وأنت تنخل الذكريات بحثا عما ينسج في الخيال سردية عابرة، تنط الأمكنة واحدا تلو الآخر لتغريك باتخاذها ثوبا مستعارا لما سيخطه القلم من بوح أو وشاية ! تلح على الشخوص و الأحداث ليمهروا حضورها الداكن. ليس المكان فضاء فحسب، وإنما هي روح موزعة في الطرقات، تستحث رغبتك المشتعلة للكتابة !
يكرر س.ع ممشاه المتعثر كل يوم بين المزبلة و الحوانيت المرصوصة. هطول مطر غزير ليلة أمس حول الزقاق الذي يسلكه إلى بِركة من الوحل القذر. تبا لهذه الحصة الصباحية التي تقض مضجعه في ليالي الشتاء الباردة. مرأى الصغار وهم يرتجفون كالفراخ المبلولة يجدد حنقه على من يفرض، هناك في العاصمة، قالبا واحدا للتعليم في جغرافيا متباينة ومناخ متقلب !
أمهات يتثاءبن أمام البوابة في انتظار جرس يُقرع، ليحتمي صغارهن بالسقوف المتآكلة. يرتفع دخان المدفئة مبددا سورة قلقه اليومي من ألم الظهر حين ينتابه كل صباح. إساكن رحلة من الصقيع اليومي الذي يكنس الغرباء طوعا وكرها، فرحمة الله هنا ليست إلا قليلا من النار و الانتظار !
ألقى بحركة معهودة معطفه على الكرسي ثم شرع يدون تاريخ اليوم، وعمليات حسابية تشحذ همم الصغار. تعوي الريح في الخارج فتهتز نوافذ الحجرة المتراخية. تزيغ الأعين يمنة ويسرة توجسا من زخة عاصفية تقطع سبيل العودة إلى المداشر .يرن الهاتف فيتردد في الفصل وعد فيروز بالرجوع إلى حيفا. تتعالى ضحكات بريئة ثم سؤال موجع :
" سّاد..شنو هي حيفا ؟"
أقفل الهاتف وأعاده إلى جيب معطفه. تكرر السؤال بصيغة ماكرة .كيف يلملم جرحا عصيا في بضع كلمات ليلقي بها في هذا الجو البارد ؟
- لا شأن لك بذلك ! حيفا هي حيفا.. مدينة، امرأة، وجع، لا يهم !
تسلل خيط شعاع ليلامس المكتب فانفرجت أساريره. إساكن تراوغ دفء الشمس حتى يضجر خلانها، أما أشجار الأرز المنتصبة كحرس ثوري فتحجب عن الأنظار فسحة الأمل. دق جرس الخروج فانتفض الصغار كالفراخ المذعورة في عشها. صوت الأرملة المعهود يقرع طبلة أذنه للمرة العاشرة كي تسوق ذريعة أخرى لغياب صغيرها:
" بالأمس سخر منه رفاقه وأوقعوه في الوحل وسرقوا سندويشه. إنه جيل تالف لا ينفع معه إلا المخزن. أبوه سجين وأخته طريحة الفراش. أنتم المعلمين كان الله في عونكم مع البز. صداع وتمارة.. فين مشا المدير ؟ "
يأخذ الحديث مجرى الاستنطاق و التوغل في الزوايا المعتمة من الذات. لا شيء يثير أعصابه غير حرص الآخر على النفاذ إلى ما لا يعنيه.
ألقى المحفظة عل طاولة المقهى وتسمر أمام التلفاز مترقبا نشرة الأحوال الجوية. دخان الحشيش المتصاعد يُشعره بخدر لذيذ. "أطفئ سراج عقلك واتبعني" يقول كُتاب الأناجيل في بثهم لملحمة الصلب و الفداء .كذلك يفعل هذا اللعين بمريديه من الوافدين الجدد. يسحبهم واحدا تلو الآخر إلى غيهب الآمال الكاذبة. سيكون كل شيء على ما يرام إذا أرخيت العنان لهمومك اليومية واكتفيت بالشرود. تمنحك إساكن نصيبك من الذهب و التعب، لكنها لا تأذن لبعضهم بالانصراف حتى يكنسوا ماضيهم من المخاوف. الحشيش توق إلى مسارب أخرى لهدأة النفس واحتمال الألم ..ألم العيش بلا سبق إصرار أو ترصد !
تعالت الهتافات في الخارج فألقى نظرة من النافذة المجاورة. إنهم صغار الأمس يعلنون شغب الفتوة و انطلاقها. كل هذا البرد و الضجر اليومي لم يُثنهم عن قلب الطاولة. أهو مخاض جديد أم هبة طيش سرعان ما تفتر ؟ رن الهاتف مُجددا حلم العودة إلى حيفا. ابتسم وهو يقفل الهاتف كأنما وقع التشابه نكأ الجرح القديم :
ترى، هل تعود إساكن إلى حظيرة الوطن ؟