1-س- كيف التحقتم بأنفاس ؟
ج-قبل ظهور مجلة أنفاس،كنت قبل ذلك،وخير الدين،فاعلين شعريين في مدينة الدار البيضاء،وعمرنا لم يتجاوز بعد عشرين سنة… .انصب اهتمامنا الأساسي،خلال تلك الحقبة،على كتابة الشعر،فكتبنا بيانا شعريا،سنة 1964تحت عنوان : . Poésie touteبعد ذلك،أصدرنا مجلة صغيرة في شكل كُتَيب، تضمن قصائدنا.إنها عبارة، عن أوراق منفصلة، مهيأة تقريبا بخط اليد، لدى مطبعة صغيرة،أو بالأحرى هو عامل في مطبعة،أكثر منه مطبعي بالمعنى الحقيقي للكلمة. سنة 1965،التقيت عبد اللطيف اللعبي،عن طريق شاعر فرنسي،زار المغرب،بحيث قال لي :((سأجعلك تتعرف على شخص ستحبه كثيرا)).كان اللعبي، ينشر قصائده على صفحات جريدة''ليبراسيون''،الواجهة الفرنكفونية،لحزب المعارضة الأساسي، خلال تلك الفترة أي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية .فعلا التقينا،وتناقشنا كثيرا، واستحضرنا فكرة أن نخرج إلى حيز الواقع، شيئا قد يشكل أرضية ،تعبيرية للجيل الجديد.كنا نعتبر الشرايبي والصفريوي،بمثابة أخوين كبيرين لنا،لكننا بدورنا لنا نظرة أخرى للأشياء ورؤية ثانية، لمغرب مابعد الاستقلال.ولأن الأفق يتعلق بمشروع ثقافي،فقد كان طبيعيا،أن ينضم إلينا فنانون،امتلكوا بدورهم تصورا، لما يجب أن تكون عليه ثقافة حديثة في المغرب،لقد اتجه اهتمامنا إلى التشكيليين أساسا.كانت لعبد اللعبي،علاقات مع كبار الفنانين المغاربة، تواجد أغلبهم بمدينة الرباط.هكذا،قررنا إخراج المجلة برفقة مجموعة من الفنانين،كانوا أساتذة في مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء،لاسيما المليحي وبلكاهية وشبعة ثم عطا الله،لأنهم أبانوا عن خطاب مغاير لما يردده الآخرون.تضمن العدد الأول من مجلة أنفاس،قصائد عززتها إبداعات فنية على الغلاف، وكذا بين طيات الصفحات الداخلية.ساهمتٌ في العدد إلى جانب عبد اللطيف اللعبي،وبعض التشكيليين وشاعرين صديقين من الدار البيضاء،توقفا فيما بعد عن الكتابة….انعقدت الاجتماعات،بين الدار البيضاء والرباط،وفي أغلب الأوقات كنا نلتقي أصدقاءنا الفنانين في مدرسة الفنون بالدار البيضاء.طبعا، جاء العدد الأول، مخالفا للمألوف،لأننا ضمناه خطابا لم يكن تماما مستساغا،يوجه انتقادا حادا للوضع.الأهم في هذه العملية،ليس صوابنا من عدمه،ارتباطا بتلك اللحظة،بل الغضب الشديد، الذي استدعينا به الأشياء، وهذه المقدرة و القوة الداخلية والطاقة التي شكلت رافعة أساسية، لهذا البناء والكلام والنظرة المنصبة عليها. صدر العدد الأول، شهر مارس عام 1966 .
