قراءة جمالية في المجموعة القصصية "امرأة وحقيبة" للكاتبة إحسان شرعي - عبد المطلب عبد الهادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"امرأة وحقيبة"، أولى خطوات الكاتبة "إحسان شرعي" في مجال التأليف والنشر، وهي خطوة نرجو أن تتبعها خطوات أخرى ستكون، لا محالة، إضافة لهذا الجنس الأدبي المنفلت والمستعصي على القبض، كما نرجو خلال سفرها بين الأحداث والفضاءات والتفاصيل والشخوص، أن تفتح للكتابة عمقا ينضاف إلى الموجود، مُضيفا له، لأننا نعتقد أن الكم يفتح، مستقبلا، الباب للنقد والاختيار وتثْبيت الكَيْف، بل تطويره، وإعطائه آليات الثورة على المَمْجوج والمُبتذل والبئيس الذي يقف بالقارئ حيث هو ولا يُضيف إليه.
"امرأة وحقيبة"، مجموعة قصصية، جمعت بين دفتيها الحب والحلم والبوح واليوميات والانعتاق وأشياء خاص... بتناول جميل أولا، ثم جِرّيء يتجاسر على الذات والواقع والمسكوت عنه.
"امرأة وحقيبة"، بداية السفر نحو ألق الكلمة وسرّها، وخوض مجاهل الكتابة ومساربها، والسير بها مقتحمة فضاءات الحكايات معانقة شخوصها التي تؤثثها، ومُنْصهرةً في تفاصيلها التي تنسج وترتّقُ معالمها بحكمة وذكاء لتصل إلى المُبتغى والمُرام .
"امرأة وحقيبة"، عتبة توحي أول ما توحي به للقارئ، بأُفق منفتح على السفر، على المجهول. عتبة مركبة من شقّيْن، "امرأة" و"حقيبة"، لماذا امرأة وليس رجلا؟

ألأنّ الكاتبة/الساردة أنثى؟ أو لأن المرأة/الأنثى في عمقها تعشق الترحال والسفر؟ أو لأن المرأة/الأنثى، تهيم بخيالها مسافرة وسابحة في عوالمها الخاصة، تفتح حلما وتغلق آخر لتفتح جديداً؟ أو لأن الأمر ببساطة بطاقة سفر أنثوي ـ بالمعنى الإيجابي للكلمة ـ في عوالم الحكي تضفر الساردة أسرار الكلام لتنسج حكايات/قصص تلتقي عند إشارة واحدة تكاد تطبع نصوص المجموعة، وهي الأنثى التي تحكي وتسرد وقائع وأحداث فيها من الجُرأة وتحدّي الذات، بل في بعضها تحدي الرجل والوقوف أمامه مواجِهةً او عشيقة أو شاهدة، تدفع بذاتها إلى أقصى الحدود لتقف بين الحب والكراهية، والمواجهة والتراجع، والحلم واليقظة، وبين الواقع والخيال، ترتِّق صورا تتراقص منتشية بالحكي كما شهرزاد، يشدُك سردها متنقلا من حكاية إلى أخرى، ليُرغمك على طرح السؤال، لأن كل نص في المجموعة يحمل أكثر من سؤال.

أما "الحقيبة"، باعتبارها الشق الثاني المكون لعتبة النص، فهي الأخرى حمّالة معان ومفاهيم، فهي الحاملة لأغراض السفر، والحاملة ـ مجازا ـ لهموم الإنسان، كما أن صورة الكتاب إيحاء يفضح العنوان/العتبة، حيث المرأة/الأنثى جالسة تنظر إلى البحر، الذي يوحي بأكثر من معنى، فإليه يبوح العاشقون بلوعاتهم وشكواهم، مسافرون بين الألم والحب، إلى مداه المفتوح على المجهول، حلما بالسفر عبره بحثا عن المُتعة، أو الرزق، أو موتا على متن قوارب الانتحار المُعلن.

