن أن نقفَ على نتائج جدّ مُهمّة. وإن لم يعلن عنها كانط فقد بلورها وطوّرها في ما بعد تلاميذه منها:
- أنّ العالم ليس له خاصّيات مكانيّة في ذاته إلاّ ما ينسبه إليه الذّهن البشريّ. فالأبعاد والمسافات والمواقع وأشكال الامتداد، هي ثمرة التمثّلات الذّهنيّة للعالم الخارجي والقائمة بدورها على الاستعدادات الفطريّة الأوليّة والتي تمثّلها المقولات والزّمان والمكان.
- الزّمان والمكان هُما شكلٌ وليس ماهية.
- الحدس الفطريّ بالأشياء في الزّمان والمكان، هو شرط ظهورها وتمثّلها ذهنيّا وصَوْغِها مفهوميًّا.
لا شكّ أنّ كاسيرر باعتباره كانطيّا مُجدّدا، سيستفيد من مفهوم الشّكل، والخُطاطة وغيرها، ليضع متصوّر الزّمان والمكان ضمن فلسفة الأشكال الرّمزيّة وتحديدا الوظائف الرمزيّة الثّلاث: الوظيفة التّعبيرية، الوظيفة التّمثيلية، والوظيفة الدّلاليّة. وضمن كلّ وظيفة يتشكّل تصوّرٌ مخصوصٌ حول الفضاء والزّمان. فثمّة الفضاء الأسطوري المرتبط بالتمثّلات العفويّة والبدائيّة للإنسان حول الفضاء. وثمّة الفضاءُ الجماليُّ الذي تُنشئه شتّى الأشكال الثّقافيّة والرّمزيّة التي يُبدعها الإنسان. وأخير يوجد الفضاء النّظري الذي تبنيه العلوم انطلاقا من تصوراتها للعالم والأشياء. وسنعود بالتّفصيل لكلّ نوعٍ على حدة. غير أنّه من الجدير بالتّذكير أنّ كاسيرر استفاد أيضا من فكرة نظام التّواجد ونظام التّتابع للايبنيتز، ليخلُص إلى أنّ المسألةَ ذات بُعْدٍ عَلَقي (Relationel) أي الكيفيّة التي نُنشئ بها علاقة مع العالم والأشياء وهي تختلف من حقل إلى آخر. وفي نفس الوقت لا يمكن فصل التّصوّر الزّمكاني عن كيفيّة معرفتنا بالعالم المُدرَك أو الممكن أو المُتخيّل.
هذا الجانب العلقيُّ، يُشبه إلى حدّ ما مفهوم الأنموذج التّفسيري أو البراديغم (Paradigme) في إيبستيمولوجيا تاريخ العلوم. فالمكان مثلاً أخذ أوجُهًا عديدة في حقل العلوم على مرّ التاريخ، فنجد الفضاء الفيزيائي الكوسمولوجي النيوتني المطلق، ونجدُ المكان والزمان "المينكاوسكي" (Minkowski) رباعيّ الأبعاد، ونجد زمان ومكان النّسبية العامة لإينشتاين.
- الفضاء الأسطوري
حسب النّسق الكاسيرري، لا يوجد حُدسٌ عامّ وثابت حول الفضاء، ولا يكتسبُ الفضاء محتواه وخصائصه إلاّ في ضوء الدّلالة والتّرميز الذي يمنحه له الإنسان في ظرفٍ تاريخيّ ما وضمن نسقٍ مخصوص من التّرميز. يُستشفّ من ذلك أنّ الفضاء ليس مُعطىً أو بنيةً ثابتةً، بل قابلاً للتّغيّر وفقًا للتّنظيم الدّلالي الذي يهيكل به الإنسان العالم من حوله. وضمن هذا التّصوّر، يُفهم الفضاء الأسطوريّ كواحد من الممكنات أو من الأشكال التّرميزيّة للفضاء من جملة أشكال أخرى. وهو الشّكل شبه الأوّلي المرتبط بالوعي العفوي والحسّي للإنسان. وقبل الحديث عن الخصائص المميّزة للفضاء الأسطوريّ لا بدّ من التّذكير أنّ المكان والزّمان بالنّسبة لكاسيرر، هُما الأسّ والإطار الحاضن الّذي تُبنى في ضوئه كلّ معارف الإنسان وتصوّراته حول الأشياء والعالم. وانطلاقا من ذلك يكون حدس المكان والزّمان حاملاً لمظانّ معرفيّة تختلف من نسقٍ رمزيّ إلى آخر.
ولعلّ أولى التصوّرات التي ينبني عليها حدس المكان والزمان في الرّمزيّة الأسطوريّة، تقوم على ظاهرة التّماهي بين الإنسان والعالم والأشياء. ويبرز التّماهي في الوعي الأسطوريّ من خلال عدم الفصل بين الأجزاء والكلّيات وبين الصّور والأشياء وبين الأسماء ومُسمّياتها. فالتّأثير السّحريّ مثلاً يُمكن أن يحدُث بوسائط وجزئيات تمثّل الشّخص نفسه حتّى وإن كان غائبا من قبيل: خصلة من الشّعر، اسم الشّخص أو ظلّه[10]، بعض ممتلكاته، إلخ. وهي أشياء لا تُعدُّ في الرّمزيّة الأسطوريّة مجرّد تمثيل أو بديلاً للشّخص وإنّما يُنظر إليها بوصفها الشخص ذاته على سبيل التّماهي. ونفس الشيء يُقال حول العلاقة بين الاسم والمُسمّى القائمة على المُحايثة والتّماهي بين الدّال والشّيء المدلول عليه. أي أنّ الكلام في الوعي الأسطوري البدائي له طاقة وقوّة إنجازيّة كبيرة، أي يكفي التلفّظ بالشّيء حتّى يتحقّق حضوره على نحو ما وإن كان غائبًا عن العيان. وبه نستطيع أن نفهم سحر الكلام وقوّته الإنجازيّة في النّصوص الدينيّة (في البدء كانت الكلمة) وكذلك أهميّة التّعاقدات الكلاميّة في المجتمعات البدائيّة.
في ضوء ظاهرة التماهي يتنزّل حدس المكان في الوعي الأسطوري، فيكتسي طابعا ذاتيّا وعاطفيّا وحسّيا، أي لم يرتق بعدُ إلى تخطيطٍ وفهمٍ مُجرّد. ويُفسّر هذا الحَدس البيولوجي والعضويّ للمكان انطلاقا من نتيجة توصّل إليها الأنتروبولوجيون، وهي أنّ الإنسان في هذا الطّور يُهيكل العالم انطلاقا من جسده[11]. وبهذه المركزيّة يغدو المكان أو الموضع أو الحيّز مشروطا بما يحتويه وبالحضور المادّي والحسّي لمن يحدس المكان. فالـ "هُنا" والـ "هُناك" في الفضاء الأسطوريّ هي لحظة آنيّة سرعان ما تنتفي وتنتهي بانتهاء لحظة الحضور ولحظة حدس المكان. أي لا يُمكن تمثّل الـ"هُنا" والـ "هناك" كفضاء مجرّد رمزيّ في حال الغياب. فالفضاء الأسطوري البدائي، فضاءٌ عمليّ عضويّ مرتبط بالحواس البصريّة والّلمسيّة، والسّمعيّة، والشّميّة، وغيرها. وهو فضاء متنوّع ومتغيّر وغير متجانس لأنّ الإنسان البدائي لم يصل بعدُ إلى مَوْضَعَةِ (Objectivisation) الفضاء كمُخطّط (schème) أو كنظام رمزيّ مجرّد. يقول كاسيرر: "ويدلّنا علم الأنتروبولوجيا على أنّ القبائل في العادة موهوبةٌ بإحساسٍ للمسافة غاية في الحدّة، فالفردُ من تلك القبائل ذو بَصر بأدقّ الدّقائق في بيئته، مُرهف الحسّ لكلّ تغيّر يطرأ على الموجودات المألوفة من حوله...فإذا جدّف أو أبحر تتبّع بدقّة بالغة كلّ منعطفات النّهر ذاهبًا وآيِبًا، لكن إذا دقّقنا الفحص اكتشفنا لدهشتنا أنّه يفتقر افتقارا غريبا لإدراك المسافة...فإن سألته أن يُعطيك وصفًا عامًّا، أي تخطيطا لمجرى النّهر عجز عن ذلك، وإذا رغبتَ إليه في أن يرسم خريطةً للنّهر ومنعطفاته المتعدّدة لم يكد يفهمُ ما تقول. ومن هذا نتبيّنُ بوضوحٍ وجلاءٍ أمر الاختلاف بين الفهم المحسوس والمُجرّد للمسافات والعلاقات المسافيّة"[12]. فالمعرفة بالفضاء لدى البدائي قائمة فقط على العرض والتّعيين (Présentation)ولمْ تَرقَ بعدُ إلى مستوى التمثّل (Représentation)[13].
- الفضاء الجمالي
وهو الفضاء المُتشكّل ثقافيّا من خلال أفانين النّحت والرّسم وشتّى الأشكال التّعبيريّة. وضمن هذا المستوى المتقدّم يكون الإنسان قد غيّر منظوره إلى الفضاء مُتجاوزا الحدس البيولوجي والوجداني إلى مستوى أرقى من التّرميز والسَّميأة (Sémiotisation) الثّقافيّة. وانطلاقا من هذا المنظور يكون الإنسان قد حقّق نسبة من التّحرّر بخصوص مركزة الفضاء في علاقته بالذّات، أي موْضَعته وإخراجه من حيّز الأنا إلى حيّز الموضوع القابل للنّقل والتمثّل والتّرميز. فالموضعة هي النّقطة الفارقة بين الحدس البيولوجي الحيواني للفضاء، والتمثّل الذّهنيّ والإنسانيّ له كموضوع مستقلّ وقابل للتّرميز بواسطة اللّغة أو الرّسم أو النّحت أو التّصوير وغيرها من العلامات.
ج- الفضاء النّظري
ويقصد به كاسيرر الفضاء الذي أنتجته العلوم الرّياضيّة والمُلائم للمقتضيات العلميّة. وتُعتبر الهندسة الإقليديّة أوّل مظهر من بواكير مَوْضَعَة الفضاء من النّاحية العلميّة. وهي هندسة ثلاثيّة الأبعاد قائمة على فضاء مُسطّح. غير أنّه رغم نجاعة الهندسة الإقليديّة، فإنّ مُتصوّر الفضاء سيهتزّ هو الآخر على المستوى الرّياضي والعلميّ بمُجرّد نقض إحدى نتائج المُسلّمة (Axiome) الخامسة من قوانين إقليدس الهندسة. وعندما نقول مُسلّمة في النّسق الإقليدي، فإنّ ذلك يعني حقيقة بديهيّة وحتميّة وليست في حاجة إلى البرهنة والإثبات. وعندما نتحدّث عن نقض المُسلّمة، فإنّ ذلك يعني نفي البداهة عنها وتحويلها من مُسلّمة إلى مُجرّد فرضيّة أو إواليّة (Postulat)قابلة أن تصدُق في فضاء مُسطّح، وأن لا تصدُق في أفضية أخرى غير مُسطّحة. ولنعُدْ إلى البديهة الخامسة لإقليدس.
في الحقيقة، لم يتحدّث إقليدس في كتاب "العناصر" عن نظريّة المتوازيات، وإنّما تولّد القانون منطقيًّا ورياضيًّا من المُبرهنة الخامسة. يقول نصّ المُبرهنة "إذا قَطعنا مُستقيمان بمُستقيمٍ ثالثٍ وكان مجموعُ زاويتيْه الدّاخليّتيْن والواقعتيْن على جِهةٍ واحدة، أقلَّ من مجموع زاويتيْن قائمتيْن، فإنّ المُستقيميْن سيلتقيان من جِهَةِ القَاطِعِ إذا مُدّ إلى ما لا نهاية"[14]. ونُوضّح المبرهنة بالرّسم الهندسيّ التّالي:
يتوضّح من الرّسم أيضا، أنّ مجموع زاويتيْ القاطع (AB) إذا كان أصغر أو أكبر من مجموع زاويتيْن قائمتيْن، فإنّ المستقيميْن(D) و(D’) سيلتقيان لامحالة إذا مُدّا إلى ما لا نهاية. ماذا يعني ذلك منطقيّا ورياضيّاً؟ يعني أنّ المستقيميْن (D) و(D’) لا يتقاطعان ويمتدّان بشكلٍ متوازٍ إلى ما لا نهاية إذا كان مجموع زاويتيْ القاطع (AB) مُساويًا لمجموع زاويتيْن قائمتيْن. ويمكن توضيح ذلك بالرّسم الهندسيّ التّالي:
نصلُ الآن إلى الاستنتاجات أو القوانين المتولّدة من البديهيّة الخامسة، لأنّه في الحقيقة لم تردْ عبارة التّوازي في مبرهنة إقليدس، وإنّما جاءت كفرضيّة منطقيّة تقول "أنّه انطلاقًا من نقطة خارجيّة (M) عن مستقيمٍ (D) يمرّ فقط مُتوازٍ واحدٌ للمستقيم (D)" ويمكن تمثيل الفرضيّة بالشّكل الهندسيّ التّالي:
في سنة 1902 قدّم هنري بونكاريه مِنْوَالاً هندسيّا يثبت فيه عدم صدقيّة مبرهنة إقليدس الخامسة وما يترتّب عنها من نتائج، لكنّ قبله بما يٌقارب القرن من الزّمان وتحديدا سنة 1820، طلبت الامبراطوريّة الألمانيّة من الرّياضي "فريديريك غوس" (Friedrich Gauss)أن يُقدّم لها مَسْحًا جغرافيّا لمساحة المملكة وهُنا فكّر "غوس" في مساحة الكرة الأرضيّة وتساءل: كيف يمكن رسم مستقيم على فضاء مُحدّب؟ وهل أنّ تعريف المستقيم بوصفه أقصر مسافة بين نُقطتيْن يصدقُ في أفضية أخرى مثل سطح الأرض؟ والسّؤال الأهمّ بالنّسبة إليه هو كيف نُنجزُ هندسةً ونحن نعيش على فضاءٍ كرويّ؟ وانطلاقا من هذه الأسئلة بدأ "غوس" في التّفكير في هندسة أخرى مُغايرة للهندسة الإقليديّة القائمة على فضاء مُسطّح أو مُستوٍ. وهي نفس الأسئلة الّتي ستفتح الطّريق فيما بعد لنيكولا لوباتشفسكي (Nicolas Lobatchevski) لينقُض المبرهنة الخامسة وفرضيّة المتوازيات فيما يُشبه القطيعة الإيبستيمولوجيّة مع النّسق الإقليدي الكلاسيكيّ.
قدّم لوباتشفسكي منوالا هندسيّا قائما على فضاء مُقعّر وأثبت من خلاله بُطلان المبرهنة الخامسة. إذْ يمكن أن يمُرّ عبر النّقطة (M) الخارجة عن المستقيم (D) ما لا نهاية له من المستقيمات (d1,d2,d3…) مثلما هو مُوضّحٌ في الرّسم التّالي:
أمّا منوال جورج ريمان (Georg Riemann) الكُرويّ أو المُحدّب فلا يكفي أنّه ينقُضُ إمكانيّة رسم مستقيم على فضاء مُحدّب أو كُروي، فإنّه يُثبتُ استحالة رسم أيّ مُتوازٍ للخطّ (D) ويمرّ عبر النّقطة الخارجة (M).
