سيدة الرواق – د. الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

شعرها مشدود إلى الوراء على شكل ذيل حصان يتدلى كشلال ماء بلونه الخرنوبي الجميل، تبعثر ما تناثر منه فوق عنقها وكتفيها. كانت بين الفينة والأخرى تخلل أصابعها في خصلاته لتعيده إلى الوراء، فيرتمي فوق كتفيها.
تذرع رواق المحكمة بتصميم عجيب، في يدها اليمنى حقيبة جلدية سوداء منسجمة مع لونيْ تنورتها القصيرة وحذائها ذي الكعب الرقيق العالي. وباليد اليسرى أمسكت ملفا كرتونيا ضاجا بالوثائق والمستندات والشهادات وتقارير الخبراء والفنيين.
تمشي محدثة ضجة بدقات حذائها ذي الكعب الحاد، الدقات الموقّعة تلفت أنظار العابرين إليها. تتجه نحو مكتب معلوم دأبت التردد عليه منذ اتخذت قرارها بأن تسترد ما يحاول الآخرون اغتصابه منها. عرفت التفاصيل المؤدية إلى ذلك المكتب، وتدربت على مسك مقبض الباب النحاسي اللماع. صارت تدخل دون استئذان. كانت في البداية تطرق على الخشب الأبنوسي ثلاث طرقات موقعة. تنتظر كلمة "تفضل" لتعبر الباب بكامل أناقتها وتغمر المكان بضجيج عطرها وأنوثتها التي لم تقدر الهزات على محو آثارها.
تمشي وفي رأسها أتون يتأجج وبركان من الغضب ما زالت حممه تتآكل في جوفه باحثة عن فتحة مؤدية إلى الفوهة لتنفلت الحمم من الجوف فتلتهم كل ما يقع في طريقها. هي تدرك أنه إن انفتحت الفوهة واندفعت الحمم فإنها ستلتهم كل ما يعترضها. في جوفها وبين جنبيها تستعر مساحة ممتدة من الحقد والنقمة والكراهية. صار كل شيء أمامها عابسا بلون الحزن المكدس على قلبها.
زارت مكاتب كثيرة لخبراء محلفين وغير محلفين، ومنحوها شهائد وتقارير. وأضافت إلى كل شهادة شهادة تؤكد صحتها ومختومة وموقعة. بعض التقارير يقسم أصحابها ويوقعون أن تلك الوثائق لا لوثة فيها ولا تدليس.

تمشي واثقة الخطوات، تتفحص تفاصيل المكان، المقاعد الخشبية المحاذية للجدران باهتة اللون، النوافذ المتجاورة على امتداد الرواق تآكلت بعض أطرافها، الوجوه الذاهبة والآيبة بألوانها الكالحة وتكشيراتها الحادة المخيفة تسير في اتجاهات مختلفة.
منذورة للخوف هي، حمَّلوها ما لا طاقة لها به. عندما تقهقر الجميع تقدمت هي. في لحظة مجنونة هبت ريح سكرى دفعتها لتجد نفسها في الصف الأمامي وحيدة. عندما أمسكت القلم وهمّت بالتوقيع انبثق صوت صارخ من أعماقها يسألها محذِّرا "لماذا رميتِ نفسك في هذا الأتون المتأجج الذي لن تخبو نيرانه حتى تلتهمكِ"؟ لكنها تماسكت، أو تظاهرت بأنها قوية ومتماسكة. فات أوان التراجع أو التقهقر. لم تكن يوما مترددة أو جبانة أو رعديدة. كانت جسورة ولم تكن يوما متهورة. عشقت التحدي والتجديف ضد التيار وركوب الأخطار.
تمشي وأصابعها تضغط على حزمة الأوراق. تشعر بلهيب الوثائق يكاد يحرق يسراها. يشتد السعير بين جنبيها كأن ريحا تنفخ على اللهب فيتطاير في كل اتجاه. يتسلل لهيب روحها إلى الأوراق فتكاد تحس باللهب يلتهم أناملها اللدنة.