2-س-كيف تجلت مساهمة محمد خير الدين؟
ج-سنة 1967-1968،رحل خير الدين إلى فرنسا،كي يكتب ويصدر نصوصه،لقد تطلع إلى تحقيق مهمة والنجاح فيها.أما هنا فقد كان الوضع شيئا ما "رتيبا "،بالنسبة لشخص كان مدركا لقيمته كشاعر،بالتالي تحتم عليه الذهاب إلى فرنسا، ويفرض نفسه على أرض الواقع.إذن،غادر ذات يوم،وحقق بعد ذلك مسارا مذهلا. ذهاب، سيعيشه حسب كتاباته، مثل منفى، يمكنني وصفه بالاختياري.هناك،جمعته صداقات مع سارتر و أداموف…،فخير الدين شخصية مؤثرة جدا.عمله الأول الأساسي،المعنون ب :الملك.أصدره شاعر وناشر من مدينة بوردو،اسمه"جون بول ميشيل".ناشره الأول هذا،أخرج القصيدة،في صيغة ورق صر،بقياسات مستحيلة،وتنضيد يدوي.كان النص طويلا،والناشر(هو أيضا شاعر)لم تكن في حوزته، حرف طباعة من نفس اللائحة والحجم.هكذا،حينما لم يجد حرف(c) إيطالياني، سيعوضه في النص بآخر روماني،أو الحرف الطباعي الزفير،بديدو،إلخ.لقد جاء الإخراج النهائي،لهذا النص الصادر سنة 1967،شبيها ببركان في حالة غليان.ثم تولى أمره ثانية،سارتر،ضمن أحد أعداد مجلة ''الأزمنة الحديثة"،في حلة جيدة.بعد ذلك،صدر عمله الأول أكادير.استمر الاتصال بيننا،هكذا تضمن العدد الثاني من أنفاس،أحد نصوصه والأخير أيضا،فخير الدين صاحب المزاج الدائم الاحتجاج- كان متمردا- لم يتفق كليا مع المسار الذي اتخذته أنفاس.غير أن هذا، لم يمنعه من وضع العدد بين يدي أندريه بروتون، مؤكدا له أبوته، عن مجموع ذلك. تجليات،تشكل انعكاسا لطبيعة خير الدين المتمردة،والذي يظل كاتبا، في نهاية المطاف،فقد سكنته الكتابة. في الواقع، خير الدين، ليس بمنظِّر، لكن نعم الأمر،لأنه ألف نصوصا غير قابلة للتصنيف.
3 س-ماذا عن الجانب المالي،من أجل إخراج أنفاس إلى حيز الواقع؟
ج-لقد صدرت المجلة بوسائل متواضعة،لكن لا ينبغي أن نغفل التأثر، الذي أبدته نحو تحمسنا، دور النشر المغربية والدولية في طنجة.اشتغل المليحي على الجانب الغرافيكي،غير أن إصدارها، ولو كان فصليا، اعترضته دائما صعوبات.لقد كانت معجزة،أن ننجح خلال كل مرة،في الوفاء بالتزامنا مع أصحاب الاشتراكات. غير أنه وضع عادي،قياسا لمجلة توخت الاستقلالية…. إضافة إلى تيقظ سياسي وإيديولوجي،كي لايسقط الفكر في براثن التلوث.
-4 س-لقد استندت المجلة على رافدي الإبداع والتحليل؟
ج- نعم،لأن ذلك شكل جانبا من حقيقة الثقافة خلال حقبة،اشتعلت بالأفكار على جميع المستويات.لقد فتحنا عيوننا، على عالم هائم بقضايا الحرية والحداثة والإبداع،ثم إحساس بالحياة والأشياء،يتقاسمه الجميع تقريبا.