يبدو من الرّسم استحالة رسم متوازي للخطّ (D) بحُكم أنّ كلّ نقطة خارجة عن الخطّ الذي يمرّ عبر مركز الكرة سيكون أقلّ منه ارتفاعا.
إنّ هذا التّعدّد في متصوّر الفضاء من النّاحية الهندسيّة، سيكشف لكاسيرر، أنّ الفضاء مقولة علقيّة ووظيفيّة تكتسبُ نجاعتها وصدقيتها داخل النّسق المنطقيّ والرّمزيّ الذي يحتويها. أي أنّ كلّ فضاء سواءً كان أسطوريا أو جماليا ثقافيا أو علميًّا نظريًّا، له منطقه الخاصّ ومبرّراته الدّاخليّة.
[1] Platon. Œuvres complètes. Paris, Gallimard, 1977, T2, p.473-480.
[2] Isaac Newton. Principia mathematica. Paris, J. Gabay, 1990, p46.
[3] Ibid, p46.
[4] Ibid, p47.
[5] Isaac Newton. Optique, trad. P. Coste, Paris 1720, p56.
[6] André Robinet, Correspondance Leibniz-Clarke, Paris, PUF, 1957.
تمّت المراسلات تحت إشراف أميرة بلاد الغال "كارولين دانسباش" (Caroline d'Ansbach) في محاولة منها للجمع والتّوفيق بين لايبنتز ونيوتن. وقد رفض نيوتن في الأوّل ثمّ خيّر أن يتراسل مع لايبنيتز عن طريق سامويل كلارك (Samuel Clarke) قسّ القصر الملكيّ، وهو الناطق بلسان نيوتن. وقد توقّفت المناظرة عند المراسلة الخامسة من كلارك على إثر موت لايبنيتز سنة 1716.
[7] Ibid. 4 ème Lettre, remarque 27. p93.
[8] Ibid, p52.
[9] Emmanuel Kant. Critique de la raison pure. Paris, Librairie philosophique de Ladrange, 1845, P103.
[10] يُعتبر الدّوس على ظلّ الشّخص في كثير من التّقاليد إلى اليوم إلحاقا للأذى.
[11] تتأكّد هذه الفكرة في علم نفس النموّ عند بياجيه، من خلال ظاهرة مركزيّة الذّات أو الأنويّة. فالطّفل الشّبيه بالإنسان البدائي في أطواره الأولى يتأمّل العالم انطلاقا من رؤيته الخاصّة معتقدا أنّ كلّ ما يُحيط به هو في خدمته وهو في نفس الوقت امتداد لجسده وذاته ورغباته.
[12] أرسنت كاسيرر. مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانيّة أو مقالٌ في الإنسان. ترجمة إحسان عبّاس، بيروت، دار الأندلس،1961، ص99.
[13] نتحرّز بكلّ لطف على ترجمة إحسان عباس (Présentation) بـ "الحَمل" و(Représentation) بـ "النّقل"، وهي ترجمة بعيدة كلّ البُعد عن المعنى المقصود في النصّ الأنقليزي.
[14] Euclide. Les Eléments. Traduction par F. Peyrard, Paris, 1804.
شعرها مشدود إلى الوراء على شكل ذيل حصان يتدلى كشلال ماء بلونه الخرنوبي الجميل، تبعثر ما تناثر منه فوق عنقها وكتفيها. كانت بين الفينة والأخرى تخلل أصابعها في خصلاته لتعيده إلى الوراء، فيرتمي فوق كتفيها.
تذرع رواق المحكمة بتصميم عجيب، في يدها اليمنى حقيبة جلدية سوداء منسجمة مع لونيْ تنورتها القصيرة وحذائها ذي الكعب الرقيق العالي. وباليد اليسرى أمسكت ملفا كرتونيا ضاجا بالوثائق والمستندات والشهادات وتقارير الخبراء والفنيين.
تمشي محدثة ضجة بدقات حذائها ذي الكعب الحاد، الدقات الموقّعة تلفت أنظار العابرين إليها. تتجه نحو مكتب معلوم دأبت التردد عليه منذ اتخذت قرارها بأن تسترد ما يحاول الآخرون اغتصابه منها. عرفت التفاصيل المؤدية إلى ذلك المكتب، وتدربت على مسك مقبض الباب النحاسي اللماع. صارت تدخل دون استئذان. كانت في البداية تطرق على الخشب الأبنوسي ثلاث طرقات موقعة. تنتظر كلمة "تفضل" لتعبر الباب بكامل أناقتها وتغمر المكان بضجيج عطرها وأنوثتها التي لم تقدر الهزات على محو آثارها.
تمشي وفي رأسها أتون يتأجج وبركان من الغضب ما زالت حممه تتآكل في جوفه باحثة عن فتحة مؤدية إلى الفوهة لتنفلت الحمم من الجوف فتلتهم كل ما يقع في طريقها. هي تدرك أنه إن انفتحت الفوهة واندفعت الحمم فإنها ستلتهم كل ما يعترضها. في جوفها وبين جنبيها تستعر مساحة ممتدة من الحقد والنقمة والكراهية. صار كل شيء أمامها عابسا بلون الحزن المكدس على قلبها.
زارت مكاتب كثيرة لخبراء محلفين وغير محلفين، ومنحوها شهائد وتقارير. وأضافت إلى كل شهادة شهادة تؤكد صحتها ومختومة وموقعة. بعض التقارير يقسم أصحابها ويوقعون أن تلك الوثائق لا لوثة فيها ولا تدليس.
التقاطع مفهوم اكتسب اهتماماً كبيراً في علم الاجتماع، وخاصة عند معالجة القضايا المتعلقة بعدم المساواة والعدالة الاجتماعية. التقاطعية هي إطار تحليلي اجتماعي لفهم كيف تؤدي الهويات الاجتماعية والسياسية للمجموعات والأفراد إلى مجموعات فريدة من التمييز والامتياز. تشمل أمثلة هذه العوامل الجنس، والطبقة، والعرق، والإثنية، والجنسانية، والدين، والإعاقة، والطول، والمظهر الجسدي، والعمر، والوزن. قد تكون هذه الهويات الاجتماعية المتقاطعة والمتداخلة تمكينية وقمعية في نفس الوقت.
نشأ التقاطع كرد فعل على كل من النسوية البيضاء وحركة التحرير السوداء التي يهيمن عليها الذكور آنذاك، مستشهدة بـ "القمع المتشابك" للعنصرية والتمييز على أساس الجنس والمعيارية الجنسية. إنها توسع نطاق الموجتين الأولى والثانية من النسوية، والتي ركزت إلى حد كبير على تجارب النساء البيض والطبقة المتوسطة، لتشمل التجارب المختلفة للنساء الملونات، والنساء الفقيرات، والنساء المهاجرات، وغير ذلك من المجموعات، وتهدف إلى فصل نفسها عن النسوية البيضاء من خلال الاعتراف باختلاف تجارب النساء وهوياتهن.
صاغت الأكاديمية الحقوقية الأمريكية "كيمبرلي كرينشو" Kimberlé Crenshaw مصطلح التقاطعية في عام 1989 وهي تصف كيف تؤثر أنظمة القوة المتشابكة على أولئك الأكثر تهميشاً في المجتمع. يستخدم الناشطون والأكاديميون هذا الإطار لتعزيز المساواة الاجتماعية والسياسية. تعارض التقاطعية الأنظمة التحليلية التي تعالج كل محور من محاور القمع بمعزل عن الآخر. في هذا الإطار، على سبيل المثال، لا يمكن تفسير التمييز ضد النساء السود على أنه مزيج بسيط من كراهية النساء والعنصرية، بل كشيء أكثر تعقيداً. والتقاطعية تصف الطرق التي تتقاطع بها الفئات الاجتماعية المختلفة - مثل العرق والجنس والطبقة والجنسانية - لخلق تجارب فريدة من التمييز أو الامتياز. وبدلاً من النظر إلى هذه الفئات بمعزل عن بعضها البعض، يسلط التقاطع الضوء على كيفية تفاعل أبعاد متعددة للهوية لتشكيل حياة الأفراد والمجموعات. يساعدنا هذا النهج على فهم كيف يمكن لأنظمة القمع - مثل العنصرية والتمييز على أساس الجنس والطبقية - أن تتداخل وتعزز بعضها البعض.
لقد أثرت التقاطعية بشكل كبير على النسوية الحديثة ودراسات النوع الاجتماعي. يقترح أنصارها أنها يعزز نهجاً أكثر دقة وتعقيداً لمعالجة القوة والقمع، بدلاً من تقديم إجابات مبسطة. يقترح منتقدوه أن المفهوم واسع جداً أو معقد، ويميل إلى تقليص الأفراد إلى عوامل ديموغرافية محددة، ويُستخدم كأداة أيديولوجية، ويصعب تطبيقه في سياقات البحث.
في عبارة للفيلسوف الدنماركي الشاب سورين كيركجورد الاب الروحي للفلسفة الوجودية التي ألصقت به وهو لم يدع "ي" الانتساب لها ولا حتى بالتوصيف العابر قوله ( اننا لا نوجد لنتفلسف بل نتفلسف لنوجد. ولا تساوي الفلسفة شيئا إن لم تكن تعبيرا ووسيلة حياة في وقت معا) 1
الغريب ان الفلسفة الوجودية التي انبثقت في أعقاب الحرب العالمية الثانية واحتضرت سريريا في نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين. انما تمركزت ادبياتها في مراحل تطورها اللاحق حول مفاهيم مطلقة مثل القلق والتأزم والانقذاف البشري غير الطوعي بالحياة، ولا معنى الحياة، وزيف الوجود، والوجود بلا موجود لا معنى له، والانسان نزوة طارئة في عالم لا معقول، والاخرون هم الجحيم، والانسان مسؤولية حرة يعيش حريته لاجل غيره الخ.
نفاجأ ان تكون نشأة الوجودية كما جاءت بعبارة كيركجورد انها تستمد تفكيرها من واقع الحياة والانسان في التزام متفرد غير معهود بتاريخ الفلسفة ومباحثها. فكر فلسفي وجودي اقرب الى التطبيق العملاني البراجماتي وليس تجريدا منطقيا لغويا سرديا بعيدا عن التجنيس الادبي واقعا انفراديا من التعبير السردي لا علاقة له لا بالانسان ولا بحياته وسط عالم يمور ويعج بمختلف الموجودات الطبيعية والظواهر والاحداث اليومية. بمختصر العبارة الوجودية فلسفة ليست تطبيقية سيسيولوجيا ولا تلتزم حياة الانسان ومصيره.
وجودية كيركجورد الفكرية البدئية وليست البدائية هي السعي نحو تحقيق الذات ليس كما فعل ديكارت تحقيق الذات انطولوجيا بوسيلة تفكير الذات المجرد عن موضوع تفكيره. واذا اراد كيركجورد تحقيق الذات من منطلق انها هي الفلسفة مؤكدا ان الذات والفلسفة لا قيمة لهما من غير ارتباطهما بمجرى الحياة الطبيعية للانسان.
كما واعتبر كيركجورد الذات لا تجد حقيقتها الا في حالة الاندماج الاحتوائي الكلي مع الفلسفة كوسيلة تعبير عن الحياة. ومن الغرابة ايضا نجد جورج مور بعد حوالي قرن من الزمان على انبثاق الفلسفة الوجودية واحتضارها السريري ومغادرتها المشهد الفلسفي نادى بهذا المطلب التوصيفي الوظائفي للفلسفة ان تكون للعامة بلغتها التواصلية المجتمعية وكان جورج مور حينها عضو حلقة اكسفورد في الوضعية المنطقية التحليلية الانكليزية بزعامة بيرتراند راسل التي انشق عنها جورج مور حين وجد اخفاق كل من نورث وايتهيد عالم اللغات وعضو الوضعية المنطقية التحليلية الانكليزية مع بيرتراند راسل محاولتهما تفسير اللغة في ربطها مع المنطق والرياضيات كعلم وفشلا بعد جهدهما الطويل المشترك ونتج عن محاولتهما الفاشلة تلك تاليف كتابهما (مباديء الرياضيات العامة 1906 ).
استرعاني التوقف عند مقولات فلسفية وجدتها خاطئة بتقديري جرت على لسان احد فلاسفة القرون الوسطى الاوربية وغيرهم سأتناولها بالتعليق النقدي التالي تباعا.
- "الوعي هو نوع من التحرر من الواقع".
الوعي ليس نتاج الواقع في تفسيره المجرد المباشر وبخلافه هذا يعني لا يمكننا تمييز احساسات الحواس التي هي نتاج الواقع وبين الوعي الذي هو فهم وتوصيف مقولات العقل عن موضوعات الواقع في التعبير عن كينونتها وعيا لغويا خارجيا..
فالوعي تجريد لا يدخل في تموضع معرفي مع مدركات العقل لموضوعاته. كما والوعي لا يدخل بعلاقة جدلية مع المدركات العقلية بصيغة ديالكتيك التضاد. الوعي لا يسبق الموجود ولا يحاول المداخلة معه خارج سلسلة المنظومة العقلية الادراكية التي تبدأ بالحواس في تسليم شبكة الاعصاب الاحساسات الانطباعية الواردة اليها من مدركاتها الحسية عن الواقع. الوعي فهم عقلي ثانوي على اسبقية الوجود وليس هناك علاقة جدلية غير منظورة مدركة بينهما اي بين الواقع والوعي.
الوعي لا يماثل الانطباعات الحسية الصادرة عن الواقع الخارجي التي تتحسسها الحواس وتتولى نقلها لشبكة اعصاب الذهن. الوعي ليس نتاج الواقع ولا حبيسه كي يتحرر منه. الواقع هو مركزية مصدر الادراكات العقلية بينما الوعي هو الفهم المعرفي الوارد من الدماغ في تعريفه لموضوعات ادراكاته في العالم الخارجي.
الوعي هو تجريد اجرائي لفهم ومعالجة المدركات بخلعه توصيفات العقل الفاهمة لها. الوعي مهمته إدراك موضوعات تفكير العقل هو واسطة نقل الوعي القصدي العقلي من مرحلة عملية إدراك الاشياء الى معرفة العقل لها معرفة قصدية. العقل لا يدرك الاشياء لمجرد تاكيد وجودها ولا لمجرد تأكيد ذاته الموجودية بدلالة موضوعاته المدركة المغايرة له بالمجانسة هي الصفات والجوهر..
العقل ليس جوهرا منفصلا عن الجسم، وان الخصائص العقلية تابعة للخصائص الفيزيائية... ويكيبيديا الموسوعة.
بالحقيقة هذه العبارة المبتورة تعتبر العقل ليس جوهرا منفصلا عن الجسم، وإن الخصائص العقلية التفكيرية تابعة لخصائصه الوظيفية الفيزيائية (للعقل) كعضو في تكوين أعضاء الجسم الذي يحتويه.، هذه العبارة تختصر مجلدا من المناقشات الفلسفية المتناحرة والمتناطحة مع بعضها بلا جدوى.
