ذِروة – قصة: حميد بن خيبش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مترددا أمام الصراف الآلي سحب بطاقته قبل معرفة الرصيد. خفقة قلب تؤذن بأن ما تبقى من راتبه لا يكفي لتجهيز وليمة لأخيه العائد من غربة في ربوع كندا الساحرة.
غربة ! وابتسم بسخرية حين نطت إلى ذاكرته عشرات الصور التي يغص بها حساب الأخ الأصغر في انستغرام: مسكن بالعاصمة تسيجه حديقة ومسبح ومرآب للسيارة. وزوجة من بغداد هرّبت ملامحها الأشورية إلى أوروبا قبيل الزحف الأمريكي على كبرياء صدام حسين وآبار نفطه. ومقاولة تحلب وزارات العالم الثالث مقابل استشارات ودراسات تذهب أدراج النسيان.
- أنا الغريب المغترب في وطني. ثلاثون عاما أحمل فوق رأسي خبزا تأكل منه طيور الوزارة وغربانها. يرحل وزير وحاشيته، ويأتي وزير آخر وحاشيته. وبين هذا وذاك تتدلى كروش، وتتضخم أرصدة، ويتخرج أبناء مترفون من جامعات أوروبا ليستكملوا الرضاعة من ثدي الوطن الأم، بينما راتبي كنقش صخري، لا يتبدل ولا يتغير.
هبت ريح خفيفة كنست وريقات الخريف المتعبة. دس يديه في جيوب معطفه ثم انطلق كسهم إلى بيت الوالدة. تلك عادتنا حين تبعثر الدنيا ما في القلب من طمأنينة. قبّل جبهتها ويدها ثم اضطجع في فناء الدار. رن الهاتف بعد لحظات ليستعجل الرئيس حضوره لاجتماع طارئ:
- زميلكم الذي كان راقدا بالمستشفى وافته المنية. والإدارة كما تعلمون لم تحظ بعد بمخصصات لإظهار التكافل مع موظفيها، لذا أقترح التبرع بمبلغ محترم لتأدية واجب العزاء.

خفقة قلب تؤذن بأن ما في محفظته ليس محترما بما يكفي، لذا سارع لإبداء مقترح بتثبيت حصالة تودع فيها المساهمات بكل أريحية. ضربة معلم تنفس زملاؤه على إثرها الصعداء. ليس وحده من يئن تحت وطأة الإفلاس إذن! أما المدير الذي لم يجد بُدا من الموافقة فقد سدد واجب العزاء مقدما، على أن يسترده من الحصالة متى سنحت الفرصة. شهامة!
على الجمر كان إبريق الشاي يغلي بحماس، بينما صوت الوالدة يردد للمرة الألف ما علق بذهنها من أبيات ملحون قديمة:
الصلاة من الله عليك يا العدناني
يا عين الوجود سلطاني
يا روحي وراحتي طه المحبوب
ألا مَثلُه احْبيب محبوب..
بضع رشفات من شايها حلت عقدة لسانه، فشكا إليها الغلاء ومصاريف الأولاد بعد انتسابهم للجامعة. ثياب جديدة وهواتف، وأتوبيس تزحف تذاكره اليومية على خمس راتبه. يخجل الأولاد من طلبهم المتكرر فتكون الأم رسولهم إلى جيبه الموقر. هيت لك !
مسدت بيدها ما تبقى من شعر رأسه، وهي تلهج ببساطة العيش التي اكتنفت أربعين سنة من حياتها مع المرحوم:
- كانت البَركة تحُف كل شيء حتى الوجع، أما أيامكم هذه فلا الولد يشبع، ولا الروح تقنع. الله يستر!
قبّل يدها ثم انسحب بخفة. لا يدري لم يُتعبه حديث النهايات المفعم برائحة الموت. أين البركة في طفولة جائعة وحافية؟ عاشت أمه كغيرها من آلاف الأمهات، لا تأبه لتفاصيل الحياة. يد تدور مع الرحى، وأخرى تجمع الحسنات بسبحة من الخرز. رضا وتسليم لم يذقهما منذ زمن، كأن الهموم خُلقت لجيله الذي يمضي حائرا بين الرحم والقبر.
طرق الباب ففتحته وهي تبدي قلقا لتأخره على غير العادة. أومأت برأسها إلى وجود ضيوف بالداخل فأظهر اشمئزازه. لا شك أن خلف الزيارة ما سيرفع ضغط دمه. مد يده مصافحا فسارع الجار لاحتضانه وتقبيله، أما الزوجة فأكثرت من دعاء الستر والحفظ، والنجاة من أي مخطط يحيكه الشيطان وأعوانه من الإنس والجن. تذكّر مخطط الحصالة فانفرجت أساريره لأنها لن تحلم بدرهم واحد قبل سنة. لِيحكّ الرئيس صلعته ندما على وثوقه بكتيبة من المفلسين!
التمس الجار إجراء حفل خطوبة ابنته هنا. الصالون رحب وردهة الدار تستوعب أقارب العريس المنتظر. حك جبينه ثم لم يجد بُدا من الموافقة. الجار للجار سترة. باشرت زوجته على الفور ترتيب المخدات فأقسمت الجارة أنه واجب عليها.
رن هاتفه قُبيل الفجر بلحظات فهب من سريره كقط مذعور. جلبة وأصوات نداء كأن المتصل في مخيم للكشافة. بدا الأخ المهاجر غير مكترث وهو يطلب أن يُقله من المطار.
- صندوق التاكسي صغير ولا يتسع لجلب الأمتعة. عجّل بإحضار سيارة نقل!
غير متردد أمام الصراف الآلي وضع بطاقة السحب، ثم ضغط بسبابته قبل أن يشعر بخدر في يسراه، وهوة تحضنه بلا استئذان!