5-س-ماذا غيرت أنفاس مقارنة مع تجربتكم السابقة :القصيدة كليا؟
ج-لقد حدث مع أنفاس، نوع من الانعطافة بخصوص إدراك الأدب المغربي،وقد استطاعت أن تجمع بين عدد من الكتّاب الشباب والمثقفين،الذين امتلكوا كثيرا من التطلع والحس النقدي،فصارت المجلة خلال فترة وجيزة جدا،نواة نشاط أو ممكن إبداعي،ينتظر منذ مدة من يجسده بشكل فعلي على أرض الواقع.مثلا،الفنانون التشكيليون،الذين ساهموا في العدد الأول، توخوا أن يكونوا مستقلين،جديرين،ومتحررين عن وصاية الدولة، التي تتوخى توظيفهم مثلما يصنع مروض مع قرد(هكذا نظروا إلى وضعهم)،في إطار سياستها الثقافية،التي تبقى في كنهها سياحية.وبالنسبة للنقد الفني، فقد كان لهم موقفا بخصوص المقاربة التي تطرح خلال تلك الحقبة ،حول الفن التشكيلي.وجهات نظر،أفصحوا عنها كتابة وفي صيغة نصوص،تهم إطارات المعارض وتلقين تاريخ الفن ثم سؤال التراث والحداثة :هل ينبغي الاقتصار على التمثيل الكاليغرافي أو ضمن خط الفنون الزخرفية؟أو هل يمكننا القيام بأبحاث، لاسيما حول الثقافات الشعبية،والتي انطلاقا منها، بوسعنا تهيئ تقديم معاصر؟ثم سؤال الهندسة والتجربة،إلخ.لايمكننا، سوى أن نستفهم بهذه الأسئلة.إذن مشروع،القصيدة كليا،كان تمهيدا لحدث مهم، فهو أول خطوة، لما سيأتي بعد ويتطور،وهذا لا يمكنه أن يأخذ وقتا طويلا.حينما ننظر إلى التاريخ مابين سنوات1960- 1970،سنلاحظ أن أنفاس عرفت تحولات عديدة،لأنها تحتم عليها الإجابة خلال كل مرة على تساؤلات، ثم التأليف بينها.لكن هذا العمل،ابتدأ قبل ذلك منذ بداية سنوات1960 .
6-س-هذا العمل، تجلى عشر سنوات بعد الاستقلال.ربما،لم تكونوا هنا سنة1956،على قدر من النضج الأدبي،بهدف تدشين انطلاقة هذه الحركة.لماذا،لم يحدث أمر كهذا خلال لحظة الاستقلال؟
ج-لقد طرح الإشكال إخواننا الكبار،حسب رؤية كل واحد، لكن ليس ضمن هذا البعد.تميز كتّاب بعد الاستقلال،بخضوع كبير للتسويات تحت سقف النظام،باسم الموضوعية.ثم لا ينبغي نسيان أن الخطاب المهيمن خلال تلك الحقبة،كان الخطاب السياسي.غير أن سنوات1960،شكلت مرحلة الانشقاقات الكبرى داخل الحركة الوطنية،والاضطرابات الجماهيرية،ثم الحركة الطلابية… ماهو مؤكد وثابت،أنه غداة الاستقلال،تبلور شعور عام،مفاده أن هناك شيئا مثاليا، تعرض للغدر.مثال أعلى،اقتسمناه نحن أبناء المرحلة، على جميع المستويات.كنا في ريعان الشباب،والمهم الانفعال الذي استحوذ علينا،ومغالاة منحت ذكاء الأشياء جانبها من الحقيقة والحساسية.لعبت القصيدة،دورا لدى الكثيرين،لأنه مسار قوي،يشتغل وفق سياق الشك،والانفتاح والفكر غير المنغلق،مما يستلزم طريقة جديدة لكتابة الحياة.أما فيما يتعلق بالجيل السابق، فقد تبنينا على وجه التقريب ادريس الشرايبي، الذي اعتبرناه قد خلق شيئا رائدا مع روايته : le passé simple، تقريبا لأن هذا يبقى على مستوى الأدب.عمل، تعرض للعنات الحركة الوطنية،ووصف الشرايبي بالرجل الخائن، إلخ. بيد أن، تكون مرهف الحس نحو كلام شخص متمرد،ومنتقد للأعراف والتقاليد،لايعني البحث عن شرعية أو انتساب،لكن بما أننا نفكر في الثقافة والكتابة، كانت هناك مواقف وكيفيات للكتابة، وتيارات، يمكننا استبعادها، وأخرى نتبناها. كنا إلى جانب الشرايبي،دون الصفريوي الذي حاول إظهار مغرب، نرفض أن تبقى لنا به صلة.رؤية هُيئت للغربيين،بقليل من الغرائبية : حكي، سينقل القارئ مهتديا به إلى حمام مغربي،كي يكتشف النساء ويستعيد موضوعات مستهلكة.لكن،هل يمكنه القيام أفضل من ليوطي،والأخوين تارو أو كوليت؟سعي، يصدر عن فكر مشبوه.فهل يمثل روح بلد وشعب؟أيضا،لا يمكننا، الاقتصار على مجال خاص بالتعبير.انفتحنا على الكتّاب المغاربة، الذين يكتبون بالعربية،نظرا لغياب منشور خاص بالنسبة لجيل من الكتاب الشباب المغاربة المعربين،بل كانوا ينشرون كتاباتهم على صفحات الجرائد القائمة،الخاضعة للرقابة والحظر.