إذ دأبت مباحث الفلسفة منذ افلاطون وارسطو وديكارت اعتبار علاقة العقل بالجسم أنه جوهر غير فيزيائي منفصل عن الجسم ماهيته التفكير. لكن ما يجب الوقوف عنده بالعبارة أعلاه أن الخصائص العقلية التجريدية للعقل جوهر ماهيته التفكير هي علاقة جدلية مع الخصائص الفيزيائية للعقل على اعتباره عضو بايولوجي في جسم الانسان له وظائف فيزيائية خارج وداخل الجسم أخرى تتجاوز العقل جوهر ماهيته تفكير تجريدي منفصل عن الجسم.
حسب النزعة المثنوية أو الثنائية (علاقة العقل بالجسم) ترى العقل جوهرا مستقلا عن الجسم. في حين خالفهم الرأي بعضهم من أصحاب خصائص العقل البيولوجية الوظائفية الذين يرون العقل جوهرا غير منفصل عن الجسم. هم أصحاب النزعة الواحدية أن العقل والجسم ليسا كيانين وجوديين منفصلين إنما هما جوهر واحد في الإفصاح عن مدركات العالم الخارجي والعالم الداخلي للانسان. وتبّنى اسبينوزا هذا الرأي.
طرح افلاطون في وقت مبكر تعريفه العقل من وجهة نظر فلسفية تعتبر ابنة عصرها قبل تقدّم مباحث العلم في دراسة وظائف الأعضاء وفلسفة العقل المعاصرة. قوله العقل لا يمكن شرحه بمصطلحات الجسم الفيزيائية، أي بمعنى أراد افلاطون حصر العقل ضمن مباحث الفلسفة كتجريد منطقي لغوي بعيدا عن علم وظائف الاعضاء بيولوجيا التي تركن فلسفة العقل التجريدية جانبا.
بتعبير ربما يكون أكثر وضوحا أن العقل في الوقت الذي هو جوهر ماهيته ملكة التفكير، فهو بنفس الوقت عضو بايولوجي من أعضاء الجسم يقوم بفاعليات ما لا حصر له تدخل ضمن خاصّية العقل الإدراكية ومسؤوليته المباشرة عن كل شيء يصدر عن الانسان من سلوك ومعرفة بالحياة والوجود خارج وداخل الجسم. بالحقيقة هذا الانقسام بين بنية العقل التجريدية الفكرية الفوقية بتعبير ماركسي، مع البنية الوظائفية البايولوجية التحتانية للعقل كعضو تحتويه الجمجمة في غير حصر جوهر العقل أنه تجريد تفكيري لغوي ، يجعل من رأي أصحاب مذهب الواحدية في علاقة ارتباط العقل بالجسم من جهة وعلاقة انقسام العقل على نفسه أنه ليس خاصّية لغوية إدراكية تجريدية من جهة ثانية صحيحا ، وأن العقل تكوين بايولوجي له وظائف علائقية بالجسم بما لا يمكن حصره وهو يتجاوز تعريف العقل أنه خاصّية تفكيرية تجريدية غير مادية.
المزيد من المواضيع
فلسفة وتربية
تمهيد
لعل مصطلح "فلسفة جذرية" يُطلق على مجموعة من المصلحين في أوائل القرن التاسع عشر الذين استندوا في تعاملهم مع الحكومة والمجتمع إلى حد كبير على النظريات النفعية لجيريمي بينثام، وإن كانوا قد تأثروا أيضًا بمالثوس وريكاردو وهارتلي. وكان من أبرز المؤيدين جيمس وجون ستيوارت ميل وجورج جروت وجون رويبوك، بدعم من مورنينج كرونيكل وويستمنستر ريفيو ولندن ريفيو. ولم تنجح جهودهم في بناء حزب راديكالي في البرلمان بعد عام 1832: "لم يفعلوا سوى القليل لتعزيز أي آراء"، كما كتب ج. س. ميل، "كان لديهم القليل من المبادرة والنشاط". لكن التأثير العام للأفكار النفعية تغلغل في السياسة، وخاصة في الفترة من 1820 إلى 1850، أنتج "عصر الإصلاح". في هذه المقدمة الموجزة، نوضح الأهداف والأساليب التحررية المشتركة للعديد من الفلسفات الراديكالية، من الماركسية والنسوية إلى نظرية العرق والمثلية النقدية. تدرس الفلسفة الراديكالية العلاقات بين النظرية والممارسة، والمعرفة والقوة، فضلاً عن وظيفة القانون في خلق أشكال خارجة عن القانون من الهيمنة. من خلال المشاركة النقدية في تاريخ الفلسفة، نعيد بناء التقاليد المضادة المهمة للأشكال التاريخية والجدلية والتفكرية للنقد ذات الصلة بالنضالات الاجتماعية المعاصرة. والنتيجة هي دليل مبتكر ومنهجي للنظرية الراديكالية والمقاومة النقدية. فمتى نشأت الفلسفة الجذرية؟ وماهي خصائصها ومهامها؟ وهل يمكن تحيين للفلسفة الجذرية؟
الترجمة
"كان بينثام من أتباع الفلسفة السياسية النفعية التي نشأت عن الفقيه القانوني الإنجليزي جيريمي بينثام في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبلغت ذروتها في عقيدة الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر. كان بينثام يعتقد أن "الطبيعة وضعت البشرية تحت حكم سيدين، الألم والمتعة" وأن الأفعال يجب أن يحكم عليها أخلاقياً بأنها صحيحة أو خاطئة وفقاً لما إذا كانت تميل إلى تعظيم المتعة وتقليل الألم بين المتأثرين بها أم لا. وقد استكشف بينثام آثار هذا المبدأ على المؤسسات القانونية وغيرها من المؤسسات الاجتماعية. وقد طور ميل نظرية بينثام وصقلها، حيث رأى أن الأفعال صحيحة بما يتناسب مع ميلها إلى تعزيز أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. ومن بين الفلاسفة المتطرفين الآخرين الاقتصاديين جيمس ميل وديفيد ريكاردو، والفقيه القانوني جون أوستن، والمؤرخ جورج جروت. وقد فضلوا الليبرالية الاقتصادية والسياسية، وعلى الرغم من كونهم من المنظرين في المقام الأول، فقد سعوا إلى تحقيق تأثير عملي كبير وحققوا ذلك. التنوير يُعرف أيضًا باسم: عصر العقل، أو التنوير، أو عصر النور. الشخصيات الرئيسية: فرانسيس بيكون، إيمانويل كانط، جون لوك، فريدريش نيكولاي، جان جاك روسو. أهم الأسئلة هي متى وأين حدث التنوير؟ وما الذي أدى إلى التنوير؟ من هم بعض الشخصيات الرئيسية في عصر التنوير؟
منذ اسبينوزا، كنا حذرين من النزعات الأحادية (النظريات التي تؤكد أن الكل هو واحد)، لأننا نشتبه في أنها تؤدي إلى وحدة الوجود، وبالتالي إلى الإلحاد. يطمئن هيجل المنتقدين المحتملين لهذه النقطة ويتجنب الرقابة، من خلال إظهار أننا نستطيع تصور شكل من أشكال الأحادية التي تحافظ على فكرة الله؛ يكفي أن يتم تعريف الكل على أنه روح وليس مجرد جوهر:
"أحدث فهم الله باعتباره الجوهر الواحد ثورةً في القرن الذي جاء فيه هذا التعريف […]؛ كان السبب […] في غريزة أن الوعي الذاتي ما تم الحفاظ عليه فيه، ولكنه ببساطة غاص فيه".
مع ذلك، لنلاحظ أن الأمر بالنسبة إلى هيجل لا يتعلق بتعارض بين الجوهر والروح: قد نبقى في ثنائية، غير قادرين على القيام بتوليف بين مصطلحين متعارضين. على العكس من ذلك، يعرف هيغل الحقيقي، المطلق، بالطريقة التالية: "هو الجوهر الروحي".
في الواقع ، لا يدعي هيجل أنه يقوم بعمل أصيل من خلال تعريف المطلق بكونه روحا. ويؤكد أن هذه هي مساهمة المسيحية اللاتعوض، والتي تشكل حقيقة عصرها: المطلق كروح: مفهوم سام بين الجميع، والذي ينتمي حقا إلى العصر الحديث وديانته. الحقيقي ملموس كما رأينا؛ لكن الروحي هو وحده الفعال. وكل شيء آخر مجرد، وما هو إلا تحديد للعقل مفصول بالتجريد عن هذا الأخير.
نستطيع إذن إعادة تركيز تفسيرنا حول فكرة "الروح". قلنا في بداية شرحنا أن مشروع هيجل هو دراسة الأشكال المتعاقبة المختلفة التي يمكن أن تتخذها الحقيقة. يمكننا الآن إعادة صياغة ذلك بعبارات أكثر ملاءمة، قائلين إننا نبحث عن الأشكال المختلفة التي تتخذها الروح عبر التاريخ، في صيرورته الجدلية.
في الحقيقة، الأمران مرتبطان: الحقيقة هي ما يبدو كذلك للعقل. أو مرة أخرى، لا توجد حقيقة دون عقل يكتشفها. إن الحديث عن الأشكال المتعاقبة للحقيقة يعني في الواقع الحديث عن الأشكال المتعاقبة التي يتخذها العقل في بحثه عن الحقيقة. لكن بما أن الروح هي الكل، المطلق، الواحد في عبارة "الكل هو واحد"، يمكننا أن نقترح هذه الصيغة الأخيرة: نسعى هنا لوصف الأشكال المتعاقبة التي يتخذها العقل في بحثه عن حقيقة ما هو.
للقيام بذلك، يجب أن ينكشف لنفسه. وبعبارة أخرى: يجب أن يعي نفسه. ولذلك تظهر صلة أساسية بين الوعي والعقل. إن العقل، قبل كل شيء، ليس إلا "في ذاته": هو ما هو، دون أن يعرف أنه كذلك.
إذا كانت الحقيقة كلا تتبلور أشكاله واحدا تلو الآخر في التاريخ، فإننا هنا أبعد ما نكون عن أي شكل من أشكال التصوف، الذي يدعي أنه يفهم على الفور الحقيقة المطلقة، من خلال نوع من الحدس. ما لا يُعطى على الفور، ولكن يتطور تدريجيا، لا يمكن إدراكه من خلال هذا الفهم المباشر للحقيقة والذي سيكون الحدس. على هذا الأخير، ينبغي تفضيل المفهوم، الذي هو العنصر الحقيقي الذي يمكن للحقيقة أن تظهر فيه، وهو العنصر الوحيد الذي يمكن أن يضمن علمية المعرفة الناتجة عنه: "الحقيقة […] لا وجود لعنصر وجودها إلا في المفهوم".
خصص هيجل عدة فقرات لإدانة هذا الوهم، الحدس الصوفي، الذي سيكون بمثابة معرفة مباشرة بالدين المطلق، بالوجود. ولخصه على النحو التالي: ليس من المفترض أن نتصور المطلق، بل أن نشعر به ونتأمله. ليس المفهوم، بل الشعور الذي لدينا تجاهه وما نفكر فيه هو الذي من المفترض أن يقود المناقشات وأن يتم ذكره.
إذا كان هيجل يطور هنا نقدا للمذهب الحدسي، فذلك لأنه كان “متداولًا” في الوقت الذي كتب فيه هذه السطور. ثم شرح أصل هذا الجنون على النحو التالي: مع فلسفة التنوير، وظهور العقل ونقد الدين الذي نشأ عنه، فقد الإنسان صلته الطبيعية بالعالم.
لقد أدى هذا النقد الموجه إلى التنوير إلى حل العلاقات التي كانت تربط الإنسان ببيئته، وبوجوده. لقد شكّل العصر الذي أعقب ذلك، عصر هيجل، عصر الرومانسية الألمانية المنتصرة، نوعا من ردة الفعل: نتيجة لذلك، حاول الإنسان إعادة اكتشاف علاقته الطبيعية - وبالتالي المباشرة - بالوجود، أو الله، من خلال رفض مفهوم (العديل للتنوير) ومن خلال تفضيل الحدس، هذه العلاقة المباشرة.
بالعقل، بنقد التنوير، بالتفكير الذي باشره من الآن في العالم وفي ذاته، لم يعد الإنسان يعيش بطريقة طبيعية، ولم يعد يتطابق مع نفسه بطريقة ساذجة. إنه الألم الذي يدركه ويحاول أن يجد علاجا له، بواسطة إعادة اكتشاف ارتباطه الأصلي بالوجود، بواسطة الحدس:
التقاطع مفهوم اكتسب اهتماماً كبيراً في علم الاجتماع، وخاصة عند معالجة القضايا المتعلقة بعدم المساواة والعدالة الاجتماعية. التقاطعية هي إطار تحليلي اجتماعي لفهم كيف تؤدي الهويات الاجتماعية والسياسية للمجموعات والأفراد إلى مجموعات فريدة من التمييز والامتياز. تشمل أمثلة هذه العوامل الجنس، والطبقة، والعرق، والإثنية، والجنسانية، والدين، والإعاقة، والطول، والمظهر الجسدي، والعمر، والوزن. قد تكون هذه الهويات الاجتماعية المتقاطعة والمتداخلة تمكينية وقمعية في نفس الوقت.
نشأ التقاطع كرد فعل على كل من النسوية البيضاء وحركة التحرير السوداء التي يهيمن عليها الذكور آنذاك، مستشهدة بـ "القمع المتشابك" للعنصرية والتمييز على أساس الجنس والمعيارية الجنسية. إنها توسع نطاق الموجتين الأولى والثانية من النسوية، والتي ركزت إلى حد كبير على تجارب النساء البيض والطبقة المتوسطة، لتشمل التجارب المختلفة للنساء الملونات، والنساء الفقيرات، والنساء المهاجرات، وغير ذلك من المجموعات، وتهدف إلى فصل نفسها عن النسوية البيضاء من خلال الاعتراف باختلاف تجارب النساء وهوياتهن.
صاغت الأكاديمية الحقوقية الأمريكية "كيمبرلي كرينشو" Kimberlé Crenshaw مصطلح التقاطعية في عام 1989 وهي تصف كيف تؤثر أنظمة القوة المتشابكة على أولئك الأكثر تهميشاً في المجتمع. يستخدم الناشطون والأكاديميون هذا الإطار لتعزيز المساواة الاجتماعية والسياسية. تعارض التقاطعية الأنظمة التحليلية التي تعالج كل محور من محاور القمع بمعزل عن الآخر. في هذا الإطار، على سبيل المثال، لا يمكن تفسير التمييز ضد النساء السود على أنه مزيج بسيط من كراهية النساء والعنصرية، بل كشيء أكثر تعقيداً. والتقاطعية تصف الطرق التي تتقاطع بها الفئات الاجتماعية المختلفة - مثل العرق والجنس والطبقة والجنسانية - لخلق تجارب فريدة من التمييز أو الامتياز. وبدلاً من النظر إلى هذه الفئات بمعزل عن بعضها البعض، يسلط التقاطع الضوء على كيفية تفاعل أبعاد متعددة للهوية لتشكيل حياة الأفراد والمجموعات. يساعدنا هذا النهج على فهم كيف يمكن لأنظمة القمع - مثل العنصرية والتمييز على أساس الجنس والطبقية - أن تتداخل وتعزز بعضها البعض.
