شعرية الذات المحاصرة بحبائل الشك والحيرة والندم من خلال ديوان : "عيون النسيان" لعبد الله بلعباس - د. برغوت امحمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أراد عبد الله بلعباس أن يطل على قرائه من جديد بإصدار قصائد تنتظم بين دفتي كتاب وسمه صاحبه ب "مجموعتين شعريتين" تحت عنوان : "عيون النسيان"-1- بعد أن أصدر عمله الأول: "الكتابة بخط البحر" -2- ، والذي قسمه إلى مجموعتين شعريتين كذلك، ليؤكد من جديد أن بوحيه الشعري الذي أرقه طيلة عقود من الزمن دون أن يرى النور بفعل عوائق النشر لابد له أن يصل إلى المتلقي، وإن كلفهُ ذلك جهدا ماديا مضاعفا.
"عيون النسيان" عنوان مستفز للقارئ كي يقبل على تصفح الديوان. ويبدو لي في البداية أن هذا العنوان - كعتبة - ينطوي على مفارقة لافتة للانتباه، تتمثل فيما توحي إليه العينان أو المآقي أو اللواحظ في الشعر العربي القديم من جمال وسحر وأسر يجذب الرائي ويفقده صوابه، كلما حدق فيها إلا ووقع في فخ الانسياق والتيهان والاستحضار لا في فخ النسيان والجحود واللامبالاة - من جهة - أو ما ترمز إليه هذه العيون من قدرة خارقة على الرؤية النافذة لأعماق مظاهر الأشياء، واستكشاف الآماد البعيدة المحجوبة عن الرؤية العادية. كما يرويه لنا مؤرخو الأدب ورواته عن "زرقاء اليمامة" على سبيل المثال - من جهة أخرى - أو ما ترمز إليه في الشعر العربي الحديث من قدرة على الإيحاء والتحريض والتشهي، وهذا ما يدعو الشعراء إلى التملي فيها ومغازلتها والسفر فيها. في حين -وعلى النقيض من ذلك- يريد بلعباس أن ينسب إلى العيون وظيفة جديدة ألا وهي النسيان أو التناسي، بمعنى العماء والسديمية، وهذا هو ما لا يستقيم فهمه منطقيا على الأقل.

ويبقى احتمال ثان وهو أن الشاعر يقصد بالعيون، المنابع الفوارة بالنسيان، وهو معنى حاضر في قصيدة واحدة هي التي ألهمته هذا العنوان المستفز، ويتعلق بالتنكر للمعلمة الفنية لتاريخ حاضرة مكناس، وتناسي الدور الذي اضطلعت به دار سينما "الريحان"، في تهذيب الذوق الفني والجمالي والأدبي والثقافي لأجيال من ساكنتها طيلة عقود من الزمن، والتحسر على المآل الذي عرفته على أيدي ناهبي الميراث الرمزي لهذه المدينة الأثرية لما وجهوا معاول الهدم والنسف والاقتلاع لهذا الصرح الثقافي الذي لا يزال نسغه يجري في وجدان مثقفي وفناني وعامة سكان المدينة، ليشيدوا على أنقاضه مرتع الربح والرذيلة نزل المنصور الذي عوض الصفاء والمضاء بالخسة والمعصية والبغاء.
وهذا المعنى المنسوب إلى العيون في عتبة الديوان، هو ما قد يستقيم للمفكر اللبيب بمجرد قراءته لآخر مقطع من هذه القصيدة التي يقول فيه صاحبه :
.."إلى ريجا مولد الملك،
مدفن العشق باقة
من وداع مكره،
و ساقية،
من عيون النسيان " -3-
وقد جسد الفنان التشكيلي الموهوب "عزيز الكوشي" غلاف هذا الديوان بلوحة فنية لملامح صبوحة مطبقة الجفنين لعينين حالمتين لا ترمزان إلى النسيان أو التناسي -كما يتوهم صاحب الديوان- وإنما تحيلان على ما تحمله رموش عينيها المسدلة من دلالة على إعادة السفر في الماضي التاريخي والحضاري لمدينة مكناس كعاصمة إمبراطورية لاستعادة مجدها التليد. و قد أضفى الفنان مسحة فنية ذات دلالة رامزة حينما أصبغ على محيا صاحبة العينين الحالمتين اللون الأصفر الفاقع والخد الأيسر المشروخ -كتعبير عن البعد التاريخي والحقب التي توالت على الحاضرة الإسماعيلية- وهي تتوسل بحاسة سمعها لتستحضر معالم الحضارة الرومانية و أثارها الجاثمة في قلب قصر وليلي الذي لا يزال شاهدا على ما مر من الزمن الجميل الواعد الثر، وهو ما حظيت به مكناسة الزيتون عبر العصور، حيث كانت محط القوافل التجارية والرحالة القادمين إليها من كل حدب وصوب، يدل على ذلك ما رسمته ريشة "الكوشي" في الأسفل على يمين اللوحة بخطوط تجسد الرحلة و الراحلة.