حياتها بعده صارت هشيما ينتظر هبوب الرياح لتذروه. إيمانها بذاتها ثابت لا يتزعزع، يكاد يفوق إيمانها بالقضاء والقدر. هي من تصنع أوجاعها وأفراحها. وهي من تخط سطور حياتها.
بعد موته أغلقت كل المسالك المؤدية إلى جسدها، وحرّمت عليه اللذائذ والمتع. حدقت بعيدا وظلت تنظر إلى الأمام، لم تلتفت إلى الوراء أبدا. لم تذرف عليه دمعا ولم تَعِش على ذكراه. لم تزر قبره حتى لا تظل أسرية ماضيها معه. تخاف من أسر رِبْقة الماضي لمعصميها.
استحلفت أخاها ألاّ يضع على قبره شاهدة تدل العابرين عليه، وأكدت عليه ألاّ يكتب فوق ضريحه ما ينبئ عنه حتى تيأس من الخيط الذي سيقودها إليه إذا هزها الحنين لزيارته يوما. لم تترك أخاها حتى أقسم أمامها، وأبر بقسمه، فكان القبر كومة من تراب بلا شاهدة.
أحرقت كل بقاياه، ملابسه، أحذيته، وثائقه الرسمية، ألبوم الصور الذي ضم بين دفتيه ذكرياتهما، حتى المصحف، الذي كان يلجأ إليه عندما تضيق أمامه الدنيا على رحابتها، أتلفته. كوّمت ذكراه في زاوية وصبّت فوقها البنزين وأعملت فيها عود ثقاب. النار تكتم الأسرار. وعندما صار كل شيء رمادا جمعته في علبة قصدير وطمرتها خارج سور المنزل.
تسير ميممة وجهها شطر الباب الذي دأبت على عبوره لتجد وراء المكتب من ينتظرها، يهب من كرسيه الدوار ليرحب بها ويسألها عن أحوالها، فتشكو له دون أن تذرف دمعا. تريد أن تبدو صلبة، لكن ندوب روحها تكشف حجم العذاب الذي تكابده. لا تريد أن تبكي أمامه حتى لا تثير شفقته عليها. لا تريد أن تكون دموعها جسرا يعبر به الطفيليون إلى كوامن روحها. لا تريد أن يرى العابرون أحزانها منثورة على خديها.
تركت ابنها وحيدا في البيت يحرسه ويحميه. موقنة أنه سيتصدى لكل من تسول له نفسه الدنو منه. أوصدت عليه الأبواب بكل ما تملك من مفاتيح، وحصنته بما حفظت من آيات ودعوات. وأوصته وأكدت عليه. هي لا تهاب أحدا، خوفها من أعمام ابنها الذين ظلوا يتحينون الفرص لإخراجها وابنها من المسكن بعد رحيل زوجها، وإن تنسى من الأحداث فلن تنسى يوم جاؤوها بوثائق مزورة، لا يعلم كم أنفقوا لاستخراجها إلا الله وحده، وقالوا إنها تثبت حقهم في المسكن الذي أشرفت بنفسها على بنائه وتشييده وأفنت شطرا من شبابها فيه. يشهد كل حجر وكل حبة رمل أنها لامست يديها. لم تكن تحفل ببطنها المكور بابنها ولا بأصابعها الطرية الغضة. اخشوشنت. كانت تبحث عن مستقر لها تحمي فيه جسدها من غول البرد الذي نهش عظامها، ووحشة العراء التي جعلتها فرجة لأعين العابرين، تريد أت تنجو من الانتقال الدائم من مسكن إلى مسكن.
توفي زوجها يوم دخولهما البناء الجديد. يوم وليلة لزم الفراش ثم اختار الترجل. هكذا هي الحياة، تمنحك السعادة في كف، وتهبك في الكف الأخرى كومة جمر أو جرعة سم. تاهت المسكينة بين فرحتها وحزنها. ظلت تتأرجح بين نار ونار، لكنها صبرت وبكت في صمت.