لقد أثرت التقاطعية بشكل كبير على النسوية الحديثة ودراسات النوع الاجتماعي. يقترح أنصارها أنها يعزز نهجاً أكثر دقة وتعقيداً لمعالجة القوة والقمع، بدلاً من تقديم إجابات مبسطة. يقترح منتقدوه أن المفهوم واسع جداً أو معقد، ويميل إلى تقليص الأفراد إلى عوامل ديموغرافية محددة، ويُستخدم كأداة أيديولوجية، ويصعب تطبيقه في سياقات البحث.
هل لديك وظيفة تعتقد سرا أنها لا معنى لها؟ إذا كان الأمر كذلك، فلديك ما يسميه عالم الأنثروبولوجيا والناشط اللاسلطوي الأمريكي "ديفيد غريبر" David Graeber "وظيفة هراء". قام غريبر، وهو أستاذ في كلية لندن للاقتصاد وزعيم حركة احتلال وول ستريت المبكرة، بتأليف كتاب بعنوان: وظائف الهراء: نظرية" Bullshit Jobs: A Theory.
يفترض غريبر وجود وظائف لا معنى لها ويحلل ضررها المجتمعي. ويؤكد أن أكثر من نصف العمل المجتمعي لا معنى له ويصبح مدمراً نفسياً عندما يقترن بأخلاقيات العمل التي تربط العمل بقيمة الذات. فهو يزعم أن هناك الملايين من الناس في مختلف أنحاء العالم ــ الموظفون الكتابيون، والإداريون، والاستشاريون، والمسوقون عبر الهاتف، ومحامو الشركات، وموظفو الخدمات، وكثيرون غيرهم ــ الذين يكدحون في وظائف لا معنى لها وغير ضرورية، وهم يعرفون ذلك. ويجادل بأن ربط العمل بالمعاناة الفاضلة هو أمر حديث في تاريخ البشرية، ويقترح النقابات والدخل الأساسي الشامل كحل محتمل.
يقول غريبر: لم يكن من الضروري أن يكون الأمر على هذا النحو. لقد تقدمت التكنولوجيا إلى حد أن معظم الوظائف الصعبة التي تتطلب عمالة كثيفة يمكن أن تؤديها الآلات. ولكن بدلاً من تحرير أنفسنا من أربعين ساعة عمل أسبوعية خانقة، اخترعنا عالماً كاملاً من المهن غير المجدية وغير المرضية مهنياً والفارغة روحياً.
يعد الكتاب امتداداً لمقال شهير نشره غريبر في عام 2013، والذي تُرجم لاحقًا إلى 12 لغة وأصبح فرضيته الأساسية موضوع استطلاع أجرته شركة YouGov. طلب غريبر مئات الشهادات من العمال الذين يعملون في وظائف لا معنى لها وقام بمراجعة قضية مقالته في شكل كتاب نُشر بواسطة "سايمون وشوستر" Simon & Schuster في مايو 2018.
الوظائف التافهة
كيف يحدد غريبر "الوظيفة الهراء"؟ إنها في الأساس وظيفة خالية من الهدف والمعنى. إنها مختلفة عن "الوظيفة القذرة"، وهي وظيفة يمكن أن تكون مهينة وشاقة وذات تعويض ضعيف، ولكنها تلعب في الواقع دورًا مفيداً في المجتمع. بل يمكن أن تكون الوظيفة التافهة مرموقة ومريحة وذات أجر جيد، ولكن إذا اختفت غداً، فلن يفشل العالم في ملاحظة ذلك فحسب، بل قد يصبح مكاناً أفضل بالفعل. الوظائف التافهة "تأخذ" أكثر مما "تعطي" للمجتمع.
قام غريبر بتحسين تعريفه من خلال تقديم تصنيفه المضحك للوظائف الهراء. هناك "أتباع"، يُعرفون أيضاً باسم "الخدم الإقطاعيون"، الذين يتم تعيينهم خصيصاً من قبل المديرين لجعلهم يبدون أكثر أهمية. "الحمقى" هم تلك القوة العدوانية المستأجرة التي توجد بشكل متكرر في فرق التسويق عبر الهاتف ووكالات العلاقات العامة، والتي يتم توظيفها فقط لإقناع الناس للقيام بشيء يتعارض مع منطقهم السليم. "التناقص التدريجي للقنوات" وهم موظفون يتم تعيينهم فقط لإصلاح مشكلة لا ينبغي أن تكون موجودة. "مؤشرات الصندوق"، التي لا نحتاج إلى مقدمة لها، و"سادة المهام"، الذين تتمثل وظيفتهم الوحيدة في إنشاء أنظمة بيئية جديدة كاملة للهراء (يمكن وصف الأخير أيضاً باسم "مولدات الهراء"). وهناك مجموعات مختلفة مما سبق، والتي يصفها غريبر بأنها "وظائف هراء معقدة ومتعددة الأشكال".
يتساءل عالم النفس والناقد الاجتماعي النيوزيلندي "جون شوماكر" John Schumaker الذي أمضى ربع قرن يعيش ويعمل في بلدان مختلفة، مثل زامبيا، وجنوب إفريقيا، وتايلاند، وبريطانيا، وأيرلندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، عما إذا كان مجتمع المستهلك سطحياً للغاية بحيث لا يستطيع التعامل مع الأزمات المتفاقمة التي تواجه كوكب الأرض.
يبدو أنه لم تظهر نتائج التلقين الثقافي بعد في هذه المرحلة، ولكن هناك اتجاه واضح ــ التفاهة تتقدم، تليها عن كثب السطحية والتشتت الذهني. يبدو الغرور رائعاً في حين يأتي العمق في المؤخرة. والضآلة تتقدم بقوة، جنباً إلى جنب مع السلبية واللامبالاة. فقد الفضول الاهتمام، وتعرضت الحكمة للخدش، وكان لابد من وضع الفكر النقدي جانباً. والأنا تنطلق في جنون. وتستمر فترة الانتباه في التقلص، ولا أحد يراهن على البقاء.
لم يكن من المفترض أن يكون الأمر على هذا النحو. فقبل نصف قرن من الزمان، كان المفكرون الإنسانيون يبشرون بصحوة عظيمة من شأنها أن تبشر بعصر ذهبي من الحياة المستنيرة. كان أشخاص مثل عالم النفس والفيلسوف الألماني "إريك فروم" Erich Fromm ، وعلماء النفس الأمريكيين "كارل روجرز" Carl Rogers، و"أبراهام ماسلو" Abraham Maslow ، و"رولو ماي" Rollo May، والعالم النمساوي "فيكتور فرانكل" Viktor Frankl يضعون الأساس لنظام اجتماعي جديد يتميز بوعي متزايد، وعمق الغرض، والصقل الأخلاقي. كانت هذه الرؤية المغرية نقيضاً لمجتمعنا من النرجسيين الضيقي الأفق والماديين المنوِّمين. لم يكن الغباء قدرنا. لم يكن الفناء الكوكبي هو الخطة. بحلول القرن الحادي والعشرين، كان من المفترض أن نكون "شعب الغد" النادر، الذي يسكن عالماً حكيماً وصحياً.
اليوم، لم يكن الطلب على التفاهات أعلى من أي وقت مضى ولم يكن تسامحنا مع الجدية أقل من أي وقت مضى.
أصبحت الكثير من الدراسات في السنوات الأخيرة تحلل موضوع "الهويات الأوروبية"، أو تستخدم مفهوم "الهويات" في دراسة الاتحاد الأوروبي. وهذا أمر لا يمكن قوله عن المراحل السابقة في دراسات الاتحاد الأوروبي. حتى وإن تناوله بعض الرواد المؤسسين لدراسات الاتحاد الأوروبي في أعمالهم. على سبيل المثال، عرّف عالم السياسة الأمريكي المتخصص بالعلاقات الدولية "إرنست هاس" Ernst Haas التكامل الأوروبي بأنه عملية تنطوي على "تحول الولاءات" من قِبَل "الجهات الفاعلة السياسية في العديد من البيئات الوطنية المتميزة" إلى "مركز سياسي جديد.
في حين أدرج آخرين "الشعور بالمجتمع" في مفهوم للتكامل. إن الاهتمام الأكاديمي المتزايد بدراسة الهويات في أوروبا يستجيب لما تسميه بعض الباحثين "الدوافع الخارجية" و"الداخلية". إن الاهتمام الأكاديمي بالموضوع هو استجابة للتغيرات "على الأرض"، أو المحركات الخارجية. لقد كان سياق ما بعد الحرب الباردة، وما بعد ماستريخت، وحتى ما بعد "الحرب على الإرهاب" سياقاً حيث أصبح التكامل الأوروبي وأنواع معينة من الجدل حول الهوية أكثر إثارة للجدال. وقد أثار هذا تساؤلات حول العلاقة بين الهوية، من ناحية، وشرعية مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وآفاق الديمقراطية ذات المغزى خارج الدولة ومستقبل الاتحاد الأوروبي ذاته من ناحية أخرى. وعلاوة على ذلك، أدى التوسع الكبير والمستمر للاتحاد الأوروبي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، واحتمال عضوية تركيا، والصراع المتزايد حول التعايش بين التقاليد المسيحية والإسلامية والعلمانية في المجتمعات الأوروبية، إلى زيادة التنوع الثقافي في الاتحاد الأوروبي وأهمية المناقشات حول الهوية. ومع ذلك، فإن الاهتمام الأكاديمي بالهويات الأوروبية يعكس أيضاً تطور المناقشات النظرية حول الاتحاد الأوروبي، أو المحركات الداخلية. ليس من قبيل المصادفة أن يتزامن الاهتمام المتزايد بقضايا الهوية مع بداية ما تم وصفه بالمرحلة الثانية "تحليل الحكم" والمرحلة الثالثة "بناء الاتحاد الأوروبي" من بناء النظرية، والتي تركز المزيد من الاهتمام على قضايا السياسة والسياق الاجتماعي للتكامل الأوروبي.
«إنّ الانسجام هو المطلب الأوّل عند الفيلسوف وهو، مع ذلك، جدّ قليل. والمدارس اليونانيّة القديمة تقدّم عنه أمثلةً أكثر ممّا نجد في عصرنا التّوفيقي، الّذي تُبْتَدع فيه توليفاتٌ سطحيّة وغير نزيهة بين تناقضات أساسيّة، لأنّها تتمتّع بالقبول لدى جمهور يقنع بمعرفة القليل عن كلّ شيء، دون أن يعرف في العمق أيّ شيء..»[1]
«إن وجهتنا الوحيدة هي التحليل «العلمي» لـ«عقل» تشكّل من خلال إنتاجه لثقافة معينة، وبواسطة هذه الثقافة نفسها: الثقافة العربية الإسلامية. وإذا كنا قد وضعنا كلمة «العلمي» بين مزدوجتين، فذلك إقرارا منّا منذ البداية بأن هذا البحث لا يمكن أن يكون علميا بنفس الدرجة من العلمية التي نجدها في البحوث الرياضية أو الفيزيائية. إن الموضوع هنا هو شيء منا، أو نحن شيء منه، فنحن أبينا أم رضينا مندمجون فيه. وكل أملنا هو أن نتمكن، في هذا البحث، من الصدور عن الالتزام الواعي لا عن الاندماج المشيء للفكر المعطل للعقل»[2]
فاتحة:
أشرتُ في الهامش 30 من المقال الأوّل[3]، الّذي ناقشتُ فيه اعتراض العمري في كتابه "البلاغة العربية" على محمد عابد الجابري، إلى أنّ هذا المعترض حاول في مقاله اللّاحق «الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية» المنشور ضمن المؤلَّف الجماعي «محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة» إعادة الجابري إلى "النّظام البياني"، ووعدت بالوقوف عنده. وفي هذا المقال، وفي ما سيليه، سأركّز على مناقشة ما سطّره عن الجابري ابتداءً من الصفحة 104 تحت عنوان: " ثانيا: الجابري من الفلسفة إلى البلاغة"! وقد فضلتُ ألا أتعرّض لما قبل ذلك مما قاله تحت عنوان "أولا: الفلسفة والبلاغة"، ترفّعا عن مناقشة إسفافه في حضرة مفكّر فيلسوف. والنزّاهة تقتضي أن أحمل ما قصد إليه، مما تركتُ مناقشته هنا من كلامه المُمَهّد، على أحسن الوجوه الممكنة. وأبتدئ في هذا المقال بالوقوف عند ما سمّاه بـ "البلاغة في نسق «العقل البياني»، وذلك لارتباط مضمونه بما سبق أن أثاره في كتابه "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها"، وأقف عند ادّعاء عجيب جديد يتمثّل في كون الجابري تحوّل عن عقلانية ديكارت وبداهته إلى البلاغة، وعند ما اعتبره نقطة التحوّل؛ على أن أخصّص لما سمّاه بـ "البلاغة التطبيقية" مقالا ثانيّا؛ وأجعل المقال الثّالث تركيبا للاستنتاجات، ومناقشة لها في ضوء الـ "رّؤيةٍ" الّتي يقول إنّه ينطلق منها، والـ "منهج" الذي يدّعي أنّه يصطنعه.
المقال الأوّل الآتي يدور حول محورين، الأوّل هو اعتراض العمري على الجابري وما رصده لهذا الاعتراض من براهين، والثّاني ادعاؤه " تحول الجابري من الفلسفة إلى البلاغة". وأوضّح، في هذه الفاتحة، أنّ "الاعتراض" و "الادّعاء" وما يستندان عليه، كل ذلك ورد في المقال، موضوعَ المُدارَسَة، منتشرا مختلطا؛ لذا، فإنّ مناقشتَه تقتضي، بالإضافة إلى تلخيصه، ترتيبه وتخليصه من هذيان عظيم. وسأبتدئ من الاعتراض، وأُثَنّي بالوقوف عند دعاوى التّنبّه التّدريجي للجابري وتحوّله، في النّهاية، من الفلسفة إلى البلاغة عند نضجه واكتمال أدواته!
لا يمكن اختصار منزلة السّؤال في كونه شكلاً وحيداً ومستقلاًّ من أشكال الخطاب الأدبي في مدوّنة التوحيدي، فهو يخترقُ أكثر من شكل فنجده في التّناظر كما في المنافرة وقد يكون أيضاً مُنطلقاً للرّواية والتّذاكر وغيرها. وليس المقصود هنا بالسّؤال مجرّد السّؤال العاديّ ذي البُعد التّواصلي بالأساس وإنّما السّؤال المُولّد للتّفكير ذي البعد التبصّري، فهو آليّة تفكير وأكثر منه مجرّد أداة تواصل وتبليغ، وهو الحامل لمُشكل معرفي قد يتجاوز الاستخبار ولا يتطلّب بالضّرورة إجابة مُحدّدة أو إجابة واحدة. هو تقريباً شبيه بالسّؤال التّوليدي* بالمعنى السّقراطي أي في معنى المُساءلة المستمرّة لتوليد المعارف والوصول إلى نتيجة مفادها أنّه لا توجد إجابة نهائيّة. وفي الكتاب الثامن من "المواضع " لأرسطو والمُخصّص لـ"ممارسة المُحادثة الجدليّة "نجدُ تنظيراً مخصوصاً بمنطق الأسئلة وتمشّياتها باعتبارها آليّة ضروريّة تسبق الفهم وإطلاق الأحكام وسمّاه "علم السّؤال*" وهو علمٌ واصفٌ للطّرق والآليات التي تُطرحُ بها الأسئلة على المُحاور.
