يتضمن هذا الديوان لفيفا من النصوص الشعرية ، إضافة إلى استهلال " عتبة القول " و الذي ينجز وظيفته التمهيدية لجغرافية القصائد و إحداثياتها . و من بين المعالم التي تنطلق منها هذه العتبة : معلم الإحساس و الذي يتنوع إلى كيفيات : كيف تحس الشاعرة بالعالم ؟ و إلى نوعيات : ما هي أنواع الأحاسيس التي تشخصها الشاعرة من خلال تعبيراتها المجازية ؟ إن الإحساس بالوجود تذوق له ؛ فقد تحس بحلاوته أو بمرارته أو ببرودته أو بسخونته ...كما قد تحس بألوانه أو بقساوته أو بعذوبته ....و ذلك استنادا إلى طبيعة تفاعل الذات الشاعرة بعناصر الوجود و أشيائه ، و بعلاقاته و عناصره ، و بمتخيله و واقعه .... لقد بَأّر هذا الاستهلال بعض العلامات الدالة مثل : رائحة الأرض ، المرارة ، السكر ، الشوكولا ، قارورة العطر .....إن هذه العلامات تحمل آثارا دلالية تؤول إلى محتد الإحساس كمنطلق للكتابة الشعرية في هذا العمل ، و كأفق للتفاعل عند القارئ مع عوالم الديوان . إن النصوص تعبر عن نوعية المذاق أو الطَعْم الذي تم تصويره أو تمثيله شعريا : فبأس إحساس انكتبت النصوص ؟ و بأي نكهة تتذوق الشاعرة الوجود ؟ و أي اشتهاء خلقته عند القارئ ؟
من العنوان إلى النص :
يشكل العنوان جزءا أساسيا من بنية النص الكبرى . ينجز وظائفه بالفصل و الوصل، فهو يصل القارئ بالنص و عوالمه عبر الإغراء و الفتنة و ركوب مغامرة القراءة. كما أنه يفصل النص عن غيره من النصوص و الآثار الفنية من خلال تسميته و تصنيفه. إن العنوان طُعْم و طَعْم ، فهو طعم (بالضم ) وضع بقصد الغواية و الإغراء و للإيقاع بالقارئ في أحابيل المعنى و وهج الدلالة . كما أنه طعم ( بالفتح ) من خلال تأثيره فيه و تذوقه له يخلق لديه طعما و ذوقا خاصا. ربما يكون بداية لتذوق باقي النكهات /النصوص الأخرى .
يتركب عنوان الديوان من مكونين :
وشم : أو وسم و هو العلامة أو ما تجعله المرأة على ذراعها بالإبرة التي تحشوها بالنؤور و هو دخان الشحم . و من بين دلالات هذا العنصر : الظهور أو البروز : أوشمت المرأة بدأ ثديها ينتأ . و كذلك النظر : وشم في الأمر نظر و يعني أيضا : الكلمة حيث قال علي ابن أبي طالب : ما كتمت وشمة أي كلمة حكاها ....إن الوشم طيف من الدلالات فهو كتابة أو رسم على الجسد أو غيره و هو الكلام أو الخطاب، كما أنه التأمل و النظر دون أن نغفل علاقته بالأنثوي و عالم المرأة و الطبيعة ....فهل هذه المدارات الدلالية هي ما تتأسس عليه جغرافية المعنى في قصائد الديوان ؟ شوكولا : مادة غذائية صلبة مصنوعة من الكاكاو . له صيغته الكيميائية المميزة له كباقي المواد الغذائية ، و يتنوع إلى شوكولا سوداء أو بيضاء أو بالسكر أو بالحليب ...كما أنه مادة لا تتحمل درجة حرارة مرتفعة و يتطلب أن يظل بعيدا عن الروائح التي تفسد طبيعته و خصوصيته . و هو يقترن بمعان و دلالات تولدها سياقات الاستعمال أو مقامات التوظيف : يقترن الشوكولا بالخصوبة و بالمناسبات و الاحتفالات ، كما أنه يوحي بالترف و البذخ و بالمتعة و اللذة ، إضافة إلى الاستغفال و الاستغلال ...فما هي الآثار التي يجذرها هذا المكون في المنجز الشعري ؟ يفيد التركيب الذي طبع العنوان هنا ( وشم بالشوكولا ) أن الشوكولا مادة أساسية في عملية الوشم و انطلاقا من تضايف دلالات مكوني العنوان يمكن لنا أن نفترض بعض الاحتمالات أو التوقعات التالية : - الكتابة الشعرية في الديوان وشم بالشوكولا . - الشوكولا إحالة على الذوق و الطعم المميز : المالح و الحلو و المر .. - الوشم بالشوكولا رؤية للوجود و الحياة ، لكنها رؤية و تأمل تحمل في ذاتها التناقض و التكامل : - التناقض : الوشم يقترن بالدوام والخلود ، بينما الشوكولا فبالذوبان و المحو . - التكامل : الوشم علامة خالدة و الشوكولا طعم خالد بدوره - الوشم و الشوكولا يحيلان معا على الأنثوي كمجموعة من القيم و الخصائص التي تميز المرأة كأنثى في الوجود الإنساني و كطرف محوري في العلاقات الإنسانية ... الوشم بالشوكولا كتابة شعرية تتخذ شكل أكلات أو حلويات أعدت لمناسبات و لضيوف ، لكنها أكلات بالمجاز و بالتمثيل و التخييل .