في الرواق الطويل الممتد وجوه كثيرة، ضجيج وحركة، صخب وضوضاء، غضب وانفعال، هدوء واضطراب، تكشيرة وابتسامة، أعصاب مشدودة وجيوب تدخل المكاتب ضاجة بالأوراق النقدية وتغادرها خاوية. وخلف الأبواب الموصدة عقود تُحرَّرُ وشهادات تُمنَحُ وتُسجَّل. وثائق تسحب، وملفات تُطمر وتختفي وأخرى تُبعث فيها الروح من جديد وتولد. وعلى قدر السخاء تكون المكافأة. ادفع تنل، ادفع أكثر تنل أكثر، ادفع كثيرا يكن العطاء بلا حدود.
مسكينة هي لم تتدرب على العطاء رغم سخائها، بل لم تُجِدْ العثور على معالم السبيل التي تقودها إلى جيوب أرباب المكاتب الفاخرة. صاحب هذا المكتب الذي مرت أمامه الآن ولم تطرق بابه تعاطف معها عندما زارته أول مرة. طمأنها فباحت له بأسرارها أثناء الزيارة الثانية. تقدم خطوة إلى الأمام وتجاسر، جذبه الطمع إليها. ضحك لها وهو يقلب كومة الأوراق أمامه فوق المكتب باحثا عن ثمن ابتسامته. هي تعلم أن توقيعه سيفتح أمامها الباب لتخطو خطوتها التالية. وتدرك جيدا أنها لا تستطيع عبور الوادي وحيدة. لا بد لها من حبل تشده حتى تنجو. وكان هذا الجاثم وراء المكتب حبلها الذي خالته متينا، لكنها لم تنتبه للتلف الذي أصابه من كثرة الحز على الحافات الحادة. حاولت أن تعيد فتله بما دسته بين طيات الوثائق من أوراق نقدية الله وحده يعلم كيف حصلت عليها. لكن حبلها كان نهما لا يشبع، كان بطنه كبيرا. وعندما استعذب دسامة طعامها تجرأ أكثر. أبصرت طمعه.
يئست منه فقررت صعود السلم درجة درجة. قررت أن تبلغ الدرجة الأخيرة. علّها تنجو أو تلقي جسدها من علٍ لتُريح نفسها من هذا العذاب الذي تردت فيه.
على أعلى درجة في السلم وجدته متربعا على عرشه. كان ينتظرها، كاميرات المراقبة وَشَتْ بخطواتها الضاجة، بقدومها المهرجاني نحوه، هدوء الرواء جعل أذنيه تلتقطان وقع حذائها. الهواء المتسرب من فتحات التهوئة جلب إليه عطرها. جحظت عيناها عندما رآها قادمة نحوه مادة إليه يدها مسلِّمة وهي تحاول إخفاء دموعها المنفلتة من عينين أثقلهما الحزن. تريد أن تتماسك لكن آلامها كانت عنيفة، وجراح روحها كانت غائرة، ورتقها يبدو عسيرا ولا بد لها من طبيب ماهر يتقن وضع المراهم على مواضع الألم، طبيب حاذق يتقن رتق الجراحات.
بكت بين يديه بحرقة وبصدق. ذرفت دمعا غزيرا وبلا حياء. انفلتت كقربة ماء. أخرجت كل لوثة. طهّرت قلبها من كل ما ران عليه من صدأ. شكَت له الظلم في الخارج. شكت له ظلم هذه البناية التي يتربع على أعلى درجة من درجات سلَّمها.
أصغى إليها بانتباه وهو يتملّى خطَّيْ الجمر المنحدرين من عينيها فيسحبان معهما بقايا الكحل. تركها تبكي وتبوح، لم يقاطعها. ظل ينصت لشكواها ويتأمل وجهها المستدير الذي لم يزده الحزن سوى تلألؤٍ.
عندما أنهت كلامها وبكاءها مدّ يده بهدوء وسحب الملف وما ضمّ من وثائق من بين يديها. ثم رفع نحوها عينين تنزّان شهوة وطلب منها العودة بعد أسبوع ريثما يتسنى له التدقيق في الوثائق.
نهضت متثاقلة، ومشت متعثرة في ارتباكها وحزنها وخوفها. عبرت الباب واحتواها الرواق الطويل الممتد وقد تلبست بها فكرة واحدة "تُرى ما سيطلب سيد الدرجة الأخيرة من السلم مقابل إنصافها"؟