ولا يخفى أيضاً أهميّة السّؤال بالنّسبة للمفكّرين والفلاسفة ما بعد أرسطو، فـ"كارل يسبرز" مثلاً اعتبر الأسئلة أهمّ من الأجوبة في عمليّة التّفلسف، دون اعتبار طبعاً أنّ كلّ إجابة مفترضة تتحوّل بدورها إلى سؤالٍ فلسفيّ جديد، ومنه يُستنتج أنّ السّؤال الحامل لمشكل معرفي، بالقدر الذي يبعثُ فينا الدّهشة والتّفكير، يظلّ حاملاً في نفس الوقت لقوّته وحيويّته ومُتأبّياً عن الانغلاق والفناء في الإجابة. "والقُدرة على السّؤال تعني القُدرة على الانتظار ولو كان ذلك مدى الحياة كلّها"([1]) على حدّ عبارة هايدغر، ويقصد بذلك أنّ السّؤال الأصيل يظلّ متجذّراً في الجواب إلى ما لانهاية وهو ما يؤكّده في سياقٍ آخر مشابه قائلاً: "كلّما زاد اقترابنا من الخطر تبدأ الطّرق إلى المُنقذ تلمعُ بجلاء أكبر، ونُصبحُ أكثر تساؤلاً، ذلك أنّ التّساؤل هو قمّة التّفكير"([2]). ويذهبُ "موريس ميرلوبونتي" بعيداً في تناول فلسفة السّؤال بأن يمنحه بُعداً أنطولوجيّاً، أي أنّ الوجودَ الإنساني في حدّ ذاته سؤالٌ ومنذ أوّل سؤال يبدأ الإنسان في تخطّي عتبة الحيوانيّة ففي "المرئي واللاّمرئي" يقول: "إنّ الأسئلة مُحايثة لوجودنا، لتاريخنا، فهي تولد بداخلها، وتموت بداخلها كلّما حصلتْ إجابةٌ ما، وفي غالب الأحيان فإنّها تتحوّل بداخلنا"([3]).فكأنّما الأسئلة لا تموت باعتبارها جوهر الإنسان، وحتّى الإجابات لا تُنهي المساءلة بل تظلّ مستكنّة فيها، فهي في النهاية أسئلة مُقنّعة وإن ظهرتْ بمظهر الإجابات.
مقاطع أخرى
-
غسان كنفاني.. والتأسيس للأدب الفلسطيني بعد النكبة
ولد غسان كنفاني في مدينة عكا في سنة 1936م، وعاش في مدينة يافا، ثمّ اضُطر للنزوح عنها تحت ضغط الاحتلال الصهيوني، وكان ذلك في سنة 1948م، ثم أقام لفترة وجيزة مع ذويه في جنوب لبنان، ثم بعدها انتقلت عائلته إلى دمشق، وقد عاش حياةً صعبة وقاسية فيها، حيث عمل والده في مهنة المحاماة، وقد اختار أن يعمل في قضايا كان معظمها قضايا وطنية خاصة بالثورات التي كانت تحدث آنذاك في فلسطين، وقد اعتقل لمرات عديدة، إلّا أنّه تميز بأنّه شخص عصامي وذو آراء متميزة، الأمر الذي ترك آثراً عظيماً في شخصية غسان وحياته.
عمل غسان منذ شبابه في مجال النضال الوطني، فقد عمل مدرساً للتربية الفنية في مدراس وكالة الغوث للاجئين الفلسطينين في دمشق، ثم انتقل بعدها إلى الكويت في سنة 1965م، إذ عمل هناك معلماً للرياضة والرسم في مدارس الكويت الرسمية، وكان خلال هذه الفترة يعمل أيضاً في الصحافة، فقد بدأ إنتاجه وإبداعه الأدبي في نفس الفترة، ثم انتقل في سنة 1960م إلى مدينة بيروت، حيث عمل هناك محرراً أدبياً في جريدة الحرية الأسبوعية، ثم في عام 1963م أصبح رئيس تحرير لجريدة المحرر، كما عمل أيضاً في كل من جريدة الحوادث، والأنوار حتى سنة 1969م، ثم بعدها أسس صحيفة الهدف، وظل رئيس تحريرها لفترة من الزمن.يعد غسان كنفاني نموذجاً مثالياً للروائي، والكاتب السياسي، والقاص الناقد، فقد كان مبدعاً معروفاً في كتاباته، كما كان مبدعاً في نضاله وحياته، وقد حصل على جائزة في عام 1966م بعنوان أصدقاء الكتاب في لبنان، وكان ذلك لرواية (ما تبقى لكم) والتي أاعتبرت وقتها أفضل رواياته، كما حصل على جائزة منظمة الصحافيين العالمية، وفي عام 1974م حصل على جائزة اللوتس، والتي منحه إياها اتحاد كتاب إقريقيا وآسيا في عام 1975م.
أشهر روايات غسان كنفاني:
عائد إلى حيفا. رجال من الشمس. أرض البرتقال الحزين. أم سعد. عن الرجال والبنادق. القميص المسروق. العاشق. ما تبقى لكم. عالم ليس لنا. الشيء الأخر.
وفاة غسان كنفاني:
استشهد الروائي غسان كنفاني يوم السبت صباحاً بتاريخ 8 /7/ 1972، وكان ذلك بعد انفجار عبوة ناسفة في سيارته، والتي وضعت من قبل جهة معينة بهدف اغتياله. -
الناقد فيصل دراج وعلاقته بالكتب والكتابة
الناقد فيصل دراج وعلاقته بالكتب والكتابة.
فيصل دراج
مفكر وناقد فلسطيني، حاصل على الدكتوراه في الفلسفة، فرنسا. عمل في عدة منشورات ومجلات ثقافيّة فكريّة منها: شؤون فلسطينيّة، سلسلة حصاد الفكر العربي...إلخ. نشر العديد من المقالات والمؤلفات، منها: "ذاكرة المغلوبين" (2001)، و"الرواية وتأويل التاريخ"(2004)، و"الحداثة المتقهقرة" (2005). فاز بعدة جوائز عربية، منها: جائزة الإبداع الثقافي لدولة فلسطين سنة 2004، وجائزة الدراسات الأدبية والنقد سنة 2010. -
ندوة الثقافة و الثورة للشهيد مهدي عامل
سيداً في ملكوت الكلام، عالمياً، متعالياً، بالتأمل يحيا، وللتأمل. هكذا كان الفكر، على امتداد قرون خلت، في انفصام مع الواقع، له الثبات المطلق، وللتاريخ المادي التّغير والحركة.
كان يحلو له بين حين وحين، أن يُطِلَّ من علياء تجريده على الواقع، فيدينه تارة، وغالباً ما يعذره. لكنّه من خارج كان يحكم، وما كان يقوى عليه. وكان، حين يتوق إلى واقع آخر، أو أفضل، يحكم، أو يتخيل، أعني يتأول. وما كان يرتبط بقوى التغيير الثوري حين كان يطمح إليه. وما كان يدرك شروط هذا التغيير وأدواته. لذا، كان يجنح نحو الطوباوية، في أشكال شتّى، فيقدم للواقع ذريعة بقاءٍ وحجة تأبُّد.أيّ موقع كان يمكن أن يكون للمثقف في مثل هذا الانفصام المتجدد بين الفكر والواقع؟
موقع المنبوذ، أو موقع خادم السلطان، سواء أكان شاعرا أم فقيها، حليما، فيلسوفا أم أديبا. وما كان الفكر، في الموقعين، بقادر على أن يغيّر. كان يرفض، أحيانا، أو يُبَرّر. يهجو أو يمدح، وفي الحالتين يرتزق. أو يتصعلك، إنّ خرجَ على السائد ونظامه، كأّنه محكوم بموت يتأجل. يحتج على الشرع ويثور، لكن، من موقع العاجز عن نقض الشرع. فيتصوّف. يستبدل الأرض بالسماء، ويزهد. أو يستكين للدنيا وللآخرة، فَيُعقلِنُ الاثنتين في نظام الاستبداد، لسلطته يرضخ.
والسلطة، بالدين، تبدو مطلقة. وهي المقدسة، في الغيب وبالغيب. وهي السلطةُ، فوق الرفض وفوق النقض، سيفها على الرقاب مسلّطٌ، والرقاب خاضعةٌ، راضية. فمن تمرّد، فعلى سلطة الدين يتمرد. إذّاك يُحَلُّ دمُه. حتّى لو كان الحلاجَ، أو السهر وردي. أما ابن تيميه، أو الغزالي، أو من شابههما، فعلى التمرد والمتمردين، في كل عصر، يشهران سلاح الدين، سلاح السلطة، فيكبلان العقل، يرهبان الروح، ويئدان الجسد
لم يكن للمثقف، في عالم كهذا، سوى أن يختار بين الاستتباع أو الموت، بين أن ينطق بلغة الاستبداد ونظامه، أو أن ينطق بلغة الصمت، أعني بلغة المكبوت ورموزه. هكذا كانت الثقافة تجري في صراع بين اثنتين: واحدة هي ثقافة الأسياد، بتياراتها المختلفة المتباينة، أو أخرى هي ثقافة المقهورين، بأنواعها المتعددة. لم تكن الثقافة يوما واحدة، وليس من الجائز حصرها في ثقافة رسمية، أو مسيطرة، أو معلنة. كانت ثقافة مناهضةٌ لهذه، مكبوتةٌ، مستترة، لعلها أكثر شيوعاً من الأولى، أو أصدق تعبيرا عن ضمير الناس وطموحاتهم. كانت، مثلاً، في حكايات ألف ليلة وليلة، أو في عروض خيال الظل، أو في سير الأبطال الشعبية. وهي، بالتأكيد، أكثر تمردا على الواقع القائم، وأشد رفضاً له. لكنها عاجزة كانت عن تغيير العالم، فيما هي كانت تطمح إليه.
ليس بالحلم تكون الثورة، وإن كان الحلم شرطاً من شروطها. ومن شروط الثورة أن يتوفر لها وعي متّسق، إليه تستند، وبه تستبق الممكن. أعني الضروري. ومن شروطها أن يتجسد وعيها المتسق هذا، أي العلمي، وفي وعي القائمين بها، جماهير الكادحين، المنتجين بأيديهم وأدمغتهم، صانعي التاريخ، بوعيهم الممارسيّ يستحيل الوعي النظري قوةً ماديةً تَدُكُّ أعمدة القائم، وتهيئ لولادة الجديد.
لمن يكن للثقافة، في زمن انفصام الفكر عن الواقع، دورٌ في تغيير العالم، إلا ما لا يكاد يذكر. كانت، كلما حاولت القيام بهذا الدور، تُقمع وتُهان، باسم الدين غالباً، وبتهمة الكفر أو الزندقة، وبتهمة التحريف أو الهرطقة. فالثقافي، حتى في ثقافة الأسياد، يرتدّ عليهم وعليها، فهو المبتدعُ في فعل الحرية، يتهدد ويزعزع. إنها القاعدة في كل العصور: كلما انحازت الثقافة إلى جديد ضد القديم، إلى المتغيّر ضد الثابت، إلى النار ضد الرماد، وإلى الحياة والحلم، اضطُهِدت واضطُهِدَ المثقفون، أحباءُ الحرية و الآفاق الزرقاء الرحبة. إنها البداهة في ضرورة أن يكون المثقف ثائرا، أو لا يكون، وفي ضرورة أن تكون الثقافة للفرح الكونيّ، ضد كل ظلامية، أو لا تكون.
تلك مشكلة المثقف والثقافة بامتياز. وهي قضية الثورة في آن.
ثم التحمت، لأول مرة في تاريخ الفكر، نظرية الثورة بحركة الثورة، فالتأم الفكر، في نشاطه المعرف نفسه، بقوى التغيير، فلم تعد الثورة تفتقد فكرها، ولم يعد الفكر سجين تأملاته. لقد بات الممكن قابلا للتحقيق، فهو الضروري في حركة التاريخ المادي، لا يتحقق إلا بنضال ثوري. والنضال وعدُ الكادحين بأن أنظمة الرجعية والاستبداد إلى زوال. وللنضال شروطٌ وأشكالٌ وأدوات. من شروطه أن يهتدي بعلم الثورة، أعني بتلك النظرية التي أسّسها ماركس، وأقامت ثورات الشعوب المضطهدة على صحتها البرهان، بالملموس التاريخي. ومن أشكاله ما تمارسه قوى المقاومة الوطنية في كفاحها ضد الاحتلال، وضد الفاشية والطائفية. ومن أدواته الأولى الحزب الثوري. حزب العمال والفلاحين والمثقفين.
منذ أن التحمت النظرية بالثورة، لم تعد الثقافة حكرا على نخبة من الكهنة. فلقد عمت ضرورتها حتى بات على العامل، كي يكون عاملاً، أن يكون بأدوات إنتاجه المادي مثقفاً، وعلى المثقف، كي يكون كذلك، أن يكون بأدوات إنتاجه الفكري كادحاً. والإنتاجان واحدٌ في سيرورة التاريخ الثوري، هذا الذي يؤسس لحرية اليد المبدعة. ليست الثقافة كتابة، وإن كانت الكتابة من أركانها. إنها تَمَلُّكٌ للعالم في حلم، أو حقل أو مصنع. أما المثقفون، فهم المنتجون، بأيديهم وأدمغتهم، ضد أنظمة القمع والاستغلال والجهالة، فكراً، فناً وجمالاً هو حبّ للحياة. وأما غير المنتجين، القابعين في قبحهم، فهم الأسياد بأنظمتهم. وأما هدم الأنظمة، فهو مهمة الثورة في كل آن.
والثورة في لبنان ما تزال فاعلةً في سيرورة حرب أهلية فجرتها الرجعية لإنقاذ نظامها الطائفي وفرض الفاشية، فانقلب عليها، وعلى نظامها، ثورةٌ وطنيةٌ ديمقراطية تخلخل وتصدّع، لا يخيفها عائقٌ، فهي التي تُخيف، بها ينهار عالم بكامله، ويشرئبُّ إلى الولادة آخر. تتفكك نُظُمٌ من الفكر والاقتصاد والسياسة يصعب عليها الموت بدون عنف، تتصدى لجديد ينهض في حجرشة الحاضر، وتقاوم في أشكال تتجدد بتجدد ضرورة انقراضها، تنعقد بين عناصرها المتنافرة تحالفات هي فيها على موعد الموت.
إذن، فليدخل الفكرُ المناضل في صراع يستحثّ الخطى في طريق الضرورة الضاحكة. فهو اليانع أبداً، وهو اليَقِظُ الدائم، في الحركة الثورية ينغرس ويتجذّر. يستبق التجربة بعين النظرية، ولا يتخاذل حين يُفاجَأ : يتوثّب على المعرفة ويعيد النظر في ترتيب عناصره ليؤمّن للنظرية قدرتها على التشامل، ورحابة أفق تتسعُ لكل جديد. هكذا يكتسب كل نشاط نظري طابعاً نضالياً، ويتوق كل نشاط ثوري إلى التعقلنِ في النظرية، فتتأكد، بالتحام النشاطين في الملموس التاريخي، ضرورة الفكر العلمي في أن يكون ثورياً، وضرورة الحركة الثورية في أن تكون علمية.