القراءة التحليلية:
إن المتتبع للتجربة الشعرية لعبد الله بلعباس في ديوانه الثاني "عيون النسيان"، ليلاحظ منذ الوهلة الأولى أن أبعادها كما هو الشأن في تجربته الأولى: "الكتابة بخط البحر" تتوزع على تيمات معينة لا تخرج عن دائرة المعاني المطروقة في القصيدة العربية الاتباعية، و هذه أبرزها :
1) المجموعة الشعرية الأولى :
أ‌- الهم الذاتي الذابح :
إن ما نضده بلعباس من قصائد في هذا الجزء الأول من الديوان لا يخرج عن شرنقة الذات المحاصرة بالأشواق والتباريح التي لا تزال تجره جرا لاستحضار مجموعة من اللواتي تربعن على مهجته، وسلبن فؤاده، وتركن ندوبا عميقة في وجدانه عبر أزمنة خلت، يرتبط بعضها بسن مراهقته، والبعض الآخر متباعدا في الزمن بعد ذلك، ففي قصيدة "من نشوتك" يستعرض الشاعر عطور الشوق التي أسكرته حتى الثمالة :
"احسو
نبض من خيالي يتبختر
من دلالك عطر الشوق
لوحة أنت
فأسكر
هرقت في ذاتي
....ومن نشوتك الحرى
قهوة وعنبر" 4-
وفي قصيدة "ولك القلب" يستفيق فيه خيال من فتك بقلبه وأرداه مجروحا مكلوما مسحورا بلا إرادة منساقا إلى اجترار الأسى و الكمد:

"ما عاد يستهويني ألمي
خيالك أرقبه بانكسار
ما أكابده
...عيناك شفتاك
لك القلب و جراحه
قصيدة افتخاري
لك القلب
وبين دقات قلبي
وبين النار والنار
أحاسيس انهياري " -5-
وهي قصيدة تبرز مدى سقوط الشاعر تحت تأثير محفوظه من أشعار نزار قباني، إذ تحيل على قصيدته التي تغنى بها كاظم الساهر "إني خيرتك فاختاري بين النوم على صدري أو بين دفاتر أشعاري.
وفي قصيدة "العشق الكبير" يسترجع بلعباس أيام الصبا وحب الأمومة حينما كان يرتع في النبع الغزير يسابق لهفته حاملا أمله في العثور على عشيقته الأولى التي تأبط ذراعها وهو طفل كبير مزهوا بتحقيقه لفتح كبير:
"تأبطت عاشقتي
تأبطت عاشقتي
أنا الذي
أنا الذي طفلها الكبير
طفلها الصغير
تأبطت رفيقتي
..دخلت المكان
من سبعة أعوام
أسابق لهفتي والزمان
كتبت فيها وطياتها
والأمل الأثير
أحلى كلمات السهر، الأرق
والوجع، وأنقى جمل الغرام" -6-
إن تباريح أشواق الحب لا تزال كامنة في البقاع السفلى لذات الشاعر المكتوية بلظى الغرام المستحيل. وهذا الصنيع يتكرر في قصيدة: "فداك أنا" ص32.
كما يحضر هذا الهم الذابح في هذا الجزء الأول من الديوان بشكل لافت للانتباه، حيث تبدو الذات وهي تترنح تحت لسع سياط : الشك والحيرة والتردد والخوف والندم والمعاناة في مجموعة من قصائده كـ "قد – حق - أرضي الهتون- وما زلت أقاوم" إذ يبدو الشاعر واقعا تحت تأثير الشعور بغياب رؤيا واضحة مؤمنة بقناعات راسخة خصوصا حينما يتعلق الأمر بطرح قضايا اجتماعية وطنية أو قومية.