7-س-كيف تطورت أنفاس؟
ج-انطلاقا من اللحظة التي تطورت معها الأشياء، فالمجلة التي تضمنت بعض عشرات الصفحات،يصعب على حمولتها أن تتسع لنشر ما يمكن تسميته ب"القصيدة الكيلوميترية"،بمعنى النص الشعري الكبير،صاحب النَّفس المسهب.هذه النصوص،لايتحملها حجم المجلة،مما أوجب المبادرة إلى التفكير في إنجاز سلسلات .هكذا، وضعنا مشروع أطلانطس بالنسبة للنصوص الشعرية الكبرى الطويلة،التي تتجاوز عشر صفحات،بهدف إصدارها في صيغة كتيبات،انطلاقا من سنوات1967-1968 .فيما بعد،وضمن ذات الاندفاع،أنشأنا دارا للنشر.أول كتاب بالفرنسية،صدر :"العين والليل"، لعبد اللطيف اللعبي،و"العنف في الدماغ"باللغة العربية لصاحبه أحمد المديني،ثم عمل الطاهر بن جلون ''رجال تحت كفن الصمت".الفنانون،الذين اشتركوا دائما في النشر،يعرضون من جهتهم في الفضاءات العمومية،كجامع الفنا،ينظمون عروضا فنية في الشارع، لاسيما بالدار البيضاء،مع مواقف ونصوص.بوسعنا القول،أن كل الحداثة في المغرب،تجلت بداياتها في الدار البيضاء،ثم جاءت هزيمة يونيو 1967،فكانت الصدمة رهيبة،مما دفعنا إلى تخصيص عدد لفلسطين، أثار اهتمام مثقفين آخرين،بالتالي تسليط الضوء على قضايا كثيرة :منظور سؤال الثقافة العربية والهوية والانتماء.لقد شرعنا،نفكر بطريقة مختلفة.اتجه تفكير البعض نحو الفعل سياسيا…،لكن بالنسبة إلي، فمجلة أنفاس،يلزمها الاحتفاظ باستقلالها وأن تبقى حرة تواصل الجمع بين تعبيرات مختلفة،وليس التحول إلى خلق خلايا لزمر صغيرة. لا ينبغي، أن يغيب عن ذهننا، الكتابة وكذا المشروع الثقافي.فيما بعد، تطورت الأشياء،وتبين عبد اللطيف اللعبي،الحاجة إلى مجلة باللغة العربية. حينئذ، انتابني إحساس، أنه لم يعد لدي مكان ضمن فريق مجلة،اتخذت منحى ثانيا،وبقيت منسجما مع نفسي :أنا فرنسي اللغة.لذلك،وضعت لبنات مجلة بديلة، هي : intégral بصحبة المليحي والطاهر بن جلون وعبد العزيز المنصوري،سنة1970-1971 .
8-س-ألا تكتبون بالعربية؟
ج-لا تكمن الإشكالية هنا،فالعربية هي لغتي الأصلية،وأنا ملم جيدا بها، بحيث ترجمت منها نصوصا ، نشرتها مصنفات و مجلات،لكنها ليست لغة اشتغالي.لاسيما وأنه في الميدان الأدبي،وبالخصوص القصيدة،لا يبدو الانتقال من لغة إلى ثانية،معقولا جدا،حتى لا نقول بأنه أمر لا يستقيم سوى قليلا.ما تعلق بالشعر،فعلى الأقل أن تكون على شاكلة فيرناندو بيسوا،وإلا فلا معنى للأمر.إذن، طُرحت قضية الالتزام السياسي.من جهتي،لا أريد العودة إلى إشكالات،نوقشت في أمكنة أخرى خلال العقود السابقة :لمن نكتب،ماذا نكتب،إلخ.لقد خضنا نقاشات مستفيضة،وبقيت منسجما مع نفسي… .ولأنه كان برنامجا على مستوى الرؤية،أكثر من المؤسسة،فمن الطبيعي أنه خلال لحظة من اللحظات،وصلنا إلى مايشبه الطريق المسدود،بحيث أعيد النظر في كل ما التزمنا به.على هذا المستوى،كان المشروع ثوريا،متحمسا،لكن من بعض النواحي مفزعا،مع الانحرافات المؤدلجة خصوصا.
