أحضان الوطن مفتوحة لي، ولكن قلبي لا يزال غريبًا – قصة: سارة صديقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

سلّمت ورقة اختبار اللغة العربية للمعلمة الواقفة بجانبي، فخربشت في ورقة التوقيع بسرعة، ثم حملت أغراضي وخرجت بخطوات بطيئة، أجرّ قدمي جرًّا. وقفت أعلى الدرج وتنهدت تنهيدة طويلة. كانت صديقتي سلمى تنتظرني في الساحة الخارجية، نظرت إليها ونظرت إليّ، جلسنا لدقائق معًا، ثم خرجت بعد أن سمعت اسمها عبر جهاز الميكروفون. ودّعتها غير مصدقة أن هذا سيكون آخر لقاء بصديقتي الحبيبة.
كنت قد طلبت من والدي أن يتأخر قليلًا حتى أشبع نظري بزوايا المدرسة. جلست أتأمل وجوه التلميذات اللواتي اعتدت رؤيتهن طيلة أربع عشرة سنة، كبرت معهن وعشنا تجارب الطفولة معًا. قد نختلف كثيرًا، ولكن شيئًا ما في العِشرة الطويلة يجعل الفراق مؤلمًا. أحسست بشعور غريب، وكأنه ألم في قلبي.
سمعت اسمي، ثم وقفت وألقيت نظرة الفراق الأخيرة، وارتديت عباءتي ونقابي ببطء، لعلي أطيل دقائق الوصول قليلًا. تنهدت مرة أخرى، ولما ركبت السيارة التفت لرؤية الباب، كانت تلك المرة الأخيرة التي أراه فيها يبتعد عني وأبتعد عنه.
مرت فترة ليست بطويلة، وعدت إلى وطني. اليوم هو يوم جديد. تباطأت اليوم مرة أخرى، ولكن هذه المرة لعلي أبطئ ساعة اللقاء الجديد. ذلك الألم عاد إليّ مرة أخرى، وكأنني تلميذة في الصف الأول الابتدائي. يا ليت سلمى معي اليوم! تمنيت لو أرى ابتسامتها الجميلة وأستمع إلى أحاديثها الممتعة. مسحت بسرعة دمعة صغيرة تسللت إلى وجهي قبل أن يراها أحد.
ارتديت عباءتي وجلست في السيارة. من هم هؤلاء؟ ومن أساتذتي؟ وأين مؤسستي؟ لقد اختلف الطريق، واختلف الباب، واختلفت الوجوه. أين سلمى؟ أين الفصل؟ وأين تلميذات الفصل؟

تلاشى الألم بعد أن وطأت قدماي المؤسسة، لكن انتابني شعور بالضياع قليلًا. الكثير من التلميذات والتلاميذ، والكثير الكثير من الأوراق المعلقة على الأبواب، وتلميذات وتلاميذ يتجولون في ساحات المؤسسة. أحسست وكأن غطاءً يغشى عيني، وكنت أبحث عما يمكنني أن أفعل.
دخلت إلى الإدارة، وكان اسمي الشيء الوحيد المألوف في زوايا المؤسسة، ثم دخلت القسم وجلست بجانب الباب، وكأنني أنتظر الخروج بسرعة. بدأت التلميذات والتلاميذ بالدخول، ولم تكن سلمى من بينهم، غير أنني أحسست ببعض التوتر، لكن الوجوه هنا كانت تحمل بسمات الألفة.
بدأ شعور صغير بالحماس يتسلل إلى أحد زوايا قلبي، يمتزج مع مشاعر الخوف والضياع. اقتربت مني تلميذة وسألتني بضع أسئلة، ثم جاءت معها صديقتها وبدأ حديث صغير ممتع. ربما سأجد سلمى جديدة هنا.
مرّ عام ونصف منذ أن عدت إلى وطني، ورغم مرور هذه المدة لا يزال شعور الغربة يلازمني. ليس لأنني بعيدة عن المكان، بل لأنني اكتشفت أن الغربة لا تتوقف على المسافة، بل قد تكون حاضرة حتى في الوجوه والأماكن التي كنت أظنها مأوى.
عندما عدت، كانت الوجوه جديدة، ولكنها ليست كالسابق. كل شيء كان كما هو، ولكن شيئًا ما كان مفقودًا. ألم غير ملموس، لكنه كان يشعرني بالفراغ. كلما حاولت أن أتكيف، لم يكن الفارق في المسافة، بل في داخلي. في تلك اللحظات أدركت أن الغربة ليست في المكان فقط، بل في شعور التباعد الذي قد يحدث بينك وبين من كنت تظن أنهم الأصدقاء والأقارب، أو بينك وبين الأماكن التي اعتدت عليها...