ففي قصيدة "قد" تجسيد لهذا الشعور بالتبرم والإحباط نتيجة لما آلت إليه أوضاع الأمة العربية التي استأسد فيها الذئاب، وضاعت فيها الكرامة والعزة والإباء، حيث يقول:
"قد تسقط الحروف
حين يستأسد الذئاب
من فم الكلمات
في الأرض الغصيبة
...قد لا يكون للإخى
ولا معتصماه
شعور
ولا صلاح
ولا للتاريخ ذكريات
يروي الغصات " -7-
إن هروب الذات الشاعرة إلى الماضي البعيد الذي تحقق فيه النصر والظفر، والاستنجاد به كمخلص لحالة إحباط الحاضر وانهزاميته والارتداد إلى زمن خلاص صلاح الدين الأيوبي الفاتح، والخليفة المعتصم الذي حقق سيادة الحكم العباسي وبسطها على كثير من المناطق والثغور، هو هروب عن اتخاذ موقف خاص يقرن الحالة بأسبابها، و تعبير صارخ عن عجز الذات التي تتوهم الحلول في استرجاع فروسية الماضي الذهبي للأمة العربية، وهذا ما يطرح أكثر من سؤال.
وفي قصيدة "حق" يسود معجم لغوي ينثر الرماد والانطفاء والذبول نتيجة رؤيا سوداوية سببها ما تئن تحته الذات من شك وحيرة وشلل لا تقوى معه على أي يرد فعل، حيث يقول :
"من حق العصافير
رعشة رطبة
الغناء على قبور الميتين
في قلوب التائبين
أن تكون نغمة ذابلة
والتائهين
في نفوس الظالمين
والغائبين
صعقة مدوية
والمغيبين " -8-
في قلوب المظلومين
كما تحضر الذات في بعدها الاجتماعي وهي محاصرة بحبائل المقهورين، ومنغمسة في أوجاع معذبي الأرض الذين يلهثون وراء كسب اللقمة المخزية، حيث يبدي الشاعر نوعا من التعاطف الوجداني البريئ الذي لا ينم عن عقيدة أو مذهب أو التزام كما هو واضح في قصيدة: "لو".
ب‌- تيمة المكان كمفجر للبوح الشعري:
وتتخذ تيمة المكان حيزا هاما على مستوى مضمون القصائد التي تؤثث فضاء الديوان وتتمحور حول عنصرين متكاملين :
- عنصر المكان التاريخي / الحضاري : حيث تحضر مدينة مكناس - سواء في الجزء الأول والجزء الثاني من الديوان - باعتبارها المرتع الذي آوى الشاعر ونهل من ينابيعه الرقراقة واستظل بأفنانه المياسة، وارتوى من حياضه الوراقة.
ففي قصيدة "كراسي الهشيم" تجسيد لما آلت إليه المدينة من وضع يرثى له، ومن جحود وتناسي لدورها التاريخي والحضاري، وما انتابها من تشويه وإهمال. إنها تصرخ مستنجدة بنفوس الضمائر الحية كي ترفق بحالها، فالجدران التي كانت حصنها المنيعة تلاشت وتصدعت، ونسيمها الفواح أضحى شبما أشبه بالكفن الذي يدثرها وهي تحتضر متأهبة للرحيل.
"تقف المدينة كلها
الوجع الأبيض تراب
على كراسي الهشيم
يشيعه سعف النخيل
فوق الحدود المنسية
والجدار تلاشى
هدهدها الصراخ ،
من سماء الممكن و المستحيل،
مزقها العويل
النسيم بارد
مشدوهة حيري،
كفن يحضن أوجاع الأنين" -9-
لا تعرف متى يأتي الرحيل
ثم ينتقل الشاعر ليرسم لها لوحة بريشة اللغة الواصفة لملامح جمال هذه المدينة وسحرها الماثل في ضيعات الزيتون التي تحفها من كل ناحية، و أشجار الرمان والليمون المورقة وهامات سعف النخيل الباسق. إنها واحة من حنان فياض غذى وجدان الشاعر وهو يترعرع و يقارع أنخابه الدافقة :
"هي الأرض
من ضيعات الزيتون
الحقيقة و العرض
من زهر الرمان
من دمعة على خدها
فاح النسيم وعطر الليمون ،
تفجر الحب فيها
من نخيلها الباسق
من رعشة في صدرها
و واحات الحنان
تسكن اللهفة فيها
تغذى الإنسان
و حديثها
روى العروق
نخبة الدافق " -10-
- عنصر المكان الطبيعي :
بالإضافة إلى المكان التاريخي / الحضاري، تحضر تيمة المكان الطبيعي باعتباره مجالا يستهوي الشاعر ويضفي عليه مسحة من جمال موظفا غرض الوصف الذي يعتبر من أعرق الأغراض الشعرية على الإطلاق يقول في قصيدة: "وردتي" :
"وردتي،
وردتي هويتي
...و يجري في دمي عشقها الأخضر
عطش الطريق يضنيها
...اخترتها شبقا مشتعلا
زاهيا كالربيع كالآمال
ينعشها، يعريها، يحييها
كالورد الأحمر
...وردتي، وطن يعشق المكان
..وردتي، لا تتألم الزمان،
كالنزيف كالريحان
..هي عصفورة
تجمع ظمأ الجوع،
وردتي كل أشيائي
أندلسية الشكل
تغرس عطرها المعنى
والأفعال
عربية البحر والشط واللون -11-
في ذاتها في البستان
يحاول بلعباس في هذه القصيدة أن يحقق مراسلات وجدانية بينه وبين الوردة الموصوفة من خلال استلهام ما من شأنه أن يحيل على ما ترمز إليه الوردة كعنصر طبيعي تجسد مجموعة من المعاني والمثل والقيم النبيلة المرتبطة بالحب والجمال والحرية والهوية الخ...