9-س-هل دفعتم بدوركم ثمن التطور الذي عرفته المجلة؟
ج-لا، أنا لم أنخرط في صفوف تنظيم،كيفما كان.لقد بقيت باستمرار،متمردا عن كل انتماء.
10-س-هل الأولى بالنسبة إليكم،أن يمر الالتزام بالأحرى عبر الكتابة وكذا المنظور الذي تقترحونه؟
ج-نعم عبر الثقافة،ثم التيقظ الذهني.طبعا، أنتمي إلى الجيل الذي قرأ ماركس وفرويد ونيتشه والمتنبي والتوحيدي وهيراقليطس وهولدرلين وروني شار وكذا الأدب المغربي القديم، فالأمر طبيعي جدا، لأن الشاعر كما أشار سيزار بافيز(كاتب إيطالي1908-1950) ،يجدر به أن يكون الشخص، الأكثر ثقافة في عصره. أيضا،داخل هذا المدار،قادت بعض المسارات نحو الصمت أو انتهت إلى العالم الروحي…،أما أنا فلا أمتلك مزاج المقلد الوديع .فضلت متابعة مغامرتي على مستوى الكتابة،حسب سجل آخر.لقد أثبت التاريخ أيضا،انهيار الإيديولوجيات.سنوات1970-1971،حينما شرعت ألقي نظرة خلفي،كنت في الآن نفسه متحمسا ومفزوعا.
11-س-كيف تطورت المجلة، بعد إعادة التوجه هاته؟
ج-لقد عرفت المجلة أطوارا مختلفة،هي تقريبا في صلة، مع نضج التجارب الشخصية،ثم الالتزامات المتبناة وكذا على ضوء الكائنات.لقد غيرت شكلها،وصار مستطيلا،مع نصوص بالعربية.ثم، خرجت من دائرة المفكرين والمبدعين، وأضحت بين أيادي فريق يساري،وجماعة إيديولوجية،حيث أصبح بعد ذلك لكل واحد منهم تاريخه.بخصوص صنيع كهذا، ينبغي طبعا،استحضار ماسماه لينين بالمجازفات التي ينبغي تقديرها،بحيث لا يمكن أن تتم مساعيها دون عواقب.أما عن المرحلة الباريسية للمجلة،فلا أعلمها جيدا.أنا شاركت في عددين أو ثلاث،ثم أسسنا مجلة ''أنتيغرال''،كما أشرت سابقا.لقد التقيت عبد اللطيف اللعبي في مدينة الدار البيضاء،وتناقشنا بهدف إعادة توضيح الأمور.
12-س-ماهي الأسماء التي ساهمت بجانبك في إخراج مجلة "أنتيغرال"،وفيما تمثل هدفكم؟
ج-كنت صحبة المليحي والطاهر بن جلون وعبد العزيز المنصوري.أطلقنا على المجلة تسمية''مجلة الإبداع الفني والأدبي"،تضمنت نصوصا في الفن والأدب…،وكذلك ترجمات.مجلة أعادت ثانية للثقافة مكانتها، وكذا لمختلف الحساسيات الفنية،بينما واصلت أنفاس في شكل واحد.
13-س-مع ذلك كان لأنفاس تأثيرا عظيما؟
ج-نعم،وإلى الآن يتكلم عنها الجميع.كانت مهمة جدا،بل صارت ظاهرة أسطورية،ولم نعرف منذئذ تجربة مماثلة.راهنا،هيمنت الإسلاموية والجهل… نعم،أحدثت أنفاس أثرا هائلا،بحيث لا يتوقف الصحافيون الشباب والكتاب الشباب،عن استحضارها،لأنها مرجعية بالنسبة إليهم على مستوى الكتابة،وإعادة مساءلة الأشياء،والاهتمامات،وتناول الواقع وكذا المُفكر واللا-مُفكرفيه. فعلا،هذا شكل مَعلمة،ليس فقط على مستوى المغرب ولكن البلدان المغاربية.