على امتداد نصوص المجموعة القصصية، يعيش القارئ لحظات بوحٍ تجمع بين متناقضات تتعدد بين اللذيذ والمؤلم، بين الصادق الزائف، بين الحقيقي والمُتخَيّل، يحس خلاله أن الساردة، حين تحكي الوقائع والأحداث تُشعرك أنها المعنية بها أو أن القارئ جزء من الحكي ومساره، كما جاء في المقدمة، "مهما كانت القصص ممتعة ومشوقة وغريبة وغير قابلة للتصديق أحيانا، إلا أن قصصنا الشخصية تبقى أكثر غرابة" [1] بحيث تدفع بالقارئ إلى أن يكون واحدا من نسيج الحكايات فينظر أين هو منها أو يحكي حكايته بطريقته، "... وأن تحكي الحكاية مثلما عشتها بألوانها وروائحها وأحاسيسها، لولا أن بعض الأحاسيس لا توصف: فقط تحاكي من بعيد لبعيد، كمن ينظر إلى سطح الأرض فوق جناح طائرة من ورق"[2]. وهذا ما يضفي على النصوص نكهة الواقعية التي تأخذ من الخيال ما يجعله واقعا متخيلا تجعل الحكي مطية لنسج أحداث تتشابك لتنفك أواصرها تاركة لذة للقارئ، يفتح انطلاقا من نهايتها نصوصا أخرى تتواشج وتتضافر لتجعل الخيال يرتق الواقع جاعلا منه مسارات تشدّ القارئ إليها، بل تجعله يعيشها حد التماهي مع شخوصها الذين قد نعرف بعضهم، بل نلتقي بهم، ويستمر الحكي معهم.

الحكي في "امرأة وحقيبة"، ألوان  وروائح وأحاسيس وخوضٌ في المسكوت عنه بكل جرأة وبدون مركب نقص أو خوف، لأن صهوة الحكي حين ركبتها الأنثى، ساردة، انطلقت بنا تخوض عوالم المستور والمفضوح والرّاكن في ظلمة الاحتشام، والبعيد والقريب، والخاص والعام، كما تتنقل بين الفضاءات المتعددة، والشخوص التي في بعض الأحيان تتشابه، والأحداث التي تنسج خيط الترابط بينها تجمع بدايتها بمنتهاها، تبوح بدون تردد، تحلم، تسعى من الانعتاق وتحقيق الذات، إلى تقديم النصح عبر سرد ما يقع، أو المعيوش الذي يلتصق بالذات ولا يكاد ينفلت عنها.

تنوع النصوص هذا، طبعها بالتشويق والإمتاع والغرابة أحيانا، وغير قابلة للتصديق احايين أخرى، لكنها تنطبع بالسلاسة والهدوء والسير على خط مستقيم نحو النهايات المفتوحة للقارئ ليفتح له نصوصا أخرى تنفتح على فضاءات جديدة وأحداث أخرى، كما أن الكتابة في هذه المجموعة تنهل من المسرح كواجهة لتأكيد الأحداث وتطويرها، وخلق أفق يتساوق فيه البناء القصصي والمسرحي عبر الحوارات والصراع، وكذا الإرشادات المسرحية الموضوعة بين قوسين، وهذا دليل على ما قلناه سابقا أن القارئ عنصر مهم في نصوص المجموعة، وذلك حين تبدأ نصوصه عند نهاية نصوص المجموعة أو يخوض غمارها قارئا فاعلا، يظهر ذلك جليا في نص "شاي المساء"، "الحكاية الملعونة"، "فان كوخ يتعرض للتحرش"[3] وغيرها، وهذا في حد ذاته انصهار جميل وذكي لتأكيد وتجسيد الحالة الدرامية داخل القصة، وعلاقة شراكة وإثراء ويوحِّد ويقَرِّب المسافة بين الجنسين القصصي والمسرحي، لأنهما يملكان ملامح مشتركة لتوصيل الرسائل الإنسانية بشكل سلس.

على سبيل الختم..

ستّة وعشرون نصا تسبح بين دفتي المجموعة القصصية "امرأة وحقيبة"، تسافر بالقارئ، بدون حقيبة، زاده الخيال، والمشاركة الإيجابية في إعادة إنتاج النصوص والمساهمة في كتابة نصوص أخرى تنصهر فيها ذاته، وتنسجم مع رُؤاه، وتدفع به إلى طرح سؤال/أسئلة الكتابة النسائية الجريئة والقادرة على خلق تشويش في السائد والمعروف، وتجاوز الذات إلى الفضاءات الرحبة للكتابة والمغامرة والبوح..

 

[1] إحسان شرعي . امرأة وحقيبة . ص 4

[2] نفس المرجع. ص 5

[3] عناوين نصوص من المجموعة