كما تحضر أمكنة أثيرة لدى الشاعر في المجموعة الشعرية الثانية وقع تحت تأثير ما تزخر به من جمال طبيعي، حيث يطغى أسلوب الوصف المباشر القائم على الصور التشبيهية البسيطة كما هو واضح في القصائد : "بخط الشلال" و"الشاون" و"لوحات من ربوع الجنوب" و "غوايات افران" .

 

2) المجموعة الشعرية الثانية :
أ‌- الذات التائهة / الحائرة / التائبة :
إن ما يثير المتلقي في هذا الجزء من الديوان هو نوع من التأمل الذاتي الذي حاول فيه صاحبه أن يسبر أغوار ذاته نتيجة اختمار تجربته التي قادته إلى متاهات لم يجد من يحرره منها سوى هذا الشعور بالندم، والحسرة على ما اقترفته هذه الذات من زلات وذنوب لم يعد الشاعر قادرا على الاستمرار فيها، ولذلك فهو يعلن توبته وتوسله لخالقه كي يصفح له ما تقدم من ذنبه ونزقه.
ففي قصيدة : "ملل" يدشن بلعباس دخوله الصاغر للكهف أسراره ليعيد طرح السؤال الجوهري عن معنى الوجود وغايته، فلا يجد من جواب سوى في حبائل الشك والحيرة والغموض، وهذا ما يكبله بالإحساس بالملل والرتابة والضيق نتيجة تكرار أفعاله التي لا يرى لها جدوى، ومن ثم يتوجه بخطابه إلى المخلص من هذا العذاب، إنها مخاطبته التي يتوسل إليها كي ترفأ بحاله وتدله على مسالك اليقين لأنه غارق في الشك والتيه والحيرة:
"لماذا لا تمسحين مللي؟
"يا واحة عمري
مللت من مللي
وبستان أقداري ،
ومل مني مللي
دليني على كتاب بلا حرف
وعييت من فعل أفعالي
يمزق ضيق اصطباري
وضاق بي صمتي وأقوالي
وعزفا بلا عود
أتيه في متاهات أنهاري
يوزع لحن أوتاري" -12-
ثم ينتقل في قصيدة : "ندم" إلى إعلان عجزه عبر إشهار ندمه وتوبته، وضعف قناعات التي مارس بها حياته الماضية، فيرتد إلى استحضار نموذج الزهديات في الشعر العربي العباسي كقالب يصب فيه ما يستشعره من ندم وأسف، على أفعاله الماضية.