14-س-ماهو الدور الذي لعبه الجزائريون والعرب الآخرون، مثل أدونيس؟
ج-أدونيس، خاصة بعد حرب1967 . لقد كتب نصا رائعا في مجلته "مواقف ''التي كانت تصدر ببيروت،عنوانه :بيان يونيو 1967 .بالنسبة لنا،اعتبرناه نصا مهما،فأسرعنا إلى ترجمته ونشره.طبعا،نداء الثقافة العربية بالنسبة إلينا،كان قويا ومهما.القضية الفلسطينية وسؤال الثقافة العربية، المترسخان كذلك في جذورنا، لا يمكنهما سوى مساءلتنا…. بكيفية أخرى، حلقنا نحو الشرق.كل واحد منا،سيسافر يوما ما إلى الشرق،سبيلنا صوب النور… أيضا،أحس الجزائريون،أن لهم أشياء يريدون قولها،فتمحور فريق حول الفنان التشكيلي محمد خدة ومن ضمنهم الشاعر الكبير مالك علولة، وجماعة ثانية تزعمها جون سيناك ومن بينهم محمد إسماعيل عبدون… .لقد خصصنا عددا للأدب المغاربي،مع جزائريين وتونسيين مثل محمد عزيزة وصلاح غارمادي.
15-س-هل غيرت تجربة أنفاس، ماكتبتموه؟
ج-لقد كان ذلك مهما بالنسبة إلي،لأنه خلال تلك الفترة حققت تكوينا على المستوى الأدبي والكتابة، وأصدرت نصا أساسيا بالنسبة إلي تحت عنوان : la mille et deuxième nuit ، فانطلاقا من تجربة أنفاس، لم يعد بالإمكان أن تكتب بذات الطريقة،كما السابق.ربما،أفرطنا قليلا،لكننا مع ذلك أرسينا أوتادا،يستحيل معها بكل بساطة العودة إلى الوراء.
16-س-ألم تصبح الكتابة التي مارستها أنفاس، نموذجا بعد ذلك؟
ج- نعم، قد تباغتنا نصوص،بحيث أتيحت إلي فرصة قراءة أحدها،فوجدته جميلا جدا،بالتالي كتبت عنه مقالة.صاحب العمل هو مصطفى الهاشمي،معتقل سابق، قضى عشر سنوات في سجن القنيطرة.لقد نسج خيوط رواية رائعة،صدرت عن منشورات''l harmattan "،لكن أنفاس تجسد اللا- نموذج،تعني لها القصيدة الشيء الكثير.القصيدة، هي التنبه حيال الكلمة والمعنى،تتعارض والفكر المنغلق،لأنها في المقابل فكر منفتح على الدوام.