هرمونات التخييل عند الشاعرة : القهوة – الشوكولا – العطر يكشف القارئ لنصوص الديوان أن الشاعرة تعرض تشكيلة من الأطعمة أو أنواعا من الوجبات ، حيث كل طعام أو وجبة تحمل في تركيبته طعما ( بالفتح ) خاصا أو ذوقا مميزا . و الذات الشاعرة إنما تهدف من ذلك إلى تقديم تجربتها في صناعة وجبة شعرية بطعم الشوكولا . فهل هي مارة أ حلوة ؟ هل هي مالحة أم بون ملح ؟ و بالتالي فبأي نكهة أعدت لنا الشاعرة ذلك ؟
يكشف نص " نزيف " [1] عن رؤية الشاعرة للكتابة الشعرية ، و اعترافها بقهر الفعل الشعري . إنه نزيف من الأحاسيس و سيل من المشاعر و فيض من الأفكار . إن القصيدة بالنسبة للشاعرة مولود يولد بمعاناة و ألم ، و لا يأتي إلى الوجود حبا و طواعية . و رغم حدة المعاناة فهو مولود مليء بأحاسيس تتراوح بين المتعة و الألم ، بين السعادة و الشقاء ، بين الراحة و التعب ، بين اليأس و الأمل ، و الشاعرة في هذا تشبه الخزفي الذي يشتغل على مادة الطين ، و الحلواني الذي يشتغل على مادة العجين و الرسام الذي يشتغل على مادة اللون ...جميعهم يبحثون عن شكل أو قالب ليضعوا فيه المعنى ...و لعل الطريقة التي اعتمدتها الشاعرة ، أنها أعدت لنا تشكيلات شعرية تشبه الأطعمة أو الأكلات أو الحلويات بنكهات مختلة و بقوالب متباينة .... النكهة المزدوجة : الحلاوة / المرارة : يبنى النص الشعري عبر آلية المجاز و التمثيل أو التخييل الذي يفيد الإمكان و الاحتمال ، و يحقق الإمتاع و الافتنان . و يدرك القارئ لنصوص الديوان أن كثيرا من مقاطعه كان الطّعْم أو المذاق أساسه و أفقه : في قصيدة " تيه " [2] تنظر الشاعرة إلى كون القهوة : ليل صغير في الفنجان ... و كأنها اختزلت الليل بحجمه و كثافته في فنجان، و بالتالي عندما نشرب أو نحتسي من الفنجان فنحن نرشف الليل الذي تحول إلى مشروب، قد يكون بنكهة القهوة أو غيرها من المشروبات الأخرى التي يكون الفنجان إطارا لها . و في نفس القصيدة تقول الشاعرة :
الشوكولا العاشقة السمراء ، بها تكتمل نكهة الحب ، فالشوكولا غذت عاشقة و متيمة ، و حضورها تكملة لنكهة الحب ، مما يفيد أنها تندرج ضمن طقوس العشق ، و كأن الشاعرة بهذا التصوير تجعل الحب أكلة أو وجبة أو طعاما يقدم لضيف عزيز ، بنكهة راقية و بمذاق باذخ ، تقديرا و اعتبارا له . الشوكولا عنصر أساسي في صنع نكهة الحب من خلال حضورها هدية أو مادة ، فتبقى ذكرى و رمزا يؤرخ للحظة و يحفظها من المحو . و في قصيدة " حروف الشوق " [3] تستهل الشاعرة قصيدتها ب: بيني و بين الصباح وعد فنجان هل ستأتي به القهوة أم قطعة السكر ؟ فالقهوة وسيط بين الذات و حلمها أو أملها ، حيث يصور المقطع طقسا يوميا تزاوله الذات ، فبينها و بين كل صباح وعد ، و الوعد يتطلب الوفاء ، فهي تنتظر الآتي و ترجو أن يحمله إليها الصباح تقديرا أو تحقيقا ، و لو تعذر الحقيقي اكتفت بالخيالي و الحلمي ، و السؤال يدل على وضعية الحيرة و الانتظار . القهوة بنكهتها و طعمها و طقوس شرابها تحمل في ذلك أسرارا و تحتفظ بذكريات و تختزن ضمن متخيلها زمنا و لحظات، تحتفظ بمن كنا نحب و من كنا نكره ، بمن يفي بوعده و من كان رفيق الخيانة .... و في قصيدة " هدي " [4] تستمر القهوة كمشروب في الحضور ، و كطقس يومي يشهد على كرنفال الأحاسيس و المشاعر ، يبشر بميلاد الفرح و ينذر بعواصف عاطفية ، تقول الشاعرة : روت لي حبات الرمان قصتي و أنا أرشف القهوة ... و في سياق ميلاد المشاعر و موتها ، حضورها و غيابها ، انبعاثها و موتها ، تكون القهوة أكثر الشهود على ذلك . و لتقوية شهادتها و إبعادها عن الكذب تستعين بالورد و العطر حيث هما من أكثر الأشياء حضورا و رمزية في صناعة مشاعر الحب و صيانتها من التلف و الفتور ، كما انهما من أكثر الآثار التي تحفظ ذكريات الحب و توثق لحظات العشق لقاء أو فراقا . بداية أو نهاية : لم تهدني وردة و لا عطرا ... و تتأكد هذه القيمة للعطر عندما تقول : و يمحو غفران أسرك العطر .... فربما من سلبيات تجربة العشق أسر المعشوق لعاشقه، و يتضاعف الأسر من خلال الأشياء التي كان لها حضور قوي في تلك التجربة مثل العطر و الورد و الكلام ...