"نادم يا إلهي أنا نادم
من فعال لنفس قد غوت
أين مني حياة قد قضت
في هواها ليتها ما هوت
وانتهاء في فراغ قد سرى
بين لهو وانتشاءات مضت
لست أدري كيف أقضي ما بقي
من حياتي في حماقات جرت"-13-
فحياته الماضية لم تعد في نظره سوى أفعال نفس غاوية، وحماقات خاوية وعبث ولهو لم يجن منه سوى اللوم والندم، ولذلك فهو يعترف في قرارة نفسه أنه كان مخطئا، وهذا ما يدفعه في آخر القصيدة إلى التوسل إلى خالقه بعيون دامعة وقلب خافق كي يغفر له ما اقترفته ذاته من ذنوب وآثام وغوايات :
إنني كلما مرت بي ساعــــة
تبت المولى، و عيني بكـــت
اعترافي بذنوبي بات يدمـي
صلد صخر، و نفس قد قست
ليتني ما كنت ذاتـي لا و لا
نفسي لآثامها قد جنـــــــــــت
ليتني ما غفلت ولا زاغ بي
زائغ حتى أرى نفسي غوت"-14-
يبدو من خلال هذه القصيدة أن الشاعر رفع راية استسلامه معلنا ندمه وتوبته، و إقراره بسوء أفعاله، متوجها إلى خالقه بالتوسل و الابتهال و التعبير عن حبه الإلهي والتماس حلمه و مغفرته.
ومن أجل تطهير ذاته من المعاصي، وتحصينها من الزيغ و النزوات، يعلن استعداده لحج بيت الله الحرام والطواف حول الكعبة والارتواء من بئر زمزم راجيا شفاعة سيد الخلق.
"بقلب خشوع و دمع جسوم
أحج أطوف طواف القدوم
ففي بيت ربي الغفور الرحيم
سأدعو الهي ليغفر إثمي
....و إني ليعرو فؤادي غرام
إلى بئر زمزم عساني أروى
بماء صفاء غزير العطايا
زلال فرات به قد أداوى
أيا سيد العالمين شفاعه
تطهر بها مهجتي باستجابه"-15-
إن التماس الشاعر لطريق خلاصه لا يمكنه أن يتحقق -في نظره- إلا عبر المخلص الديني، ومن ثم وجد ضالته في إعادة صياغة نموذج الزهديات في الشعر العربي القديم، معنى ومبنى، ولذلك انتفت خصوصية الذات الشاعرة التي اكتفت بتكرار المعجم الشعري المرتبط بهذا العرض (فالقلب خشوع مليء بالحنين والشوق لبيت الله الحرام ، طامع في شفاعة سيد العالمين على ما اقترفته الذات من ذنوب عظام نتيجة غواية الشيطان الرجيم ...).
أما ما تبقى من قصائد هذه المجموعة الشعرية، فقد جاءت في أغراض تقليدية كالوصف والرثاء والمدح.
ب‌- تيمة الرثاء :
يشكل الغياب بؤرة أخرى للذات الشاعرة التي تنفجر أسى وكمدا على ذكريات من مر إلى الضفة الأخرى من الأحباب والأهل والأصدقاء والخلان تاركين الشاعر للواعج المشاعر الحزينة على هذا الفقد الذي يؤلب عليه الحزن الداخلي والكآبة الطافحة .
و قد خصص بلعباس لذكرى رحيل ياسر عرفات قصيدة بعنوان "إلى روح عرفات" حيث يشبه شموخه بشموخ الجبال وإصراره على الكفاح والتحرير برسوخ شجرة الزيتون وسعف النخيل وأحجار السجيل، ويناديه بسيد النضال العسير والحصار المرير من أجل التحرير:
" وتبقى الجبال شامخة ،
يا سيد النضال العسيروالحصار المرير ،
...زرعت الفكرة في شجر الزيتون ،
من أجل الصلاة ،
في سعف النخيل
يا أب الزهو
غرست الغضب
والكفاح،
عتقا و أحجارا من سجيل
العناد الأصيل". -16-
كما خص أستاذه الذي دله على مسالك الحبو تحت أفياء دوحة الشعر "بنسالم الدمناتي" مؤسس القصيدة المغربية الحديثة بقصيدة : "إلى روح بنسالم الدمناتي" حيث يقول فيها:
"بلا عيون بلا سهاد
و لون للريحان .
يمحو وجع السنين ،
بما تبقى منك فينا ،
من صفحة الكلام
ومن جرسك الرنان .
وا سيدي ،
يده الممدودة للشعر الخالد
هي ذي أزهارك تعطرنا
تقرأه فراشات السماء
بما زرعت في البستان
تدعو لك أن تحيى فينا وتبقى
من رحيق للشعر
ما اخضوضر الإلهام، وأزهر الغناء.-17-
وخص "نبيلة" التي ترك رحيلها وهي في ريعان تفتقها جرحا عميقا وألما لا يزال يراود الشاعر كلما توغل في استجلاء ملامحها البريئة.