17-س-أين نحن من تلك الفولكلورية، التي ناضلت أنفاس ضدها؟
ج-على مستوى الكتابة أضحى الوضع أكثر فظاعة .حاليا،عندما يخاطبنا الغرب : ((أريد اكتشاف مجتمعاتكم، ينبغي الكتابة حول هذه الجوانب أو تلك))،جيد،هناك من سينجز المهمة،ليس لأنه مجتمع غير معروف أو شيئا ما،أو تحقق الأمر من طرف كتّاب مولعين بالغرائبي،بالتالي يلزم أن نحيط به،مثلما يفعل صحافي أو سوسيولوجي،لكي نضفي على العمل صفة رواية.هناك كتّاب يتناولون كموضوعة، الدركيون المرتشون، والفقيه المهووس بالجنس والبيدوفيل.بينما الكتابة فهي شيء ثان :لايتعلق الأمر بإنجاز محضر بوليسي،ولا إقامة دعوى شفوية.الكتابة معناها، أننا نخلق لحظات، ونشتغل على الزمان…،أيضا نصير ضمن سياق المجاز،فيختلف مفهوم الزمان،الذي يجسد إشكالية تيمة غنية.لقد،لاحظنا هذه السنوات الأخيرة،بروز أشباه الكتّاب،وكمية كبيرة من المنتوج المنصب على أدب الاعتقال،ونساء يتكلمن عن الوضعية النسائية،ونصوص تزعم أنها أدبية،لكنها تفتقد للخيال، ولحظات العطاء. كتابات، نتساءل معها أحيانا، إن قرأ هؤلاء الكتاب أهم نصوص عصرنا،وهل عاشوا خلال وجودهم،حياة غير مكترثة بما يهم البوارجوازية الصغرى،بل هم ليسوا حتى بعُصابيين.لكن كتبهم تباع،ويتموقعون اجتماعيا أكثر.عندما تحوينا حقا الكتابة،ولا نكون فقط ضمن محضر مفصل، أو سرد خطي، دون ذهاب وإياب، بين ثنايا الثقافة وكذا معرفة العالم،فلا ينبغي ادعاء صفة كاتب.اقرؤوا تلك النصوص : لانعثر، على استطراد واحد حول موضوع مهم،أو إحالة على عمل جدير بهذا الاسم.
18-س-هل تعتقدون أن هذا، يدفع في الوقت الحالي، للعودة إلى أنفاس؟
ج-أنا سعيد جدا،أن أجيالا من الشباب المغربي،تنجز عملا حول هذه الذاكرة،المتينة والقوية جدا،التي شكلت لحظة في تاريخنا السياسي والثقافي والإيديولوجي والفني…،إنها منارة تمنحنا امتلاك رؤية حول التاريخ والثقافة الحديثين للبلد.راهننا،تسوده الظلامية.خلال حقبة أنفاس،كنا نشتغل في ظل،تجاذب خطابات عديدة :خطاب سياسي،إيديولوجي قائم على المجادلات،ثم مشهد سوسيو-ثقافي متوقد... ،كانت المعطيات تقريبا محسومة.لكن، عندما انطلق السعي لتحطيم النخبة،وتدشين الإصلاح الكارثي للتعليم،والاعتقالات والقمع الذي عانيناه بعد1968-1970،حينها اختفى الخطاب النقدي فاسحا المجال إلى الشعبوية والرؤية الماضوية الارتدادية.عندما، نفتقد خطابا منعشا، يقود الفكر،فسيحل محله فكر آخر،مادامت الطبيعة تخشى الفراغ.اترك حقلا بورا، فبالتأكيد ستجتاحه دائما، حيوانات صغيرة وطفيليات.هذا ماحدث، لقد شجعت الدولة،النزوع نحو الجهل من أجل عرقلة اليسار،باسم إعادة إحياء التقاليد،إلخ.أقيم التعليم الإسلامي في كل مكان،وأفرغت الجامعة من جوهرها،ثم سُلمت للأصوليين.ثلاثون سنة بعد ذلك،وجدنا أنفسنا أمام جيل ترعرع في أحضان هذا النسق،وراكم معارف على أساس تمثله للعالم من زاوية قروسطية.بالتالي،عندما نتابع ما ينتج حاليا، نكتشفه كئيبا، إن لم يكن ببساطة ضعيفا.مجمل منجز أنفاس،كل فاعل في مجاله،أمكنه على أية حال، أن يكون له تأثيرا على أفراد، واصلوا الصراع بالرغم من وحشية القمع،بهدف بناء مجتمع مدني داخل هذا البلد، يسمح بحرية التعبير.نصادف اليوم، جرائد أكثر من السابق،وجماعات وأحزاب وجمعيات…،ينبغي الإبقاء على الإيمان بقوة الأفكار.غير، أن الشاعر يمتلك دائما فكرة أخرى مغايرة، عن السعادة.تشرع في الكتابة، حينما تعتبر كل ما يحيط بك، مجرد خديعة وهذيان وتضليل،هكذا سار الأمر، منذ أفلاطون.
هامش :
Kenza Sefrioui :la revue souffles(1966 1970) ;espoirs de révolution culturelle au Maroc ;éditions du Sirocco ;pp296 ;305.