والحرب في لبنان حربان: حرب على إسرائيل، وحرب على الفاشية والطائفية، لكن الرجعية، بأطرافها المتعددة، تستميت في محاولة إظهارها مظهر الحرب الطائفية. وتفشل دوما في المحاولة، برغم كل ما أحاط وما يحيط بهذه الحرب من وحول الطوائف. وكيف تكون الحرب طائفية حين يكون الموقف من إسرائيل، مثلا، محوراً للصراع فيها؟ وكيف تكون طائفية حين يحتدم فيها الصراع بين القوى الرجعية ـالطائفيةـ وهي من مختلف الطوائف ـوالقوى الوطنية الديمقراطيةـ وهي أيضا من طوائف متعددةـ، حول الموقف من هوية لبنان، أو من الثورة الفلسطينية، أو من الامبريالية، أو من الاحتلال الإسرائيلي، أو من قوات الحلف الأطلسي، أو من اتفاق 17 أيّار، أو الاتفاق الثلاثي نفسه، ومن “الاقتصاد الحر” أيضاً، بل حتى من الطائفيّة إياها، بما هي النظام السياسي لسيطرة البرجوازية اللبنانية؟
ليست الحرب طائفية، ولا الصراع فيها بطائفي. إنه، في أساسه، صراع بين قوى التغيير الثوري للنظام السياسي الطائفي، والقوى الفاشية الطائفية التي تحاول، عبثاً، تأييد هذا النظام. إنه، باختصار، صراع طبقي عنيف بين قوى الثورة والقوى المضادة للثورة، في سيرورة حرب أهليةٍ هي في لبنان سيرورة الثورة الوطنية الديمقراطية. فله، اذن، سمة العصر في زمن الانتقال الثوري من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وله، تالياً، طابع كوني هو طابع الصراع إياه المحتدم، ليس بين معسكر الاشتراكية ومعسكر الامبريالية، أفقياً، وحسب، بل رأسياً أيضاً، أو عمودياً، في كلٍّ من بلدان المنظومة الرأسمالية العالمية، بما فيها، بالطبع، البلدان العربية. فما هو موقع الثقافة والمثقفين من هذا الصراع؟ ما هو موقفها وموقفهم منه؟ ما هو دورها ودورهم؟.
والسؤال لا ينحصر في لبنان، ما دام الصراع فيه هو إياه، بطابعه الكوني نفسه، في جميع البلدان العربية، وإن اختلفت شروطه بين بلد وآخر، وتنوّعت أشكاله، أو تفاوت تطوره. فالحروب الأهلية تتهدد بلدان العالم العربي جميعها بلا استثناء، وآلية الصراع فيها تنبئ بإمكان اندلاعها في كل آن. وأنظمة البرجوازيات العربية في أزمة. والتغيير الثوري بات ضرورة ملحة في كلّ منها، وحاجة يومية في نضال الجماهير الكادحة. لكن الثورة في انتظار قيادتها. والثورة سيرورة طويلة معقدة، ولها مراحل وأحوال. وعلى الثقافة تطرح سؤالها: أمع الثورة أم ضدّها؟ وعلى المثقفين تطرح السؤال: أمع التغيير أم ضدّه؟ والسؤال سياسي بامتياز. وثقافي في آن.
لا تعارض بين السياسة والثقافة. وكيف يكون تعارضٌ بين الاثنتين، كيف يصح اختيار الواحدة ضدّ الأخرى في منظور التاريخ الثوري؟ لئن كانت في البدء الكلمةُ، فلقد كانت، بدئيا، مبدعة. وللحرية كانت، ضد القمع، تناضل وتثابر في رفض الظلم، وللحب كانت في قلب الإنسان. تؤسس في فعل التغيير معناها. وتجود بالجميل يحتج على قبح العالم في نُظُم الاستبداد. هكذا تتكون الثقافة دوماً ضدّيّاً، تنمو وتتكامل في صراع مستمر ضد كل قديم يموت. وفي البدء كانت السياسةُ، صراعاً مستمراً بين قوى التغيير الثوري وقوى تأبيد الواقع. يخطئ من يظن أن السياسة نظام، حكم، أو مؤسسات، أو أنها بالدولة تتحدد. إنها، في ذلك، من موقع نظر البرجوازية وإيديولوجيتها المسيطرة. لكنها، في منظور العلم والتاريخ، صراع طبقي شاملٌ كلّ حقول الحياة، لا هامش فيه للرافض، بالوهم، أن يكون له فيه موقع. إنها حركة التاريخ في مجرى صراع له المتن، والهامش فقط لمن قد مات، أو كان، من موقعه في الماضي، رفيقَ دربٍ للموت.
إذن لكل ناشط في الحياة أن يأخذ موقعاً وأن يحدد موقفاً: أمع الثورة أم ضدها؟ بالكلمة الفاعلة واليد المبدعة. والثورة ليست لفظاً أو تجريداً. إنها طمي الأرض لا يعرفها من يخاف على يديه من وحل الأرض.
وكيف تكون الثورة نظيفة، وهي التي تخرج من أحشاء الحاضر مُتّسخة به، وتهدمه وتغتسل بوعدٍ أنّ الإنسان جميلٌ حراً؟ فلتتوضح كل المواقف، ولتتحدد كل المواقع، ولتكن المجابهة في الضوء. كيف يمكن للثقافة أن يكون لها موقع الهامش في معركة التغيير الثوري ضد الفاشية والطائفية؟ كيف يمكن للمثقف أن يستقيل من نضال ينتصر للديمقراطية، هو أكسجين الفكر والأدب والفن؟ بوضوح أقول، فالوضوح هو الحقيقة، من لا ينتصر للديمقراطية ضد الفاشية، للحرية ضد الإرهاب، للعقل والحب والخيال، وللجمال ضد العدمية وكل ظلامية، غي لبنان الحرب الأهلية، وفي كل بلد من عالمنا العربي، وعلى امتداد أرض الإنسان، من لا ينتصر للثورة في كل آن، مثقّف مزيف، وثقافته مخادعة مرائية. إذا تكلم عن الثورة، في شعره أو نثره، فعلى الثورة بالمجرد يتكلم، من خارج كل زمان ومكان، لا عليها في حركة التاريخ الفعلية، وشروطها الملموسة. وإذ يعلن، في نرجسية حمقاء أنّه يريدها، فبيضاء لا تهدم ولا تغيّر. تُبقي القائم بنظامه، وتحنّ إليه إذا تزلزل أو احتضر. كثيرون هم الذين في لبنان يحنّنون إلى لبنان ما قبل الحرب الأهلية، ويريدون التغيير للعودة إلى الماضي، ويريدونه إيقافا لانهيارات الزمان. أما الآتي، فمن الغيب، إلى الغيب. إنه موقف المنهزم، لا بصراعٍ، بل بتسليمٍ واستكانة. إنه موقف من يُصنعُ التاريخ بدونه. وله في التاريخ موقعٌ ترفضه الثقافة، إذ الثقافة، في تعريفها، مقاومة. فإذا ساوت بين القاتل والقتيل انهزمت في عدميتها، فانتصر القاتل، وكانت، في صمتها، شريكته.
أيُّ ثقافة هذه التي تتساوى فيها الأضداد، فيختلط الأسود بالأبيض في رمادية اللون والمعنى؟ إنها الثقافة المسيطرة بسيطرة البرجوازية وإيديولوجيتها، في أشكال منها قد تتخالف، لكنها، في اللحظات التاريخية الحاسمة، دوما تتحالف ضد الثقافة الثورية النقيض. هكذا تنعقد بين العدمية والظلامية مثلا، أو بين هذه وتلك، وأشكال من الفكر الديني، تحالفاتٌ ترعاها البرجوازية، بل تتوسلها في مجابهة الفكر المادي، محور الثقافة الثورية وقطبها الجاذب. أليسَ من الطبيعي أن ينعقد التحالف وطيداً في مجرى هذه الثقافة بين جميع المثقفين المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية، الطامحين إلى تغيير العالم وتحريره من سيطرة الرجعية والامبريالية؟ أليس من الضروري أن تتشابك أيدي الكادحين جميعاً ـفي زمن الثورات العلميةـ ضد الجهل تُعمِّمهُ أنظمة البرجوازيات العربية؟
فرحة للثقافة والمثقفين أن تتهاوى أنظمة القمع هذه في كل أرجاء الوطن العربي، بفعل نضال الثوريين يتوحدون، على اختلاف تياراتهم وانتماأتهم الفكرية والسياسية، في حركة ثورية جديدة واحدة، تعيد إلى العالم نضارته، وبها التاريخ يستوثق. فالثورة ليست حكراً على فكر، أو حزب، أو طبقة. إنها سيرورة تتكامل في الاختلاف، وتغتني بروافد التغيير تصبّ فيها من كل صوب، في كل مرحلة. لكنها تتعطل، أو تظل زاحفة، أو منحرفة، إن لم يكن للطبقة العاملة فيها موقعٌ هو موقع الطبقة الهيمنيّة النقيض، ودورٌ هو دورها التاريخي نفسه، ليس في قيادة الانتقال إلى الاشتراكية وحسب، بل في كل مرحلة من سيرورة هذا الانتقال. لا بقرارٍ، بل بالممارسة الثورية، وعلى قاعدة نهجها الطبقي الصحيح، وبقيادة حزبها الشيوعي، تحتل الطبقة العاملة موقعها ذاك في الحركة الثورية، وتضطلع بدورها. والتاريخ الثوري لا يرحم متخلّفاً عنه، ولا هو يسير بعكس منطقه. فلئن فعل، فلِأجلٍ، لا تلبث، بعده، أن تستعيد سيرورته الثورية منطقها. ومنطقها أن تنتكس الثورة، حتى في طابعها الوطني الديمقراطي، فتراوحَ، فتنهزمَ إلى مواقع رجعية، كلما استأثرت بقيادتها قوى غيرُ هيمنية، من فئات وسطية تحتل في السلطة موقع السيطرة الطبقية، همّها الأول ألا تستكمل الثورة سيرورتها، بحسب منطقها الضروري في تقويض علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة بارتباطها التبعي بالامبريالية، وفي إقامة السلطة السياسية الثورية القادرة على انجاز هذه المهمة.
بين منطق الثورة ومنطق هذه القيادة غير الثورية تناقضٌ يشل الحركة الثورية ويضعها في أزمة تنعكس في ممارسات سلطوية قمعية ضد قوى الثورة وجماهيرها، وبالتحديد، ضد الطبقة العاملة التي هي، بحزبها الطليعي ونهجها الوطني الصحيح، النقيض الثوري. إنّ الحل الجذري لتلك التناقضات بات يفرض، بضرورة منطقه، ضرورة تغيير تلك القيادة الطبقية لسيرورة الثورة الوطنية الديمقراطية، واستنهاض حركة ثورية هي، في اتساقها مع مهماتها، من نوع جديد، ولها وحدها القيادة. ومن أولى خصائصها، أن تسعى فيها الطبقة الهيمنية النقيض إلى أن يكون نهجها الطبقي نفسه، في سعيها إلى السلطة، نهج الحركة بكاملها. لا بالقمع، بالممارسة الديمقراطية الثورية.
لئن كان القمع أو الفئوية، في لغة أخرى، أو الاستئثار بالسلطة، أو الانفراد بالقيادة هو الشكل الطبقي الذي يحكم علاقة القوى غير الهيمنية، في وجودها في موقع الهيمنة الطبقية، بأطراف التحالف الطبقي الثوري، وكان، بالتالي ضروريا بضرورة التناقض في أن تحتل تلك القوى هذا الموقع، فإن الديمقراطية، كناظم للعلاقة بين أطراف التحالف إياه، وحق للجميع في الاختلاف، واحترامٍ لهذا الحق وممارسته، أقول إن الديمقراطية هذه هي، بالعكس، الشكل الطبيعي، أعني الضروري، الذي يحكم علاقة الطبقية. ذلك أن علاقة الاتّساق والتلاؤم بينها وبين موقعها هذا هي، بالضبط، الأساس المادي لضرورة الديمقراطية في علاقة القوى الثورية بعضها ببعض. وهي ضمانة تحقق هذه الضرورة.
-
الحزن جميل جدا ـ مظفر النواب
الحـزن جمـيـل جـدا
والـليـل عـديمُ الطعمِ بدون هموم
والناسُ خريفٌ يمطـر
والأيام على الـذل سـموم
أهـلا بدعاةِ الـموضوعية
جـارتـنـا إسـرائـيـلُ حـبيـبتـنا
ذات الفضـل عـلى تـطـويـر ديمقراطيتنا
هي صاحبة الأرض
ونحن الغرباء وشـذاذ الآفاق
ونحلم أنّا وطن عربي مزعـوم
ونكاد نقبل كفيها مـنحتـنا إحدى البـلـديات
وبالكـاد مطـارا تحت الـمجهر ليلا ونهاراً
ويؤذن بالعبرية بعد قليل
وعلى مدفع إسرائيل نصوم
أنزل سحابك للأرض ولا تخجل
دولٌ خَـلعت
مارست العهر المكشوف
بعورات ست نجوم
عارض إن شئت ملائكة الأمن تحيطك
مطلوب خمس دقائق
ياالله
وتدخل إنسانا وتخرج
لاشيء من الإنسانية فيك سوى الصمت
وتسأل أين الله
وكيف توحـدت الموسـادات العربية والموساد
وتُسرُّ بصمت قـدر محـتوم .. محـتوم
وتفضل حارب إسرائيل
بكل عروبة عورتك الزرقاء
وقاتل دون سلاح دون حدود تفتح
علّ حدوداً تجرح بعض المعنيين
من الآن نقول تخوم
إياك وإن عريت أمام العالم أن تيأس
ثم قتال شرس باق ما بقي الله
ويحتاج سلاحاً وحدود داخل رأسك
احـذر أن تزرع إسرائيل برأسك
حصـن رأسك
وابدأ بسلاح أبـيض منه
هـجوم بعـد هـجوم
بعد هجوم يا ولدي
لا نصر بدون هجوم
أو تصبح قوادا دوليا يا ولدي
مفهوم مفهوم يا ولدي مفهوم
آخر المواضيع في
تقديم لباكورة (في الحب مناسك) للشاعرة المغربية العصامية متين فاطمة..
ينطوي الديوان على أكثر من 140 صفحة، صُفِّفت داخل غلاف تتوسطه لوحة مبهرة، لوجهين يقابل أحدهما الآخر، لا تميزهما خصائص محددة، تعبر عن حب بين اثنين، قد يكون الذكر والأنثى كما تُقنّنُه الطبيعة، أو يكون تعبيرا عن حب مواطن لبلدته وطن الأمن والاستقرار، أو شخص لآخر قريب من الأسرة أو بعيد عنها؛ صمم الوجهان بتداخل في ما بينهما يحمل الأول: اللون الأحمر، لون الدماء التي تجري في عروق الجميع، دون تمييز عرقي أو ديني أو لوني.. أو لون العلم المغربي، رمز الفخر والعزة؛ والثاني صُمّم باللون الأبيض، لون الصفاء، والقلوب البيضاء التي لا تعرف الغش أو المكر أو الخداع، لون الأرواح الطيبة المشمولة بالحب، والمجبولة بالتسامح وحب الآخر...