وتبقى قصيدة "عيون النسيان" هي الضوء الذي أنار ما يضمه هذا الجزء الثاني من قصائد، إنها قصيدة محبوبة فنيا تنم على أن المحفز على القول الشعري، والدافع لشرارة البوح حينما يتم التقاطه بوضوح وصدق، قادر على الرفع من مستوى التعبير الشعري شكلا وموضوعا، مبنى ومعنى.
أما على المستوى الفني وطرائق التعبير التي تهيمن على المتن الشعري لديوان "عيون النسيان" فالملاحظة العامة التي تسترعي انتباه المتلقي هي أن الشاعر لم يستطع التخلص من التأثير الواضح الذي لا تزال تمارسه القصيدة العمودية التقليدية بأغراضها الشعرية ومعجمها اللغوي وصورها التشبيهية البسيطة، إذ لا يخلو البوح الشعري لبلعباس عن قوالب الأغراض المطروقة منذ العصر الجاهلي ، كالاعتزاز بالنفس والافتخار بها والرثاء والوصف والغزل، بالإضافة إلى غرض الزهريات الذي ظهر في العصر العباسي. كما أنه لم يتحرر من اللغة النمطية المرتبطة بالعصور الأدبية التي خلت دون القدرة على صهرها في الواقع الاجتماعي المحيط به زمانيا ومكانيا. وهذه سمة كانت طاغية على تجربته السابقة لم يستطع لها ردا في تجربته الجديدة. وهذا ما يبرز مدى قوة التأثير الذي لا تزال القصيدة العمودية تمارسه على قريحة الشاعر، وكذا إيمانه الراسخ بأنها قابلة لكي تكون أداة تعبير بامتياز في العصر الراهن، وهو ما جعله حبيس هذا التصور القائم على نظرية المحاكاة باعتبارها مصدر إلهام الشاعر و مفجرة لبوحه الشعري.
ويبدو لي أن ارتباط "بلعباس" بالقصيدة التقليدية هو قدره الذي لم يستطع منه فكاكا نظرا لحضور ثقل محفوظه من هذا الشعر كما هو واضح في مجموعة كبيرة من القصائد كقصيدة: "جرول" في المجموعة الشعرية الأولى على سبيل المثال- التي يستحضر فيها شخصية "الحطيئة " وينسج نصا يستوحي فيه قصيدته المشهورة التي يقول فيها :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فأنت الطاعم الكاسي،
ويحاوره بقوله:
"أتذكر الهمز و اللمز
على من لا يرد على السؤال،
والجرح يخرج من فم الحرف
لا يطعم الملح، لا يحسن الصفح،
القاسى
لا يمد النوال " -18-
و قصائد: " ندم - كي أراه - والطريق إلى مكة" في المجموعة الشعرية الثانية.
إن روح القصيدة العمودية إذن، لا تزال تمتلك الشاعر بمعانيها ومبانيها، والنتيجة هي أن تعبيره الفني لا يجد مسالك قادرة على إيصال ما يحمله من مضامين حتى وإن بدا أن صاحبها مقتنع بان اللجوء إلى قالب السطر الشعري قد يلحقه بالمنتسبين إلى الشعر الحر الحديث، والمفارقة سقوطه في القصيدة الواصفة / المادحة / الراثية المتشببة / الزاهدة المعتدة بالنفس ذات القيم والأصول النبيلة. إنها الأغراض المستنفذة في منظومة الأخلاق العربية البدوية منذ العصر الجاهلي.
وهذا ما يطرح مجموعة من التساؤلات أود تذكير الشاعر بها في ختام هذه القراءة التحليلية للديوان علها تكون حافزا يدفعه إلى تلمس الطرق والسبل الكفيلة بانتقاله في المستقبل إلى توظيفها حتى ترقى تجربته الشعرية إلى مستوى أعلى وتندرج بحق في حركة الحداثة الشعرية الراهنة، ويمكن إجمال هذه التساؤلات فيما يلي:
- أين هي خصوصية الذات الشاعرة في كل هذه القصائد التي يضمها ديوان"واحة النسيان" !؟
- ما الغاية من إعادة تمثل روح القصيدة العربية العمودية شكلا ومضمونا ولماذا !؟
- ما سرّ غياب رؤيا قادرة على التعبير عن وظيفة ما وجب أن يضطلع بها المبدع في زمانه !؟
- ما الهدف أصلا من الكتابة الإبداعية إن جاءت حبيسة التصور الكلاسيكي الذي استنفذ كلّ وظائفه !؟
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.