أي كل ما من شأنه أن يقوي العلاقة و يؤرخها . و بعد الانفصال قد يتحرر العاشق من أسر معشوقه ، لكنه يستمر أسيرا له من خلال هذه الأشياء و الذكريات . و ارتباطا بطقس القهوة ، تستمر الشاعرة في بناء تمثلات و عوالم خيالية ، يكون للقهوة تأثير قوي في بنائها . جاء في قصيدة " صدى " : [5] الصباح شمس في فنجان رشفات النور تشعل خيال المرارة تروي قصة الشمس و السكر ... فالصباح شمس بديل عن القهوة أو العكس ، فهما متشاكلان أطلقت الشاعرة لفظ أحدهما على الآخر لكثرة اشتراكهما ، فشرب القهوة بداية كل شروق رفقة شمسه يبعث صورا و يحيي ذكريات نكهتها المرارة ، و يفتح نافذة المآسي و يكتب حكاية التناقض أو التنافر بين مذاقي الحلاوة و المرارة . و في قصيدة " بوح " [6] تتابع الشاعرة بناء متخيل المرارة و الحلاوة من خلال إيحاءات و ترميزات الحلو و المر : في قعر الفنجان سكر تفتت
من فرط الحلاوة قهوة مرة مرة كأنها عصارة حزن ... لقد أصبح الفنجان و طقوس القهوة صباحا أو مساء ، في البيت أو المقهى ، علامة مميزة لوضعيات مفارقة تعيشها الذات ، تنصت إلى أفكارها و تهمس إلى أحلامها . إنه طقس من المشاعر و العواطف ، مسرح من الذكريات و الوقائع ، وليمة من النكهات و الأذواق ، فحسب حالة الذات النفسية و الوجدانية تشرب قهوتها بإحساس المر أو الحلو . و يتسع مدار الحلاوة في الديوان ، من خلال مصادرها ، أو عبر موادها مثل ما جاء في المقطع التالي [7]: مشمشة خجولة يعبرها الدود طولا و عرضا بهدوء المنتصرين يرتع في الرحيق و ينتشي بالعسل بعض الحلاوة لعنة ....فالمشمش فاكهة موحية بالحلاوة ، لكن في نفس الوقت موحية بالفساد ، و يتجلى ذلك عندما صورت الشاعرة الدود كجيش يعبر هذه المشمشة بهدوء المنتصرين، راتعا في الرحيق منتشيا بالعسل . لكن لم يعلم أن في ذلك حتفه و هزيمته، و بهذا تتضح العلاقة بين الحلاوة و المرارة: الانتصار حلاوة و الانهزام مرارة . الطراوة و الطزاجة حلاوة و الفساد و التعفن مرارة . و في قصيدة " كينونة الروح " [8] تتابع الشاعرة الاحتفاء برمزية القهوة قائلة : القهوة لا تنتظر أحدا يخبر عنها الدخان تشيعها الرائحة
إذا لم ترشف ساخنة يجفل فيها المعنى ... القهوة تفرض ذاتها، و تخبر عن وجودها ، من خلال الدخان المنبعث منها أن خلال رائحتها ، و الإحساس بها أو الاستمتاع برشفها استجابة لندائها و قراءة لرسائلها و تمثل لوحيها . إنها رسالة مليئة بالمعاني و قلم من يفك شفراتها فينتحر فيها المعنى و تختنق فيها الدلالة إذا لم نكن في الموعد معها . و في قصيدة :" كفر ماكر "[9] ، تخالف القهوة موعدها مع الذات من خلال تمثيل مظهر من مظاهر الكفر أو القلب ، تقول الشاعرة : و تمكرني قهوة عينيك تهرق فينتشي الفنجان .... فالمرارة كناية عن الخيانة ، و استعارة للمكر ، يصدران من عين المرء ، و خاصة من عين المحبوب أو المعشوق ، فيلجأ العاشق إلى الفنجان بقلبه و هرق ما فيه من قهوة لقراءة ما كتب في الغيب و لمعرفة سر الكفر و النكران ... و في قصيدة " مراودة "[10] تتابع الشاعرة تمثلات المرارة :
أعلم فقط أني أعشق ملوحة البحر من شفتيك و أسكب من عينيك فنجان قهوة الصباح ....