استهلت شاعرتنا متين فاطمة المضمومة، بإهداء عميق إلى فلدة كبدها الوحيدة، رصعته بفصوص من العبارات اللؤلئية، تتوهج بلهيب الحب بكل ما تكنه العواطف من مشاعر رقيقة، وما تحمله الأعماق من لطف ورقة ونبل..
يا نـجمة سـمائي
يا كوكبَ رجائي
صباحُكِ خيرٌ
يومُكِ ستـرٌ
حبيبة القلب
(الإهداء)
وحب الآباء للأبناء لم يأت عبثا، وإنما هو سريرة يتقاسمها البشر والحيوان تجاه الخلف / فلذات الأكباد.. لكن حين تكون قرة العين فريدة، فعين الأم تستفيض بالحنو والمعزة بصيغة ملفتة /مختلفة...وأجزم أن هذا الحب الصارخ من الدواعي الأساسية، التي أتحفتنا بمنجز شعري له نكهة وفرادة، يتميز بهما عن غيره من المنجزات الإبداعية، في زمن اغتيلت فيه قيمة الحب، وأصبح الشأن للمصالح الخاصة والماديات، ولو بالدوس على الكرامة، أو إزهاق الأرواح..
شاءت شاعرتنا فاطمة متين أن تعنون المجموعة بعنوان يخلخل الاعتقاد،( في الحب مناسك) جملة بسيطة تامة الإعراب، خفيفة على اللسان، لكنها غائرة المعنى؛ فعادة لفظة (مناسك)، نتداولها في المواضيع الدينية '(مناسك الحج/ مناسك العمرة/)، لكن نظرة الذات الشاعرة العميقة لألوان الحب وتعدد أساليبه، هو ما أوحى إليها بانتقاء عنوان في غلاف من الترميز والإيحاء، بربط علاقة اعتباطية عفوية بين الألفاظ، في صياغة مغايرة تَخِزُ بدبوسها المدهش ذهن القارئ..
شعرها مشدود إلى الوراء على شكل ذيل حصان يتدلى كشلال ماء بلونه الخرنوبي الجميل، تبعثر ما تناثر منه فوق عنقها وكتفيها. كانت بين الفينة والأخرى تخلل أصابعها في خصلاته لتعيده إلى الوراء، فيرتمي فوق كتفيها.
تذرع رواق المحكمة بتصميم عجيب، في يدها اليمنى حقيبة جلدية سوداء منسجمة مع لونيْ تنورتها القصيرة وحذائها ذي الكعب الرقيق العالي. وباليد اليسرى أمسكت ملفا كرتونيا ضاجا بالوثائق والمستندات والشهادات وتقارير الخبراء والفنيين.
تمشي محدثة ضجة بدقات حذائها ذي الكعب الحاد، الدقات الموقّعة تلفت أنظار العابرين إليها. تتجه نحو مكتب معلوم دأبت التردد عليه منذ اتخذت قرارها بأن تسترد ما يحاول الآخرون اغتصابه منها. عرفت التفاصيل المؤدية إلى ذلك المكتب، وتدربت على مسك مقبض الباب النحاسي اللماع. صارت تدخل دون استئذان. كانت في البداية تطرق على الخشب الأبنوسي ثلاث طرقات موقعة. تنتظر كلمة "تفضل" لتعبر الباب بكامل أناقتها وتغمر المكان بضجيج عطرها وأنوثتها التي لم تقدر الهزات على محو آثارها.
تمشي وفي رأسها أتون يتأجج وبركان من الغضب ما زالت حممه تتآكل في جوفه باحثة عن فتحة مؤدية إلى الفوهة لتنفلت الحمم من الجوف فتلتهم كل ما يقع في طريقها. هي تدرك أنه إن انفتحت الفوهة واندفعت الحمم فإنها ستلتهم كل ما يعترضها. في جوفها وبين جنبيها تستعر مساحة ممتدة من الحقد والنقمة والكراهية. صار كل شيء أمامها عابسا بلون الحزن المكدس على قلبها.
زارت مكاتب كثيرة لخبراء محلفين وغير محلفين، ومنحوها شهائد وتقارير. وأضافت إلى كل شهادة شهادة تؤكد صحتها ومختومة وموقعة. بعض التقارير يقسم أصحابها ويوقعون أن تلك الوثائق لا لوثة فيها ولا تدليس.
سلّمت ورقة اختبار اللغة العربية للمعلمة الواقفة بجانبي، فخربشت في ورقة التوقيع بسرعة، ثم حملت أغراضي وخرجت بخطوات بطيئة، أجرّ قدمي جرًّا. وقفت أعلى الدرج وتنهدت تنهيدة طويلة. كانت صديقتي سلمى تنتظرني في الساحة الخارجية، نظرت إليها ونظرت إليّ، جلسنا لدقائق معًا، ثم خرجت بعد أن سمعت اسمها عبر جهاز الميكروفون. ودّعتها غير مصدقة أن هذا سيكون آخر لقاء بصديقتي الحبيبة.
كنت قد طلبت من والدي أن يتأخر قليلًا حتى أشبع نظري بزوايا المدرسة. جلست أتأمل وجوه التلميذات اللواتي اعتدت رؤيتهن طيلة أربع عشرة سنة، كبرت معهن وعشنا تجارب الطفولة معًا. قد نختلف كثيرًا، ولكن شيئًا ما في العِشرة الطويلة يجعل الفراق مؤلمًا. أحسست بشعور غريب، وكأنه ألم في قلبي.
سمعت اسمي، ثم وقفت وألقيت نظرة الفراق الأخيرة، وارتديت عباءتي ونقابي ببطء، لعلي أطيل دقائق الوصول قليلًا. تنهدت مرة أخرى، ولما ركبت السيارة التفت لرؤية الباب، كانت تلك المرة الأخيرة التي أراه فيها يبتعد عني وأبتعد عنه.
مرت فترة ليست بطويلة، وعدت إلى وطني. اليوم هو يوم جديد. تباطأت اليوم مرة أخرى، ولكن هذه المرة لعلي أبطئ ساعة اللقاء الجديد. ذلك الألم عاد إليّ مرة أخرى، وكأنني تلميذة في الصف الأول الابتدائي. يا ليت سلمى معي اليوم! تمنيت لو أرى ابتسامتها الجميلة وأستمع إلى أحاديثها الممتعة. مسحت بسرعة دمعة صغيرة تسللت إلى وجهي قبل أن يراها أحد.
ارتديت عباءتي وجلست في السيارة. من هم هؤلاء؟ ومن أساتذتي؟ وأين مؤسستي؟ لقد اختلف الطريق، واختلف الباب، واختلفت الوجوه. أين سلمى؟ أين الفصل؟ وأين تلميذات الفصل؟
ج. كولومبال :- قمت بنشر كتابين، " الاختلاف والمعاودة" و" سبينوزا ومشكل التعبير" . وكتابا جديدا أيضا : " منطق الحسّ"الذي سيظهر حتما قريبا جدا. من يتكلّم في هذا الكتب؟
- ج. دولوز:
حينما نكتب في كلّ مرّة، فنحن نجعل شخصا ما يتكلّم، ونجعل شكلا ما أوّلا يتكلّم. من يتكلّم مثلا، في العالم القديم، هم أفراد. إنّ العالم القديم كلّه مؤسس على شكل الفردية؛ فالفرد يقوم فيه جنبا إلى جنب مع الكائن ( نراه جيدا في موقع الإله بوصفه كائنا مُفَرّدا للغاية). وفي العالم الرومنطيقي، تتكلّم شخصيات، وهذا جدّ مختلف: فالشخص محدّد في هذا العالم بوصفه موجودا مع التمثّل. لقد كانت قيما جديدة للغة والحياة. إنّ التلقائية اليوم، قد تفلت عن الفرد مثلما تفلت عن الشخص؛ لا بموجب قوى مجهولة فحسب. لقد احتفظوا بنا طويلا داخل تناوب؛ إماّ آن تكونوا أفرادا وشخصيات، أو تلتحقون بعمق مجهول غير متميّز. نكتشف مع ذلك عالم فرديات ماقبل فردية، لا شخصيّة. فرديات لا تردّ لا إلى أفراد ولا إلى شخصيات، ولا إلى عمق بلا تمّيز. إنها فرديات متحرّكة، مقتحمة وسائرة، تمرّ من واحد إلى آخر، تقوم بالاقتحام، وتشكّل فوضويات بارزة، تقيم في فضاء متنقّل. يوجد فرق كبير بين تقسيم فضاء ثابت بين أفراد مستقرين وفق حواجز أو أسيجة، وتوزيع فرديات في فضاء مفتوح بلا سياج ولا ملكية. يتحدّث الشاعر فارلونغيتي عن الشخص المفرد الرابع : هو الذي نستطيع محاولة جعله تتكلّم.
ج.ك- هل تعتبر هكذا إذن الفلاسفة الذين تؤوّلهم، بوصفهم فرديات في فضاء مفتوح؟ لقد وددت غالبا إلى حدّ الآن التقريب بين الإضاءة التي تسلطها عليها وما يمنحه مُخرج معاصر لنصّ مكتوب. بيد أنه في كتاب " الاختلاف والمعاودة" كانت العلاقة منزاحة، فلم تَعُدْ مؤوّلا بل مبدعا.
هل تستقيم المقارنة دائما؟ أم هل أن دور الفلسفة مختلف؟ هل هو " هذا الإلصاق" collageالذي ترجوه والذي يعيد تجديد المشهد أو أيضا " الاقتباس " المدمج في النصّ؟
- ج. دولوز:
نعم، للفلاسفة غالبا مشكل عويص مع تاريخ الفلسفة . تاريخ الفلسفة مرعب، لن ننفذ منه بسهولة. فاستبداله كما قلت بعملية إخراج، هو ربما طريقة حسنة لحلّ المشكل. فالإخراج، يعني أنّ النص المكتوب ستقع إنارته بقيم أخرى، بقيم غير نصيّة ( أو على الأقلّ في معنى مألوف) : الاستعاضة عن تاريخ الفلسفة بمسرح للفلسفة، هو أمر ممكن. تقول إنني بحثتُ، فيما يخصّ الاختلاف، عن تقنية أخرى، أقرب لعملية " الإلصاق" collage منها إلى المسرح. ضرب من تقنية الإلصاق أو حتى خلق مسلسل للعباقرة ( مع تكرار بشيء من الاختلاف)مثلما نرى في " الفنّ الشعبي أو الجماهيري" ( بوب آرت). لكن تقول بانّي في هذه النقطة، لم أنجح تماما. أعتقد أني اذهب أبعد من ذلك في كتابي عن " منطق الحسّ".
رغم مرور أكثر من مئة عام على خطاب الرئيس الأمريكي “ودرو ويلسون” الذي ألقاه في العام 1916 بمناسبة بداية ولايته الرئاسية الثانية، حيث ينسب إليه مقولة “أن عَلَمَ أمريكا ليس علَمهَا وحدها، بل هو عَلَم الإنسانية جمعاء” إلا أن هذه النبوءة لم تتحقق، ولم يصبح علم الولايات المتحدة علماً للإنسانية، بل أصبح علماً للشر وقتل الشعوب والغطرسة ونهب خيرات الدول. صار وجهاً قبيحاً للعنصرية والتمييز لم تنجح أفلام هوليود في تجميله.
نزعة السيطرة على العالم، والاعتقاد أنهم وحدهم المهيئين لقيادة العالم، كانت وما زالت في العقيدة الأمريكية منذ الاستقلال. ظهرت هذه النزعة بوضوح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها الولايات المتحدة منتصرة، فيما بقية الأطراف إما مهزومة أو منهكة اقتصاديا، وعسكرياً، واجتماعيا، وسياسياً. تُظهر تصريحات السياسيين الأمريكيين درجة عالية من الفوقية والاستعلاء والترفُّع على الآخرين، والتكبُّر والعجرفة، والزُهوّ. وتصريحات رونالد ترامب المستمرة تؤكد هده الحقيقة بصورة جلية، حين يواصل القول إنه يتمتع “بتواضع أكبر كثيرا مما يتصور الكثير من الناس”. لكن ادعاءاته بأنه يتمتع بـ “عقل جيد جدًا”، وأنه يمتلك “أفضل الكلمات”، وأنه يعرف “أكثر من الجنرالات”، وتذكيره المستمر بأنه “الفائز” كلها تعزز فكرة أن التواضع هو فضيلة لا يعرفها ترامب.
منفلت من عقاله
بينما يستمر اقتراحه الصادم في إثارة الإدانة الدولية، أصر الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" على أن "الجميع يحبون" فكرته لطرد الفلسطينيين من غزة والسماح للولايات المتحدة بتولي المسؤولية عنها. حيث قال للصحفيين في المكتب البيضاوي عندما سئل عن رد الفعل على خطته: "الجميع يحبونها". مقترح ترامب بشأن تهجير أهالي قطاع غزة من أراضيهم ونقلهم إلى مناطق أخرى، مع سيطرة الولايات المتحدة على القطاع وامتلاكه لفترة طويلة من أجل تنميته وتهيئته لعيش آخرين عليه، أثار العديد من ردود الأفعال الفلسطينية والعربية والعالمية الرافضة لهذا المقترح، بينما أيده مسؤولون وسياسيون إسرائيليون. وكان دونالد ترامب قد قال إنه يريد أن تسيطر الولايات المتحدة على قطاع غزة المدمر بسبب الحرب بعد نزوح الفلسطينيين إلى الدول المجاورة، وتطوير المنطقة حتى يعيش "شعوب العالم" هناك.
اقتراحات الرئيس الأمريكي بشأن غزة، والتي تعكس غطرسته، أثارت ردود فعل من مختلف الأطراف. حيث اعتبرتها حركة حماس في بيان قائلة إن خطط ترامب هي "وصفة لخلق الفوضى والتوتر في المنطقة. لن يسمح شعبنا في قطاع غزة لهذه الخطط بالمرور". جميع الفصائل الفلسطينية أدانت تصريحات ترامب واعتبرتها "طرفة تافهة".
يعيش ملايين الفلسطينيين تحت سيطرة مزيج من السلطات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي مخيمات اللاجئين في جميع أنحاء الشرق الأوسط. في العقود الأخيرة، سيطرت السلطة الفلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية، وأدارت حركة حماس قطاع غزة. وفي الوقت نفسه، مارست إسرائيل السلطة على كلتا المنطقتين بطرق مختلفة. يحكم مزيج معقد من السلطات حوالي 5.5 مليون فلسطيني يعيشون في قطاع غزة وأراضي الضفة الغربية. ولا زال الفلسطينيون أصحاب الأرض الأصليين ليس لديهم دولة معترف بها عالمياً. وتعتمد تطلعاتهم إلى إنشاء دولة ليس فقط على القيادة الفلسطينية، بل وأيضاً على الكيان الصهيوني، والاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي.
تمثل منظمة التحرير الفلسطينية الفلسطينيين رسمياً في جميع أنحاء العالم في المحافل الدولية، في حين يُفترض أن تحكم السلطة الفلسطينية، وهي مؤسسة أحدث تقودها حركة فتح إحدى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية معظم مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة. في الواقع، طغت السلطة الفلسطينية على منظمة التحرير الفلسطينية، ومارست إسرائيل سيطرة كبيرة على الأراضي الفلسطينية، بحكم الأمر الواقع.
