لم تكن كعادتها تتصفح الكتب وتبحث عن ملخص لها أو ملاحظات حول أفكارها في أوراقي المبعثرة هنا وهناك. أحيانا كثيرة كانت تسألني بإلحاح عن كل أمر يثير فضولها أو تناقض بدا لها بين ثنايا الحروف أو فكرة قرأتها ولم تقتنع بها. تارة تجادلني في أمور الثقافة والفكر، وتارة أخرى تناقشني في الدين والسياسة وأشياء عديدة.
راعني منظرها وهي منزوية فوق كنبة أمام التلفاز، تتفحص دفاترها بازدراء واحتقار وتقذف بكتاب رمادي اللون في كل اتجاه ثم تلتقطه من جديد كأم تعاتب ولدها عن شيء مشين قام به، ثم تتأمل بعنين متعبتين الغرفة كمن يراها أول مرة. لم آلف رؤيتها حزينة وكئيبة كما هي الأن، أشرت لها أن تقترب مني فأوحت لي بحركة سريعة من رأسها أن لا رغبة لها في ذلك.
وضعت قلمي ودفتر ملاحظاتي فوق الطاولة وجلست بجانبها برفق وحذر، ثم أنشأت أروي على مسامعها مواضع تحب سماعها وتبتهج لذكرها. بعد جهد وصبر انتزعت منها ابتسامة يتيمة والتقطت اشارات متناثرة حول حكايتها وسبب حزنها، كان الأمر على الأرجح يتعلق بامتحان مادة التاريخ. سردت عليها قصص أشخاص تعثروا مررا في حياتهم ولم يستسلموا حتى أصبحوا من بين المشاهير ولم تشر لهم مقرراتهم الدراسية. قاطعتني كعادتها باستعجال، ربما ورثت هذه الخصلة عنك: "مثل هذا الذي تردده وما قرأته في تلك الكتب التي ابتليتني بها هو الذي أفسد إجاباتي و...".
ربتت على كتفها بحنان وسألتها عما كتبت في ورقة الامتحان، قالت لي بعنفوان الشباب:
"عن الاستقلال، كتبت لم نستقل بعد..، وعن تاريخ البلاد، كتبت لم يكتب بعد.. ، وعن الازدهار، كتبت لم يحدث بعد.."
ثم تابعت تحدثني عن التعليلات التي صاغتها والمراجع التي اعتمدتها وكان معظمها من مكتبة المنزل. لم تكد تنهي كلماتها حتى أجهشت بالبكاء وهي تغمغم بكلمات يختلط فيها الدمع مع نبرة الحسرة والاستغراب: " تذمر الأستاذ من معلوماتي وحذرني من إفساد التلاميذ إن نشرتها بينهم وأنه سيتخذ في حقي إجراءات قاسية إن لم أنته...". احتضنتها برأفة وهدأت من روعها قليلا قبل أن تهاجمني زوجتي من المطبخ وتعاتبني بشدة: "لقد قلت لك كتبك التي تقدسها ستفسد مستقبل الأبناء...".
بدأت الأرض تموج من تحت قدمي وأحسست برعاش يجتاح جسمي وعرق وفير يتصبب من أطرافي وكآبة تحرق ما تبقى من أمالي. امتزجت في دواخلي مشاعر متباعدة لا رابط بينها وتساؤلات متضادة، حسبتني تخلصت منها فها هي الأن تعاود ممارسة هوايتها المفضلة في زعزعة كياني وقناعاتي التي لاتزال تتأرجح بين الماضي والحاضر في تناقض بين المَآل والمأمول. تناقض ظل ينخر عقلي وجسمي لسنوات وها هو الأن ينتقل كداء عضال إلى فلدة كبدي ويفسد كل شيء جميل في حياتها. اطرقت رأسي وسرحت في تفكير عميق: "لقد أخطأت في المكان والزمان".
توجهت إلى المكتبة ونظرت بحسرة إلى كتب نادرة جلبتها ومجلات وصحف تضم أرفع المقالات وأشياء أخرى عانيت كثيرا لضمها. هممت بحرقها في فناء المنزل فانتنابني شعور مضمر بداخلي لا أعلم ماهيته ومنتهاه، تريث ثم رتبتها في صناديق ورقية أغلقتها بإحكام وكتبت فوقها بخط أحمر عريض: "كتب مُفسدة فاحذروها".