تكتفي الشاعرة بالاعتراف بعشقها و تقتصر على ذلك فقط ، و كأنها في طقس البوح و المراجعة مع الذات . فهي تراود نفسها على الاعتراف و الاكتفاء بالعشق فقط ، و بما يكفيها من معشوقها . وفي قصيدة " وشم بالشوكولا " [11] تتابع الشاعرة تمثيل بعض تفاصيل طقسها الأثير : سأعد للصباح قهوة أخرى و للقهوة نكهة أخرى و للنكهة دهشة أخرى ... إنها تعلن تحولها عما كانت تقوم به سابقا ، تتطهر من ذنوب ماض ولى و انقضى ، و تبدأ حياة جديدة بطقس جديد . من خلال هذا المقطع و غيره ن يكتشف القارئ للديوان ارتهان الشاعرة إلى الصباح كيوم تال موال ، رمز لبداية جديدة ...لكن لما كان هذا الصباح لا يحمل جديدا و متعب في انتظاره تحول إلى لحظة للمحنة و الابتلاء ، فكان الخروج و العصيان محاولة لرأب تصدعات الذات و إعادة التوازن بعد اختلالات كثيرة ، و خاصة ما يتعرض له الوجدان من هزات تكاد تقض أساسه و تجعل الهشاشة صفته . على سبيل الختم : لقد تشكل متخيل الحلاوة / المرارة من خلال ترميزاته ، و لا سيما ما يحيل عليهما أو يوحي بهما تحقيقا أو تقديرا . حقيقة أو مجازا. و قد شكلت القهوة أهم رمز استحضرت من خلاله الشاعرة الإحساس بالمرارة ، كما نوعت في تلك التمثلات من خلال استحضار ذكريات أو تجارب كانت ذات بصمة واضحة في تركيب و بناء متخيل الديوان ككل . و من جهة ثانية شكلت الشوكولا أهم رمز أو كثفت من خلاله الشاعرة أيضا دلالة الحلاوة ، بالإضافة إلى بعض العناصر التي تقترن بالحلاوة في التجربة الإنسانية مثل : السكر و التفاح و المشمش و الرمان ... من جهة ثانية حاولت الشاعرة في هذا الديوان الكتابة بالذوق و التخييل بالنكهة ، حيث لم تبتعد النصوص الشعرية عن عالم المذاق و النكهة . و بالتالي عن الإحساس بالمرارة و الحلاوة . و أغلب النصوص كانت تصويرا و تمثيلا لهذين المذاقين ، إما منفصلين أو متصلين ممزوجين . و يجد القارئ مذاقا ثالثا هو الملوحة في بعض المقاطع الشعرية. و ارتباطا بعالم الأنثى ، يحفل الديوان بعنصر آخر هو العطر الذي يحمل من خلال نوعيته أو خاصيته أو تركيبته ، ثم من خلال آثاره الدلالية التي لا تبتعد كثيرا أو قليلا عن متخيل الحلاوة / المرارة .
[1] - أمينة الصيباري : وشم بالشوكولا .مطبعة سليكي أخوين – طنجة . ط 1 . يناير 2015. ص : 8 .
[2] - الديوان: ص 6 .
[3] - الديوان: ص 11 .
[4] - الديوان: ص: 63 .
[5] - الديوان: ص 35 .
[6] - الديوان: ص 43 .
[7] - الديوان : ص 44 .
[8] - الديوان: ص 52.
[9] - الديوان: ص 56.
[10] - الديوان: ص 61.
[11] - الديوان: ص 80.