من المسؤول في قطاع غزة والضفة الغربية؟
وقعت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في التسعينيات، على اتفاقيات أوسلو واتفاقية غزة أريحا، وهي الصفقات التي قسمت مناطق السيطرة في غزة والضفة الغربية (باستثناء القدس الشرقية) بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية التي تم إنشاؤها حديثًا، على أمل أن تشكل المنطقتان في النهاية دولة فلسطينية. ولكن مع استمرار التغول الإسرائيلي المستمر منذ عقود تظل الأراضي مقسمة رسمياً إلى ثلاث مناطق سيطرة:
المنطقة أ، التي تتكون من معظم غزة وحوالي %17 من الضفة الغربية، هي الأكثر كثافة سكانية وتحضراً. وهي مصنفة على أنها خاضعة للسيطرة الفلسطينية الكاملة بموجب أوسلو، بما في ذلك الشؤون المدنية وقضايا الأمن الداخلي. ومع ذلك، شنت إسرائيل عدة حملات عسكرية واسعة في غزة بهدف القضاء على حماس، وبالتالي فرضت ضوابط حركة أكثر صرامة في المنطقة.
تغطي المنطقة ب ما يقرب من ربع الضفة الغربية وتتكون في الغالب من القرى والمناطق الريفية. يتعاون الإسرائيليون والفلسطينيون في مجال الأمن هنا، لكن السلطة الفلسطينية تدير جميع الشؤون المدنية. كما تسيطر إسرائيل أيضاً على حركة البضائع والأشخاص. يبلغ عدد السكان الفلسطينيين في المنطقتين أ وب مجتمعين حوالي 2.8 مليون نسمة.
تشكل المنطقة ج الأراضي المتبقية وتتكون في الغالب من مناطق رعوية. تحتوي غزة على معظم الموارد الطبيعية في الضفة الغربية وهي تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، على الرغم من أن السلطة الفلسطينية توفر التعليم والخدمات الطبية لسكان المنطقة البالغ عددهم 150 ألف فلسطيني. المنطقة هي موطن لمعظم المستوطنين الإسرائيليين، الذين يبلغ عددهم حوالي 700 ألف شخص منتشرين في جميع أنحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية. يعيش معظمهم بالقرب من الحدود مع إسرائيل، على الرغم من أن القانون الدولي يصف مستوطناتهم بأنها غير قانونية.
استحوذت شركة الذكاء الاصطناعي "إكس إيه آي" (xAI) -المملوكة لرجل الأعمال إيلون ماسك- على شركة "هاتشوت " (Hotshot)، وهي شركة ناشئة تعمل على أدوات توليد الفيديو بالذكاء الاصطناعي على غرار أداة "سورا" (Sora) من "أوبن إيه آي"، وفقا لموقع "تيك كرانش".
وقد أعلن أكاش ساستري الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لشركة "هاتشوت" عن هذا الخبر في منشور على منصة إكس، وكتب "على مدار العامين الماضيين أنشأنا 3 نماذج أساسية للفيديو كفريق صغير، ولقد ألهمنا تدريب هذه النماذج نظرة شاملة حول كيفية تغير التعليم والترفيه والتواصل والإنتاجية في السنوات القادمة، ونحن متحمسون لمواصلة توسيع نطاق هذه الجهود باستخدام موارد (إكس إيه آي) الضخمة وتحديدا حاسوب كولوسيس (Colossus)".
وتأسست شركة هاتشوت -التي تتخذ من سان فرانسيسكو مقرا لها- منذ عدة سنوات على يد ساستري وجون مولان، وكانت الشركة الناشئة تركز في البداية على تطوير أدوات إنشاء وتحرير الصور المدعومة بالذكاء الاصطناعي، لكنها توجهت نحو نماذج تحويل النص إلى فيديو بالذكاء الاصطناعي.
ونجحت هاتشوت في جذب استثمارات من مستثمرين مختلفين، أبرزهم لاشي جروم والمؤسس المشارة لمنصة "ريديت"(Reddit) أليكسيس أوهانيان، بالإضافة إلي صندوق استثماري يُعرف باسم "إس في أنجل" (SV Angel)، ولم تعلن الشركة عن قيمة الاستثمارات.
تسبب نموذج الذكاء الاصطناعي الصيني "ديب سيك" في ضجة واسعة المدى بفضل قدراته المذهلة مع السعر المخفض مقارنةً ببقية نماذج الذكاء الاصطناعي المتاحة تجاريًا، ورغم أن "ديب سيك" هو أبرز النماذج الصينية، فإنه ليس الوحيد.
تقدم الشركات الصينية حاليًا مجموعة من نماذج الذكاء الاصطناعي المختلفة، في محاولة منها للحاق وتخطي الشركات الأميركية التي سيطرت على ساحة الذكاء الاصطناعي مدة طويلة، حتى إن "ديب سيك" ذاته طرح نموذجا آخر لمعالجة جوانب النقص الموجودة في النموذج الأول لها.
لا يمكن وصف جهود الذكاء الاصطناعي الصينية بكونها حديثة العهد، إذ بدأت منذ سنوات عدة تزامنًا مع غريمتها الأميركية، ولكن القفزة الأخيرة كانت مفاجئة خاصة مع عدم قدرة هذه الشركات على الوصول إلى شرائح الذكاء الاصطناعي المطلوبة من "نفيديا".
وفي الوقت الحالي، توجد عدة نماذج ذكاء اصطناعي صينية مثل:
نموذج "كوين 2.5" (Qween 2.5) من "علي بابا"
لم تغب مساعي "علي بابا" لتطوير نموذج ذكاء اصطناعي قوي وخارق، كونها إحدى أبرز شركات التقنية في الصين والعالم أجمع. وبشكل مفاجئ، وفي 29 يناير/كانون الثاني الماضي، كشفت الشركة عن ردها على "ديب سيك" و"شات جي بي تي".
جاء هذا الرد على شكل نموذج "كوين 2.5" الذي تدعي الشركة أنه يتخطى قدرات كافة نماذج الذكاء الاصطناعي المتاحة حاليًا ويتغلب عليها في كافة الأوجه، بما فيها نموذج "شات جي بي تي 4 أو" الرائد وحتى نموذج "ميتا" و"ديب سيك".
يأتي النموذج أيضًا على شكل مفتوح المصدر يمكن لأي شركة استخدامه وتخصيصه، وتروح الشركة له بقدرته على التجاوب بشكل جيد مع الأسئلة الطويلة والمعقدة، كما أنه قادر على فهم المهام المعقدة مثل المحادثات والتفكير المنطقي والبرمجة.
ورغم أن النموذج مخصص بشكل أساسي للشركات والاستخدام التجاري، فإنه أيضًا متاح للاستخدام الشخصي مباشرة من خلال روبوت الدردشة السريع الذي يحمل الاسم ذاته.
"إيرني" (Ernie) من "بايدو" (Baidu)
يمكن القول بأن روبوت "إيرني" هو أول نموذج ذكاء اصطناعي يخرج للنور من الشركة التي تسيطر على قطاع محركات البحث بشكل كامل في الصين، وقد وصل إجمالي عدد مستخدمي النموذج حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2024 إلى 340 مليون مستخدم، بشكل يحاكي "شات جي بي تي"، وهو قادر أيضًا على توليد النصوص والصور مباشرةً.
ورغم ادعاءات الشركة بأن "إيرني" قادر على منافسة "شات جي بي تي"، فإن إطلاق النموذج في عام 2023 لم يكن ناجحًا للغاية، وكان النموذج يواجه العديد من التحديات التقنية التي جعلت الإجابات التي يقدمها أضعف من المنافسين، وقد وصلت هذه التحديات إلى أن النموذج توقف عن العمل تمامًا أثناء العرض المباشر له.
هذه التحديات أفقدت المنافسين الثقة في "إيرني" خاصة ونماذج الذكاء الاصطناعي الصينية عامة، مما جعل العالم لا ينتظر الكثير من "ديب سيك" قبل أن يتسبب في المفاجئة السابقة، ورغم أن "بايدو" تحاول جاهدة إعادة نموذجها للمنافسة، فإن التحديات أمامه أكثر صعوبة من النماذج الجديدة.
"دوباو 1.5 برو" (Doubao 1.5 Pro) من "بايت دانس"
لم تتأخر "بايت دانس" كثيرًا عن منافسة نماذج الذكاء الاصطناعي الصينية، وقررت طرح نموذج "دوباو 1.5 برو" المحدث خلال الأسبوع الماضي رغم أن النموذج نفسه موجود منذ فترة، وهو يعد أحد أبرز نماذج الذكاء الاصطناعي الصينية بعدد مستخدمين يتخطى 60 مليون مستخدم شهريًا.
تدعي "بايت دانس" أن "دوباو" أفضل من "شات جي بي تي" بفضل قدرته على الاحتفاظ بالمعلومات والأكواد البرمجية والمنطق، كما أنه قادر على التعامل مع اللغات الصينية بشكل أفضل من غيره من النماذج الصينية، كما تؤكد الشركة أنه أقل تكلفة من غيره ولا يحتاج إلى حواسيب خارقة من أجل تشغيله.
تحاول بايت دانس حاليًا الترويج لنموذجها على أنه أكثر قوة وأقل تكلفة حتى من ديب سيك، وتقارن بينه وبين "شات جي بي تي أو 1" في كل مناسبة، لكون النموذج قادرًا على التفكير المنطقي، وبينما يعد النموذج منتشرًا في الصين، ما زالت التجارب العالمية له محدودة.
لكن تاريخ بايت دانس الواسع في تطوير خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي والقوة الحوسبية يشير إلى قدرتها على تطوير نموذج ذكاء اصطناعي خارق وذي أداء قوي، إذ إن نقطة القوة الرئيسية في "تيك توك" أحد أبرز تطبيقات التواصل الاجتماعي العالمية هي خوارزمية "بايت دانس".
"كيمي كيه 1.5" ( Kimi k1.5) من "مون شوت" (MoonShot)
تعد شركة "مون شوت" من شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة في السوق الصيني والتي وصلت قيمتها إلى أكثر من 3 مليارات دولار بعد جولة التمويل الأولى لها، وقد أطلقت الشركة مؤخرًا نموذج "كيمي كيه 1.5" الذي تدعي قدرته على منافسة "شات جي بي تي".
ركزت الشركة في تطوير "كيمي كيه 1.5" على جودة الإجابات ودقتها أكثر من سرعة الاستجابة، وهذا يجعل النموذج يأخذ وقتًا أطول في الإجابة، ولكن تكون الإجابات أكثر دقة، وهو الأسلوب ذاته الذي اتبعته "أوبن إيه آي" مع "شات جي بي تي أو 1".
بحسب بيان الشركة، فإن نموذجها يستطيع الإجابة على المسائل الرياضية المعقدة، فضلًا عن القدرة على فهم الصور والنصوص ومقاطع الفيديو وعدم الاكتفاء بالنصوص فقط.
نموذج "جانوس برو" (Janus-Pro) من "ديب سيك"
لم تكتف ديب سيك بطرح نموذج "آر 1" النصي فقط، بل سعى لتغطية نقاط الضعف لديه عبر طرح نموذج ذكاء اصطناعي قادر على توليد الصور بشكل ينافس "دال -إي 3" من "أوبن إيه آي"، إذ يستطيع التعامل مع 7 مليارات معيار، وهي الكمية الكافية للإجابة على الأسئلة المعقدة وحل التحديات المعقدة.
يأتي النموذج تحت رخصة "إم آي تي" (MIT) مما يعني إمكانية استخدامه بشكل تجاري دون مخاوف من حقوق الملكية وحقوق الاستخدام بشكل عام، وبحسب اختبارات ديب سيك في أكثر من أداة اختبار منفصلة مثل "جينيفال" (GenEval) و"دي بي جي-بينش" (DPG-Bench)، التي أظهرت أيضا أن النسخة الاحترافية من "جانوس برو" تتغلب على العديد من نماذج الذكاء الاصطناعي لتوليد الصور المنافسة مثل "ديفيوشن إكس إل" (Diffusion XL) و"دال-إي 3″.
لا تزال قدرات النموذج محدودة بالصور ذات دقة 384×384 بيكسلا، وهو الأمر الذي يتماشى مع العديد من نماذج الذكاء الاصطناعي الأخرى التي تعمل على توليد الصور وتحليلها، ولكن نتائج النموذج -بحسب تقرير "ديب سيك"- تتفوق عليهم بشكل كبير، ومن المتوقع أن يتطور النموذج بشكل أفضل مستقبلًا.
وصمة عار تلحق النماذج الصينية
رغم التطور الكبير الذي تشهده ساحة الذكاء الاصطناعي في الصين مؤخرًا، فإن هذه النماذج تلحقها وصمة عار كبيرة بسبب ارتباطها بالشركات الصينية التي يشتبه في ارتباطها بالحكومة الصينية، وإمكانية تسريب البيانات للحكومة الصينية أو بشكل عام عبر الإنترنت.
حدث هذا في الأيام الماضية مع ديب سيك الذي ظهرت منه مجموعة من البيانات المخزنة به عبر الإنترنت في منتديات المخترقين، رغم أن الشركة لم تعلن عن وجود أي اختراق لبيانات النموذج أو حتى تسريب رسمي.
المصدر : مواقع إلكترونية
أعلنت شركة مايكروسوفت أنها ستغلق تطبيق "سكايب" إلى الأبد، وذلك بعد 21 سنة من إطلاقه، وحددت موعد الإغلاق في 5 مايو/أيار المقبل بعد أن نصحت مستخدمي التطبيق الحاليين بالانتقال إلى تطبيقها المجاني "تيمز"، وفقا لموقع "سي إن بي سي".
وقد حقق "سكايب" شهرة واسعة في العقدين الماضيين، لأنه قدّم وسيلة للتواصل دون الحاجة لدفع تكاليف هاتفية، ولكن في عصر الهواتف الذكية وانتشار وسائل التواصل مثل واتساب تراجع استخدامه ولم يحظَ بنهضة كبيرة خلال التقدم التقني الكبير، حتى أن الكثير من الناس نسوا أن "سكايب" ما زال متاحا نظرا لكثرة خيارات الدردشة الأخرى.
وقال رئيس تطبيقات "مايكروسوفت 365" الإنتاجية جيف تيبر "لقد تعلمنا الكثير من سكايب خلال تجاربنا السابقة، وهذه الخبرات وضعناها في تطبيق (تيمز) على مدى السنوات السبع إلى الثماني الماضية، ولكن شعرنا أن الوقت قد حان لنكون أبسط في السوق ونوسع قاعدة عملائنا، فنحن يمكننا تقديم المزيد من الابتكار بشكل أسرع بمجرد التركيز على (تيمز)".
وخلال الأيام القليلة المقبلة ستسمح مايكروسوفت لمستخدمي "سكايب" بتسجيل الدخول إلى "تيمز" باستخدام بيانات اعتمادهم الحالية، وستُنقل جميع جهات الاتصال والمحادثات التي كانت في "سكايب"، كما يمكن للمستخدمين تصدير بيناتهم الخاصة.
كما قالت الشركة إنها ستتوقف عن بيع اشتراكات "سكايب" الشهرية، ويمكن للمستخدمين الذين لديهم رصيد استمرار استخدامه في "تيمز".