رِجْلٌ ورَجُل – قصة: يحيى الشرادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تنحى جانبا مفسحا المجال لمرور كلماتها الحارقة، هي لا تجيد إلا هذا النوع من الحديث، حتى وهي تعبر عن مودتها-نادرا- له. انتظر ريثما تتوقف شفتاها عن الحركة، كإشارة على انتهائها من الزعيق، ثم ابتسم وانطلق موليا دون أن يكون قد سمع شيئا مما كانت تتلفظ به. لعن في قرارة نفسه ذلك القرار المشؤوم الذي أسفر عن زواجهما، ليته لم يسمع نصيحة أصدقائه الذين سبقوه، فبعد أن كانوا يصرون على لقائه مشجعين له على الزواج، اختفوا كلهم اليوم، كأن هدفهم أن يجعلوه يعيش ما يعيشون، ويسقط في الشرك نفسه، ثم بعد ذلك لازم كل منهم الصمت حيال التجربة!! حتى أنا (استدرك)...
المشي طاحونة لا تبقي على شيء، لطالما فضل المشي على استقلال وسيلة ما، المشي فرصة للوعي بما حواليه، وإنتاج لنوع من الفعل الذي يخصه ويختص به كإنسان، إنه لقاء فينومينولوجي مع الأشياء، وقبل كل شيء مع الذات... استطاب صوت وقع حذائه على الأرض، بدا الأمر كأنه أول مرة يسمعه، تساءل بدافع من الحالة التي تركها؛ كيف إن علاقة رجليه -من وراء حذائه الوحيد- بالأرض قد أفرزت صوتا ذا إيقاع يعج بالمودة، ويبعث على الإنصات، على الاِستمرارية في فعل المشي، ويزداد الأمر حماسة حين يقف على رجل واحدة ويدور كبلبل، آآه من ذلك الصوت، إنه أشبه بالعناق، بل بالقبلة... عجيب كيف إن رجليه وإن من وراء حذاء، قد أفلحتا في نسج هكذا علاقة- يراها حميمية- في حين عجز هو عنها، حتى في غياب أي حجاب...
توقف فجأة ودنا يتحسس بباطن يده حبات الثرى، لم يستشعر شيئا، قرب حفنة التراب لأنفه وشمها؛ لاشيء!! أيعقل أن يكون أبعد عضو مني، أكثر حساسية واستشعارا!!؟ أيعقل أن الثلاثة وسبعون كيلوغراما لم تفلح في طمس مجساته؟ وَارد، فنحن البشر خطاؤون، تافهون, مجانبون للصواب(قال مع نفسه).

اقترب من حجر جانب الطريق، استأذنه وجلس كي يقترب من رجليه أكثر، هما غريبتان عنه، بل هو الغريب عنهما، كأنه سيشاهدهما لأول مرة، رغم أنهما منه، وهو منهما، ولأول مرة يستحضرهما بحب، فلقاءاته بهما كانت عابرة وسريعة، إذ لم يتكبد يوما عناء مجالستهما، أو مبادلتهما الحديث، بل لم يستشرهما في مشوار ما، كانتا دائما غير معنيتين بالقرار... في مقابل ذلك، اِقتصر لقاؤهما على تلك الثواني المعدودة التي يوجههما بلأي تحت صنبور الماء، حين يعود متأخرا للبيت، بسرعة وحذر كي لا يوقظ زوجه...
يجب أن يحاول التقرب منهما ما أمكن هذا اليوم، وهذه هي فرصته، سيما وأن زوجته ليست معه، ورغم ذلك اِلتفت مرتابا حواليه كي يطمئن، ويتأكد من عدم وجودها فعلا، ثم عاد بناظره لهما، متسائلا كيف لم ينتبه لهما... خلع حذاءه، ثم نزع جوربيه، حدق مليا بهما فاغرا فاه، دون أن يقدم على حركة أو كلمة، لوى رجله اليمنى كمرآة دراجة نارية، حدق فيها بعينين كعيني قردة مكاك، تخيل نفسه كأنه ينظر لسلحفاة قَفلت على نفسها حين استشعرت نظراته، وظل يتابعها بنظره ما وسعه الاِنحناء. مد يده اليسرى لتحسسها، ثم اليمنى، لكنهما لم تنتشلا أي شيء، حاول أن يقربها من فمه، كي يتذوقها، لكن سرواله منعه، وهو ما دفعه للإصرار أكثر مستشعرا عنصر المؤامرة الجسماني كي لا يكتشف سر قدميه، لكنه عجز عن إيصالها له، مقررا التخلي عن فكرته، ومتبنيا فكرة أخرى أملت عليه بوجوب إبقائها سرا في حجبها، فالانكشاف يبطل خواص بعض الأشياء، وربما رجلاه أحدها، أليس كذلك( حدث نفسه).
أسرع في لبس جوربه وارتداء حذائه بعدما استولت الفكرة على ذهنه، صار يكتنف تفكيره شيء من الغيرة، فلا يجب أن يكشف عن رجليه مرة أخرى، ولا حتى لزوجه، ولن يخبرها عنهما، سينكر- حين تصرخ في وجهه بأن يغسل قدميه- بأنهما موجودتان، هكذا تنساهما مع توالي الأمر... عقد بقوة حبال حذائه، وانتصب كي يجرب مرة أخرى ذلك الاِلتقاء بين رجله والأرض كيما يسعه سماع ذلك اللحن، فكل صوت في هذا الوجود هو لحن، وكل الأشياء في حركتها، لها لحن خاص، يكفي أن ننصت. حرص على إضفاء شيء من التأني شاحذا حواسه، وكل جسمه كي ينتبه لهذا اللقاء. لكن؛ لم يحدث شيء!!! أعاد الكرة بعجالة، غير أن النتيجة نفسها... فتح عينيه وجلا، وحدق لباطن الأرض بملامح ملؤها الخوف، لكنها سرعان ما انقلبت ابتسامة، فما حصل هو أنه كان يضع قدمه على صخرة في الطريق، قهقه كمجنون قائلا: ليس كل لقاء يعول عليه؛ لقاء قدميه مع الحجر مثلا (ضاحكا هههه) ثم استدرك؛ بل يعول عليه حين ينجب الألم، فالألم تجربة إنسانية أخرى، أجل أجل هو كذلك، ثم واصل ضحكه غير عابئ بأي شيء...
تنحى قليلا عن مكان الصخرة وشدّ مرة أخرى على كل جسمه، منبها إياه إلى ضرورة الانتباه، ثم مغمضا عينيه، فكر كيف إنه يستطيع جعل كل هذه العضلات تطيعه، لكنه يعجز عن مواجهة زوجه، بل لا يجرؤ حتى على أمر شفتيه بالإفصاح أمامها عن شيء، بل يفقد السيطرة حتى على يده اليمنى التي تشرع في الاهتزاز كلما انطلقت في الزعيق، المرة الأخيرة، وصل الحد درجة أن بال على نفسه دون أن يدري...
نزل برجله على الأرض بتؤدة، فخلف وقعه اللحن المنشود، مخلفا نشوة جسدها في ضحكة عاليا ... لقد حدث لقد حدث( قال وهو يضحك) ظل يكررها وهو ينط للأعلى، ثم ممددا على الأرض يتدحرج شمالا ويمينا، دون أن يعبأ بالحجارة التي كانت تخز ظهره، بل بدت كأنها دغدغة تبعثه على الضحك أكثر فأكثر، وبصوت أعلى إلى أن مات.